إبرام رأفت
الحوار المتمدن-العدد: 5339 - 2016 / 11 / 10 - 22:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قديماً استخدم الأوربيون المدافئ للتغلب على برودة الجو، ومع الوقت تطورت المدافئ من مجرد مكان لحرق الأخشاب، لبناء متصل بمدخنة لتصريف الدخان للخارج. وكان الأغنياء في بريطانيا يشترون الصبيان الفقراء ويدربونهم على تسلق المدخنة لتنظيفها وإزالة الرماد والسخم المتراكم بداخلها. مع الوقت، لُوحِظَ أن العديد من هؤلاء الصبيان يصابون بسرطان جلدي بكيس الصفن، مما دفعهم لتفسير تلك الظاهرة بأن تلك المداخن تسكنها الأرواح الشريرة. فانخرطوا في بعض الممارسات ليحموا أنفسهم وبناياتهم من سُكنى الأرواح الشريرة كدفن بعض الأشياء تحت أساس المنزل قبل تشييده!
قبل ذلك بقرون عديدة، آمنت الكثير من الشعوب أن الأمراض تنشأ نتيجة قوى طبيعية تتحكم بمصائر البشر. فعلى سبيل المثال، تم اشتقاق كلمة «إنفلونزا» من كلمة إيطالية قديمة تعني التأثير وهي الشبيهة للكلمة الإنجليزية influence بمعنى التأثير أيضاً، وذلك لإعتقادهم وقتها أن أعراض الزكام والرشح تنشأ نتيجة الوقوع تحت التأثير السيء لحركة النجوم! وربما إنطلاقاً من تلك القناعة نشأت الأبراج التي تحاول التنبؤ بالأحداث بناء على حركة الكواكب والنجوم وتأثيرها في حياة البشر!
بتدوير عجلة التاريخ للخلف أكثر وأكثر، والتنقيب في الديانات والميثولوجيا القديمة، سنكتشف أن كل الديانات القديمة تقريباً آمنت بآلهة المطر والرياح التي عبدوها وقدموا الأضحيات لإسترضائها تجنباً للجفاف أو للكوارث الطبيعية، وآلهة الخصوبة التي لجأوا إليها في حالات العقم وتأخر الإنجاب وجدوب الأراضي الزراعية، وآلهة الرعد والمحيطات والنار وغيرها. فالعالم بكل ظواهره الطبيعية بحسب المعتقدات القديمة كان عبارة عن صراع بين آلهة الخير التي يحاول البشر إسترضائها وآلهة الشر التي يحاول البشر إخماد غضبها!
•••
بنشوء الفلسفة والعلوم وتطورها وتوالي الإكتشافات الفيزيائية والبيولوجية، بدأت تتقلص التفسيرات الروحية للأحداث وتُستبدَل بتفسيرات علمية. فبدلاً من تفسير الظواهر الطبيعية من برق ورعد ومطر ومد وجزر وكسوف وخسوف على أساس روحي وعلى أساس ميثولوجيا صراع قوى الخير والشر، قام علماء الفلك والفيزياء بوضع شروحات علمية لكيفية حدوث كل تلك الظواهر؛ فأصبح من الممكن التنبؤ بحدوثها بدقة قبل حدوثها بأوقات طويلة، وأختفت مع شروحاتهم آلهة المطر والرعد والمحيطات بكل العقائد المرتبطة بها!
وبإختراع الميكروسكوب ونشوء علم الأحياء الدقيقة (الميكروبيولوجي)، تم إكتشاف أن المسبب للإنفلونزا أنواع من الفيروسات والبكتريا الدقيقة وأن الأمر لا يتعلق من قريب أو من بعيد بتأثير حركة النجوم، وبناء عليه تم إختراع أمصال الوقاية من الإنفلونزا والمضادات الحيوية لقتل البكتريا بدلاً من الدعاء للآلهة للسيطرة على حركة النجوم!
أما بخصوص الأرواح الشريرة التي تسكن المداخن، ففي القرن الثامن عشر أثبت جَرَّاح بريطاني يدعى «السير بيرسيفال بوت» أن بعض المواد من حولنا هي مواد مسرطنة. وبالتوسع في تلك الدراسات والملاحظات، وُجدَ أن السخام المكوَّن من ذرات الكربون الناتج من حرق الفحم والأخشاب في المداخن هو مادة مسرطنة تترسب بكيس الصفن مسببة سرطان جلدي. وبتفسير الأمر بصورة علمية إنتهت أسطورة الأرواح الشريرة، وبناء عليه فإن كل الممارسات التي مُورِسَت لحماية المنازل من سُكنى تلك الأرواح كانت محض هراء.
مما سبق نستنتج أنه في رحلة تطور الوعي البشري، تتقلص التفسيرات الروحية والماورائية كلما إزدادت المعرفة والبحث والعلوم. وبناء عليه نستنبط أن المجتمعات التي لازالت تقع أسيرة التفسيرات الماورائية لكل أمور الحياة هي مجتمعات مكانها المناسب الوحيد هو متاحف تطور الفكر البشري.
فالإيدز ليس عقاباً لمن يخالف شرع الله كما علمونا في منهج العلوم في المرحلة الإعدادية، بل هو إصابة فيروسية سيصاب بها أكثر المؤمنين تقوى إذا نُقِلَ له دم ملوث بالفيروس، ولن يصاب بها شخص مارس الجنس مع ألف رجل وامرأة إذا استخدم وسائل الحماية التي تقي من انتقال الفيروس.
•••
مع بوادر الإنهيار الإقتصادي لأي مجتمع متدين، عادةً ما يتم التنظير لأسباب الإنهيار على أنه غضب أو عقاب إلهي بسبب البعد عن الدين. وهذا تماماً ما أدى لإطلاق عبارات من نوعية «لن ينتهي الغلاء ما لم تتحجب النساء» في المجتمع المصري لتفسير أسباب الغلاء الغير مسبوق وتردي الوضع الإقتصادي، وكأن الأزمة الإقتصادية المصرية سببها غضب إلهي بسبب عدم طاعة "أوامره" بتحجيب النساء. وازدادت التفسيرات من هذه النوعية بشكل مضطرد مع تفاقم الأزمة الإقتصادية مؤخراً! ولكن ما يجهله هذا النوع من المنظِّرين أنه لن ينتهي الغلاء ولو تحجبت كل النساء، ولن ينصلح الوضع الإقتصادي بالمزيد من التدين، بل ستتفاقم الأزمة أكثر وأكثر إذا استمرت إدارتها بنفس الرعونة، ولا شئ سيُحجِّم الأزمة إلا تطبيق سياسة إقتصادية ناجحة واستبدال العشوائية بمبادئ علم الإقتصاد وإسناد الملف الإقتصادي برمته لمختصين. فالدول لا تصبح عظيمة لأنها مذكورة في القرآن ولا في الإنجيل، ولا لأن لها رؤساء مؤمنين، ولكنها تصبح عظيمة فقط بالتعليم والعلم والعدل.
وإذا دققنا في العقيدة الشعبية لمجتمعنا سنجد أنها تعيد إحياء جوهر الميثولوجيا القديمة وصراع قوى الخير والشر، سنجد أن كل شيء تقريباً يتم تفسيره على أساس روحي ماورائي. بل أحياناً يتم تفسير نفس الشيء بطريقة متناقضة بناء على نفس القاعدة الماورائية؛ فالمرض للمتدين «إبتلاء»، ونفس المرض لغير المتدين «عقاب إلهي»!! فالعقل الجمعي لمجتمعنا حالياً، ولا أستثني حُكَّامه ومن هم في مواقع مسئولية، يضربون بالمقدمات والنتائج عرض الحائط ويندفعون لتفسير كل شيء على أساس روحي، سواء على مستوى الحياة الشخصية أو العامة!
فإذا دققت عزيزي القارئ في كم الأحداث العادية والمنطقية التي ينسبها الناس من حولك لتدخل إلهي أو تدخل شيطاني في حياتهم، إذا دققت في مفاهيمهم وأقوالهم وأفعالهم، أعدك –إذا كنت قد تحررت منها- أنك ستندهش من كثرتها ولا منطقيتها وإختراقها لكل تفصيلة لدرجة الهوس!
#إبرام_رأفت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟