أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - إبرام رأفت - حينما يصبح الموت صديق الأمل















المزيد.....

حينما يصبح الموت صديق الأمل


إبرام رأفت

الحوار المتمدن-العدد: 4802 - 2015 / 5 / 10 - 16:48
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


«ألو.. وائل معايا؟ أنا اسمي علاء.. ممكن أقابلك عند التياترو؟»
ربما تستعجب قليلاً لو رنّ هاتفك المحمول وأجبت لتجد المتصل شخصاً لا تعرفه يطلب مقابلتك. ولكن بالنسبة لوائل لم تكن هذه المكالمة فقط غريبة، بل كانت نوعاً من أنواع الخيال. ليس لأن المتصل شخص غريب يدعوه باسمه رغم أنه لم يعرفه قبلاً، ولكن لأن رقم المتصل هو رقم داخلي يتكلم العربية بلهجة مصرية خالصة، رغم إنه لم يقابل مصرياً واحداً منذ أن وصل لمدينة «تميشوارا» الرومانية قبل ثلاثة أسابيع. فمن أين أتى برقمي هذا الـ«علاء»؟! وكيف عرف اسمي؟! ولم يطلب مقابلتي؟!

سريعاً وافق وائل على مقابلة علاء في تمام الثانية بعد الظهر أمام «التياترو» بميدان «فيكتوري سكوير» بوسط المدينة. في البداية كان الفضول هو الدافع الأول لمقابلته قبل أن يصيرا أصدقاء وتتكرر المقابلة. أخبر كل منهما الآخر بلون ملابسه حتى يتمكنا من العثور على بعضهما بسهولة. وبحسب الاتفاق، ذهب وائل في الميعاد ليرى علاء، شاباً في العشرينيات - في مثل عمره تقريباً - له بشرة قمحاوية وشعر مجعد وملامح مصرية أصيلة. سأله وائل إذا كان قد تناول غذائه فأجابه بالنفي، فاقترح أن يذهبا إلى مطعم قريب لتناول بعض ساندويتشات الـ«بليشكافيتا».

لم يتحدثا إلا دقائق معدودة حتى شعرا بألفة شديدة وكأن صداقة حميمة تربطهما منذ سنوات طويلة، وهذا ليس بالغريب حين تلتقي شخصاً ينتمي لبلدك ويتحدث لغتك ولهجتك في عمق إحساسك بالغربة وحنينك لأهلك وأصدقائك الذين يبتعدون عنك آلاف الكيلومترات. وبدون أي جهد لمح علاء السؤال الحائر في عيني وائل: «كيف عرفتني ومن أين أتيت برقمي؟» وحينها قرر علاء أن يحل له اللغز وأخبره: «لقد قابلت بالصدفة شخصاً تونسياً اسمه ياسين وأخبرني إنه يعرف مصرياً آخر وحينها أعطاني رقمك لمقابلتك، وقد أسرّني هذا فاتصلت بك وطلبت رؤيتك».

انتهيا سريعاً من تناول الساندويتشات، وأمسك كل منهما زجاجة بلاستيكية من الكوكاكولا يرشف منها رشفة كل فترة أثناء الحديث وهما يتمشيان ببطء على جانب نهر «البيجا» وسط الأشجار الخلابة التي لم يريا بجمال منظرها وألوانها المتعددة في بلدهما قط. وهنا بدأ علاء يروي لوائل قصته منذ أن وصل رومانيا قبل بضعة أشهر:
«ما إن انتهيت من دراستي بكلية الطب بمصر، حتى توفرت لي فرصة المجيء إلى هنا. وكأي شخص عاقل لم أفوّت فرصة كهذه. كنت مقرراً أنني سأجيء بلا عودة. حتى الآن لم أدرس شيئاً، وأحيا تقريباً بلا عمل، مصدري الوحيد للنقود هو ما يرسله إليّ أهلي من مصر. أحاول التوفير بقدر الإمكان وأحيا حياة بسيطة ولكنها بلا شك أفضل كثيراً من الحياة في مصر. أحببت فتاة رومانية واتفقنا على الزواج ولكن الأمور لا تسير دائماً كما يتمناها المرء، فقابلتنا مشاكل كثيرة ولم يكتمل مشروع زواجنا. واجهتني مصاعب كثيرة حتى أحصل على الإقامة ولكن كل المصاعب تهون في سبيل الابتعاد عن هذا البلد المقرف المسمى مصر».

بدت الحيرة على عيني وائل، وسأل مستنكراً: «أية حياة هذه التي تحيا؟ حياة بلا عمل وبلا نقود وبلا أصدقاء وبلا هدف أو تخطيط. أتسمي هذه حياة؟ هذا الموت بعينه. لو بدأت حياتك كطبيب في بلدك ووسط أهلك وأصدقائك لكنت في سنوات قليلة ستصبح شخصاً له شأن في المجتمع، ففي مصر وظيفتك - كخريج كلية طب - مضمونة. ربما في البداية يكون المرتب ضعيف، ولكنه على أية حال أفضل من لا شيء. يكفي أن يساندك من يحبونك حين تواجه المصاعب».

ابتسم علاء وأجاب قائلاً: «أتظنني لم أفكر في كل هذا من قبل؟! كل هذه الأفكار كادت تفتك بذهني طوال ليالِ عديدة قبل أن أتخذ قراري. وكم كان مؤلماً أن أترك كل من أحب وأذهب بعيداً، ولكنه بالنسبة لي كان هذا هو الثمن الذي لابد أن أدفعه لأحيا، نعم لأحيا. فأنت تسمي حياتي هنا موتاً، ولكنني أعتبر مغادرتي لمصر كان هرباً من الموت للحياة، فالموت هو الحياة في مصر. أنظر حولك وقارن، رومانيا هي دولة ليست غنية ولا يمكن تصنيفها أبداً كدولة متقدمة كدول أوروبا الغربية أو أمريكا، ونظام التعليم هنا ليس بالممتاز، ولكن ما أبعد الفارق بينها وبين بلدنا! أنظر من حولك لترى الجمال، كل شيء جميل، المباني والأشجار والحدائق والشوارع. فكل شيء هنا له نظام وقواعد، والحياة سلسة وأسهل بكثير من تعقيداتنا المريرة. هنا لا أحد يكسر قواعد المرور، ولا يتعدى أحداً على حرية الآخر، كل شخص له خصوصية وحدود. لا تجد الضوضاء تملأ الشوارع، ولا تجد مشاجرة واحدة تعلو فيها الأصوات بالسباب والشتائم. المظلوم هنا يأخذ حقه بغض النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه، وحياة الإنسان لها قيمة بل إن حياة الحيوان أيضاً لها قيمة هنا. أما في مصر فالقانون الوحيد الذي لا يكسره المصريون هو العشوائية، كل شيء عشوائي والحياة صعبة والأخلاق في انحدار مستمر رغم أن مظاهر التدين في ازدياد مستمر. أقسم إنني لم أر شاباً رومانياً واحداً يتحرش بفتاة في الشوارع هنا، فحوادث التحرش القليلة التي رأيتها في الشوارع كانت من بعض السوريين والأردنيين الذين تم تجريدهم من الاحترام مثل عندنا تماماً. والغريب أنهم يحاولون إقناعنا أننا أمة الأخلاق، أرأيت عَتَه كهذا؟».

بدا وائل مستمتعاً بالحديث، وقاطع علاء متسائلاً: «هل يوجد الكثير من العرب هنا؟». فأجابه: «نعم. هناك الكثير من الفلسطينيين والتونسيين والسوريين والأردنيين والجزائريين. جميعهم هربوا من القبح والكبت والعشوائية. أنت تسمي حياتي هنا موتاً، ولكن تضحيتي تهون جداً بجانب ما سأرويه لك من قصص تتردد كثيراً في أوساط المغتربين هنا لأناس من جنسيات مختلفة واجهوا الموت حرفياً بحثاً عن الأمل في الكرامة والحياة. فبغض النظر عمن يحيون في الدول الأوروبية بلا أوراق رسمية متنازلين عن كافة حقوقهم المدنية في سبيل الحياة البسيطة، وبغض النظر عمن يتزوجون من كهلات أوروبيات من أجل الحصول على الإقامة، أو من يرتضون أن ينسبون ابناً سفاحاً إليهم من أجل الجنسية، هناك من حقاً يواجهون الموت من أجل البقاء في أوروبا. فكما تعرف رومانيا لها حدود مشتركة مع دولة المجر التي هي مدخل لمنطقة ‹تشينجن› التي من خلالها تستطيع التنقل بحرية في كل دول الإتحاد الأوروبي. فقد سمعت كثيراُ عن قصص لأناس قرروا مواجهة الرعب والموت من أجل الدخول لدول الـ‹تشينجن›. فكثير من الذين تمكنوا من الوصول لرومانيا بطريقة رسمية نظراً لسهولة الحصول على تأشيرتها نسبياً أو الذين قدموا للدراسة، قرروا تسلل المناطق الخضراء للدخول إلى دولة المجر وطلب اللجوء هناك. نعم لقد تسللوا عبر الحدود مشياً على الأقدام. كانوا يذهبون في جماعات ويحيون في الغابة كالحيوانات أياماً عديدة طوال رحلة التسلل. ينامون بين أشجارها ويأكلون ما يجدونه من ثمارها ويقضون حاجتهم على الأرض، بعضهم أيقظته حركة الثعابين من نومه وبعضهم واجه حيوانات مفترسة، ولكن كل هذا كانوا يعتبرونه أهون من البقاء بلا أمل في بلادهم. ومن لم يواجه الحيوانات الفتاكة، كاد البرد القارص أن يفتك به. وللتغلب على هذه المشكلة كانوا يتكوّمون فوق بعضهم للتدفئة ويبدّلون مواضعهم كل فترة بنفس آلية مجموعات البطريق في التدفئة. ولما نذهب بعيداً؟ ألا نسمع ونقرأ كل يوم عمن يلقون بأنفسهم في المراكب الصغيرة ويواجهون الموت من أجل الوصول إلى إيطاليا أو اليونان عبر البحر المتوسط؟! كل هذه الغرائب ليست مجرد قصص وأساطير ولا أفلام خيالية، بل هي حياة أناس يائسين تتردد قصصهم وتقابلت مع بعضهم وقرروا أن يواجهوا هذا المصير، والكثيرين منهم انقطعت أخبارهم بعد ذلك. قد يكونوا نجحوا وقد يكونوا هلكوا، والأسوأ قد تكون السلطات قد ألقت القبض عليهم ورحلّتهم على بلادهم».

حينها احتج وائل قائلاً: «وهل يوجد في الحياة مبرراً لأن يختار الإنسان بنفسه أن يحيا كالحيوان؟». فأجابه علاء بهدوء: «سامح الله من كان السبب. فلا تنسب الذنب لهؤلاء الأشخاص الذين اعتصر الإكتئاب قلوبهم، وكان الانتحار هو بديلهم الوحيد لمحاولة الهرب. بل انسب الذنب لمن ترك هؤلاء المساكين يصلون إلى هذه الحالة وحجب عنهم كل الحلول الممكنة. انسب الذنب لمن يستطيع بقرار بسيط منه أن يُوجِد الأمل من جديد ويبدّل أحوال بلد بالكامل ولكنه يمتنع عن ذلك. فبلداننا هي من عاملتنا منذ الطفولة كالحمير، ثم استنكروا علينا نهيقنا مرددين أننا شعوب لا تستحق الحرية ولا أن نعامل كبشر. وها هي النتيجة، نهرب لنحيا في بلاد غريبة ويحاول أهل هذه البلاد اكتشاف حيلنا وألاعيبنا للبقاء عندهم باذلين أقصى مجهود لردنا إلى حظيرة البهائم من جديد حتى لا نفسد حياتهم بتصرفاتنا الحيوانية. فربما قريباً يلجأون لإنتاج الأفلام الوثائقية لدراسة سلوكيات هجراتنا كدراسة هجرات قطعان الحيوانات!».

بألم شديد ومحاولة للتمسك بشعاع أمل، رد وائل بصوت متقطع: «الإنسان هو الإنسان في كل مكان في العالم. والشعوب هي كأي إنسان، يمر بأوقات قوة وأوقات مرض، يكره أحيانا ويحب أحياناً، يتشدد في موقف ويتحرر في موقف آخر، يسمو بأفكاره في أوقات وتتملكه العنصرية في أوقات أخرى. فتاريخ أي بلد متقدم به فصول كثيرة من الظلمة الحالكة. حتى أوروبا وأمريكا التي تنعم بالرقي والتقدم عاشت سنوات طويلة في الخرافات والعنصرية والحروب الأهلية، بل قادت حروباً أنهكت البشرية بأسرها. أما عن الشعب الروماني الذي نوجد وسطه الآن، فهو ليس بالكامل كأي شعب على وجه الأرض، بل لديهم بعض العادات التي تنم عن عدم رقي، أنظر لهذه البصقات الموجودة على الأرض، أهذه تصرفات شعب أوروبي راقي؟! أعلم أنها أمور بسيطة ويمكن التعايش معها لأن الثقافة الغالبة هي ثقافة الرقي، ولكن التاريخ يعلمنا أن كل أمة مستنيرة عاشت أوقاتاً طويلة في الظلمات. ولو هجر كل مستنير بلاده، فمن الذي سوف يضئ الظلمة؟ سأعود لمصر في ميعادي. أعلم أن هناك صعوبات تنتظرني، وأتمنى ألا تخور عزيمتي سريعاً أمام مرار العشوائية، وأتمنى ألا يكون خياري الوحيد يوماً ما هو مواجهة الموت بحثاً عن الأمل. ولكن أملنا الوحيد الآن هو أن يبذخ الفجر سريعاً بعد ظلام ليل طويل».




#إبرام_رأفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آفة قلب المفاهيم
- الإله الخالق والإله المخلوق
- نوستالجيا
- ليست أميرة وليست جوهرة
- كلنا روزا باركس
- على طريقة «صندوق باندورا» يتحدثون
- ناقوس الخطر يكاد يتحطم


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
- كارل ماركس: حول الهجرة / ديفد إل. ويلسون


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - إبرام رأفت - حينما يصبح الموت صديق الأمل