أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح المحاريق - كوميديا الغياب و الحضور















المزيد.....



كوميديا الغياب و الحضور


سامح المحاريق

الحوار المتمدن-العدد: 1412 - 2005 / 12 / 27 - 15:48
المحور: الادب والفن
    


كانت ،، إدارة المشتريات جزيرة معزولة في الشركة ، و كنا نستمتع بتلك الصفة التي فرضها الحاج عصام الذي منحنا هوية شبه كاريكاتيرية بين كافة الإدارات التي تزدحم بها شركتنا بصفتها أحد ديناصورات القطاع العام التي استطاعت أن تستمر على قيد الحياة حتى بدايات هذا القرن ، فقد كانت إدارتنا المكونة من أحد عشر موظفا بالإضافة إلى الحاج تقضي معظم وقتها في خارج الشركة ، وتكاد رؤية أحدنا يتجول في الردهات الداخلية أو حتى في الجوار القريب مدعاة للاستغراب والتساؤل، عدا عوني الموظف أساسا في كادر الإدارة والذي توجه للعمل كساعي في إدارة قريبة لتحسين أوضاعه المادية دون أن يلتفت أحد لذلك كون معظم العاملين بالشركة لا يستطيعون تذكر حقيقة كونه موظفا في إدارة المشتريات ، وبين الساعات التي يقضيها الحاج عصام في مسجد أو لنقل زاوية الشركة لإمامة الموظفين والوعظ الديني المتواصل من زمن الهجرة ، إلى الأوقات التي كنا نقضيها أنا وبعض الزملاء على المقاهي أو في قضاء أعمال جانبية وأحيانا الصرمحة في شوارع وسط البلد ، كانت الإدارة تبقى خاوية تماما ، لدرجة أن بعض الموظفين اعتادوا على استخدام غرف الإدارة لأغراض شتى لم تكن تنتهي عند المواعيد العاطفية ، وربما بررت الحالة الأمنية التي يوفرها غيابنا الروتيني تلك الاستباحة المتواصلة لحرم الإدارة الموقرة ، وذلك لا يعني أن الإدارة لم تكن تقوم بأعمالها ومسئوليتها التي درجنا على إنهائها خلال الربع ساعة الأولى من تواجدنا في الصباح وقبل أن تدخل الصينية التي اعتادت على حمل أحد عشر كوبا من الشاي وفنجانا من القهوة كنت أرشفه بسرعة وآلية لألحق مكاني المعتاد في قهوة زعزع على غير مبعدة من الشركة.

ما كان أكثرنا فطنة وقدرة على الملاحظة لينتبه إلى وجود المكتب الجديد في غرفة الإدارة الرئيسية ، وما ترتب على وجوده من إزاحة مكتبي بالقرب من الباب وفي وضعية غير مريحة تماما ، وعلى غرابة وضعية مكتبي وجهلي بسببها ، فلم أقم بمحاولة التعديل التي كانت ستمكنني بلا شك من اكتشاف المكتب الجديد لأن ذلك لم يكن ليعنيني كثيرا ، عموما تتغير أشياء كثيرة منذ تولي المدير العام الجديد لمهامه ، وغالبا ما لا تؤثر تلك التغييرات على الروتين المقدس الذي نتقاضى بموجبه رواتبنا في اليوم قبل الأخير من كل شهر ، وبالتالي فما كانت تلك الصراعات الدونكيشوتية التي يخوضها حضرته تقع ضمن اهتماماتنا ، المهم فقد تواجد المكتب في تاريخ غير محدد وفي ظروف غير معروفة ودون أن يلحظه أحد ، حتى وقعت الواقعة التي ثارت لأجلها أعصاب الحاج عصام بشكل مضحك وغير مسبوق فمضى يتمتم بآيات قرآنية وأقوال تراثية يعجز حتى طيب الذكر عمرو بن كلثوم عن فهمها ، وتوجه ممسوسا لغرفة المدير العام متوعدا بعظائم الأمور والثبور أيضا !! أما سبب هذه الثورة العارمة فيعود لبضع دقائق مضت وحوار مقتضب مع فتاة بدت وفق التخمينات المبدئية تائهة ضلت طريقها لإدارتنا أو موظفة آتية من مجاهيل الإدارات الأخرى لمتابعة أمر طارئ وغير قابل للتأجيل ، وفي الحالات النادرة التي يزورنا فيها ثمة أغراب مع الصباح المبكر فإننا لا نلقي بالا للزائرين كيلا نضيع الوقت المخصص لإنجاز العمل قبل أن نهيم على وجوهنا كل لغايته ، وفجأة توقف كل شيء فانطلقت أربع وعشرون عينا تجوب الجسد الأقرب إلى رمح انغرس في خاصرة ما من كل واحد منا ، لفتاة غير اعتيادية ليس فقط في شركتنا بل وفي حيواتنا اليومية التي نقضيها بين شوارع وسط البلد والأحياء التي نسكنها ، وعدا أن يجتمع لفتاة واحدة كل هذا القدر من الحضور لتبدو وكأنها خرجت للتو من فيلم لجيمس بوند بشقرتها النادرة ، فقد كان مجرد تواجدها في مثل هذا المكان مخالفة وتجاوزا صارخا لتقاليد أقدم بيروقراطية في التاريخ ، بدوت كالكاتب المصري الذي تحتل صورته كتب التاريخ المدرسية ، معتقدا أن الفتاة أخطأت ليس إدارتنا فقط بل والمدينة بأسرها ، بينما كنت بين الصدمة والبحث عن أي كلمة ، كانت مقارنة فذة تعتمل في رأس عرفان بين ماكينة الشتائم متقنة الصنع المتمثلة في زوجته والتي يزيد وزنها بمقدار عشرة أرطال سنويا خلال السنة الواحدة ، وبين هذا الكائن الأثيري الذي لم يفعل شيئا سوى وقوفه أمام مكتب الحاج عصام مباشرة ، وقبل أن تمضي الفتاة في تعريف نفسها والغاية التي تواجدت من أجلها في إدارتنا في تلك الصبيحة الحارة من أغسطس ، كان تخمين مسار الأحداث أمرا مستحيلا ، فما كانت تنطق باسمها وبسبب تواجدها حتى انتفض الحاج عصام وارتفع ضغطه إلى أرقام قياسية ، فبدا وكأنه ملاك يركض بأقصى طاقته في الفردوس ليحول بين حواء وتفاحة المعرفة ، وينقذ البشرية من الطرد إلى الكوكب السفلي ، و على أقل تقدير كان مزاجه قريبا من مزاج قائد إسلامي يواجه مائتي ألف جندي من جيوش الروم ، وبين الثورة الجائحة التي تملكته وعودته بخفي حنين من مكتب المدير العام بقبول حذر وعلى كثير من المضض بإقامتها بيننا كموظفة في إدارة المشتريات ، كانت ((شذا)) قد بدأت بترتيب وضعية مكتبها دون أن نتمكن من مساعدتها لأننا حتى ساعة استقرارها على المكتب لم نكن قد خرجنا من حالة الصدمة التي عايشنها في ذلك اليوم ..

الساعة التاسعة وبعضة دقائق صباحا والجميع لم يستطع أن يغادر الإدارة حتى ذلك الوقت المتأخر وحده عوني كسر حالة الحضور ليتمكن من الذهاب إلى مقر عمله وتحضير القهوة والشاي لموظفي إدارة الصيانة، ثم بدأت سيمفونية التسرب اليومية والتي اكتملت مع الساعة العاشرة والنصف ، وبقيت أنا والحاج عصام وشذا فقط في الإدارة ، وبينما كانت النظرات العدائية تنطلق وفي خط مستقيم من عينيه وصوت تنفسه الغضبان يكاد مسموعا بوضوح في الهدوء المطبق للغرفة ، كنت أخرج من مملكته وأفقد مكانتي لديه مع كل دقيقة أمضيها على غير عادتي قابعا على مكتبي ، وإن كان يمكنني أن أعلل ذلك بلؤم لشعوري بالصدمة كغيري من الزملاء أو جلوسي لمؤازرته في محنته ، فإن هذه الحجة سقطت مع بقائي بعد مغادرته لصلاة الظهر ، المتوقع لدي وقتها أن تلتفت الفتاة ناحيتي لتسألني عن سبب موقف الحاج عصام أو عن سبب مغادرة الجميع في أوقات العمل الرسمية ، وكنت قد بدأت أعد الإجابة مع بعض الجمل التي يمكنها أن تهون عليها من سوء المقابلة التي حظيت بها في يوم عملها الأول ، ولكنها وبعد أن تخلت عن بعض تحفظها سحبت ورقة صغيرة مربعة من وعاء للأوراق يحمل شعار الشركة ، وجربت قلما لم يعمل كما يجب على الورقة فأخرجت آخر من حقيبتها وبدأت تكتب بهدوء ، وكأنها لم تلحظ تواجدي وتعاطفي المبطن والغير بريء معها بدأت في الكتابة على الورقة بوجهيها ثم سحبت ورقة أخرى ، فاضطررت إلى المغادرة مصرا على مبادلتها الحديث بالاستئذان منها فنظرت إلى وأومأت فقط ، ويمكنني أن أؤكد أنني وبعد كل هذه السنوات لم ألمح أجمل من وجهها الصغير وبدايات الدموع التي شعرت أنها أفلتت بعد مغادرتي السريعة والتي أتت غير روتينية هذه المرة .

في صبيحة اليوم التالي انعقد أخطر الاجتماعات في تاريخ إدارتنا وأكثرها سرية ، فقد وقف عوني على بوابة الشركة ليتولى مهمة منعنا من التوجه للإدارة وتجميعنا ومن ثم اقتيادنا إلى مسجد الشركة حيث كان الحاج عصام قد افترش الأرض ممسكا بزمام سبحته الطويلة ، وهو يدعونا للجلوس، ثم أطرق قليلا قبل أن يلقي علينا تعليماته بخصوص المرحلة الحساسة القادمة حتى تنزاح الغمة وتنفرج الكربة التي تمثلت بقدوم شذا إلى فردوس إدارتنا المفقود وما سيترتب على ذلك من فوضى ستمس بلا شك الطمأنينة التي كنا نعيشها كموظفي قطاع عام وسدنة لتقاليده الممتدة من أيام المرحوم تحتمس الثالث ، فكانت خطة المقاطعة هي الأسلوب الأمثل الذي أمضى الحاج عصام ليلته وهو يعده لمواجهة الكارثة التي حاقت بنا على غير انتظار ، والتي أردفها بتهديدات مبطنة وصريحة لكل من يفكر بمخالفتها ولو جزئيا وتحت أي ظرف من الظروف ، وأن تلك الإجراءات وهنا توجهت عينيه إلي تماما وبدون مواربة ستمتد لكل من يحاول أن يخالف ما اتفقنا عليه بصمتنا الذي كان الرد الوحيد المتاح للحاج في مثل هذه الظروف الحرجة ، حين مضينا للإدارة كانت شذا قد جلست إلى مكتبها ممسكة بكلتا يديها بكوب كبير من الشاي بالحليب بينما كانت علبة من البسكويت بالإضافة إلى ورقة بيضاء تحت قلم رصاص تواجهانها على المكتب ، لم تلتفت لحضورنا خاصة أن أحدا لم يلق بالتحية بناء على التعليمات التي قابلنا بها الحاج في الصباح ، كما أنني تعمدت أن أكون أول المغادرين في ذلك اليوم ، لم أستطع أن أقاوم رغبتي في إلقاء نظرة على جلستها الوادعة وملامحها المسالمة من خلال النافذة الداخلية للغرفة ، وللحقيقة فقد سحرتني تماما ببلوزتها السماوية ذات الأكمام القصيرة والتي بالتأكيد أدت إلى تصاعد حملة الحقد المنظم التي يشنها الحاج عصام على تلك الفتاة النصف طفلة تقريبا..

ذكرت أكثر من مرة أنني لم أكن بريئا تماما ، وكانت لدي حصيلة من اللؤم السلبي الذي لا يجلب المنفعة بقدر ما يفيد في اتقاء الضرر ، وذلك ما مكنني من اتخاذ قرار العودة في وقت صلاة الظهر لغرفة الإدارة الرئيسية حيث جلست شذا هادئة وأضيفت إلى جغرافية مكتبها التقليدية بضعة كتب فيما تزايدت كثافة الأوراق البيضاء أمامها ، ألقيت التحية فنظرت بهدوء إلى الكائن الخرافي الذي احتشد أمامها بتحية مترددة أمضى المسافة من المقهى إلى الشركة وهو يرددها مع أنها تكونت من كلمتين بسيطتين ، وكانت ثانية صعبة بالفعل تلك التي استغرقتها ملامح وجهها للانتقال من الدهشة إلى ابتسامة مرحبة مصحوبة برد التحية وللغرابة دون تحضيرات مماثلة لما كنت أقوم به قبل لحظات ، اتجهت إلى مكتبي المجاور لها محاولا أن أستعرض اللغة العربية كلها للبحث عن مفردات تدخلنا إلى حديث ودي وبرغم أنها لمحت مؤامرتي بوضوح مع أسئلتي التي تتابعت عنها وعن دراستها وسكنها وسبب التحاقها بالعمل معنا ، والتي كانت تواجه إجابات متحفظة وغير واضحة ، ولكنها كانت تعد إنجازا ضوئيا قياسا بالموقف السائد في الصباحات السابقة ، الإجابات المقتضبة جعلتني استسلم للصمت في كل مرة مكتفيا بمتابعتها وهي تتناول الأوراق البيضاء لتكتب على وجهي الورقة ثم تضعها تحت قطعة جلدية على المكتب ، كانت مراقبة الاهتمام والشرود اللذان يتناوبان على ملامحها مع الكتابة متعة استثنائية وكافية لحياة عادية تليق بموظف قطاع عام ، ولكنها وكالعادة انتهت سريعا فقد استطاع مولانا عصام أن يقوض وجود الفتاة في إدارتنا كما تمكن المسلمون من فتح الشام ، وكانت استقالتها المفاجئة صفعة تراجيدية لكل حواراتي الداخلية الموازية لنهمها بالكتابة على الأوراق البيضاء الصغيرة ، لدرجة أن احتقاني الواضح وسط تهليلات النصر المتملقة فاقمت من صعوبة موقفي مع الحاج عصام وبالتالي خروجي من جنته متهما بمعرفة ما لا يجب لأمثالي معرفته ، فقد أتى قرار نقلي إلى الأرشيف المركزي بعد أسبوع واحد من استقالة شذا ، خصوصا بعد الوشاية بمشاويري التي كنت أنكص فيها للإدارة لمشاركة الفتاة في خلوتها ، وبالتالي فقد شجعني ذلك على أخذ ميراثها الذي تركته والمتمثل في مائة وثمان وعشرين ورقة صغيرة تحت الغطاء الجلدي للمكتب وكتابين وجدت فيهما ثمان أوراق كبيرة كتبت كلها بخط يدها المنمنم ، وانقطعت علاقتي من ذلك اليوم مع إدارة المشتريات عدا من زيارات قليلة كان يخصني بها عوني لاقتراض القليل من الجنيهات أو البحث عن موضوع للنميمة ، فقد مثلت لزملائي السابقين طريدا أزليا خان ثقة الحاج وتقاليد إدارتنا وهدد أمنها وطمأنينتها ..

مثل الأرشيف المركزي رعبا حقيقيا لكافة موظفي الشركة فالذهاب للعمل فيه يعني حرمانا نهائيا من الترقيات والعلاوات الاستثنائية التي تمثل الجزء الأكبر من راتب موظفي الشركة ، كما أن المكان يعد مكرهة صحية بالفعل ، وبالإضافة إلى رثاثة السمات الخلقية والأخلاقية لمسئوله عبد العال درويش فإن عملا متراكما لسنوات كان ينتظرني ، دخلت إلى مكتب منزو بين خزانتين عملاقتين وبدأت أرتب مفردات ثروتي الجديدة التي تكونت من كتابين أحدهما كتاب ظننت في المرات العديدة التي قرأتها فيها في غيبة الأرشيف أنه للأطفال فعلا كما أدعى مؤلفه ((أنطوان اكزوبري)) والثاني كتاب عن أشهى المأكولات الايطالية قمت بعدة محاولات بعضها في الشركة وبتواطؤ مع عوني لتنفيذ بعض من وصفاته دونما فائدة ، ذلك أننا كنا نمضي معظم الوقت في إيجاد المعادلات الملائمة للاستعاضة عن الجبنة الموزريلا بالجبنة الدمياطية البيضاء ، أما الأوراق فقد قمت بنقلها إلى المنزل وبعيدا تماما عن شقيقتي الصغيرة ، وبينما كنت أوزع وقتي بين مطالعة الكتابين وأرشفة آلاف مؤلفة من الوثائق تعود إلى عهد الأسرة السادسة في إدارة الشركة ، فقد كنت أعود إلى طقوس قراءة الأوراق في البيت ، في البداية واجهت مشكلة تتعلق بترتيب هذه الأوراق بعد أن توصلت في الأيام إلى الأولى إلى حقيقة أنها مترابطة ومتتابعة في موضوع واحد ، وقد كنت أزجي معظم الليل في التباديل والتوافيق المناسبة لوضعها في ترتيبها السليم وفق ما كتبته شذا أثناء تواجدها معي في العمل ، إلى أن وصلت إلى صيغة ملائمة فتكونت لدي قصة عن فتاة تحاور أخرى تسكنها ، كلتاهما مختلفتان تماما وتتبادلان اللوم في الجانب التعيس الذي تلقيه كل منهما على شريكتها في ذات الجسد ، ذلك الشبيه بفرس يعدونه لسباق نحو الجنون ، وحين لم تتفقا تماما تقرران التخلص من الجسد ويبقى أن تتخذ أحدهما القرار في الرحيل بالروح إلى فضاءاتها الخاصة والبعيدة واختلاس فسحة من التوق لما لم يتحقق في الحياة اليومية والمكررة ، شعرت وقتها أن شذا أسيرة وساوس قلقة قد تودي بها ، وأنني قد يمكنني أن أساعدها في تجاوز مصير لا أريده لها ، وبالتالي فقد أتى دور عوني ليقوم بخدمة مهمة لي تحت مسمى الصداقة ولكنه لم يتورع عن قبض ثمنها عدة مرات بعد ذلك ، فقد طلبت منه أن يأتيني بعنوان شذا من إدارة الموظفين وما هي إلا ساعة واحدة حتى كان ملفها على مكتبي في الأرشيف ، كانت صورتها تحمل ابتسامة كتلك التي بذلتها مع تحيتها الأولى لي في عودتي المفاجئة قبل غيابها ، وكأن عوني يقرأ أفكاري فقد مد يده لينتزع الصورة ويضعها في جيب قميصي غامزا بلؤم ومبررا أن أحدا لن يلحظ اختفاءها ، لم أدعي الرفض وقمت بنقل عنوانها ، ومضيت دون مجرد الاستئذان من المومياء الذي يرأسني على حراسة العالم السفلي للشركة.

كان منزلا عائليا من طابقين ومدخلين واسمي الشقيقين ساكنا المنزل معلقان على كل بوابة ، ودائما تواجد المكان الذي يجعلني أرقب المنزل دون أن يرتاب بتواجدي المستمر أحد ، وتمكنت في اليوم الثاني من رؤيتها وهي تغادر البيت ، كانت تمضي مسرعة حتى بعد أن عبرتني بقليل ولكنها وكأنها تذكرت شيئا توقفت ومدت يدها للسلام ، لا أعرف أية كيمياء جعلتني أميز بحساسية لبقية عمري بين المخملي والسندسي والحريري وبقية تلك الأشياء المحببة والوثيرة ، فقط لم تستطع أن تتذكر اسمي فذكرته به ببساطة وابتسامة اكتفت بأن تتذكر وجهي المتعب من الشمس ومخلفات عوادم السيارات التي يزدحم بها الشارع ظهرا ، سرنا دون يدعو أحدنا الآخر لمرافقته ، وأخرجت من جيبي عدة أوراق كنت قد نقلت عليها قصتها التي نسيتها في العمل ، استغربت في البداية وهي تقرأ محتويات الأوراق ثم ابتسمت لتذكرها أنها هي تحديدا من كتبتها ، نظرت إلي مستفهمة فشرحت لها قصتي مع تلك الأوراق ، وعلمتني فارقا آخر بين الابتسامة التي ليست أكثر من باب يحتمل وراءه ألف احتمال ويمكنه أن يتقمص عددا لا نهائيا من الوجوه وبين الضحك الذي يأتي من نبع نوراني يحمله كل منا بداخله طيلة الوقت دون أن ينتبه أن يحمل أقنوم سعادته وجنونه منذ اللحظة الأولى لمولده ، حتى عبد العال درويش يحمله بداخله وإن وارته مسئولية ستة أطفال وزوجة مريضة وعتمة الأرشيف المركزي ، كنا نسير بايقاع منتظم وبطيء وهي تتحدث شبه معتذرة عن القلق الذي سببته لي ، حدثتني عن النساء اللائي اعتادت أن تستضيفهن إلى مرصدها ، أشارت إلى رأسها مبتسمة ، من أميرة فرعونية منسية تهرب مع أحد العبيد فيموت ويتركها وحيدة بين البدو الرحل ، إلى جارية مملوكية تصطنع المؤامرات لتلفت انتباه الوالي ، إلى فتاة عادية ويومية تبحث عن حريتها ومكانها في حوش الحريم الذي يحمله الحاج عصام في داخله ، وهكذا مجرد لعبة ، صعبة إلى حد ما ولكنها ليست قاتلة أو لم يحن حتى الآن على الأقل أن تتحول لذلك.

لا أعرف المسافة ولا الوقت اللذان مضيا بالقرب من جنة حضورها الفائضة عن قدرة الكون ، وطموحه للكمال ، ولكنها اختتمت حديثنا بالإشارة إلى خطي الذي جعلها فقط تريد الاحتفاظ بتلك الأوراق وليس محتوياتها التي تجعلها تتذكر ما لا تريد أن تتذكره ومضت هكذا ببساطة كما ينتهي حلم يمتلئ بكل ما يمكن للمرء أن يشتهيه في حياة بسيطة وعادية بدقات حثيثة لمنبه نحاسي .


2)

واحدة من ملذات الحياة وحدث يجدد نكهته كلما تكرر في موعده الغير منتظم ، ليس بغية الإثارة والتشويق ولكن لإهمال المسئولين عنه وإيمانهم بعبثيته وعدم جدواه ، إنها عربية الرش ، الزائر المرتقب بمعدل مرة أسبوعيا ، معشوقة الأطفال ، ومدينة الملاهي المتنقلة لأبناء الأحياء الفقيرة ، تبدأ أصوات الصبية في التعالي من الحواري المجاورة ، فتأتي كموسيقى صاخبة من راديو خافت ، مع اقتراب الجلبة يستعد أطفال الجيران ، الصبية يتحررون من معظم ملابسهم المتواضعة ، والفتيات يكزن على أسنانهن لاستجماع قصارى الطاقة واللحاق بمكان في المقدمة ، مع دخولها الشارع الرئيسي للأزقة التي تتألف منها حارتنا ، يبدأ الصبية اللائذين بجانبي الطريق الانطلاق للالتحام بذيلها البشري الطويل ، البعض يصرخون من لذة الارتطام الأولي برائحة المبيد الحشري القوي الذي تنفثه ماكينة مثبتة في خلفية السيارة ، ويحاول الفتية الأكثر قوة التعربش بالسيارة لضمان أقصى قدر من المتعة ، اختفت عربات الرش في هذه الأيام تقريبا، وفي المرات النادرة التي تعبر بدون الأطفال الذين صاروا أكثر ذكاء من الذين كناهم ، أشعر بحنيني يتتبعها متئدا حتى تغيب تماما ، بالكاد كنت أكملت الثالثة والعشرين حين سقط الرقم 19 من رزنامة الأيام ، ولكن مفردات طفولتنا نحن أبناء تجربة عربية الرش انتمت تماما لعصر ضائع ، الحنفية العمومية والسلاسل الحجرية والخشبية الطافية فوق برك الصرف الصحي بين البيوت ، والكهرباء التي نادرا ما تصلنا مما جعل أمورا مثل الثلاجة والتلفزيون والمروحة خارج مداركنا ، وحده الكاسيت بالبطاريات التي كنا نتناوب على عضها لإطالة أمدها والاستماع إلى أيقونة ذلك العصر أحمد عدوية ، وترديد أغانيه في جولاتنا المسائية بين الحارات المجاورة والتي كثيرا ما انتهت بمعركة طاحنة مع أبنائها ، تركت علامات لا تمحى في وجوه معظمنا ، ولأن العلامات التي خلفتها تلك الأيام أتت في رأسي وغابت تحت شعري الكثيف فقد عددت نفسي محظوظا ، لأنني امتلكت وجها يمكنني أن أخرج به إلى العالم دونما خوف ، الرهبة كانت تتوالد وتتفاعل في داخلي كلما خطوت خارج منطقتنا ، وربما عودتني الأيام وقدر كبير من البلادة ورثته من جلستي في التختة الأخيرة في المدرسة وحاسة سمعي الضعيفة على تمويه تلك الرهبة و تطويعها ، ولكنني لم أتمكن يوما وفي أعلى حالاتي المعنوية من محوها.

ذهبت إلى المدرسة مع مجموعة كبيرة من أبناء منطقتنا ، وكنت دائما ألوذ بحمايتها من الأذى المتوقع من الطلبة الآخرين والأكبر سنا ، وأخذت تلك المجموعة في التناقص حتى تلاشت تقريبا مع الصفوف الثانوية ، وبالمقابل ومع كل خارج من المدرسة من أبناء المنطقة كانت علاقتي تمتد مع تلاميذ من عوالم ليست بعيدة عن عالمي ولكنها مختلفة ، عانيت في البداية من جهل كيفية انتظام الحروف في كلمات والأرقام في أرقام أخرى بمجرد وضع علامات الجمع والطرح بينها ، ولكنني لم أوصف بالكسل لأنني كنت أستطيع أن أنجز كل الواجبات التي يطلبها المدرسين ، فقد كنت أرسم الحروف والكلمات التي يطلب منا إعادة كتابتها ، كنت فقط أوصف بالغباء لحصولي على علامات متدنية في الإملاء ، أما الحساب فقد أوكلته لحضوري المبكر للمدرسة ونقله من التلاميذ الآخرين ، أما كيف استطعت مع هذه الحال أن أجتاز كافة صفوف المدرسة دون الرسوب الذي كان سيعني مغادرتها نهائيا ، فيرجع إلى أحد مشايخ مسجد الدعوة في حارة السوداء القريبة ، والذي كان يمر ليجمع طلبة الإعدادية من ساحة مصنع الأسمنت التي كانت ملعبا ترابيا لكرة القدم ، ليستذكر معهم دروسهم بدون أجر شريطة أن يبقوا حتى صلاة المغرب لحضور الدرس الديني اليومي ، كنت تعلقت برسم الخطوط تماما ، مما ألحقني وبعد ذلك الروتين اليومي الحافل الذي عشته طوال تلك السنين بمعاونة الخطاط المبتور اليدين في محله المتواضع القريب من محطة القطارات ، وتغيبت عن المدرسة لعدة أيام في الثانوية العامة وأنا أخطط آيات من القرآن في مسجد النور الذي كان يبنيه أحد الأثرياء في المنطقة ، كما أنني ما أزلت ألمح عشرات اللوحات التي أنجزتها في تلك الأيام ابتداء من لوحة للحفاظ على نظافة المراحيض في مصنع الأسمنت ، حتى لوحة محلات التقوى لملابس المحجبات التي تجاوزت العشرة أمتار ، بعد سفر عايد الرسام للحاق بشقيقه المهاجر أغلق المحل لأنني فشلت في تدبير إيجاره السنوي الذي كان يجب أن يدفع مقدما للمحافظة ، وورثت عدة خط نادرة من عايد وبعضا من الزبائن الذين كانوا يأتون إلى منزلنا لترك طلباتهم للوحات ويافطات في مواسم انتخابات النقابات أو مجلس الشعب ، أو بمناسبة حضور أحد الوزراء لزيارة المصانع والشركات التي يعملون بها ، مع دفعة مقدمة تكفي لشراء الأدوات اللازمة.

كان التحاقي بالمعهد التجاري لثلاث سنوات تلي المدرسة الاختيار المتاح لأنني تلقيت وعدا بتعييني في شركة الأسمنت التي تدير المصنع في منطقتنا ، وكان والدي أحد موظفيها لسنوات طويلة ، وفضلت ذلك المعهد المتوسط على الالتحاق بكلية الحقوق الوحيدة التي أتاحها لي معدلي المتدني ، وذلك لا يرجع لسبب سوى تهيبي لدخول عالم بعيد عن عالمي المتواضع الذي تعودته وأصبحت أشك في قدرتي على الخروج منه ، ومع الأيام الأولى والأميال القليلة التي انضافت إلى دائرتي الحيوية أصبحت أدرك أنني دخلت الحياة فجأة ، وأصبحت أحس بردات الفعل التي تليق بطفل خرج للنور وهو يمشي ويتكلم ويأكل ، كنت منبتا عن كل شيء ، لا أستطيع التمييز بين أنواع السيارات ولا أعرف معظم الأماكن التي يسكن فيها زملائي ، والأخطر أنني لم أمتلك ذلك الحس الذي يجعلني أميز بين الفتيات ، مما جعلني هدفا سهلا للفتيات اللواتي امتحنهن الله بسحنات حفاري القبور ومنفذي أحكام الإعدام ، وقتها كنت أنتمي لقطيع عظيم من البشر يسكنون في الماضي لا لشيء سوى أنهم يدركون أن نصيبهم من المستقبل لن يكون إلا مزيدا من الخوف والألم ، وكانت كل ثانية تتقدم بها ساعات العالم سفرا في داخلي لمزيد من الغربة والتوحد ، تتلاءم تماما مع موقعي في إدارة المشتريات في شركة الأسمنت ، كنت موظفا مثاليا بسنوات عمري القليلة وطبيعتي السلبية والمستسلمة للتعايش مع مزاجات الموظفين المعتقين ، لم يشكل شبابي أدنى إزعاج لأحد ، وكنت أقاسمهم بهدوء جلسة المقهى التي تبدأ فيها طقوس اجترار الهموم اليومية ، والمعادلات الإعجازية لتدبر شئون المعيشة بالرواتب الهزيلة ، إضافة إلى النصائح الكهنوتية المتزنة بعدم الاقتراب من خطيئة الزواج وتوابعها المدمرة لموظف قطاع عام مثلي ، لم يفتقدني أي منهم بعد أزمة الأرشيف وانقطاعي عن جلستهم الصباحية ، كما أنني لم أفتقد أيا منهم وأجد صعوبة في تذكر أسمائهم الباهتة ، كانت مغامرة الأمير الصغير بين كواكبه تأخذني إلى عوالم بعيدة ورحبة دون أن تمر بي على العالم الوسيط ، عالم الناس العاديين الذين تزدحم بهم شوارع وسط البلد ليلة العيد.

أصبحت زبونا مسائيا بمقهى زعزع الذي يتوسط المسافة بين الشركة والمصنع ، والذي يستقبل في المساء أصنافا مختلفة من البشر ، وأحاديث أخرى لا تتضمن إلا لماما عالم شركة الأسمنت القريبة ، كأن يحملها أحد الرواد مسئولية تلوث البيئة في المنطقة ، أو يتساءل آخر عن موعد خصصتها وبيعها إلى مستثمرين أجانب ، كنت أنا وعادل المحامي الشاب الذي اعتزل ردهات المحاكم لما لم يجد فرصة حقيقية بين أباطرة المهنة وصعاليكها ، الأرفع تعليما بين رواد زعزع ولذلك نمت صداقتنا سريعا ، وأصبحت مع الوقت مساعده في مهنته كسمسار للشقق ، وتقاسمنا دور الطيب والشرير للحصول على سمسرة أعلى من المستأجرين ، وتدليس الشقق السيئة على مستأجري الصيف الذي يسعون للحصول على إحداها بأسرع وقت كيلا تضيع إجازتهم القصيرة في البحث بين الشوارع بدلا من الاستمتاع بشاطئ البحر ، الذي لم يعد صالحا إلا للمصطافين من الطبقة الدنيا والمتوسطة في أحسن الأحوال ، بمهنتي القريبة في أسلوبها من النصب قليل الأذى ، استطعت أن أوفر مبالغ ضئيلة وأن أتعرف على العالم وكأنني أراه للمرة الأولى ، كنت ابتسم كلما بدأت في التعرف على منطقة جديدة، واشعر بأن طفلا صغيرا مشاغبا يهمس لي : (( وأنت أيضاً أتيت من السماء! فمن أيّ الكواكب أنت؟)) *
كنت أدرك حينها أن العالم ينقسم إلى فصيلتين خفيتين من البشر ، من يعيشون ومن يحيون ، كنت أحيا بصورة أميبية تلقائية أجبرت عليها من اللحظة التي استطاعت فيها أجهزة جسمي العمل مستقلة بعد انفصالها عن رحم أمي ، ولكنني مضيت لأتساءل وبعد اللقاء الاستثنائي مع شذا هل كنت أعيش حقا قبل ذلك ؟؟

تشاركت أنا وعادل في محل لكتابة اليافطات أجرنا إياه صاحب مشحمة سيارات في منطقة وسط البلد ، واضطررت للعمل على عدة أيام في استكمال الزاوية التي أتاحها لنا بقواطع الألمونيوم قبل أن أستطيع تثبيت يافطة (( خطاط الكواكب – لجميع أنواع اليافطات )) ، كانت بداية صعبة ، وتطوعت بكتابة أبيات كثيرة من الشعر على سور مدرسة البنات القريبة لأتمكن من وضع توقيعي عليها ، قبل أن أتمكن من إقناع بعض أصحاب المحال التجارية من استبدال يافطاتهم بأخرى جديدة وبأجر زهيد ، وكدت أغلق المحل لولا بدء انتخابات مجلس الشعب و حصولي على سمعة عريضة ، قبل أن أصبح الخطاط المعتمد لمن لم يدخلوا المجلس في انتخابات النقابات والنوادي ، واشتركت أيضا مع طلبة كلية الفنون في جدارية كبيرة امتدت لعشرات الأمتار على المباني القديمة ، مع اعتلائي للسقالات المعلقة ومشاركتي لهم في أحلامهم وجنونهم كنت أخرج من شرنقتي التي اغتذيت فيها برهاب التوحد والعزلة ، ضحكت من قلبي للنكات التي يجمعنا حولها أحدهم بمعزل عن الزميلات ، وملكت الجرأة على إلقاء أسئلة تنم عن جهلي بمواضيع بديهية دونما خجل ، بعد انتهاء الجدارية أصبح محلي الصغير الملاذ المستطاب لتلك المجموعة ، وتمكنت من خلالهم من رسم بعض اللوحات و إتقان أعمال الحفر التي جعلت مواردي تتزايد مع الوقت.

لم أصدق نفسي وأنا التقي علي الأيوبي صاحب دار الأيوبي للنشر الأشهر في المدينة ، وأنا أجالسه وأضع شروطي لأصمم له أغلفة الكتب التي ينشرها للعديد من الأدباء وأساتذة الجامعة ، كنت ابتكر خطوطا جديدة وأميز بين أنواع الخطوط التي تصلح للكتب الجامعية والتي تليق بالروايات الأدبية ، وبرغم أن الأجر الذي كان يدفعه لي الأيوبي لم يكن مغريا إلا أنني كنت استمتع بوجود اسمي بداخل كل كتاب أصمم غلافه ، وأنتظر قائمة بأسماء الكتب التي سأعمل عليها كل فترة تأتي مع أحد العمال وملخص بمحتواها ، لأحظى بعد ذلك بأيام بفنجان من القهوة في مكتب الأيوبي للتناقش في الأغلفة التي صممتها ، ولم يحدث أن أعدت تصميم أحدها.

مضت تلك السنوات من حياتي دون أن يحدث أي شيء غير اعتيادي ، وحتى تركي العمل بشركة الأسمنت لم أعتبره تحولا في حياتي ، أو علامة ما ، حتى وصلتني قائمة من الأيوبي بأسماء الكتب التي ينبغي أن أصمم أغلفتها وكنت قد بدأت في استخدام الكمبيوتر لأنجز العمل بدقة أكثر ، تركت كوب الشاي بالحليب ومضيت لأشير لعامل البوفيه القريب ليحضر كوبا آخر لمراسل الأيوبي ، وضعت الورقة جانبا وكان الأيوبي قد توقف عن تلخيص الكتب واكتفى بمجرد كلمة لتحديد نوعيتها أكاديمية ، رواية ، اقتصاد ، بجانب عنوانها واسم مؤلفها لما تيقن من موهبتي في التصميم واختياري للتصاميم الأنسب لكل موضوع ، ومضيت أتبادل الحديث مع المراسل ، فوحدتي الصباحية كانت تدفعني للثرثرة مع أي زائر ، لم ألتفت لطلبات الأيوبي قبل المساء ، فقد كنت آخذ الورقة إلى البيت لأرسم الخطوط الأساسية لعملي الذي كنت أعده الأكثر إبداعا ، توقفت كثيرا أمام الورقة ، كأنني أحاول القراءة للمرة الأولى في حياتي ، أعرفه جيدا نعم أعرفه كاسمي ذلك العنوان ، (( السفر إلى الزمن الآخر )) حاصرتني رطوبة الأرشيف ، وتقافزت في ذاكرتي وجوه الحاج عصام وعوني وعبد العال درويش ، لقد سقطت مرة أخرى في جب تلك الأيام ، أفلتت قدمي بحركة كتلك التي تسبق النوم بعد نهار متعب ، مضيت أتمتم :

(( وحيدة روحي في عتمة هذه المدينة ، أكاد أختنق وأرى البحر بقعة عظيمة من الزيت ، أشعر برغبة في الهرب بالركض في غير اتجاه ، أراني أسقط من الإنهاك فأحفر الأرض بخطواتي المتعبة ، أنقلب في لحظات على كل ما كرسته في السنوات الماضية من أوهام وأشعر بأن أحلامي لم تكن إلا سفرا في الزمن الآخر ، ذلك الذي لم يكن إلا صورة مرآة لوجهي الذي لم أعد أعرفه ))

(( سفرا في الزمن الآخر ))

مضيت إلى الخزانة لاستخرج الأوراق الثمانية التي كانت موزعة بين كتابيها عندما تركت العمل، وجدت النص ذاته كما رددته من ذاكرتي ، لم أكن أحتاج إلى ذلك التأكيد فقد كنت أحفظ تلك الأوراق بكافة تفاصيلها وحتى في الكلمات التي شطبت واستبدلت بغيرها ، كانت علامة ما تضيء هناك على أول البئر ، وكانت الشمس عمودية فوقي ، كنت عاريا إلا من يقيني بأنها هناك ، في الزمن الآخر .

3)

مضت عدة دقائق قبل أن تأتي سكرتيرة الأيوبي بنسخة من المخطوطة والتي تفحصها بعناية دون أن يسألني عن سبب رغبتي في قراءتها كما توقعت، قلب بين صفحاتها طويلا، قبل أن يتوجه لي بالحديث متسائلا عن الموعد الذي سأتمكن فيه من إنجاز الغلاف، وعدته أنني سأنجزه مع بقية الأغلفة قبل نهاية الأسبوع ، نمت إطراقة رأسه الخفيفة عن شكه في ذلك ولكنه دفع المخطوطة لي ، قبل أن يشيعني إلى باب مكتبته، خرجت متسلقا الشوارع التي بدت عمودية وضيقة حتى محلي الصغير الذي لم يكن مناسبا لقراءة المخطوطة ومقارنتها بالصفحات الثمانية التي أحوزها منذ أعوام عدة ، فقفلت إلى منزلي لاستخدم الطاولة الكبيرة في عملية حثيثة لمقابلة النصين ، استخدمت قلمين بلونين مختلفين ، وبدأت بقراءة نص المخطوطة كانت ملاحظات المصحح اللغوي تبدو باهتة في النسخة ، وتجعل من القراءة عذابا حقيقيا ، بدأت في تظليل الجمل التي تقترب كثيرا من بعضها بين النسختين ، كان عددها أكثر من مائة جملة ، قبل أن أتوقف وأقرر أن أقرأ المخطوطة من البداية حتى النهاية ودفعة واحدة ، مع الصفحة الأخيرة كانت الشمس تعاود صعودها من وراء أشجار النخيل باتجاه البحر ، كان ليل قد مضى ، وكنت دخلت في نوم متوتر لعدة ساعات قبل أن أستيقظ والشمس تعتلي عارضة السماء ، ذهبت متأخرا للمحل ومعي النصين اللذين وضعتهما بجوار جهاز الكمبيوتر قبل أن يدفع لي صبي المقهى بورقة فيها العديد من أرقام الهواتف التي يجب علي أن أعاود الاتصال بها ، اتصلت برقم وحيد ، كان محدثي منفعلا تماما لأنه حضر الاستلام بعض اليافطات الصغيرة التي تعلق على أبواب المنازل والمكاتب ووجد المحل مغلقا فوعدته أن أرسلها له في أي مكان كنت واثقا أن غضبه سيذهب عندما يرى تلك اليافطات الصغيرة التي ساعدتني طبيعة الأسماء التي تضمها في استخدام خطوط جديدة ، توجد أسماء موسيقية في نطقها كما توجد أسماء موسيقية في وجودها وفي مواصفاتها الخطية وفي علاقة أحرفها المرسومة مع بعضها ، توجد أسماء تستفز الخطاط لإعادة معالجتها والبحث عن معادلة ما لربط المسافات بين حروفها وتقسيماتها ، وكانت اليافطات في معظمها تحتوي أسماء طيعة ، مضيت أحتسي الشاي بالحليب وأتابع عاملا يقوم بغسيل سيارة أجرة ، كتب صاحبها لدى خطاط ما آية قرآنية كثيرا ما كتبتها في أماكن عدة (( ولئن شكرتم لأزيدنكم )) لا أعرف ذلك الخاطر الذي دفعني لأقوم إلى محلي وأسحب ورقة صقيلة من الكرتون وقلما عريضا ، لأكتب آية قرآنية أخرى (( إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين )) علقت اللوحة بعناية في وسط النماذج التي احتلت الحائط الصغير المتاح بجوار المحل ، كنت أعرف أن مهمة ما تنتظرني وكنت أؤجلها قليلا بتسكعي في المنطقة والدخول إلى المحلات لمشاهدة الآيات القرآنية التي تخيرها أصحابها لتعلقيها، والخطوط التي كتبت بها تلك الآيات ، صدمتني لوحة كتبتها قبل سنوات لتاجر أقمشة ، علقت لدى أحد بائعي أجهزة الهاتف الخلوية ، اقتربت أكثر من الآية التي رسمت بشكل طائر باسط جناحيه ، (( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم )) وقت أن طلبها مني الشيخ عارف نقدني مبلغا كبيرا ، ثم مضيت مندفعا بحماسي لكتابتها ، أردت أن أخطها صوتيا ، أن أبث فيها الطبيعة الصوتية الخاصة ، في طفولتي تعلقت بتلاوات مصطفى إسماعيل التي كانت ترسم كل كلمة في مقامها الصوتي الملائم لدلالتها ، جننتني طريقته في أداء كل كلمة من الذكر ، فكلمات النعيم والمؤمنين تترقرق من صوته كسلسبيل يفيح في الروح ، و تبدو كلمات الوعيد والكافرين كصلصلة مفخمة لمقرعة بحجم جرم سماوي ، بعد أن بدأت في تخطيط الآية بالقلم الرصاص على ورقة ناعمة ، تنبهت لطبيعتها التي جعلت كلمة النعيم في مقام الوعيد المقذع ، لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ، صدمتني رغبة الحاج عارف في خط هذه الآية ، وعادة التجار أن يخطوا آيات الحمد والشكر التي تبدو مجاملة ورياء أكثر منها إيمانا في ليعلقوها في صدر متاجرهم الممتدة على طول الشارع التجاري ، أما أن يذكر أحدهم نفسه بالجحيم ويقينه بأنه يراه ، فمثلت لي السيف الذي رسمته بعناية وخططت داخله الآية مشددا على حركة التقاء الحروف ، وآتيا على انسيابية النص ، أتت كلمة النعيم في الآية قوية وممتدة مع نهاية صارمة مثلت ميما مقتضبة ومستقيمة ، نقلتها إلى ورقة الآرت دونما سيفها التجريبي ، ومضيت تتنازعني فكرة مقابلة الآيات ببنى شكلية كتلك الصوتية التي تزخر بها فنون التلاوة ، لم أشرع في ذلك المشروع حتى الآن وردتني له لوحة معلقة في محل الهواتف الخلوية ، بجوار إعلان عن هاتف حديث تحمله مطربة شهيرة ، طلبت من البائع شراء اللوحة فطلب مائتي جنيه ، ابتسمت وخرجت ,,

استقبلتني المخطوطة الغافية والورقات الثمانية القديمة ، وورقة كبيرة دونت فيها الجمل المتشابهة تماما بين النصين ، وإن اختلفت أحداث القصتين فالأوراق الثمانية لم تتجاوز مناجاة للذات قبل المغادرة في قطار لا يمضي لمكان محدد وكل ما يبدو أنه لن يعود إلى هذه المحطة أبدا ، والرواية في صفحاتها المائتين تتحدث عن قصة رجل يعود من سفر بعيد ليجد كل شيء تغير فيقرر أن يهجر زمانه الذي خانه لزمن مضى ، أن يغرق في ذاكرته ، زمنان يمضيان في اتجاهين متعاكسين ويلتقيان وينكسران هنا على طاولتي الصغيرة ، وعشرات الناس تمر أمامي لابد أن لكل منهم زمن آخر يهرب منه أو إليه ..

أتى علي القواس أحد أفراد مغامرة الجداريات العتيدة ، ومثقف متنوع المعارف ، والذي قضينا الكثير من الوثت نستمع له يروي آلافا من القصائد العامية لشعراء لم يسمع بهم أحدنا ، وآلاف أخرى من أزجاله اللاذعة والبذيئة ، التي رفضت أن أدونها بخطي لخجل أصيل يستوطنني بحكم نشأتي شبه المتدينة ، لم أسرد القصة إلا بعد أن اطلع لماما على المخطوطة والأوراق المتفرقة ، وتطلع مندهشا إلى الورقة التي أوجزت فيها كل شيء ، لم ينبس بأي كلمة عدا أنه ردد اسم المؤلف عدة مرات عادل هاشم ، لما تطلعت عن غير تعبير في وجهي ينم عن أثر الاسم الفخم ، ابتسم علي واقترب هامسا لي بعرض لمقابلة عادل هاشم وعرض الأمر عليه ، مع تأكيده أنه لن يكون مسئولا عن ردة فعله ونتائجها على عملي مع الأيوبي ، لم أتردد كعادتي وسألته فقط عن التوقيت ، قريبا ومضى ,,

مضت الساعات تماحكني باحتمالاتها في غيبة علي التي طالت لمساء اليوم التالي ، ربما أصبحت زوجته كان الاحتمال المرجح لدي ، وحمل ذلك احتمالا باطنيا مفرحا لأول وهلة ومرعبا تماما بعد لحظات ، أن أراها ثانية ، أن يتم الزمان دورته ، أن تفوت سنة من ضوء الحنين ، ربما نشرتها في مكان ما والتقطها وبنا عليها روايته ، عشرات من الربمات الصغيرة التي تسلقت أعصابي في تلك الساعات التي تساقطت بسرعة وسيارة علي الصغيرة تدور أمام محلي قبل أن أصعدها بدون أي احتمال فقط أمل صغير من ملايين الآمال التي لم تفض إلى شيء في السابق ، أن أراها ,,

لم نذهب لبيته وإنما التقينا في أحد المقاهي الهادئة الذي حمل مجدا قديما نادرا، كان وجهه مريحا لدرجة أنني أنبت نفسي على ظنوني السيئة فيه ، بدت عينيه كمرصدين لالتقاط إشارات من سماء بعيدة وغامضة ، ارتدى ملابس صيفية بسيطة ، ونفث دخانه عدة مرات وهو يستمع لمقدمة علي التي يبدو أنها أعدت بعناية تفهمت منها مكانة الرجل لديه ، ابتسم فقط وهو يلقف ورقتي ويطالع الجمل التي انتمت أساسا إلى ورقاتها القديمة ، وكأنه لم يصدم نزع الخيط الذي ضم أوراق مخطوطته ، وبدأ يعيد قراءة العديد من الفقرات ، ثم طلب من فتى المقهى أن يلقي مخطوطته للنار التي تزود الأراجيل بالفحم ، كنت أحاول اصطناع أي كلمة للاعتذار ، قبل أن يقاطع نواياي الطيبة بصوته الهادئ ، قال كلاما كثيرا فتتنني ما فهمته منه ، ودوخني ما لم أفهمه ، ولكنه أراد أن يقول أن لا أحد يملك أفكاره ، ولا حتى معاناته أو عذاباته التي دائما ما يظنها الأكثر ظلما في العالم ، ويحدث أحيانا أن تكتب الكلمات نفسها إذا كانت الأرواح قريبة بهذه الدرجة ، وأن ثمة قبة وراء السماء تختبر فيها الأرواح جدارتها بالحياة قبل أن تهيم في الأرض ، بعض الأرواح يحركها الشبق والجشع في الحياة فتأتي قبل أن تكمل تجربتها هناك ، وبعضها يأتي رغما عنه لأنه قضى وقته في القبة يغني ويحلم ، فتكسره التجربة الأرضية ، ونادرا ما يجد أحدا ممن عرفهم هناك ، كل ما نقوله لم يكن إلا غناءنا قبل أن نكون ،،

خرجت من حديثه دون مقدمات كما دخلته، ودون أقدم اعتذاري الذي أردته، ودون أن أعرف الطريقة التي وصلت فيها إلى غرفتي في آخر الليل، وصعدت لنومي القلق دون أن أعرف اسم اليوم التالي، وأتت لأحلامي كل الكلمات التي لم أفهمها، ورأيتها مرسومة بخطوط كتلك التي كنت احلم باشتقاقها من الصوت، لم تأت صورتها كما أردت ، أتاني خطها المنمنم ليعيد كلمات أخرى بلا صوت، كنت لا أسمع شيئا وكنت أرى كل الأشياء، كنت أصما وكنت بصيرا، وقد عشت أعمى ,,

الخطوات التي اختزنتها ذاكرتي منذ سنوات أتتني من نفسها، كنت أعيدها بتلقائية ودون أجرؤ على سؤال نفسي عن وجهتها في ذلك الصباح في اليوم الذي لم أعرف اسمه أبدا ، وكانت جلبة الترام تصم آذاني وكنت مستسلما للصمت في روحي .



#سامح_المحاريق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صورة المرأة في تراث الرواية العربية
- المهرج ومعجون الأسنان
- خلوة صوفية - محاورة لقصيدة قديمة
- قراءات في العهد القديم - داود
- امل دنقل صرخة في صمت السؤال
- الرقص
- يحدث في غزة الآن ..يحدث بالفعل
- المنابر من الأزهر إلى الانترنت
- حديث في النخب العربية - الجزء الثاني
- النخب العربية
- الكبش
- سراديب السماء ..
- الورقة البيضاء
- السلاسل الحجرية .. موزاييك نصي قلق
- ليل بدونك


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح المحاريق - كوميديا الغياب و الحضور