|
استدعاء الماضي
محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن-العدد: 5290 - 2016 / 9 / 20 - 10:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد أسبوعين من سقوط العاصمة العراقية، بغداد، بيد واشنطن في 9 نيسان 2003، أقيمت احتفالات بأربعينية الحسين، بعد منع السلطات العراقية من إحيائها ربع قرن سابق.
وأمام منظر التفجع والحزن الطازجين عند الجمهور المحتشد، سألت صحافية أميركية مترجمها العراقي «متى مات؟». هي تظن منذ أيام، فيأتيها الجواب «قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف من الزمان»، فعلّقت «أتينا إلى مكان مجهول لا نعرف معالمه». لم تكن بغداد هكذا عندما نزل حوالى مليون شخص للاحتفال بعيد العمال في الأوّل من أيّار 1959، بدعوة من الحزب الشيوعي. كان أغلبهم من الشيعة، وكان الحزب قويّاً في النجف، لحدود ضاقت نفوس رجال الدين. حتى وصلت الحال بالشيخ مرتضى الياسين أن يصدر فتوى (نشرتها جريدة فرع الاخوان المسلمين في العراق «الفيحاء») أعلن فيها «إن الانتماء إلى الحزب الشيوعي أو تقديم الدعم له من أكبر الآثام التي يستنكرها الدين». كما قام المرجع الشيعي ميرزا مهدي الشيرازي بإصدار فتوى تحرّم على الشيوعي وراثة أبيه. ليس هذا رجوعاً إلى الوراء عند الناس، بل تعبيراً عن فشل ومآزق أفكار وتيارات أيديولوجية، ليقوموا بالانفضاض عنها، وخلع قمصانها، وارتداء قمصان ثانية. في السودان هناك تصنيفان للأحزاب: تقليدية مثل «حزب الأمة»، والذي يستند إلى «طائفة الأنصار» بزعامة آل المهدي، وحديثة حيث توضع الأحزاب الإسلامية في هذا التصنيف مع الحزب الشيوعي والأحزاب والحركات العروبية، كحزب البعث وحركة القوميين العرب. يمثّل الإسلاميون تياراً حديثاً، مثل الأحزاب الديموقراطية المسيحية، التي نشأت في القرن العشرين. ولكن يستندون إلى أيديولوجية تستمد مخزونها الفكري المعرفي من دين وجد في ماضٍ بعيد. في التاريخ الأوروبي الحديث وجدت تيارات دينية، مثل طائفة البيوريتان في إنكلترا، والتي قادت عبر تجار لندن ثورة البرلمان ضد الحكم المطلق، للملك تشارلز الأولبين عامي 1642 و1649، وأقامت دعائم إنكلترا الحديثة، من خلال حكم كرومويل. لم يمنع من ذلك التشدد الأخلاقي المتزمت للبيوريتان، والذي يشبه كثيراً المظاهر السلوكية والاجتماعية للأصولية والسلفية الإسلاميتان، ولا ارتدادهم الماضوي نحو الإنجيل والتوراة. هؤلاء أيضاً، وهرباً من اضطهاد تشارلز وأبيه جيمس، هاجروا إلى القارة الجديدة، واستوطنوا في ماساشوسيتش عند الساحل الشرقي الأميركي.
لا تقاس الأفكار السياسية بمضامينها، بل بوظيفيتها في المكان والزمان المعينين
جمعوا في ذواتهم العلم مع الاقتصاد والنهم نحو التجارة، بالتوازي مع حَرفية أخلاقية متزمتة وذهنية مسكونة بأساطير ماضوية. كان إسحق نيوتن متديناً رغم أن قوانينه العلمية قد حطمت الرؤى الكونية الموجودة في الكتاب المقدس، وهذا لم يمنعه من أن يظل ويموت متديناً. هنا الماضي لا يعالج بذاته، بل من خلال كونه جزءاً من بنية فكرية – سياسية تمارس وظيفية سياسية في مجتمع وزمن حديثين. تلك الأيديولوجيات، المسكونة في الماضي ولكن الموظفة له في الحاضر، صنعت مستقبلاً تقدمياً وهي تمثل سلطة البرلمان عندما هزمت الملك، وكانت تعبيراً عن انتصار البرجوازية التجارية على الطبقات القديمة -ما قبل الرأسمالية- وعندما عادت الملكية وهزمت الجمهورية عام 1660، فإن البيوريتان كانوا ثانية عماداً أساسياً في ثورة 1688-1689، والتي أقامت الملكية الدستورية في إنكلترا وجعلت الملك «يملك ولا يحكم». في هذا الصدد، الأفكار السياسية لا تقاس بمضامينها، بل بوظيفيتها في المكان والزمان المعينين، وتقدميتها ورجعيتها تتحددان عبر هذه الوظيفية، وليس عبر مضمونها أو أشكالها المعرفية. أيضاً لا تقاس «التقدمية» و«الرجعية» عند الناس من خلال مضامين أفكارهم، بل من خلال وظيفية أفكارهم في الزمان والمكان المعينين، كما أن التحضر يقاس وفق تجربة الغرب الحديث بالترتيب التالي: 1-طريقة التعامل مع الأشياء 2-طريقة التعامل مع الناس 3-الأفكار اليوم، في العالم العربي وفي الشرق الأوسط عموماً، ومنذ تراجع المد القومي العروبي واليسار الشيوعي في السبعينيات، هناك استدعاء للماضي: الأصولية الإسلامية السنية تستدعي وفق سيد قطب «النبع الأول: القرآن والسنة»، محدداً «الجاهلية» و«الانحراف»، مع بدء اختلاط النبع الأول في زمن عثمان مع «الينابيع الأخرى»، وداعياً إلى «بعث إسلامي» بالعودة إلى «النبع الأول». عند الأصولية الإسلامية الشيعية مع الخميني ودعوتها لـ«ولاية الفقيه» و«الحكومة الإسلامية» يأتي استدعاء الماضي، من خلال تركيز الخميني على قول الإمام علي الرضا «لفقهاء أمناء الرسل»، محدداً أن ذلك يتجاوز الأحكام الفقهية إلى ميدان السياسة من خلال «الولي الفقيه». عند «السلفية» و«السلفية الجهادية» هناك توافق بينهما، في مخالفة للأصولية السنية التي تحد النبع الأول عند القرآن والسنة، وتمد زمنه فقط حتى أبي بكر وعمر، على الاقتداء بـ«القرآن والسنة والسلف الصالح»، حيث يشمل الأخير الصحابة والتابعين ومن «تبعهما». هذا الاستدعاء للماضي هو حديث العهد، وغير مسبوق بالزمن، إلا في حالات إسلامية فردية مأزومة. ولكن كان استدعاء أيضاً من أجل الراهن، وبسببه وليس من أجل عودة إلى الماضي، وترك الحاضر. يقول عبدالله العروي إن «تاريخ الإسلام يغدو تاريخ اختفاء كبير، أو كسوف أومحاق. وتنتخب فترة قصيرة -تتفاوت طولاً حسب المؤلفين- ثم يغطى الباقي بحجاب الخيانة الأسود» («الأيديولوجية العربية المعاصرة»، دار الحقيقة، بيروت 1970، ص119). مفهوم التشدد عند ابن حنبل (164-241 هجري) وابن تيمية (661 - 728 هجري) كان آتياً من حالة دفاعية مأزومة، أقرب إلى من ظهره للحائط. كان التشدد في الاقتداء بالسنة النبوية عند ابن حنبل طريقة دفاعية ضد المعتزلة، الذين تبناهم المأمون والمعتصم. وكانت تكفيرية ابن تيمية للأشاعرة والصوفية والباطنية الشيعية آتية من أن الدين، بحسب رأيه، «الكتاب وما قاله الرسول وفعله»، وليس أكثر، في زمن كان فيه الصليبيون والتتار، وكان الجميع ضده من المسلمين السنة والشيعة، إلى أن مات في سجن المماليك في قلعة دمشق. لا يحصل استدعاء الماضي عندما يصل المجتمع إلى مستقر. تولّى ليونيل جوسبان رئاسة الحكومة الفرنسية بين عامي 1997 و2002، ثم ترشح للانتخابات الرئاسية عام 2002. لم يذكر أحد من الفرنسيين بأنه من الطائفة البروتستانتية، التي لا تتجاوز 1% من السكان في فرنسا، ولم يستدع أحد من الفرنسيين ضده الماضي الفرنسي. الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستانت «الهوغنوت» 1562-1598، والتي أسالت أنهاراً من الدماء حتى انتهت بالصلح عبر «مرسوم نانت»، الذي أرسى التسامح بين الطائفتين، ونقضه الملك لويس الرابع عشر عام 1685، ليقوم بطرد ملايين البروتستانت «الهوغنوت» من فرنسا، وهم عماد التجارة والصناعة، نحو جنيف وجنوب إنكلترا بعد إحراق كنائسهم وبيوتهم وقتل الآلاف منهم. كان الماضي ميتاً، أو غير قابل للاستخدام بسبب قوة الحاضر وتماسكه.
#محمد_سيد_رصاص (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد العقل السوري المعارض
-
الطائفية... محاولة لتحديد المفهوم
-
الثورات الفاشلة
-
الموجة اليمينية العالمية
-
ديموقراطية المكوِّنات
-
باراك أوباما في مدينة هوشي منه
-
لماذا أتت روسيا إلى سورية؟
-
مسار الحركة الشيوعية العربية:محاولة للمراجعة
-
- السوريون في الأزمة -
-
نموذج الحزبي الشيوعي
-
الماركسيون السوريون
-
بناء السياسة بدلالة مركز خارجي
-
صعود القوى الإقليمية يواكب انكفاء واشنطن عن الشرق الأوسط
-
المنتصرون عام 1989... وتداعي قوة أفكارهم
-
سطحية الإلحاد العربي الحديث والمعاصر
-
فلاديمير بوتين وروسيا الجريحة
-
نزعة الاستعانة بالخارج: عن «الجلبيين» العرب
-
كم دبابة عند بابا الفاتيكان؟
-
أربعة أعوام من أداء المعارضة السورية
-
لا خرائط جديدة
المزيد.....
-
الناس يرتدون قمصان النوم في كل مكان ما عدا السرير!
-
ترامب عن ملفات جيفري إبستين: لا أريد إصابة أشخاص غير مذنبين
...
-
أنقاض رومانية اعتُقد أنّها لكنيسة قديمة.. لكنّ الأدلّة تروي
...
-
فيديو لمطاردة جنونية لرجل يقود شاحنة قمامة في شوارع مدينة أم
...
-
ترامب يقيل مفوضة مكتب إحصاءات العمل بعد تراجع توقعات نمو الو
...
-
مأساة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة: فيضانات مفاجئة تودي
...
-
ما هي اتفاقية خور عبد الله التي تلقي بظلالها على العلاقات ال
...
-
من يقف وراء التخريب في شبكة السكك الحديدية الألمانية؟
-
كابوس يلاحق المسلمين في بريطانيا.. ما الذي يجري؟
-
حاكم إقليم دارفور يحذر من خطر تقسيم السودان
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|