أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - علي عامر - ماركس عن الفقاعات المالية: نظرات أكثر تبصّراً من الاقتصاديين المعاصريين.















المزيد.....


ماركس عن الفقاعات المالية: نظرات أكثر تبصّراً من الاقتصاديين المعاصريين.


علي عامر

الحوار المتمدن-العدد: 5219 - 2016 / 7 / 10 - 13:33
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


Marx on Financial Bubbles: Much Keener Insights Than Contemporary Economists
by ISMAEL HOSSEIN-ZADEH

ماركس عن الفقاعات المالية: نظرات أكثر تبصّراً من الاقتصاديين المعاصريين.
بقلم: اسماعيل حسين زادة.
ترجمة: علي عامر.

بالرغم من تقدير الاقتصاديين المعاصرين لماركس وإعلائهم من شأنه, بسبب فهمه العميق "لقوانين الحركة لنمط الانتاج الرأسمالي", فإنّ معظمهم يعتقد بأنّ تحليل ماركس الاقتصادي لن يكون بذاك النفع, عند دراسة المصارف الحديثة, أو الشؤون المالية الكبيرة, بسبب من جدّة هذه المواضيع نسبياً, وتطورها بعد ماركس. سأطرح في هذه المقالة, أنّ الدراسة المتأنية والحريصة, لأعمال ماركس حول "الرأسمال الصوري", سيكشف عن نظرات متينة و فهم أفضل لحالات عدم الاستقرار في الأسواق الماليّة الآن.
صحيح أنّ مناقشات ماركس للرأسمال الصوري, بقيت مختصرة و مجزّأة, إلّا أنّ الخطوط العريضة التي خطّها عن التمييز بين "الرأسمال المالي والرأسمال الحقيقي", بين العمل المنتج والعمل غير المنتج, بين الاستثمار المضارب والاستثمار الحقيقي, كان لها فائدة كبيرة في فهم علاقة نمو الرأسمال المالي, وآثاره في زعزعة استقرار الأسواق الاقتصادية المتقدمة في زمننا الحالي.
نظرية ماركس عن القيمة, كناتج - للعمل البشري- متكوّن في عملية الانتاج, و توأمها, نظرية فائض القيمة – القيمة الأكثر من و الفوق تكلفة الانتاج – كمصدر للربح و الفائدة وإيرادات الإيجار, تعني أنّه للحصول على اقتصاد قابل للحياة والاستمرار, فإنّ المجموع النقدي لهذه الفئات المختلفة من المداخيل, يجب أنْ لا ينحرف كثيراً عن مجموع فائض القيمة المتكوّن في عملية الانتاج. بكلمات أخرى, فإنّ المجموع الكلّي للمداخيل النقدية مع-أو الربح في اقتصادٍ ما, يتحدد بمجموع القيم الحقيقية التي تُنْتَج في نفس الاقتصاد.
من ناحية تحديد ما يساهم حقيقة في استدامة الاقتصاد, فإنّ هذه النظرية لها تطبيقات سياسية ضخمة, حيث أنّ من شأنها إنذار صنّاع السياسة بشكل فوري, من الأخطار والأزمات الاقتصادية الوشيكة, حين ينزع انحراف المقادير النقدية عن مقادير القيم الحقيقية للزيادة الكبيرة, وبالتالي غير المستدامة.
هذا يوجد على تناقض حاد مع النظرية الاقتصادية السائدة-النيوكلاسيكية, عوضاً عن العمل البشري, فهي تنظر للملكية و-أو الإدارة كمصدر للربح أو الفائض الاقتصادي. وبناءاً عليه, فإنّه لا يوجد أية حدود نسقية, لمقادير المداخيل والأرباح التي يخلقها المدراء الرأسماليين "الأذكياء", و"الخبراء" الماليين: كل شيء يعتمد على مستوى إبداعهم, مشتملاً على كل أنواع "ابتكاراتهم المالية" الذكيّة, التي تقدر على خلق ثروة ورقية أو إلكترونية من الفراغ, بدون أن تكون مقيّدة بأيٍّ من القيم الحقيقية الكامنة فيها. ليس مفاجأً إذن, أنّ معظم الاقتصاديون لا يجدوا أية مشكلة في النمو الفلكي للرأسمال الصوري (نسبة للرأسمال الصناعي) في الفترة التي تلت الانهيار المالي عام 2008 مباشرة. في الحقيقة, فإنّ هؤلاء الاقتصاديين, قبيل انهيار السوق, توقعوا بكل ابتهاج, بأنّه لن يكون هناك المزيد من الأزمات الرأسمالية الرئيسية.
تذهب النظرية الماركسية عن عدم الاستقرار المالي (و الأزمة الاقتصادية بالعموم) إلى أعمق من مجرد اتهام "السلوك غير العقلاني للوكلاء الاقتصاديين" ببساطة, كما يفعل الاقتصاديون النيوليبراليون, أو إتهام "التنظيمات الحكومية غير الكافيّة", كما يفعل الاقتصاديون الكينزيون.
فهي تذهب في مقابل ذلك, إلى التركيز على الديناميّات الداخلية للنظام الرأسمالي, التي تسوس سلوك وكلاء السوق وسياسات الحكومات. فهي على سبيل المثال, تستعرض الانهيار المالي عام 2008, كمُخْرَج منطقي لتراكم الرأسمال المالي الصوري الزائد عن الحد, نسبةً للمجموع الكلّي لفائض القيمة الناتج عن العمل في خضمّ عملية الإنتاج.
عوضاً عن مجرد إلقاء اللوم على الجمهوريين "الأشرار", أو "الرأسمالية النيوليبرالية", كما يفعل العديد من اليساريين, والليبراليين, والكينزيين, تركّز النظرية الماركسية اللوم على ديناميّة "رأس المال كقيمة ذاتية التضخم," والتي لم تخلق الفقاعة المالية الضخمة التي انفجرت عام 2008 فحسب, بل تقوم أيضاً بتخريب السياسات العامة التي تنشأ لمواجهة مثل هذه الفقاعة, التي باتت عدم قدرتها على الاستمرار أمراً واضحاً. بكلمات أخرى, لا تنظر الماركسية للسياسة العامّة كشأن إداري أو تقني, بل وبشكل أكثر أهمية, تنظر لها كشأن سياسي عميق, يتشابك عضوياً مع طبيعة طبقة الدولة الرأسمالية, التي تتزايد السيطرة عليها من خلال المصالح المالية ذات السطوة.
بالرغم منْ أنّه ليس من الخطأ إلقاء اللوم على سياسات أو استراتيجيات التنظيم, و التوريق المالي, و الإبداعات المالية الاخرى, كعوامل تسهّل الطريق للفقاعة المالية, إلّا أنْ إلقاء اللوم عليها, سيخفي حقيقة أنّ هذه العوامل هي مجرّد أدوات مهمة لتراكم الرأسمال المالي الصوري. و بغض النظر عن كون هذه العوامل بسيطة أو معقدة, فهي أدوات أو استراتيجيات ضرورية ذكيّة لتحويل فائض القيمة الذي ينتجه العمل إلى مكان آخر, أو لخلق رأس المال الصوري من العدم.
ماركس يصف هذا التحوّل الخفيّ للقيمة الحقيقية (قيمة العمل), من رأس المال الانتاجي إلى رأس المال الصوري غير الانتاجي, "كشكل متطرف من صنمية البضاعة" حيث يختفي المصدر الحقيقي ولكنْ المغمور لفائض القيمة. ماركس في خضمّ مناقشته للتقلبات في مقدار الرأسمال الصوري, أو أسعار الأصول المالية, وعدم عكسها بالضرورة للتغيّرات في الاقتصاد الحقيقي, كتب يقول: "في حال كان انخفاض أو زيادة قيمة هذه الورقة المالية (الأصل المالي) مستقل عن حركة قيمة رأس المال الحقيقي الذي تعكسه, فإنّ ثروة الأمة ستبقى بنفس العظمة قبل وبعد الزيادة أو الانخفاض في قيمة الورقة الماليّة... فطالما لا يعكس هذا الانخفاض في القيمة الماليّة انسداداً حقيقياً في الانتاج و الحركة المرورية في القنوات أو سكك الحديد, أو طالما أنّه لا يعكس توقف الشركات الإنتاجيّة الفاعلة في سوق العمل, فإنّ الأمّة لن تفقد قيد أنملة من ثروتها, في حال انفجرت فقاعة المال الاسمي هذه.".
يصدّر ماركس لدراسة العلاقة بين الرأسمال المالي, الذي يسمّيه " رأسمال النقد القابل للإقراض", والرأسمال الصناعي أو الانتاجي, من خلال طرح السؤال التالي:" إلى أي مدى يتطابق تراكم رأسمال النقد القابل للإقراض مع التراكم الحقيقي, مثل توسّع عملية إعادة الانتاج؟" الإجابة التي قدمها ماركس, اعتمدت على مرحلة تطوّر الرأسمالية.
ففي المراحل المبكرة من تطور الرأسمالية, قبل صعود المصارف الكبيرة ونظام الائتمان الحديث, كان نمو الرأسمال المالي ينتظم ويتحدد بنمو الرأسمال الصناعي. فبغياب المصارف الاحتكارية الكبيرة ونظام الائتمان الحديث, كان نمط الائتمان السائد يتألف من الائتمان التجاري. وفي نظام الائتمان التجاري, يقوم أحد الأشخاص بإقراض المال لشخص آخر في خضمّ عملية إعادة الانتاج, (مثل, إقراض تاجر الجملة لتاجر التجزئة, أو إقراض تاجر التجزئة للزبون), فإنّ الرأسمال المالي لن ينحرف كثيراً عن الرأسمال الصناعي: "عندما نتفحص هذا الائتمان المنزوع من الائتمان المصرفي, سيبدو جلياً لنا أنّه ينمو مع زيادة في حجم الرأسمال الصناعي نفسه. حيث يتطابق الرأسمال الإقراضي والرأسمال الصناعي في هذه الحالة."
ولكن في مراحل الرأسمالية الأعلى, حيث تقوم المصارف بالجمع والتركيز والتحكم بالمدخرات القومية, فإنّ الرأسمال المالي يتوقف عن الحركة المرادفة لنمو الرأسمال الصناعي. في مثل هذه الظروف, "بات من الممكن تكوين الربح من خلال الاتجار بطائفة من المستحقات المالية الموجودة على الورق فقط... في الحقيقة, بات من الممكن تكوين الربح, باستخدام الرأسمال المقترض فقط, للدخول في مضاربة غير مدعومة بأي نوع من أنواع الأصول الملموسة".
هذه الفقرة المختصرة, تكشف عن التمييز الواضح الذي يضعه ماركس بين الربح الحقيقي والربح المتأتى من الفقاعات المالية. فبينما يتجذّر الربح الحقيقي في تربة انتاج فائض القيمة, ويجد حدوده فيها, فإنّ الربح المتأتى من تضخم الرأسمال الصوري (أو تضخم أسعار الأصول) لا يتجذّر ولا يتحدد من خلال انتاج فائض القيمة, على الأقل ليس بشكل مباشر, أو على المدى القصير.
يميّز ماركس بين طائفة من أصناف الربح أو المداخيل التي تعتمد كلها وبشكل مطلق على مقدار فائض القيمة المتكوّن من العمل البشري في خضم عملية الانتاج.
الصنف الأساسي والأكثر وضوحاً هو الربح الناتج عن الصناعة أو الانتاج الحقيقي, أو ربح "الشركة", كما أسماه ماركس. بناءاً على نظرية العمل الخاصة بالقيمة عند ماركس, فربح "الشركة" هو العمل غير المدفوع.(غير مدفوع الأجر).
واضعاً الانتاج كنقطة انطلاق, يعبّر ماركس عن قيمة الناتج القومي الاجمالي بالمعادلة البسيطة التالية: الناتج القومي الاجمالي= ث + م + ف.
ث: الرأسمال الثابت, أو (المستهلكات والمدخلات, مشتملة على المواد الخام(.
م: الرأسمال المتغيّر, وهو معادل لأجور الانتاج.
ف: فائض القيمة, وهو أساس الربح الانتاج (الربح المتحصل من الانتاج), أو ربح الشركة.
جزء من أرباح الشركة المتبقية, سيستخدم في إعادة الاستثمار والتوسّع, يسمى في لغة السوق "الأرباح المحتجزة", أمّا باقي أجزاء الربح, فتنقسم إلى توزيعات دخليّة, أو-و توزيعات تنظيمية-إدارية.
في المعادلة أعلاه, يسمّي ماركس الرأسمال الثابت بالعمل "الميّت", من حيث تجمّده أو تحجّره في الماكينات أو في وسائل الانتاج. أمّا (م + ف) فهي العمل "الحيّ", وهي مجموع ساعات العمل البشري المنفقة, أو مجموع القيَم المنْتَجَة, والتي تسمّى اليوم, صافي الناتج القومي, أو القيمة المضافة.
الصنف الثاني من الربح, تبعاً لماركس, هو "الربح فوق الاغتراب أو المصادرة", والذي يأتي من الجزء الذي يصادره الرأسماليون من مداخيل الشغيلة أو أجورهم على شكل فائدة أو إيجار.
عندما تكون المدفوعات للشغيلة ("م" في المعادلة أعلاه) أقل من مستوى المعيشة, أي حين لا يُدفع لهم أجر يغطي تكلفة المعيشة, سيلجأ الشغيلة للاستدانة لتغذية إيراداتهم غير الكافية. يؤدي هذا في كثير من الأحيان إلى المديونية, وبالتالي استيلاء المصرفيون ومقرضي المال على جزء من مداخيل الشغيلة.
هذه السرقة المالية, تقوم على إعادة تقسيم تدفقات المداخيل النقدية, وهذا يقود إلى لعبة ستكون محصلتها الأخيرة صفراَ":حيث يكسب الدائنون ما يخسره المدينون." يصف ماركس هذا الكسب المالي, الذي يجنيه الدائنون على حساب المدينون بأنّه ربح ناتج عن "استغلال ثانوي", لتمييزه عن الربح الناتج عن "الاستغلال الأساسي", أو ربح "الشركة", الذي وكما ذكر في الفقرة السابقة, يعتمد أساساً على استخراج فائض القيمة في خضمّ عملية الانتاج.
كلاهما, ربح "الشركة" و الربح فوق "الاغتراب" يتكوّنان في نفس ميدان الانتاج, كلاهما يتأتى من صافي الناتج القومي, أو القيمة المضافة (ف + م في المعادلة أعلاه). مع ذلك, يوجد هناك نوع آخر من الربح, له علاقة اتصال غير مباشرة أو مغمورة بالقيم الحقيقية, وعليه فإنّ نطاق توسّعه يبدو أفسح مجالاً, إنّه الربح المتأتى من الرأسمال الصوري, الربح المعمول على الورق أو بلوحة مفاتيح الحاسوب في القطاع المالي من خلال الاتّجار او المضاربة بالأصول المالية. هذا النوع من الربح, وتراكمه في المزيد من الرأسمال الصوري - الطفيلي, هو المصدر الرئيسي للفقاعات المالية وانفجاراتها.
تبعاً لهذا التمييز بين الأنواع المختلفة من الربح- المداخيل, فإنّ الاستغلال في خضمّ عملية الانتاج (كما يقاس بنسبة فائض القيمة إلى القيمة الضرورية, أو نسبة الربح للأجر تقريباً, والتي يسميها ماركس معدّل الاستغلال) , والاستغلال فوق "المصادرة" أو "الاغتراب", يسيران يداً بيد, فإنّ تكثّف الأول, يعني تكثّف الأخير. على سبيل المثال, فإنّ زيادة نسبة الربح للأجر في الولايات المتحدة خلال عدة غقود خلت, اقترنت بزيادة في المديونية المقابلة لها, أو في تزايد حصة مداخيل-أجور الشغيلة التي يقوم الدائنون بمصادرتها (على شكل خدمات إقراض(.
لذا, فالتمييز بين أنواع الربح-الدخل المختلفة, ليس مجرد تمرين أكاديمي بحت, أو "مفوم ماركسي جذري غير قابل للتطبيق", كما يدعي معظم الاقتصاديون المعاصرون المرتبكون. بل و بشكل أكثر أهمية, فإنّ تصنيفات الربح, تجد علاقتها مع تصنيفات الاقتصاد الحقيقي, ومستجداته, وتوجهاته. إنّها لا تعرض مصادر الأنواع المختلفة من الربح-الدخل, وكيفية استغلال المصادر القومية أو توزيعها فحسب, بل تعرض أيضاً الأسس المادية وحدود نمو الاقتصاد الحقيقي, كما تعرض أيضاً مصادر الفقاعات المالية وحدودها.
هذا التخطيط والتقسيم الشفاف للأنواع والمصادر المختلفة للربح, يقف في تناقض حاد مع النظرية الاقتصادية السائدة في يومنا هذا, (النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية) نظرية توزيع الدخل النيوكلاسيكية, التي تميل للإرباك والغموض, أكثر من ميلها للإيضاح.
بناءاً على هذه النظرية, والتي تُسمّى "التوزيع الوظيفي للدخل", فإنّ كلّاً من عوامل الإنتاج الأربعة (العمل, رأس المال, الإدارة, ملكية الأرض) يحصل على حصة من الناتج أو الدخل والتي يفترض كونها "عادلة ومتساوية".
الأساس المنطقي, لهذا التوزيع العفوي و المضمون والعادل للدخل!!! هو أنّ النظرية تحفظ كون حصة كل عامل من عوامل الانتاج, أكانت أجراً أو راتباً أو ربحاً أو فائدةً أو إيجاراً, تتحدد أوتوماتيكياً بميكانزمات السوق, بطريقة تجعلها معادلة لمساهمة هذا العامل (في الهامش) في انتاج المخرجات-الدخل! (كل هذا السلوك السحري لجعل التوزيع في ظلّ الرأسمالية عادلاً ومتساوياً, يتحقق بمساعدة عدد من الافتراضات غير الواقعية وألعاب الرياضيات الفاتنة, خاصّة الرياضيات التفاضلية والاشتقاق.(
كما ذُكر سابقاً, فإنّ معظم الاقتصاديين المعاصرين, بما فيهم العديد من اليساريين, يجادلون بأنّه بما أنّ ماركس عاش وألّف في فترة سبقت بزوغ التمويل الضخم, لم يكن بإمكانه إذن توقع التأثير الاضطرابي للفقاعات المالية على الأسواق الاقتصادية المتقدمة نسبياً.
القراءة الحريصة لأعمال ماركس عن "الرأسمال النقدي والرأسمال الحقيقي", تكشف أنّ ماركس في الحقيقة, ناقش سيناريوهات التدفقات الخارجة المنظّمة لرأس المال المالي (والذي أسماه "كنوز النقد" أو "فائض رأس المال", أو " الرأسمال النقدي") من ميدان الانتاج إلى مملكة البورصة, في السعي خلف إيرادات أعلى, مما يمهّد الطريق لنمو الفقاعات المالية وانفجاراتها.
لم يضع ماركس تصوراً لسيناريوهات مغادرة رأس المال المالي لميدان الانتاج وتخلّيه عنه, في خضم سعيه خلف إيرادات أعلى في ميدان البورصة, فحسب, بل إنّ تحليل ماركس لديناميّات هذه السيناريوهات أو التطورات, والتي من الممكن أن تؤدي إلى فقاعات وانفجارات مالية, هو تحليل أعمق وأغنى بكثير من هؤلاء الاقتصاديين المعاصرين.
اعتماداً على هؤلاء الاقتصاديين النيوليبراليين أو الكينزيين, فإن أي تناقض أو اختلال في الاتزان بين الرأسمال المالي, الذي يسمّونه إجمالي الإدخار القومي, والرأسمال الحقيقي, الذي يسمّونه إجمالي الاستثمار القومي, سيكون تناقضاً مؤقتاً, وبالتالي فهو تناقض غير إشكالي, لأنّ عدم الاتزان بين الاستثمار والإدخار سيتصحح عاجلاً إما أوتوماتيكياً بقوى العرض والطلب كما يقول النيوليبراليين, أو بتدخل الحكومة كما يدّعي الكينزيون.
بالنسبة لوجهة نظر النيوليبراليين, فإنّ الاتزان بين الاستثمار والادخار, تضمنه ميكانزمات السوق: حيث أنّ زيادة الادخار فوق الاستثمار, لن تستمر طويلاً, لأنّ هذا العرض الزائد المؤقت للتمويل الإقراضي سيقود عاجلاً لمعدلات فائدة أقل, والتي من شانها أن تحفّز وتشجّع شركات الأعمال والشركات المصنِّعة لاقتراض واستثمار أكثر. هذه العملية من اقتراض واستثمار الادخار البخس ستستمر حتى يتم استهلاك وامتصاص فائض الادخار, ويتم استعادة التوازن بين الادخار والاستثمار.
أمّا بالنسبة لوجهة النظر الكينزية, فإنّ هذه الاستعادة العفوية أو الاوتوماتيكية للتوازن بين الادخار والاستثمار غير مضمونة, مما يعني أنّ حالة الادخار أعلى من الاستثمار, أو حالة عدم كفاية الانفاق الاستثماري, من الممكن أن تستمر لفترة طويلة. في ظل ظروف اللايقين النسبي, والطلب الضعيف, فإنّه حتى معدلات الفائدة المنخفضة, لن تحفّز الشركات المصنِّعة على الاقتراض والاستثمار أو التوسّع. في مثل هذه الظروف, فإنّ الحكومة بامكانها الدخول, لاقتراض المدخرات الراكدة, وإنفاقها (نيابةً عن مالكيها الأغنياء, كما يقول كينز), وبالتالي جسر الهوّة بين الاستثمار والادخار (أو الدخل والانفاق(.
أمّا بالنسبة لوجهة النظر الماركسية, فإنّ التناقض أو الهوّة بين رأسمال فائض البورصة و الاستثمار الانتاجي, من الممكن أن يستمر, أو حتى أن يتسع, مع عواقب فاجعة من ناحية الفقاعات المالية أو عدم استقرار السوق. مشيراً إلى أنّه في زمن المصارف الضخمة فإنّ الرأسمال المالي سينمو مستقلاً عن الرأسمال الصناعي, كتب ماركس: "احتيال الائتمان اللاحق يثبت بأنه لا يوجد أية عقبة حقيقية أمام توظيف الرأسمال الفائض," سيناريو من شأنه أن يسرّع تضخم أسعار الأصول, أو الفقاعات المالية.
بعد أن أشار ماركس, إلى أنّ حدود الرأسمال المالي المضارب أوسع وأعرض من حدود الرأسمال الصناعي, يحذّر بأنّ هذا لا يعني بأنّه من الممكن للرأسمال المالي الاتساع إلى أجل غير مسمى": على كل حال فالعقبة ملازمة في الحقيقة لقوانين اتساع الرأسمال المالي, في الحدود التي يستطيع الرأسمال إدراك ذاته فيها كرأسمال". بكلمات أخرى, فإنّه من الممكن اتساع فقاعة ضخمة من القيم الصورية على أساس ضيّق من القيم الحقيقية إلى حدود ذلك المدى التي ستنفجر الفقاعة بعده.
باختصار, فإنّ تدفق الرأسمال المالي النسقي والمنهجي من دائرة الانتاج إلى دائرة البورصة في سعيه خلف إيرادات أعلى, يثبت بأنّ ماركس وعلى العكس من وجهات نظر الاقتصاديين المعاصرين واسعة الانتشار, قام حقيقةً, بوضع سيناريوهات لبزوغ التضخمات أو الانكماشات المالية, أو بزوغ الفقاعات والانفجارات.
هذه الدراسة تدل على تفوّق تحليل ماركس لعلاقة الرأسمال الصناعي بالرأسمال المالي (الطفيلي) على تحليل الاقتصاديين النيوليبراليين, الذي يدّعي بأن أي تدفق يتسرب من ميدان الانتاج إلى الرأسمال المالي, سيكون مؤقتاً وغير إشكالي, من حيث أنّه عاجلاً سيعود للقطاع الحقيقي من الاقتصاد (إمّا بواسطة اليد الخفيّة لميكانزمات السوق النيوليبرالية, او بوساطة يد الحكومة المرئية الكينزية) التي ستستثمره بشكل فعّال.
هنا تكمن تراجيديا التيار السائد من الاقتصاديين النيوكلاسيكيين: في جنون رهابهم الارتيابي من ماركس, حيث أخضعوا أساساً وجهات نظر ماركس الاقتصادية لمقص الرقابة, وبالتالي حرموا أنفسهم من أغنى وأثرى تحليل للرأسمالية. وبفعلهم هذا, قاموا بتقليص وتقزيم الاقتصاد كتخصص أكاديمي إلى "Junk Economics" كما أسماها بجدارة البروفيسور مايكل هدسون*, هذا بغض النظر عن الوصف الرسمي لهذا التخصص بأنّه علم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* Michael Hudson, هو رئيس معهد دراسة التوجهات الاقتصادية طويلة المدى, ومحلل مالي في وول ستريت, وبروفوسور في الاقتصاد في جامعة ميزوري في كنساس. له عدد من المؤلفات والمنشورات والمقالات والأبحاث. وهو الذي نحت مصطلح Junk Economics.




#علي_عامر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجدل الهيجلي في مؤلف رأس المال - 4
- الجدل الهيجلي في مؤلف رأس المال - 3
- الجدل الهيجلي في مؤلف رأس المال - 2
- الجدل الهيجلي في مؤلف رأس المال - 1
- مبحث في بؤس الفلسقة لماركس(2): سبعة ملاحظات حددها ماركس ضد م ...
- آلان باديو: عن الإرهاب والرأسمالية العالمية
- مبحث في بؤس الفلسقة لماركس(1): ثلاثة مدارس في الاقتصاد, والم ...


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - علي عامر - ماركس عن الفقاعات المالية: نظرات أكثر تبصّراً من الاقتصاديين المعاصريين.