أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - إيمان أحمد إسماعيل - عمرو بن العاص ومكتبة الإسكندرية















المزيد.....


عمرو بن العاص ومكتبة الإسكندرية


إيمان أحمد إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 5190 - 2016 / 6 / 11 - 15:06
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يُثار من وقت لآخر موضوع حرق جيش الفتح الإسلامي لمكتبة الإسكندرية بأمرٍ من الخليفة عمر بن الخطاب، وذلك إبان الفتح العربي لمصر، وبالتأكيد ينقسم الناس بين مصدق للخبر ومكذب له، وكلاهما يعتمد، غالبًا، على خلفيته الدينية وعواطفه سواء في التصديق أو في التكذيب، لذا آثرت أن أخضع هذا الموضوع للبحث العلمي فأقف على حقيقته دون ميلٍ أو تعصب، معتمدة بشكل أساس على المصادر التاريخية القديمة والحديثة. وأؤكد على أنّه ليس الهدف من هذا التناول نفي أية خروقات حدثت من قبل جيش الفتح العربي، شأنه في ذلك شأن كلّ الفاتحين، ولكن ما يعنيني هنا هو البحث في حقيقة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية.
بداية أذكر أنّ أهم المصادر التاريخية المبكرة التي تناولت الفتح العربي لمصر هي: كتاب فتوح مصر وأخبارها للمؤرخ المصري ابن عبد الحكم الذي ولد في سنة 187هـ أي بعد أقل من قرنين من الفتح العربي لمصر، وتوفي في سنة 257هـ، وهو، فيما أعلم، أوّل كتاب ألّف في التاريخ الإسلامي لمصر، وكتاب فتوح البلدان للبلاذري (ت279هـ)، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري (ت 310هـ) المعروف بتاريخ الطبري.
وتخلو هذه الكتب جميعها، وهي قريبة العهد بالفتح، من خبر حرق العرب لمكتبة الإسكندرية.
فمن أين جاء هذا الخبر إذن؟ ومتى وُجد ؟
وُجد هذا الخبر لأوّل مرة عند عبد اللطيف البغدادي (ت629هـ)، والبغدادي هذا مولود في بغداد العراق في سنة 557هـ أي بعد الفتح العربي لمصر بأكثر من خمسة قرون ونصف قرن، وأنهي كتابة رحلته إلى مصر في سنة 600 هـ أي بعد مرور ستة قرون على هذا الفتح، ما يعني أنّ تاريخ ظهور هذه الرواية كان بعد الفتح العربي لمصر بستة قرون على أقل تقدير.
ففي معرض ذكره لما شاهده من آثار مصر القديمة ذكر البغدادي عمود السواري، ثمّ قال: "ورأيت أيضًا حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنّها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف، وعمود السواري عليه قبة هو حاملها، وأرى أنّه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطوطاليس وشيعته من بعده، وأنّه دار العلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه (1) ".
هكذا وُجد هذا الخبر لأوّل مرة عند رحالة فارسي، وبالطبع يمكننا ملاحظة أنّ البغدادي ذكره على عجالة، ولم يذكر المصادر التي اعتمد عليها.
ثمّ تناول القفطي(2) (ت646هـ) هذا الخبر؛ فأضاف إليه كثيرًا.
وننقل هنا نص القفطي في ترجمة يحيى النحوي المصري الإسكندراني "كان أسقفًا في كنيسة الإسكندرية في مصر، ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية، ثمّ رجع عمّا يعتقده النصارى في التثليث لمّا قرأ كتبَ الحكمة واستحال عنده جعل الواحد ثلاثة والثلاثة واحدًا، ولمّا تحققت الأساقفة بمصر رجوعه عزّ عليهم ذلك، فاجتمعوا إليه وناظروه، فغُلب وزُيّف طريقه فعزّ عليهم جهله واستعطفوه وآنسوه وسألوه الرجوع عمّا هو عليه فلم يرجع، فأسقطوه عن المنزلة التي هو فيها بعد خطوب جرت، وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية ودخل على عمرو، وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده ومما جرى له من النصارى، فأكرمه عمرو ورأى له موضعًا، وسمع كلامه في إبطال التثليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضًا في انقضاء الدهر ففتن به، وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أَنسة ما هاله، وكان عمرو عاقلًا حسن الاستماع فلازمه وكان لا يكاد يفارقه، ثمّ قال له يحيى يومًا: إنّك قد أحطتَ بحواصل الإسكندرية وختمت على كلّ الأصناف الموجودة بها، فأمّا ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا نفع لكم به فأْمر بالإفراج عنه، فقال له عمرو: وما الذي تحتاج إليه؟ قال: كتبٌ للحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها، فقال له: ومن جمع هذه الكتب؟ وما قصتها؟ فقال له يحيى: إنّ بطليموس فلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لمّا ملك حُبّبَ إليه العلم والعلماء، وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها، وأفرد لها خزائن فجمعت، وولى أمرها رجلًا يعرف بزميرة، وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها في نقلها ففعل ذلك، فاجتمع له من ذلك في مدة أربعة وخمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتابًا، ولمّا علم الملكُ باجتماعهما وتحقق عدّتها قال لزميرة: أترى بقي في الأرض من كتب العلوم ما لم يكن عندنا ؟ فقال له زميرة: قد بقي في الدنيا شيء يسير في السند والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم، فعجب الملك من ذلك، وقال له: دمْ على التحصيل، فلم يزل على ذلك إلى أن مات الملك، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كلّ من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا، فاستكثر عمرو ما ذكره يحى وعجب منه، وقال: لا يمكنني أن آمر فيها بأمر إلّا بعد استيذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكتب إلى عمر وعرّفه قول يحيى الذي ذكرناه واستأذنه ما الذي يصنع فيها، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وأمّا الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في تفرقتها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها، وذكرت عدّة الحمامات يومئذ وأنسيتها، فذكروا أنّها استنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب(3) ".
هناك ملاحظات كثيرة على هذه الرواية، أهمّها، في هذا السياق، أنّ السطر الواحد الذي ذكره البغدادي تحول إلى قصةٍ كاملةٍ عند القفطي.
وأورد هذا الخبر، كما هو عند القفطي، المؤرخُ المسيحي السرياني أبو الفرج بن هارون الملطي المعروف بابن العبري (ت685هـ) في كتابه تاريخ مختصر الدول(4).
أمّا المقريزي (ت845هـ) فأورد خبر البغدادي المختصر دون أن يعلق عليه(5).
على كلّ، هذه هي أهم المصادر القديمة التي تناولت خبر حرق مكتبة الإسكندرية على يد العرب، وأوّلها كتاب البغدادي، وهو ما يعني أنّ أوّل ظهور لهذه الرواية كان بعد الفتح العربي لمصر بستة قرون، وأنّ أوّل من ذكره باختصار مؤرخ فارسي الأصل بغدادي المولد اعتمد أولًا على التخمين والرأي، فهل ذكره عن نزعة شعوبية؟ لا نستبعد ذلك.
فما موقف علماء التاريخ في العصر الحديث من هذا الخبر؟
ونبدأ هنا بجيبون الذي خصّ مكتبة الإسكندرية بالفصل الحادي والخمسين من كتابه "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"، وفي هذا الفصل وجّه سهام النقد إلى القصة التي تنسب حرق مكتبة الإسكندرية إلى العرب، وذكر أنّه يميل إلى إنكار هذه الواقعة ونتائجها كلية(6)، إذ كيف "يرجح رواية هذا المؤرخ الأجنبي الوحيد * الذي كتب بعد ستة قرون على أرباض ميديا صمت مؤرخين أقدم منه، وكلاهما مسيحي، وكلاهما مواطن مصري **، وأقدمهما البطريق يوتيخيوس الذي أفاض في وصف فتح الإسكندرية، ويتناقض رأي عمر القاسي مع شريعة فقهاء المسلمين الصحيحة السليمة، فهم يقررون في جلاء أنّ كتب اليهود والمسيحيين الدينية التي تمّ الاستيلاء عليها بحق الفتح لا يجوز مطلقًا إحراقها (7)"، ويضيف جيبون "ولن أعدد الكوارث التي حلّت بمكتبة الإسكندرية كالحريق الذي أشعله قيصر عمدًا دفاعًا عن نفسه، والتعصب الضار لدى المسيحيين الذي وجهوا حماسهم إلى تدمير آثار الوثنية، ولكنا إذا ما هبطنا شيئًا فشيئًا من عصر الأنطونينيين إلى زمن تيودوروس فسنعلم من عدد كبير من الشهود المعاصرين أنّ القصر الملكي ومعبد سرابيس لم يكونا يحويان الأربعمائة ألف أو السبعمائة ألف مجلد التي جمعها حبّ البطالمة للإطلاع وسخاؤهم(8)".
ونتوقف أيضًا عند غوستاف لوبون الذي قال في معرض حديثه عمّا صاحب انتصار المسيحية في مصر في القرن الرابع للميلاد من تخريب للآثار والمظاهر الوثنية: "عندما أصبحت النصرانية دين دولة القسطنطينية الرسمي أمر القصر ثيودوز، في سنة 389 م بهدم جميع تماثيل الآلهة المصرية القديمة ومعابدها وجميع ما يُذكِّر الناس بها، واكتفى بتشويه كتابات المعابد المصرية التي كانت من المتانة بحيث يقدر على هدمها بسهولة، ولا تزال مصر ملأى بأنقاض ذلك التخريب الذي أملاه التعصب، وتعدُّ تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر عدم التسامح والبربرية، ومن دواعي الأسف أن كان من بواكير أعمال ناشري الدين الجديد الذي حلّ محل دين الأغارقة والرومان هدم المباني التي احترمها أكثر الفاتحين منذ خمسة آلاف سنة.
وأدّت هذه الأعمال الوحشية بسرعة إلى إمحاء الحضارة المصرية، وزوال دوْر الخط الهيروغليفي الذي حُلت رموزه في الزمن الحاضر(9) ".
فهل نظر المنتصرون إلى مكتبة الإسكندرية على أنّها أحد آثار الوثنية والشرك؟ هل التهمت نيران التعصب الديني المكتبة؟ هذا ما عاد لوبون ليؤكده بقوله: "وأمّا إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم؛ فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنًا طويلًا؟ وهذه القصة دُحضت في زماننا فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن نُثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أنّ النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدموا بها التماثيل ولم يبق منها ما يُحرق (10) "، وكلام لوبون يؤكد أنّ المكتبة لم تكن موجودة عند دخول العرب لمصر.
أمّا ستانلي لين بول فقال عن فتح العرب للإسكندرية: "أمّا عن إمكانية حدوث أيّ دمار أو نهب من قِبَل العرب، فليس هناك أية إشارة على ذلك في أيّ المراجع المبكرة، فمنذ استسلام المدينة المشروط لم يكن من المسموح السلب أو أخذ الغنائم. ويسجل يوحنا النقيوسي أنّ عمرو قد جبي الضرائب المتفق عليها، ورغم ذلك لم يأخذ شيئًا من الكنائس، ولم ينزل بها أيّ أذي من أعمال سلب أو غنيمة، بل على العكس قام بحمايتها في كلّ مكان. أمّا عن قصة تدمير"مكتبة الإسكندرية" وتوزيع الكتب لإشعال النيران في أربعة آلاف حمام عام، لم يتم العثور عليها في أيّ من المصادر المبكرة، فضلًا عن أنّها ليست مذكورة من قِبَل أي كاتب يوناني، ولم يذكرها يوحنا النقيوسي، أو ابن عبد الحكم أو الطبري، فهي تظهر لأوّل مرة في القرن الثالث عشر، أي بعد ستمائة عام بعد الحدث المزعوم في أعمال عبد اللطيف وأبي الفرج، إنّها بلا ريب متناقضة مع رواية يوحنا النقيوسي عن سياسة الحماية التي اتبعها عمرو(11) ".
هذا ما قاله ستانلي لين بول نصًا، ويوحنا النقيوسي الذي تردد اسمه في نصّ لين بول كان أسقفًا قبطيًا لمدينة "نقيوس"، وذا مكانةٍ علميةٍ ودينيةٍ في مصر وقت مجيء العرب إليها، وتوفي في أواخر القرن الأوّل للهجرة، الموافق لأوائل القرن الثامن الميلادي، ألّف يوحنا هذا تاريخًا يمتد من آدم عليه السلام حتّى نهاية أحداث الفتح الإسلامي لمصر، ويعدُّ كتابه "تاريخ العالم القديم ودخول العرب مصر(12)" المصدر الوحيد الذي عاصر وقائع الفتح، ويشتمل على تفاصيل لم تذكر في كتب أخرى، ويفتقد كتابه، في رأي كثيرٍ من الباحثين، إلى الموضوعية إذ كان متحيزًا، بطبيعة الأمر، ضد العرب، وإن لم تخل شهادته، رغم تعصبه وتحيزه ضد العرب من وقفات كثيرة لصالحهم، كما في قوله: "أظهر عمرو حكمة نادرة ... في استيلائه على مصر(13) ".
فهل من الحكمة، التي ألح عليها يوحنا، حرق المكتبة والكتب؟.
فإذا كان يوحنا النقيوسي لم يذكر واقعة حرق المكتبة، وهو معاصر للفتح ومتحيز ضد العرب، فمن أين جاءت؟ وكيف تمّ تصديقها؟ بل إنّ الأهم هنا أنّ النقيوسي لم يشر إلى وجود مكتبة في الإسكندرية أصلًا.
واتفق ألفرد بتلر في كتابه "فتح العرب لمصر" مع سابقيه في استبعاد المزاعم التي تلصق بالعرب المسؤولية عن حرق المكتبة، ورأى أنّ قصة الحرق لا تعدو أن تكون من أقاصيص الخرافة ليس لها أساس في التاريخ، إذ خصّص بتلر الفصل الخامس والعشرين من كتابه سالف الذكر لمكتبة الإسكندرية، وفحص هذه القصة، وحلّل ما جاء فيها فوجده، حسب قوله، سخافات مستبعدة ينكرها العقل، فممّا انتهى إليه بتلر:
"- أنّ قصة إحراق العرب لم تظهر إلّا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة التي تذكرها.....
- أنّ الرجل الذي تذكر القصة أنّه كان أكبرعامل فيها(أي: حنا فليبونوس أو يحيى النحوي في نص القفطي) مات قبل غزوة العرب بزمن طويل.
- أنّ القصة تشير إلى واحدة من مكتبتين: الأولى مكتبة المتحف، وهذه ضاعت في الحريق الكبير الذي أحدثه قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل فتح العرب، وأمّا الثانية وهي مكتبة السيرابيوم ***، فإمّا أن تكون قد نقلت من المعبد قبل عام 391 م(العام الذي أتلف المنتصرون فيه معبد السيرابيوم)، وإمّا أن تكون قد هلكت أو تفرقت كتبها وضاعت، فتكون على أية حال قد اختفت قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن.
- أنّ كتاب القرنين الخامس والسادس لا يذكرون شيئًا عن وجودها، وكذلك كتاب أوائل القرن السابع.
- أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية عند ما عقد (قيرس) صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تنتقل هذه الكتب، وقد أبيح ذلك في شروط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدّة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرًا.
- لو صح أنّ هذه المكتبة قد نقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة لما غفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح مثل (حنا النقيوسي)، ولما مرّ على ذلك بغير أن يكتب حرفًا عنه (14) ".
بالإضافة لما سبق هناك كثير من المؤرخين والباحثين المشارقة الذين أدلوا بدلوهم في موضوع حرق المكتبة على يد عمرو بن العاص، وانتهى بهم الأمر إلى رفض هذه الرواية، ونكتفي هنا بإيراد رأي عزيز سوريال عطية في كتابه "تاريخ المسيحية الشرقية" إذ يقول:
" ويرتبط فتح العرب للإسكندرية بلغطٍ أجوفٍ حول حريق مكتبة المدينة على يد عمرو بن العاص، تنفيذًا لأوامر الخليفة عمر بن الخطاب، ولكن هذه الرواية هي من نسيج الخيال وهي أقرب إلى الأساطير في كلّ تفاصيلها، وهي من حكايات الرحالة الفارسي عبد الله اللطيف البغدادي (1231م)، ومن كتابات الأسقف السورياني اليعقوبي بن العبري، وتزعم هاتان الروايتان أنّ الخليفة عمر بن الخطاب قد طلب من القائد عمرو بن العاص أن يبقي على هذه المكتبة إن كان فيها متفقًا مع ما ورد في القرآن الكريم، وإلّا فليقم بإحراقها. وعليه، كما تزعم هاتان الروايتان، قام عمرو بإحراق هذه الكتب.
وواقع الأمر أنّه لا يوجد مصادر معاصرة أو حولية تشير إلى هذا أو بشيء منه من قريب أو بعيد، كما أنّه من المشكوك فيه أصلًا أن تكون الإسكندرية عند وصول العرب إليها سنة 642 م كانت لا تزال تحوي شيئًا من مكتبة البطالمة؛ فلقد تمّ إحراق المكتبة منذ زمنٍ بعيدٍ على يد يوليوس قيصر عند هجومه على الإسكندرية لمساعدة كليوباترة السابعة ضد أخيها سنة 48 ق.م، يضاف إلى ذلك أنّه في القرن الرابع للميلاد عندما صارت للمسيحية الغلبة في مدينة الإسكندرية على بقايا الوثنية هجم المسيحيون على كلّ ما هو من بقايا الوثنية ودمّروه تمامًا، ومن ذلك بطبيعة الحال ما كان قد تبقى من مكتبة البطالمة الوثنية، كما أنّ لفائف البردي واللفائف الأخرى التي قد تكون قد أفلتت من حرائق قيصر ومسيحيي القرن الرابع لابدّ وأنّها كانت قد تهالكت وبليت بفعل الزمن وقت وصول العرب إلى مدينة الإسكندرية سنة 642 م.
وخلاصة كلّ هذا أنّ حكاية إقدام عمرو بن العاص على إحراق الكتب في أفران الحمامات بالإسكندرية مجرد تلفيق كاذب لا أساس له من الصحة تاريخيًا(15) ".
خلاصة القول:
تؤكّد المصادر التاريخية السابقة: أوّلًا، أنّ الرواية التي تنسب إلى العرب حرق المكتبة، لأسباب ربّما كانت متعلقة بنزعة شعوبية****، هذه الرواية موضوعة في فترة متأخرة جاءت بعد الفتح العربي بما يقارب القرون الستة، ولا يوجد دليل أو إشارة لها في المصادر المتقدمة سواء العربية أو غيرها. ثانيًا، أنّ مكتبة الإسكندرية تعرضت عبر تاريخها لأكثر من حريق، ففي سنة 48 ق.م أقدم يوليوس قيصر، في إطار مساعدة كليوباترا ضد أخيها، على حرق السفن الموجودة على شاطئ البحر المتوسط، فامتدَّت النيران إلى مكتبة الإسكندرية الموجودة أمام الشاطئ، والتهمت محتوياتها ودمَّرت كنوزها العلمية من كتب ومخطوطات ومجلدات، ثمّ نُقلت البقية الباقية من كتبها إلى مكتبة السيرابيوم، وفي القرن الرابع الميلادي وبالتحديد في عهد ثيودوسيوس (378م - 395م دمّر المسيحيون السيرابيوم باعتباره معبدًا وثنيًا بعد أن انتصروا على البَطالمة وقاموا بتدمير آثارهم ومنشآتهم، ومن ضمنها المكتبة.
ملحوظتان:
1- اخترت أن أترك الحديث للنصوص التاريخية، مع ذكر آراء وأقوال المؤرخين القدماء والمحدثين في هذا الأمر، ولكن ربّما كان من المفيد أن أطرح هنا بعض التساؤلات: هل يوجد في القرآن أو في الأحاديث النبوية نصًا يحضُّ على حرق كتب المخالفين، من أهل الكتب السماوية أو الوضعية؟ هل أمر النبي محمد بإحراق كتب اليهود، وكانت متداولة بين بعض العرب؟ هل أحرق العرب أيّا من المكتبات في البلاد التي فتحوها، وقد فتحوا بلادًا كثيرة فيها مكتبات ضخمة ؟ .
واقع الحال يقول إنّ العرب عملوا، في الفترة التي شهدت ازدهار حضارتهم على ترجمة كتب الحضارات الأخرى كاليونانية مثلًا، وهي حضارة وثنية، وكانوا الجسر الذي عبرت عليه هذه الحضارات إلى الحضارة الغربية الحديثة، من خلال الترجمات والشروحات والإضافات التي قام بها علماؤهم.
2- لا أحد يستطيع أن يقول الكلمة الأخيرة في أي موضوع حتّى وإن قتل بحثًا كما يقولون، فأرجو ممّن لديه كتاب أو وثيقة أو نص تاريخ كتابته سابق على البغدادي لم أشر إليه أن ينبهني إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- رحلة عبد اللطيف البغدادي في مصر أو كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، أشرف على إعداد الطبعة وقدّم لها: د.عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1998، ص 98.
2- جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي، مؤرخ وطبيب مصري، ولد في "قفط" في صعيد مصر في سنة 568هـ، وسكن حلب.
3- ابن القفطي، تاريخ الحكماء، ت: جوليوس ليبيرت، ط ليبزج، 1808، ص356:354.
4- تاريخ مختصر الدول، 175-176. وورد في الموسوعة العربية أنّ ابن العبري (623 ـــ 685 هـ /1226ــــ 1286م) هو أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون، الطبيب، المؤرخ، الفيلسوف، اللاهوتي، وُلِدَ بملطية من ولاية ديار بكر (قاعدة أرمينيا الصغرى)، كان والده طبيبًا يهوديًا، علّمه العربية والأرمنية والفارسية والسريانية واليونانية والعبرية؛ لكنْ بعد زحف المغول غربًا، اضطرت عائلته إلى الفرار إلى أنطاكية سنة 1243م، واعتنقت النصرانية فيها، فدعي ابن العبري.
5-المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية، ط2، مكتبة الثقافة الدينية،القاهرة، 1987، 1/159.
6- إدوارد جيبون، اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة: د. محمد سلين سالم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، المطبعة الثقافية، 1969، ج3، ص92.
* المؤرخ الأجنبي الوحيد الذي عناه جيبون هنا هو البغدادي.
** يتحدث جيبون هنا عن: البطريق يوتيخيوس، ويوحنا النقيوسي.
7- اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، م، س، 92.
8- اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، م، س، 93.
9- حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، مؤسسة هندواي القاهرة، 2013، 220.
10- حضارة العرب، م، س، 225.
11- ستانلي لين بول، تاريخ مصر في العصور الوسطى، ترجمة وتحقيق وتعليق: أحمد سالم سالم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2015، ص 56-57.
12- وضع يوحنا كتابه باللغة القبطية، ولكن فُقِد أصل الكتاب كما فُقدت ترجمته العربية، ولم يتبق سوى النسخة المترجمة من العربية إلى الحبشية، والتي قام بها أحد الأثيوبيين، ويعتقد بعض الباحثين أنّ هذا المترجم الإثيوبي أضاف شيئا كثيرًا إلى الكتاب وحرّفه، ممّا أدى إلى ظهور بعض التناقضات الواضحة به، وأعتمد هنا على النسخة المترجمة عن اللغة الفرنسية والتي قامت بها الأستاذة ليزة عزيز إسكندر.
13- الكتاب المذكور، 206.
*** السيرابيوم serapeum : اسم كان يطلق على كلّ معبد أو هيكل ديني مخصص لعبادة الإله سيرابيس، وهي عبادة مقدسة في مصر القديمة تجمع بين إلهين، وهما أوزوريس وأبيس، وكان هناك العديد من دور العبادة لهذه الديانة، وكان يطلق على كلّ واحدة منها سيرابيوم، وأشهرها سيرابيوم الإسكندرية، وهو المعني بالحديث ها هنا، وقد تم تدميره في سنة 391 م في أحداث الفوضى التي شهدتها الإسكندرية إثر انتصار الديانة المسيحية، وإصدار الإمبراطور ثيودوسيوس مراسيم تمنع ممارسة كلّ العبادات الوثنية والدخول إلى المعابد، وفي تلك الأحداث أمر الإمبراطور ثيودوسيوس بتدمير معبد السيرابيوم كونه أثرًا وثنيًا، وفي هذه الأحداث أيضًا قتلت هيباتيا ابنة ثيون الفيلسوفة السكندرية عالمة الرياضيات والفلك، وكما يقول د.عزيز سوريال، م، س، 43 فقد "جاءت نهاية هيباتيا المأساوية لتنهي فصلًا من فصول الاضطهاد المسيحي للوثنية وأتباعها، والحق أنّ هيباتيا كانت بمثابة الوميض الذي يشع بروح الثقافة اليونانية القديمة، وها هم الرهبان الأقباط يقومون بإخماد هذا الوميض"، وهيباتيا كما يقول د.كارل ساغان، في كتابه الكون، ترجمة نافع أيوب لبّس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد178، أكتوبر1993، ص31: "هي آخر ضوء في مكتبة الإسكندرية، إذ إنّ استشهادها يرتبط بتدمير هذه المكتبة بعد سبعة قرون من تأسيسها".
14- فتح العرب لمصر، ترجمة: محمد فريد أبو حديد، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989، ص: 368- 369. .
15- تاريخ المسيحية الشرقية، ترجمة: إسحق عبيد، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 103-104.
**** أعني تعصب الرحالة الفارسي البغدادي ضد العرب.

إيمان أحمد إسماعيل، باحثة دكتوراه.



#إيمان_أحمد_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمد حماسة وجزاء سنمار.
- قراءة في رواية نجيب محفوظ -ميرامار--2-
- قراءة في رواية -ميرامار- لنجيب محفوظ -1-
- أنا و الدواعش و ابن حجر
- زخاتٌ رومانسية في - أقبلي كالصلاة- لمحمود حسن إسماعيل
- العنصرية والمجتمع العربي


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - إيمان أحمد إسماعيل - عمرو بن العاص ومكتبة الإسكندرية