أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - أيديولوجيو الإنحطاط وحركة التاريخ















المزيد.....

أيديولوجيو الإنحطاط وحركة التاريخ


رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)


الحوار المتمدن-العدد: 5189 - 2016 / 6 / 10 - 15:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



يعد فهم حركة التاريخ والعوامل الدافعة والمعرقلة لها شرط ضروري لتحديد مستقبل
مجتمعاتنا، والإجابة على سؤال إلى أين هي سائرة؟، ويحدد أيضا رهان الصراع السائد اليوم، والذي يبدو أنه صراعا أيديولوجيا، لكنه في الحقيقة صراع بين من يريد تحريك المجتمع إلى الأمام كي يتقدم ومن يجره إلى الخلف تحت غطاءات شتى، وقد عبر عنها البعض أثناء إرهاب التسعينيات في الجزائر بتصنيف شعبها إلى صنفين "هناك من يتقدم إلى الأمام، وهناك من يتراجع إلى الوراء"، وقد عرف هذا الصراع في منطقتنا أوجه مباشرة بعد الإصطدام بأوروبا بعد الحملة النابلويونية على مصر في 1798 وإكتشاف مدى تخلفنا الكبير عن أوروبا التي قطعت أشواطا كبيرة في التقدم في الوقت الذي كنا نعتقد أننا مسلمون، وأن ذلك كاف كي نكون اقوى وأحسن من الآخرين، فانبهر بعض المصريين من الآلات العسكرية التي جاء بها نابليون بونابرت، مما جعل بعضهم يعتقدون أن جيش نابليون ليس من الإنس، بل من الجن والعفاريت حسب مايرويه الجبرتي الذي عاش تلك الأحداث، وها نحن نعود في القرن 21 إلى نفس التفاسير، فمنذ بروز البترودولار الخليجي وماصاحبه من بروز تيارات دينية مرتبطة به، برزت بقوة ظاهرة الجن والسحر في مجتمعاتنا لدرجة مثلا نحن في الجزائرعلى سبيل المثال لاالحصر، ينكت البعض بالقول أنه تخلصنا من الإستعمار الفرنسي، لكننا وقعنا منذ نهاية الثمانينيات تحت إستعمار الجن من كل دول العالم، ويروى أن الشيخ الغزالي الذي كان رئيسا للمجلس العلمي لجامعة قسنطينة للعلوم الإسلامية في الثمانينيات قد شكاه أحد بأنه قد مسه، ودخله جن يهودي، فرد عليه ساخرا منه "ألا يكفي هؤلاء اليهود إحتلالهم فلسطين، فأحتلوك أنت"، لكن تبين بعد ذلك أن نشر هذه الأفكار بقوة في المجتمع كانت غحدى وسائل بعض الأحزاب والتيارات الدينية التي تستخدم ما تسميهم ب"المرقين" بدل العلاج النفسي كأسلوب لتجنيد مناضلين لأحزابها، بل لعب البعض من هؤلاء "المرقين" دور كبير أو كغطاء لتحركات وإتصالات الإرهابيين بعضهم ببعض في التسعينيات .
فبعد هذه المقدمة التي تدل في ظاهرها على نوع من التراجع مقارنة بمراجل الستينيات مثلا، وهو ما يطرح مشكلة هل حركة التاريخ في منطقتنا تسير إلى الأمام أم تعود إلى الوراء؟ وهل هي عودة إلى الوراء لتخطو خطوتين إلى الأمام؟ وهل ما يقع في منطقتنا من دمار وصراعات دموية وبروز قوية لتيارات دينية وحروب طائفية هو مجرد بركان كان تحت الأرض، نخشى الحديث عنه في الماضي، لينفجر أمامنا الآن؟ وهل هو في الحقيقة ضرورة تاريخية يجب المرور عليها كي ندخل عصر جديد، ونضع قطيعة مع ما نسميه بالعصر الخلدوني المتميز بعصبياته القبلية والدينية؟ .
فبشأن الطرح الأخير، فقد ذهب الكثير إلى أن حتى أوروبا قد مرت بهذه المرحلة قبل دخولها عصر التنوير الذي مهد لتقدمها اليوم، وقد طرح البعض في الجزائر بعد فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة بالإنتخابات البرلمانية في 1991 فكرة تركها تحكم، كي تصطدم بالواقع الصعب، فيتحول إلى مجرد حزب سياسي عادي، وتنزع عنه تلك الهالة الدينية المقدسة التي تجند بها الشعب.
ففي الحقيقة دائما تنتصر الأفكار التنويرية رغم الظهور بأنها قمعت وتعرض أصحابها إلى التكفير، وهو ما يدل أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام، لكنها تدور بين مثقفين تنويريين وإيديولوجيي الإستبداد والإستغلال وإبقاء الوضع على ما هو عليه، ويعود هذا الصراع في تاريخنا الحديث والمعاصر إلى فترة بروز الأفكار الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده اللذين أتهما أنهما "كفار" و"متأوربان"، أي بنفس النعوت التي توجه لكل مثقف يقلق هؤلاء المحافظين ومصالحهم، فعوضوا نعت "المتأورب" في القرن19م بنعت "التغريبي" اليوم، فالقليل يعلم أن محمد عبده قد توفي في1905، وليلة وفاته تصدر أحد جرائد المعارضين له بعنوان تكفره، لعل القليل يعلم ما تعرض له الأزهري قاسم أمين الذي دعا إلى "تحرير المرأة" من تكفير وإحراق لبيته، لكن ليقوم اليوم الكثير ممن لازالوا يكفرونه بنفس ما دعا إليه في 1894، وهو تدريس البنات والسماح للنساء بالعمل، فقد كفر قاسم أمين لهذه الأفكار، ونعت ب"المتأورب" وهو نفس مفهوم "التغريبي" اليوم، لكن نجحت فكرته، وأنتصرت، فأفكار محركو التاريخ الذين هم أقلية ستنتصر لامحالة، لنها هي النخبة الحقيقية، ودائما النخب هي أقليات تقدم مجتمعاتها إلى الأمام، ولنا مثال في الجزائر يقول فيما معناه أن كمشة قليلة من النحل أفضل بكثير ملايين الذباب، وهو ما يعني أن هذه القلية هي التي تقدم الإيجابي للمجتمع وتقدمه إلى الأمام رغم محاصرتها من الغوغاء التي يستغل جهلها المركب والمقدس الذي غرسه الإستبداديون والإستغلاليون بواسطة أدواتهم الأيديولوجية كالمدرسة وافعلام ودور العبادة وغيرها كما سنوضح ذلك فيما بعد.
لقد كفر محمد عبده ووصف ب"المتأورب" أو "التغريبي" في القرن ، لكنه أصبح اليوم مجددا، وتعرض لنفس الأمر في الجزائر الشيخ بن باديس الذي هو تلميذ محمد عبده، وكان يلقب "أتباعه" ب"الإبليسيين"، لكن اليوم أصبح بن باديس ليس فقط مصلحا، بل ذهب البعض إلى القول إلى أنه هو وجمعيته هي التي أشعلت فتيل الثوة في 1954، طبعا هذه أكذوبة كبيرة كانت تنشر في المدرسة قبل 1988، وكنت أعتقد أنها أنتهت بعد الحريات التي جاءت بعد 1988، أين يصعب جدا الكذب المفضوح على الناس بمثل هذه الأكذوبة، فصححت المدرسة ذلك، فوضعت جمعية العلماء في مكانها الصحيح، وهي حركة إصلاحية دينية وإجتماعية فقط، وهو دور إيجابي، لايمكن نكرانه في حينه، فقد كان بن باديس ثائرا دينيا وإجتماعيا في حينه طبعا، لكن يجب أن نتحرك إلى الأمام طبقا لحركة التاريخ، لأن كما سنوضح فيما بعد، فكل مجدد يتحول إلى محافظ فيما بعد بعد إنتصار أفكاره التجديدية، لكن ساهم بن باديس وجمعية العلماء في تحريك التاريخ، وهذا ما سنوضحه فيما بعد.

لكن نسجل بأن ظاهرة الصراخ والسب والشتم والتشويه والإفتراء الذي مورس ضد هؤلاء الإصلاحيين في الماضي، كما يمارس اليوم ضد من يواصل دفع عجلة حركة التاريخ إلى الأمام ما هو إلا أسلوب طفولي، لأن الكبار لا يصرخون ولا يشتمون ولايفترون على الناس، فنصيحتي لهؤلاء الذين سمّموا مجتمعنا، ومهّدوا، دون وعي منهم حسب ما يبدو، لجرائم الإرهابيين ضد المثقفين، أن يكفوا عن ترديد نعوتا بهدف زرع البلبلة والمغالطات، للضحك على الذين لا يمتلكون ثقافة مفاهيمية ومصطلحاتية، والتي لا تميز بين الفرنكوفوني والفرانكوفيلي وبين المسلمين والإسلاميين، وبين العربي والعروبي وبين الحداثي والتغريبي، وكلما فضحهم أحد رموه بسلاحهم الثقيل، المتمثل في سلسلة من النعوت كالفرنكوفيلية واللائكية والتغريبية والشيوعية وغيرها، والتي لا يدركها العامة، بل حتى بعض المثقفين، وألتبست عليهم، بل يفهمها البعض، للأسف الشديد، أنها كفر وخيانة.

لكن يجب ان نفتح قوس بشأن أكذوبة إشعال جمعية العلماء لفتيل الثورة، لكن كيف أشعلت الثورة ومفجروها الحقيقيون لم يجدو ولو مجاهدا واحدا من مشعليها أي ليلة أول
نوفمبر كي يكتب لهم بيان أول نوفمبر بالعربية، أو على الأقل ترجمته من الفرنسية التي كتب بها إلى العربية، وأضطر بوضياف للحاق بمصر لترجمته، لا يمكن مواصلة هذه الأكذوبة بعد 1988، لكن بقي البعض مسجونين فيها، وينقلونها لأبنائنا في المدرسة، فبعد1988 وما صاحبها من حريات سمع الجزائريون بقادة وثوار كبار طمس تاريخهم في هذه المدرسة ، وأضطرت المدرسة بعد1988 إلى تصحيح هذه الأكذوبة، ووضعت جمعية العلماء في مكانها الصحيح كحركة إصلاحية دينية وإجتماعية فقط، ونحن نثني ونقدر على دورها هذا آنذاك، وعادت جذور الثورة لنجم شمال أفريقيا التي أنبثق عنها حزب الشعب الجزائري ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية ثم المنظمة الخاصة فجبهة وجيش التحرير الوطنيين، وأغلب مناضلي نجم شمال افريقيا وهذه المنظمات التي أنبثقت عنها هم من اليسار تأثروا بالأفكار الأوروبية والأساليب النضالية الجديدة التي أكتشفوها في أوروبا.

فبعد هذا القوس نعود إلى مشكلة منطقتنا وموقعها في الخريطة العالمية اليوم، فقد أختلف في تحديد موقعنا نحن المسلمين اليوم، فيرى البعض أننا نعيش اليوم نفس ماعاشته أوروبا عشية نهظتها، والمعروف بسيطرة خطاب ديني متخلف وإستغلالي للبسطاء وجهلهم المقدس، كما أننا نعيش حروبا دينية كما عرفت أوروبا حروبها الدينية، ويرى آخرون أن منطقتنا ستدخل حرب طائفية بين الشيعة والسنة كما دخلتها أوروبا بحربها بين الكاثوليك والبروتستانت، صحيح فهذا محتمل جدا لأننا لازلنا مسيطرين بخطاب ديني متخلف جدا، ومحكوم بالثقل السلبي للتاريخ، وهو ما يتطلب تجديده، فلو كان فعلا خطابنا الديني فعالا، لما أننتشر الغش والكذب والتزوير والرشاوي وعدم إتقان العمل والتحايل في كل شيء، رغم أداء99% منا طقوسنا الدينية، فقد تحدث بن نبي عن هذه المسألة عندما طرح مشكلة كيفية تحويل المسلم إلى إنسان فعال مثل الأوروبي، وبأن مشكلته ليست تعريفه دينه، فالجميع يعرفونه، ويعرفون الحلال والحرام، بما فيها القط، فإن أعطيته قطعة لحم أكلها أمامك، لكنه إن خطفها هرب، لأنه يعرف أنها سرقها فهو حرام.

لايمكن لنا فهم أوروبا الحديثة وما وصلته من تطور إلا بفهم الإصلاح البروتستانتي الذي حرر المسيحي من سيطرة رجال الدين ودفعته إلى الأمام ،مما جعل عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر يربط التطور الرأسمالي في أوروبا بهذا الإصلاح الديني، وهناك من يقول العكس، وأن هذا الإصلاح مرتبط بنمو قوى الإنتاج، هذا موضوع ممكن أن نعود إليه في مقالة أخرى إن شاء الله.
لكن نعتقد أن الصراع في المستقبل عندنا وفي منطقتنا سيكون حول حركة التاريخ، وهو بين من يريد تحريكه إلى الأمام ومن يريد إيقاف عجلته، ويبدو أنه هو الصراع الأبدي منذ أزل التاريخ، لم يكن الأنبياء إلا من الدافعين لعجلة التاريخ إلى الأمام، وسنوضح ذلك بالعودة إلى التاريخ وحركته.


قد تناول الفلاسفة في القرن19 مسألة العوامل المتحكمة في حركة التاريخ والتقدم، إلا أننا نعتقد عدم إهتمام البعض منهم بقصص الأنبياء التي ركزت عليها الكتب السماوية جعلتهم لم يدركوا مسألة هامة جدا، وهي أن حركة التاريخ كانت نتيجة تفاعل دياليكتيكي بين ثلاث أطراف وعناصر متحالفة وهي السلطة المستبدة أو الفرعون وأصحاب المال والقوة الإقتصادية مثل قارون، ولن يكون لهاتين السلطتين أي نفوذ لولا إمتلاكها لآلة ايديولوجية تتخذ في كل فترة من فترات التاريخ تسمية معينة، ففي الماضي كانت المعابد وسدنتها، واليوم نجد المدرسة على رأسها، فهذه الآلة الأيديولوجية والقائمين عليها هي التي تبرر الإستبداد والإستغلال بإستغفال وإستحمار وتخدير الشعوب، فلا يمكن تحريك عجلة التاريخ والتقدم بمواجهة مباشرة مع الإستبداديين والإستغلاليين، لأن المعركة المباشرة معهم ستكون خاسرة شعبيا، لأنه لن يقف عدد كبير من الناس مع قوى التغيير الإيجابي بسبب قوة الآلة الأيديولوجية التي تدعم الإستبداد والإستغلال والمتحكمة في عقول الكثير من العامة بواسطة سدنة المعبد في الماضي وقوى أيديولوجية تدافع عن النظام الإجتماعي السائد، ويمكن تشبيههم ب"حراس المعبد" أو "السدنة الجدد" بالنسبة لحاضرنا، ولهذا فالمعركة من أجل دفع حركة التاريخ إلى الأمام عادة ما يكون على صعيد أيديولوجي وثقافي وفكري وعلمي، وإذا وقع تغييرا في ذلك أنهار كل البناء القديم ليحل محله البناء الجديد الذي يكون جاهزا أيضا بواسطة هذا العمل الفكري العميق.

أن حركة التاريخ إلى الأمام هي نتيجة معركة يقودها المثقفون التنويريون ضد الإستبداد والإستغلال وأيديولجييهما، ولهذا فالمثف التنويري يصطدم مع السلطة وفي نفس الوقت مع المجتمع الذي خدرته بشكل غير مباشر الأدوات الإيديولوجية للسلطة والقائمين عليها الذين نسميهم ب"السدنة الجدد" الذين يتملقون للسلطة أحيانا، ويخدرون المجتمع أحيانا أخرى بدغدغة عواطفه تحت غطاءات شتى، فيتحكم هؤلاء في عقول الكثير كما كان يتحكم فيها سدنة المعابد في الماضي، ويوجهونها ضد الأنبياء والرسل، كما يوجهونها السدنة الجدد ضد المثقفين الذين يفضحون الإستبداد وإيديولوجييهم، وذلك بتشويههم وإطلاق الأكاذيب عليهم وتحريف أقوالهم على طريقة "ويل للمصلين"، وإتباع أي هفوة لهم وتضخيمها، وهدفهم من ذلك كله هو الحد من دورهم في تفكيك وفضح الطروحات المخدرة والأفكار المميتة التي يروجها هؤلاء السدنة سواء اليوم أو في الماضي-حسب تعبير بن نبي- الذي للأسف حتى هو تعرض للتشويه، ولم يعودوا حتى إلى ماكتبه بن نبي فعلا، كما يفعل الكثير اليوم للأسف الذين يتلقفون أكاذيب وتحريف لمقولات البعض دون حتى العودة إلى ماكتبه هؤلاء أصلا ليتبينوا الحقيقة، كما يوجد مرضى النفوس الذين يسايرون الكذب والبهتان، ويصفقون له حتى ولوعرفوا أنه ليس صحيحا مايروج له، ويحركهم في ذلك للأسف التعصب القبلي والأيديولوجي والمشاعر البدائية كما كان يفعل بعض اليهود الذين رفضوا الإيمان بسيدنا محمد )ص( إلا لأنه ليس منهم، وللمفارقة أن الكثير من هؤلاء يلبسون عباءة الدين دون الإلتزام بأخلاقه التي ترفض إطلاق الأكاذيب والأراجيف على الناس، فهدفهم تشويه كل من يقترب من المعبد الذي يحرسونه، ويفرضون به نفوذا دينيا وثقافيا على المجتمع، كما يستفيدون منه إقتصاديا وسياسا بالتواطؤ الواعي وغير الواعي مع الإستبداديين والإستغلاليين.
إن أول ما يواجهه الرسل والأنبياء هم رجال الدين السائدين وسدنة المعابد والمعتقدات التي يروجونها ، ويمتلك دائما هؤلاء السدنة تهما جاهزة ضد الأنبياء والرسل كما هي جاهزة اليوم ضد المثقفين التنويريين النقديين كالتكفير والتخوين وغيرها من التهم التي تعد أفتك سلاح يستخدم ضد المثقفين التنويريين، وللأسف تنطلي هذه التهم عن الكثير، لأنهم أخضعوا لسيطرة أيديولوجية من قبل على يد المدرسة وغيرها من الأدوات الأيديولوجية التي عادة ما يحولها المستبد إلى أداة لترويج أيديولوجية الخضوع وغرس عوائق معرفية في ذهن الإنسان عندما كان طفلا، ولهذا تجدهم يرفضون كل فكرة جديدة أو أي محاولة لإعادة النظر في الأفكار والطروحات السائدة بالإستناد على البحث العلمي، ويغيب عن الكثير أن من أهداف البحث العلمي ليس فقط البحث عن الحقيقة، بل أيضا النقد وإعادة النظر المستمر في النظريات والطروحات السائدة في كل المجالات، ومنها بعض الأحداث والقضايا التاريخية، فكم مثلا من قضية تاريخية أعيد النظر فيها بعد ما أعتقد في الماضي أنها حقائق؟، وكم يعاني الباحث المتابع يوميا للمستجدات من نظريات وطروحات عند مناقشته أو طرحها مع المتوقف والمتخلف عن المتابعة لها منذ مدة، وبقي يردد نظريات وأفكارا أكل عليها الدهر وشرب، كما يكرر معلومات أعادت البحوث الجديدة النظر في صحتها، ويعود رفض الكثير للطروحات والأفكار الجديدة إلى الآلة الأيديولوجية للإستبداد التي عطلت عقلهم وسلامة تفكيرهم، ومنعتهم من إمتلاك روحا نقدية تسمح لهم بالتمييز، مما يتطلب تحريرعقولهم ودفعهم على التشكيك في كل ما يتلقونه.

فالأيديولوجيون أو السدنة الجدد الذين يقفون في وجه المثقف التنويري والنقدي يتصرفون مثل كل سدنة المعابد في الماضي الذين واجهوا الأنبياء والرسل، ويشبه حرصهم على بعض الأوضاع والأفكار السائدة نفس حرص قريش وتصرفهم مع سيدنا محمد )ص( بردهم عليه "بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا"، أي معناه إبقاء الوضع على ماعليه وتقديسه، وإن تتبعنا هذا المنطق فمعناه الجمود والتخلف وتوقف حركة التاريخ نحو التقدم، فمن أبرز مهام المثقف النقدي التنويري هو خلخلة الأفكار المميتة السائدة في المجتمع، والتي تعرقل حركة التاريخ، وتمد في عمر الإستبداد والإستغلال.

فقد تعرض الكثير من المثقفين الجزائريين للتصفية الجسدية في تسعينيات القرن الماضي بسبب تكفير هؤلاء السدنة لهم، ولازال الكثير من مثقفينا يعانون اليوم من بعض هؤلاء الأيديولوجيين السدنة الذين يتهمونهم أنهم ضد الإسلام إلا لأنهم يحذرون من إعادة إنتاج الإرهاب بترويج بعض الأفكار المتطرفة المنتجة له، ويؤكد هؤلاء المثقفين بأن هذه الأفكار تستخدم من أعدائنا التقليديين في شمال المتوسط كفرنسا وكذلك الصهيونية وأمريكا لتفجير أوطاننا وزرع الفوضى لإعادة إستعمارها من جديد، بعد ما نظر هنتغتون منذ تسعينيات القرن الماضي لصدام الحضارات وأسس ل" الحرب الإستباقية" كأسلوب إعادة السيطرة على بلداننا، وما أنفك يحذر هؤلاء المثقفين المتهمين من هؤلاء السدنة الجدد بأن صعود الفاشية في شمال المتوسط وصعود هؤلاء المتطرفين الدينيين في أوطاننا معناه صدام حتمي لا محالة بين الضفتين، وستتخذ ذريعة لإستعمارنا من جديد بأشكال أخرى.
ويروج هؤلاء السدنة الجدد عن هؤلاء المثقفين بأنهم بتحذيرهم هذا فإنهم يدعون في الحقيقة لضرب الإسلام دون أن يميز هؤلاء المروجين لهذه الأراجيف بين الإسلام كدين سماوي جاء لخير البشر ومختلف التأويلات البشرية له، فنجد منها تأويلات تنويرية تخدم البشرية وتزرع الحرية والعدل والمحبة والسلام، كما نجد أيضا تأويلات أخرى متطرفة ومتخلفة تزرع الحقد والكراهية وتدعم الإستبداد والإستغلال، فمعركتنا اليوم مع هؤلاء هي بداخل إسلامنا، وليس بخارجه كما يروج هؤلاء، فيجب تحرير الإسلام من مختطفيه الذين يستخدمونه لأغراض سلطوية بكل أشكالها الإستبدادية والإستغلالية، فهذا التحرير هو الكفيل بإبقائه نظيفا، ولايتحول إلى سلاح في يد القوى الأمبريالية والصهيونية لتحقيق أهدافها الإستراتيجية على حساب مصالح شعوب منطقتنا .


البروفسور رابح لونيسي



#رابح_لونيسي (هاشتاغ)       Rabah_Lounici#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معركة مصيرية في المدرسة بين التقدم وإبقاء الإنحطاط
- من سينتصر في الصراع حول خلافة الرئيس بوتفليقة؟
- من أجل دبلوماسية لتجريم الإستعمار دوليا
- هل أستعان أنجلس بمقدمة بن خلدون في تفسير تخلف مجتمعاتنا؟
- الجزائر رهينة لصراع أمريكي-فرنسي حول خلافة الرئيس بوتفليقة
- الرهانات الكبرى لقضية إدماج الأساتذة المتعاقدين في الجزائر
- مشايخ الكولون الجدد في الجزائر
- ظاهرة التثاقف وتركيبية الثقافة المغاربية
- رهانات تبرئة وزير سابق في الجزائر-إبر لتخدير شعب-
- صرخة في وجه البترودولار وكل الطائفيين- لاتنزعوا منا حق الدفا ...
- إنتاج آلة لتصفية مثقفين
- من وراء تغييب النقاشات الإجتماعية والإقتصادية في مجتمعاتنا؟
- هل الجزائر مهددة فعلا في أمنها الإستراتيجي؟
- رابح لونيسي - بروفسور ومفكر جزائري - في حوار مفتوح مع القراء ...
- حسين آيت أحمد - رمز الوطنية الديمقراطية في الجزائر-
- مالك بن نبي وحرب الأفكار -هل أصيب بمرض البارانويا أم خبير في ...
- من سيختار الرئيس القادم للجزائر؟
- نحو دولة شمولية تحت سيطرة أوليغارشية مالية
- ماذا بعد إتهامات ضمنية بالسطو على ختم الرئيس في الجزائر؟
- من أجل القطيعة مع ثقافة القمع والتصفيات الجسدية


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - أيديولوجيو الإنحطاط وحركة التاريخ