أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود كرم - عن العقل البائِس















المزيد.....

عن العقل البائِس


محمود كرم

الحوار المتمدن-العدد: 5172 - 2016 / 5 / 24 - 03:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



بائِسٌ ورديءٌ هذا العقل ، هذا الذي لا يذهبُ بعيداً ، ولا يأتي من بعيد ..
لا يَبني ولا يهدم ..
لا يموتُ لكي يَحيا ، ولا يخطيءُ أو يجرّب أو يغامر ..
ولا يأتي من السؤال ، ولا يذهبُ إلى السؤال ، ولا ينتقلُ بِالسؤال إلى السؤال ..
لا يغضبُ أو يحتجُّ أو يرفض أو يشمئِز ..
لا يفهمُ أو يستفهِم ، ولا يتمرّدُ أو يقارع ، ولا ينطقُ أو يستنطق ..
لا يُغيّر ولا يتغيّر ..
لا يُفكّر ولا يتفكّر ..
لا ينيرُ ولا يتنوّر ..

هذا العقل فارغٌ ، ويتكوّمُ فراغاً في فراغ الفراغ ..
يتأخّرُ دائماً ولا يتقدّم ، يتراجعُ ولا يُقدِم ، يخافُ ويتخوّف ..
مهزومٌ أبداً في معركة الأسئلة ، ولكنّهُ ينتصرُ صخباً في ضجيج الأجوبة . مهزوزٌ في مخاض الشّك ، ولكنّهُ شجاعٌ في ميراث اليقين ..
هامدٌ في تقلّبات القلق ، ولكنّهُ هادرٌ في سكون الاطمئنان ..
يتلاشى في هجير الفكرة ، ولكنّهُ يتسيّدُ دائماً مسرح اللاشيء ..
يتحاشى المختلف ويستعذِبُ السائد ..
يُعادي التفرّد ويذوبُ في المجموع ..
يُحارب الجديد ويُقيمُ في القديم ..
تُرهقهُ المعاني الجديدة ، فيتكوّمُ سريعاً في القوالب المعتادة ..
ينزعجُ من الحركة ، ويهوى السكون ..
تُتعِبهُ التفاصيل ، فيتشبّثُ بالعموميّات المائِعة ..
لا يُطيقُ النقد والانتقاد ، ولا يروق له التحديق والتأمّل والاكتشاف ..

هذا العقل يخلو من حياة الحرّية وحرّية الحياة ، فتتوالدُ فيه القيود ، وتتكالبُ عليه الأغلال ، ويطمرهُ الحُطام ، وتسحقهُ الأثقال ..
لا يتخفّف من الموروث ، ولا يغادرُ العتمة ، ولا يسكنُ خارج الكهوف ..

يُبهرهُ الضّوء ، ولكنّه لا يتحسّس منابت النور ..
تُسعِفهُ الاحتمالات ، ولكنّهُ يلوذُ متحصّناً بِاليقينيّات ..
تتجاذبهُ الأسئلة ، ولكنّهُ ينصاعُ تلقائيّاً للأجوبة ..
يُحرّرهُ الجديد ، ولكنّهُ يقتعِد القديم والأقدم ، والسابق والأسبق ..
ليسَ شغوفاً بِمعرفة المعرفة ، ويأتي خالياً دائماً من شهوة الخلق والإبداع والتّجديد ، لأنّه متخمٌ بِتراكمات اليقين والتقليد والتلقين ..

هذا العقلُ لا يقرأ ، وحتّى لو قرأ ، فأنّه لا يقرأُ إلاّ ما اعتادَ تلقيناً أنْ يقرأ . وكيف يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يقرأ ، ولماذا يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يفهم .؟ وكيف يقرأ إذا كان لا يملكُ في رصيد القراءة شيئاً من شروط القراءة . وهل يستطيعُ أنْ يفهم إذا كانَ من الأساس لا يريدُ أن يقرأ ، وهل يستطيعُ أنْ يقرأ في شيءٍ غير تاريخهِ أو قبوره أو كُتبه أو نصوصه . إنّه يقرأُ فقط ما يتوفّر لديه من ميراث الوحيّ والتلقين ، لأنّه لا يملكُ من مزايا الرؤية والقراءة ، ما يجعلهُ شاخصاً ومتفحّصاً ومتفلسفاً ومحدّقاً ومنتقياً ومُحاوِراً ولمّاحاً وملتقطاً وناقداً ومتفكّراً وسائِلاً ومتسائلاً ..

أيّها العقل البائِس ، لماذا أنتَ موجودٌ ، ولماذا وُجدّتَ أصلاً ، ولماذا لا تستطيع أنْ تكونَ في وجودكَ ، وجوداً مفكّراً ومتفكّراً ، ناطقاً ومستنطقاً ، عارفاً ومستعرفاً ، فاهماً ومستفهِماً ، متجلّياً ومستجلياً ..
ولماذا جِئتَ أصلاً .؟ وأنتَ لا تستطيع أنْ تكونَ شاهداً أو رافضاً أو ناقماً أو مُبصراً أو فاضحاً أو مضيئاً أو قادحاً . أليسَ العقلُ في مجيئِه يجيءُ عقلاً ، فكيف لكَ أنْ تجيء ، وأنتَ غير قادرٍ على أنْ تكونَ مخلصاً لِمجيئك ، ووفيّاً لوجودك ، ومُقدّراً لِقدرتك ..

أيّها العقل البائس ، لماذا تكتبْ وأنتَ لا تقرأ .؟ فمَن يكتبُ يقرأ . ولهذا فالعقل الخلاّق والمثمر والمتوهّج ، لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ ، إنّما يكتبُ لأنّه يجدُ في القراءة شروط الكتابة ، ويرى فيها حضوره المفكّر والمتسائل والمتجلّي والناقد . إنّهُ لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ ، بل يكتبُ لأنّه محتاجٌ أنْ يقرأ ، وفي القراءة يتجلّى ذاتاً كاتبة ، ذاتاً لا تكتبُ ما تقرأ ، بل تقرأُ ما يجب أنْ يُكتَب ، وتكتبُ ما يستوجبُ حضور ذاتها القارِئة ..

ما أتعسكَ أيّها العقل البائس ، إنّكَ لا ترى حقيقتك ، ولا تستطيع أنْ تراها ، لأنّك تراها كما أردتَّ أنْ تكون ، خرساء وعرجاء وصمّاء ، وتعجزُ دائما عن رؤيتها على حقيقتها ، لأنّ في حقيقتها حقيقتكَ العاجزة والمتجمّدة والبليدة . ولذلك كلّ ما تفعلهُ وتُجيده هو أنْ تحبَّ حقيقتك ، وتحبُّ وجودك في حقيقتكَ هذه ، تحبّها سادرةً في سكونها وتراجعاتها وعتمتها وتقيّحاتها وبلادتها ..
كم في هذا العقل من غباء الغباء ، يجدُ في حقيقتهِ هذه ، حقيقة كلّ الأشياء ، ومن ثمَّ يخرجُ بها على الناس صارخاً وشاتماً ولاعناً ومُستبشعاً ، ومتباهياً ومتنرجساً بحقيقتهِ التي يراها كلّ المنطق وكلّ الجمال وكلّ الاكتمال ..

ما أفجعَ أنْ تقبل وجودكَ في حقيقتكَ هذه أيّها العقل البائس ، وأنتَ لا تملكُ منطقاً لوجودكَ في حقيقتك ، ولا رُشداً . وحقيقتكَ لا تملكُ من شروط وجودها ، منطقاً أو فِكراً أو معرفةً أو صياغة أو معنىً أو تقويماً أو فهماً .
فلا تملكُ غير صناعة وهْمك ويقينك ، ورعاية تراثك ونصوصك وماضيك وتراجعاتك . إنّك تُجيد صناعة خوفكَ ، تصنعهُ بكلّ الثّقة والإطمئنان والاستمراريّة ، لأنّه يُرسّخُ فيك يقينك . يقينكَ الذي يساوي خوفكَ ، وخوفكَ الذي يساوي يقينك . إنّك تصنعُ خوفك بِنفس المقدار الذي تصنعُ فيه يقينكَ ..

إنّك أيّها العقل البائس ، لا تملكُ خِفّة التحليق ، لأنّك مُلتصِقٌ بالتراب . ولا تملكُ مهارة التجاوز ، لأنّك تهوى الاقتعاد . ولا تملكُ رشاقة التّخطّي ، لأنّكَ مُثقلٌ بالخوف والتردّدِ والانهزام . ولا تملكُ ميزة الخَلق ، لأنّكَ تفتقد الدهشة والمغامرة والمجازفة ..

إنّكَ لا تستطيع أنْ ترى النجومَ من فوقكَ لامعةً أو مشعّة أو فارعة ، لأنّكَ تستعذِبُ الدروب المعتمة والخانقة . ولا تستطيع أنْ تُحدّق في أعالي الضوء ، لأنّكَ تمتليء بالظلام والخوف والارتجاف . ولا تملكُ أبصاراً شاخصة ترنو إلى الشّمس ، لأنّكَ مُصابٌ بعاهة العَمى والتشويش . ولا تستطيع أنْ تسمو ذكاءً أو حواراً أو نقداً ، لأنّكَ لا تملكُ أيٍّ من مستويات المعرفة الخلاّقة ، أو أيٍّ من مستويات الأفكار الشجاعة العظيمة ..

حتّى أوهامكَ أيّها العقل البائس ، لم تستطع أنْ تجعلها ذكيّة أو خلاّقة أو مبدعة أو خصبة ، لأنّكَ تفتقرُ إلى موهبة الخيال , وصفاء الإحساس ، واشتهاء الدهشة ، وابداع الخَلق ، وفنون التكذيب ..
ما أتعسكَ في أوهامكَ ، تراها كلّ الحقيقة ، وكلّ الوجود ، وتبادلها متعة الخمول والتجمّد والانطفاء والتغييب والتقيّد . إنّها تَحيا فيكَ تعاليماً وطقوساً ، واعتقادات ومعتقدات وصلوات وابتهالات وتضرّعات ، تخلو من الذكاء والإبداع والخَلق والفنّ والالهام والتمرّد والحرّية والتجاوز ..

إنّك في وجودكَ تُمارس وجودكَ مشترطاً عليه ، كلّ قيودكَ واعتلالاتكَ وإكراهاتكَ ومنقولاتكَ وحمولاتكَ النصيّة والتراثيّة والجمْعيّة . ما أفظعكَ وأنتَ تمارس وجودكَ هذا ، متخوّفاً وخائفاً ومرتجفاً ، متعبّداً ومتملّقاً ومادحاً ومُستفرِغاً . جاهِلاً جهلكَ ، ومتجاهلاً جهالاتك ..

ما أعجزكَ في الاختيار ، وكمْ أنتَ عاجزٌ عن الاختيار . لا تستطيع إلاّ أنْ تختار قيودك ، وتختار عبوديّتكَ في قيودك ، فكمْ تُرهبكَ حرّية الاختيار ، وكم تخشاها وتتحاشاها ، وكم تراها أكبر من استيعابك وقدرتك وذاتك . وكيف لكَ أنْ تختار ، وأنتَ مُقيّدٌ في اختيار محدّدٍ مسبقاً ، ولا تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تكونَ حرّاً في خياراتك واختياراتك . إنّكَ تعجزُ عن الاختيار ، لأنّكَ لا تعرفُ أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار ، وكيف لك أنْ تعرف أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار ، وأنتَ لا تملكه ، ولستَ مستعدّاً له ، وليسَ متوفّراً في رصيد حرّيتكَ ورؤيتك وتجربتك ..



#محمود_كرم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التجربة وحْيُكَ المقدّس
- هذيانات أنيقة
- المحرّمات الثقافية في العقليّة الجماعية
- الإنسان كائنٌ هويّاتيّ
- في أن تخرجَ من قيودك
- في أن تكون الحياة رهنُ يديك
- كلام في الخمسين
- الإنسان يصنع مستقبله
- الذات الحرة في بناءاتها ورؤاها المتمايزة ..
- ذاكرة الإنسان المعرفية .. تجلياتٌ في الإبداع والتجديد
- في فلسفة المشاعر الإنسانية
- الشغف .. أكثر حالات الإنسان تألقاً وتفرداً
- الإنسان التعبيري .. إنسان النزعة الخلاقة
- حرية التفكير طريق التمرد المعرفي
- فلسفة الحضور في الوعي التنويري
- شجن الذاكرة
- الأصل في فلسفة الوعي الإنساني
- التافهون
- الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
- الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق


المزيد.....




- بعد موقفها من الضربات الإسرائيلية.. الرئيس الإيراني: مستعدون ...
- السياحة تعود تدريجياً إلى أفغانستان.. وطالبان تفتح الأبواب ر ...
- رافائيل غروسي -شرطي نووي-.. على تقاطع نيران إسرائيل وإيران
- ما قصة الطفلة التي أعلنت السلطات الجزائرية عن العثور على جثت ...
- الولايات المتحدة: مقتل اثنين من رجال الإطفاء بإطلاق نار خلال ...
- لماذا أصبحت كوريا الشمالية -أكثر إصرارا- على الاحتفاظ بأسلحت ...
- مستوطنون إسرائيليون يهاجمون قاعدة عسكرية في الضفة الغربية.. ...
- سيناتور أمريكي بارز يعارض ترامب بشأن مصير اليورانيوم الإيران ...
- ماكرون يعلن ما قاله لرئيس إيران عن إسرائيل و-النووي-
- نائب وزير الخارجية الإيراني لبي بي سي: يجب أن تستبعد واشنطن ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود كرم - عن العقل البائِس