|
الإنسان كائنٌ هويّاتيّ
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 4610 - 2014 / 10 / 21 - 08:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسان كائنٌ هويّاتيٌّ صاخب . يأتي بهويّتهِ ، ويَضعها في منتصف الطريق ، يتحدّثُ من خلالها عالياً ، ويصرخُ بها على رؤوس الأشهاد ، اثباتاً لحضورهِ وتواجدهِ ، ورغبةٍ ملّحةٍ منهُ في انتزاع الاعتراف من الآخرين بجدارةِ وأحقيّة هويّته . هكذا يأتي الإنسان دائماً ، تسبقهُ هويّتهُ ، التاريخيّة والتراثيّة والثقافية والمذهبيّة والأيديولوجيّة وحتى الشعوريّة . لأنه في الأساس كائنٌ يتغذّى على الخوف . الخوف دائماً من ألاّ يكونُ يصرّحُ حقيقةً عن هويّتهِ وحضورهِ ، والخوفُ من ألاّ يكونُ ذاته التي يراها في مرآةِ هويّته ، والخوفُ من ألاّ يتمثّلُ في هويّتهِ كما يجب .
هذا الإنسان يتغذّى على الخوف ، لأنّهُ لا يستطيعُ أن يرى ذاته من غير هويّةٍ تسبُقها . هويّةٌ تمنحهُ قبل كلّ شيء يقين الاطمئنان إلى ذاتهِ من التشرذم والتلاشي ، وتُعزِّزُ فيه ثقتهُ بتاريخه وتراثهِ وأمجاده . وهيَ هويّتهُ التي تمنحهُ تالياً اعتراف الآخرين به ، وتوفِّرُ له تبعاً لذلك حضوره وتواجدهُ ومكانته . وثمة خوف آخر يتغذّى عليه الإنسان في سبيل البقاء أبداً على قيْد هويّةٍ تتحدّث عنهُ ، ويصرخُ بها ، ويخرجُ بها أيضاً على الآخرين . إنّهُ الخوف من الآخر ، الآخر الذي يجب أن يخشاه ، وأن يحذر ويحترزُ منه ، خوفاً ربما من أن لا يستطيع الآخر أن يراهُ على حقيقتهِ ، وعلى هويّتهِ التي يريدُ أن يتميّزُ بها عنه . إنّهُ يخافُ من الآخر سبيلاً لتعزيز هويّتهُ وتثبيتها والنأيُّ بها عن الضياع والذوبان والتكسّر ..
هذا الإنسان لا يريدُ أن يرى ذاته كما هيَ عليها أن تكون ، عاريةً إلا من مرآةِ وجودها ، بل يريدُ أن يراها دائماً كما يجبُ أن تأتي من خلال تاريخهِ وتراثه ومذهبه ويقينيّاته النصيّة . إنّه لا يستقبحُ هويّةً يظهرُ بها ، لأنّهُ يظنُّ دائماً وأبداً إنها خالية من التشوّهات والهنّات والقباحات والثغرات . إنّهُ لا يستقبحُ أصلاً ذاته المصنوعة في مرايا الآخرين من السابقينَ والحاضرين . إنّهُ يرِثُ هويّتهُ ولا يَخلقها ، ويرِثُ ذاته ولا يصنها . ويرِثُ معتقدات لا يفهمُها ، ويرِثُ نصوصاً لا ينتقدها ، ويرِثُ كُتُباً لا يقرأها .
والإنسان عموماً يأتي في هويّةٍ صوتيّةٍ . صاخبة ، مُتخمة بالتراثيات والنصوص والصراخات والصوتيّات والبطولات والكراهيات أيضاً . يَتمسرحُ بها حضوراً كلاميّاً . فالكلام في هويّتهِ جوهر حضوره . ولا تستطيعُ هويّتهُ إلا أن تكون كلاماً . فالكلام عنوان هويّتهُ ، وشخصيتها وحضورها وتواجدها أيضاً . وفي الكلام وعبرَ الكلام تكونُ الهويّة صوتاً ، وحضوراً صوتيّاً استعراضياً . ففي الصوت تجدُ الهويّة نبرتها المقدّسة ، وتاريخها المنبريّ ، وثقافتها الشفاهيّة ، ومخزونها الأسطوري . ويجبُ أن تأتي صوتاً ، وإلا فقدت بريقها في الكلام . إنّهُ الصوت في هويّةٍ تتكرّرُ بالكلام ، وتتواجدُ بالهِتاف ، وتحضرُ بالشعار ، وتستمرُّ بالصراخ والانفعال والحماسات المنبريّة . هذا الإنسان يحضرُ صوتاً في أصوات الآخرين ، ويتكرّرُ في هويّةٍ صوتيّةٍ ، تمنحهُ زهو الانفعال بتاريخهِ وأمجادهِ ونصوصهِ . الانفعال الذي يساوي حجم الصوت في هويّتهِ ، والانفعال الذي يُبقيه على قيْد الحماس اليقيني بهويّتهِ ، متفاخراً ومتنرجساً بها . هذا التفاخرُ جزءٌ حميميّ من التصاقهِ بهويّتهِ ، والظهور بها . إنّهُ التفاخر الذي يجعلهُ متعاليّا فوق الجميع بصفاء تاريخه وتراثه ومعتقداته . وهوَ التفاخرُ الذي يتغاضى به عن اساءاته للآخرين ، ويُبرّرُ من خلالها عدائيتهُ للآخر .
كيف يشعرُ بالذاتيّة ، مَن يأتي ويحضرُ دائماً في هويّةٍ مصنوعةٍ من عجين الانتماءات الهوياتيّة الجمْعية ، تلكَ التي تتقولبُ في ثقافاتٍ محدودة ومحدّدة سلفاً ، وتندرجُ في يقينيّات مطلقة ، وتظهرُ في صوتيّاتٍ تلقينيّة ومُبرمجة . ليسَ ثمة انتماء لهويّةٍ ذاتيّة فرديّة مستقلّة عند هذه الإنسان ، إنّه يرى ذاته في انتماءٍ يقينيّ محض للهويّة التي منحتهُ من قبل شرف الانتماء للهويّة المذهبيّة أو للهويّة القَبليّة أو للهويّة الأيديولوجية أو للهويّة الشعاراتيّة أو للهويّة التراثية . إنّه الانتماء للتعصّبِ والانغلاق والأدلجة والجماعيّة الثقافيّة . وثقافة الانتماء لديه تقوم أساساً على نمطيّة ثابتة في التفكير والسلوك والاتجاه ، تتجسّدُ في انتماء صوتيّ وعاطفيّ وانفعاليّ وحماسيّ ، معلنة سلفاً وغير محدودة في عطائها واخلاصها وتفانيها . وهو الانتماء الذي يجعلهُ متيقّناً من أنّ هويّتهُ هي الأفضل والأنقى والأصفى ، وأنّ الآخرَ في نظرهِ هو محض هويّة أيضاً . يدفعهُ ذلك إلى الاحتراز منه مُسبقاً ، أو حتى اتخاذ موقف العداء منه ، لمجرد اعتقادهِ بأنّ الآخر يتشكّل دوماً في هويّةٍ ما . والهويّة في أحد تمظّهراتها الأساسيّة معنيّةٌ بالخطاب ، الخطاب الموجّه للآخر ، والخطاب في ثقافة الهويّة صوتٌ عال وحضور مُبرمج ، والصوتُ فيها انعكاسٌ لتاريخها وتراثها ونصوصها وأدبياتها . ففي مواجهة الآخر ، الهويّة تأتي خطاباً متحيّزاً واحترازيّاً في أغلبهِ ، وحاملاً لمنقولاتها التراكميّة ويقينيّاتها المتجذرة . ولا يُمكنُ للهويّة إلاّ أن تأتي خطاباً في مواجهة الآخر ، لأنه يحيل الهويّة إلى التاريخ والنصوص ، ويُحيلها إلى معتقدات وتفاسير . والهويّة في الخطاب ، هيَ هويّةٌ مترعةٌ بشعور الزهو والاستعلاء . فالإنسان لا يشعرُ بهويّتهِ إلاّ بقدر الخطاب الذي يتحدّثُ عنها ، وإنّهُ لا يشعرُ بذاتهِ إلا بقدر ما تحملهُ هويّتهُ من خطاب وأصوات وصراخات أيضاً . إنّهُ لا يرى ذاته إلاّ بقدر ما يرى هويّتهُ في أعماقه وأحاسيسه وتفسيراته . إنّهُ يظهرُ في هويّتهِ صوتاً وخطاباً وعداءً أيضاً ، ولا يستطيعُ أن يرى ذاته إلاّ ظهوراً في هويّتهِ . هويّتهُ صورته التي يجب أن تكونَ ظهوراً دائماً ، وأن يظهر إلى الناس بنفس المقدار الذي يجب أن تظهرَ به هويّتهُ ..
ولا شيء يُشغل الإنسان ، سوى أن يتحقّقَ دائماً من أنّهُ يتشارك ثقافيّاً وخطابيّاً وعاطفيّاً وحضوريّاً مع الذين هُم في هويّتهِ نفسه ، يتشارك معهم جماعيّاً في الظهور بها ، وأن تكونَ هيَ حضورهم المشترك ، وصورتهم وتفسيراتهم الواحدة ، وخطابهم وعنوانهم وقانونهم الموحّد أيضاً . إنّها الهويّة التي تؤسس للعقل الجمعي ، لأنها تسبقهم بوجودها ، ولأنهم يعتقدون دائماً ويؤمنون بوجود ما يسبقهم . وهيَ الهويّة التي تؤسس للشعار الجمْعي ، والفكرة الجمْعية ، والثقافة الجماعيّة . وحتى عليها أن تُدرجهم تحت العاطفة والشعور الجمعي . وهذه الجماعيّة الصارمة في الهويّة هيَ مَن تمنح الإنسان شعوراً تخديريّاً بالراحة النفسيّة والعقليّة ، لأنها أدرجتهُ مستقيماً صالحاً مُطيعاً في صلب الجماعة والجماعيّة . ولا يستطيع هذا الإنسان أن يحيا من غير أن يستقيم ثقافيّاً وحضوريّاً في هويّةٍ جماعيّة ، لأن الجماعيّة هنا تعني له أولاً وأخيراً حضوره وظهوره وكيانه واستقامته وطاعته وشرعيته وذاته وتاريخه وتراثه . وهذه الجماعيّة المحشورة في صورة هويّةٍ محدّدة ، هيَ موضوعه المشترك وحتى هيَ مصيره المشترك ، وهذا المشترك هو جوهر ذاته وأصل وجوده ، وهو الجدير تالياً بالعناية والحماية والطاعة والاهتمام والرعاية ..
والهويّة في شكلها الجماعيّ وفي كيانها الجمْعي ، بالنسبةِ للفرد تعني ، التزاماً ثابتاً بثقافتها وخطابها وأدبياتها وتفسيراتها . ففي حضورها الجماعيّ لا يُعنيها من الأساس وعي الفرد بأسباب التزامه تجاهها ، بل يُعنيها دائماً أن يكونَ المنتمي لها واثقاً من حضورها وظهورها الجماعيّ ، ومطمئناً من أنّهُ مخلصٌ ومطيعٌ للجماعيّة التي تُعززُ فيه ثباته على هويّتهِ . والتزام الفرد في ثقافتهِ الهويّاتيّة يعني ما يحملهُ في داخلهِ من تأليهٍ لها . التأليه الذي يجعلها فوق النقد وقبل الجميع وفوق الجميع أيضاً . وهوَ التأليه الذي يجعلهُ يرى هويّتهُ دائماً في ضخامةٍ مهولةٍ ، ترهبهُ وتُخيفه وتُلزمه باشتراطاتها في الطاعة الكاملة . هذا التأليه يجرّدُ الفرد من ذاتيّته ومن حرّيته ومن نزعتهِ في التمرّد ويجرّدهُ من عقلهِ أيضاً ، لأنه يحصرُ وجود الإنسان في امتلاكهِ لهذه الهويّة المتألّهة . وهو امتلاك مفعمٌ بشعور الاصطفاء والخلاص واليقينيّة المطلقة . وهو الامتلاك الذي يدفعُ به نحو الذوبان كليّاً في الجماعيّة الهوياتيّة ، ويدفع به نحو مواجهة الآخرين والتحيّز ضدهم ، للمحافظة على هذا الامتلاك من العبث أو النقد أو الدحض أو التشويش أو التخريب أو التطاول أو السرقة . إنّه يجد في امتلاكهِ هذا امتلاكاً كاملاً للحقيقة ، وامتلاكاً كاملاً للوجود ، وامتلاكاً أبديّاً للخلاص والخلود أيضاً ..
هذه الهويّاتيّة المُدرجة في انغلاقاتِ ثقافية ومذهبيّة وقوميّة وتاريخيّة وأيديولوجيّة ونصيّة وشعاراتيّة ، لا ترفع الإنسان إلى مستوى الإنسانية الخالصة ، المُنعتقة من شرور التعصّب الهويّاتي ومن شرور الانحياز والعدائية والانغلاق ، ولا تجعل الإنسان يلامسُ حقيقة وجوده الحقيقي ، من حيث كونهِ إنساناً يمتلكُ أولاً وقبل كلّ شيء خياراً حرّاً ، في أن يكونَ كما هوَ متفرّداً في نظرتهِ ومسؤوليتهِ وقرارهِ ، ومتميّزاً في احساسهِ العميق بإنسانيتهِ . ذلكَ الاحساس الوافر بالمحبّةِ والجماليّة والانفتاح والحريّة ، والوافرُ بالتعالق مع الآخر في إنسانيّةٍ خاليّة من التوجّسات الذهنيّة الاستباقيّة ، وخاليةٍ من التحيّزات الهوياتيّة المنغلقة والعدائية . هذه الإنسانية في عمق هويّتها الإنسانيّة المحضة ، كانت دائماً وأبداً هيَ ملاذ الإنسان وأساسه في حياةٍ نظيفةٍ من التشوّهات الهويّاتيّة ومن الثقافات الهويّاتيّة المُدمّرة ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أن تخرجَ من قيودك
-
في أن تكون الحياة رهنُ يديك
-
كلام في الخمسين
-
الإنسان يصنع مستقبله
-
الذات الحرة في بناءاتها ورؤاها المتمايزة ..
-
ذاكرة الإنسان المعرفية .. تجلياتٌ في الإبداع والتجديد
-
في فلسفة المشاعر الإنسانية
-
الشغف .. أكثر حالات الإنسان تألقاً وتفرداً
-
الإنسان التعبيري .. إنسان النزعة الخلاقة
-
حرية التفكير طريق التمرد المعرفي
-
فلسفة الحضور في الوعي التنويري
-
شجن الذاكرة
-
الأصل في فلسفة الوعي الإنساني
-
التافهون
-
الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
-
الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
-
ما معنى أن يتمنّى الإنسان
-
وقاحة مفضوحة
-
الإنسانيون ( 4 من 4 )
-
الإنسانيون ( 3 من 4 )
المزيد.....
-
ترامب يهاجم تاكر كارلسون ويصفه بـ-المجنون- بسبب تصريحاته حول
...
-
السفارة الصينية في تل أبيب تنشر تحذيرا يدعو مواطني الصين لمغ
...
-
انفجارات تهز تل أبيب ومحيطها
-
ستارمر: قادة مجموعة السبع يتفقون على معارضة البرنامج النووي
...
-
محاولات في الكونغرس الأمريكي لتقييد ترامب في استخدام القوة ا
...
-
قبل أيام من الضربة الإسرائيلية.. ترامب تلقى إحاطة حاسمة وأعط
...
-
وزير الدفاع الأمريكي يوجه البنتاغون بنشر قدرات إضافية في الش
...
-
الجيش الإسرائيلي مخاطبا الإسرائيليين: دفاعتنا في مواجهة الصو
...
-
?? مباشر: ترامب يدعو الجميع إلى -إخلاء طهران فورا- وإيران تت
...
-
عاجل | ماكرون: الرغبة في تغيير النظام في إيران بالقوة ستكون
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|