نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1391 - 2005 / 12 / 6 - 09:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بالرغم من كل الآراء الجانبية ومدى صحة بعضها، وتجني وكيد بعضها الآخر، برزت على هامش الأحداث والتطورات الأخيرة بعض الإيجابيات على السطح. ومنها مثلا هذا الأوار السياسي المستعر، والعراك الفكري المحتدم، وبغض النظر عن مصادره وأسبابه المتعددة أيضا، وهو ماسيمهد، وحتما، وحسب المنطق العلمي والتاريخي، لمرحلة نوعية جديدة يأمل الجميع أن تكون مختلفة كليا عما ساد سابقا من ممارسات اكتنفتها، سياسات أبسط ما يمكن وصفها بأنها لم تكن ذات صلة، وغير ملائمة إطلاقا، وبعيدة تماما عن أصالة، وتاريخ سورية المشرق، الناصع، والمبدع الحضاري برفد الإنسانية بكل مقومات التقدم والمدنية، ولا يصح أبدا أن تصل الأمور إلى ما آلت إليه من صورة قاتمة في بعض المراحل من تاريخها المعاصر. أصوات معارضة ترتفع عاليا من قلب دمشق، ونقد صريح هنا وهناك يصل أحيانا حد التجريح، ودعوات، ومبادرات سياسية أكثر من جريئة لم يعتد السوري أن يسمعها في ظل التقليد القمعي والاستبدادي الطويل، وإعلانات بالجملة عن مشاريع سياسية مستقبلية فاضت أحيانا عن حاجة السوق السياسي، وبغض النظر ،أيضا، عن مدى تبصر ورحابة رؤيتها أم لا والموقف الشخصي منها، وكوكب فضائي جديد، يُطلق في فضاء أظلم على مدى عقود من الإغلاق والحصار، نتمنى أن يكون مستقلا وفريدا ليغرد في الأفق السوري بعيدا عن مواويل، وبكائيات، وموشحات، و"فروقات" الإعلام الرسمي النمطي الحزين، ويسمعنا اللحن السوري الشجي للطرب الوطني الأصيل، وأعلام سورية ترفرف بشموخ وإباء في شوارع دمشق بدل العلم البعثي الذي بسط ظلاله الثقيلة لعقود، ولم يطعمهم اللوز، والعسل، والحليب.
كل ذلك في الحقيقة لا يخرج عن السياق العام الحتمي الذي أصبح ضرورة، ومطلبا وطنيا للخروج من عنق الزجاجة بأقل التكاليف، وبغض النظر أيضا عن تراث المسيرات، والاحتفاليات، والدوافع الشكلية والبروتوكولية الدعائية التي كانت غالبا ما تقف وراء مثل هكذا تجمعات، فقد كان هذا المشهد الدمشقي الإرجواني المائج البديع، ظاهرة جديدة لفتت أنظار جميع المراقبين لطبيعة هذا التوجه اللافت الجديد. فهل هو رسالة واضحة وأخيرة، عن خيار بديل، ولأكثر من اتجاه ، للداخل الرتيب، والجار القريب، والقرصان المتربص الرهيب؟ هل تحمل هذه الصور الفوّارة بحب سوريا الكبير بعيدا عن مغازلة واستحضار شعارات العروبة، من خلال إبراز البيرق السوري بشكل وحيد، مفردات تطمين للداخل بأن الهمّ السوري صار من الأوليات المتقدمة على ما عداها، وتخل عما سبقها من تقديم للقضايا "العربية" على كل ما هو محلي حيث تكمن القوة الحقيقية، وتتوفر المناعة الذاتية التي تولد الحصانة الأكيدة لكل السوريين؟ وأي دعم يأتي من المحيط "العربي" ،هذا إن أتى فعلا، هو زيادة في الخير، ولكن التعويل الأساسي هو على الجبهة الداخلية، في المقام الأول والأخير، والاستقواء بها هو خير سبيل.
وهل أفرزت الأزمة الأخيرة معطيات جديدة، ووقائع دامغة، وعِبَرٍٍٍ ساطعة، قد تكون مؤلمة، لجهة تبيان جوهر وحقيقة الدعم العربي، ومداه المحدود فقط بتوجيه النصح والإرشاد والامتثال للرغبات، والشكوك في قدراته الفعلية في تجنيب سوريا أية كوارث، وكيفية تعاطي الجانب العربي مع التطورات الأخيرة التي عصفت بسوريا؟ وأنه من العبث تماما الركون لهذا الخيار، والاستئناس به على الإطلاق، وفي الذهن والبال، والتاريخ القريب، تجربة الدرس العراقي المرير. ولقد أفرز اللجوء الطويل، والالتزام بالخيار العروبي، في الحقيقة، جملة من السياسات، لم تفضِِ إلى "أمان سياسي" مطلق، ورفاه "قومي" على سوريا بشكل عام، والمواطن السوري بشكل خاص، بل كان الانجرار وراء "الحلم" العربي، والهم القومي سببا لإهمال الداخل، وتعثر الكثير من المشاريع.
وسنورد مثالين عن العام والخاص فيما يتعلق بتباين المصالح، وإجحاف العروبيين. أولا خروج معظم الأنظمة العربية عن الستراتيجية العربية ومبادئها العامة والمعروفة للجميع كالصراع في المنطقة، والمقاطعة، والتنصل الخبيث من معاهدات ومواثيق غربية وأهمها معاهدة الدفاع العربي المشترك، والأنكى من ذلك كله وقوفها بالإجماع، لابل تأييد كل المواقف "الدولية" وبلا أي تحفظ في سلسلة القرارات الأخيرة التي استهدفت سوريا، وكيف ذهب هباء وسدى كل ذاك الجهد والتضحيات في بلد شقيق, وبغض النظر عن بعض الممارسات السلبية التي سادت، وانقلبت الموالاة رأسا على عقب لتؤكد أن المصالح الخاصة والدائمة هي ما يوجه السياسة الواعية والعاقلة. وأما على الجانب الخاص منها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يسمى بمبدأ المعاملة بالمثل بين البلدان التي تتبادل التمثيل الديبلوماسي فيما بينها. ولن نناقش لضيق المساحة العام والكثير منها، ولكن سنورد مثلا بسيطا عن جزئية كانت من تداعيات الالتزام بالسياسة "العروبية" وتطبيقاتها الظالمة، ولنتصور معا، وجميعا، ومثلا واحدا فقط، حجم الكارثة والعار حين يصبح "إعرابي" بالكاد يفك الخط "كفيلا"، ومتحكما ببروفسور و"مخ" سوري عبقري من خريجي أعرق جامعات الغرب، وأندر الإختصاصات، ومحظر عليه ،في نفس الوقت، دخول لهيب الصحراء بدون تلك السلسلة الطويلة من العذاب، والقهر، والتعجيز، والتنكيل، ناهيك عن عشرات الممارسات المماثلة وعلى صعد متنوعة، التي ليس موضعها في هذا المقال الصغير، بينما تفتح لنفس ذاك الإعرابي الهمام الجليل، والنوع الفريد من سلالات الناس، مطارات سوريا، وموانئهاالجميلة, ومدنها الساحرة والضاربة في جذورالأصالة والتاريخ العريق، ويستقبل بكل ترحاب استقبال الفاتحين، بالورود، والأحضان، والرياحين، كل هذا من أجل العروبة، وفرحة العروبيين بذاك الشعار الأغبر العليل.
يأمل كثيرون ألا يكون التلويح بالأعلام السورية والغياب المبارك لعلم البعث والسراب الوحدوي المستحيل تكتيكا هدفه تجاوز الأزمة واستثمار ذلك عاطفيا بما يتوفر لدى المواطنين من حب جم لوطنهم العزيز، وألأ يكون هذا نشاطا مرحليا وآنيا, يتبدل بتغير المناخ السياسي المكفهر، بل استراتيجية مدروسة طويلة المدى تقدّم الهم الوطني السوري على ما عداه من اهتمامات، وأن تطوى صفحة الماضي بكل ما فيها من مرارات، وإيلاء الشارع السوري بمواطنيه جميعا الاهتمام الكافي والمطلوب بعد عقود من الضن، والإهمال، والتقتير، وإن أي تسويف وتنويم هو عودة غير مأمونة للحقول المفخخة بالكثير من الألغام.
هل هي عودة للوعي السوري، ومحاولة للخروج من عنق الزجاجة، ومؤشر على تقدم الخطاب الوطني السوري على ماعداه؟ وحتى ولو كان شعار الأمة الخالدة الطنّان الرنّان الذي كان من نتيجته إهمالا تاريخيا للشأن السوري الداخلي الخاص وتقوقعا في شرنقة عوربة الشعارات، ونسيانا مزمنا للمواطن المبدع الخلاق الذي هو العامل الأقوى الوحيد الذي يعول عليه في نهاية المطاف، وإنه لمن الضرر الكبير، وللجميع، تجاهل تلك البديهيات، والأساسيات.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟