أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -51-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -51-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5143 - 2016 / 4 / 25 - 18:53
المحور: الادب والفن
    


- ما الأمر؟ ما الذي أبكاكِ؟ سأل أحمد.
- لا شيء يا أحمد، لا تقلق، غالباً ما أؤجّل موعد قص الشعر ما استطعت، فقط لأني أكره الذهاب إلى الكوافيرة. أجابت سابينه.
- هل تخافين من شيء ما؟
- لا، لا، لقد مللت من سماع قصة حياة الكوافيرة والتي غالباً ماتتشابه مع قصة حياة زميلاتها في المهنة، فهي خلقت لتكون طبيبة أو مهندسة أو عالمة ذرة لكن سوء الحظ أو البكالوريا أخذها إلى مهنة الحلاقة، تمنيت أن أعثر على واحدة راضية عن مهنتها لكني دائماً أعثر على مغرورات يعتقدنّ أنهنّ أذكى من أساتذة الجامعات، طبعاً لا أملك سوى أن أؤيد وأتعاطف وأصادق على الكلام فرأسي بين يدي إحداهن وفي إحدى هاتين اليدين مقص!
- لكنك لم تكوني عند كوافيرة، بل عند كوافير رجل! هل يزعجك الكوافير أيضاً؟
- أنت لا تفهم أحياناً ما أقصده يا أحمد، دعك من الأسئلة.
- لكنك تحيرينني!
- كنتُ في الماضي أرتدي الحجاب كأي اِمرأة مسلمة، ولأنّني كنتُ محجبّة وأعمل ساعات طويلة خارج المنزل، لم أضطر لزيارة الحلّاقة إلا في فترات متباعدة ومع ذلك كنتُ أكره هذه الزيارة كما أكره زيارة طبيب الأسنان، كنت آمل دائماً أن أعثر يوماً ما على صالون حلاقة أستمتع بالذهاب إليه، وها قد وجدته أخيراً عند رجل...
- ما الذي دفعك لإخفاء شعرك الرائع؟
- اكتشفتُ في العشرين من عمري أنّني أُصِبْتُ بمرض السرطان، لذا قمتُ بحلاقة شعري كله وقدّمته هدية لمركز معالجة السرطان في المدينة كدعم معنوي، الحمد الله أنا الآن بخير.
- هل أنت فعلاً بخير؟
- نعم، ألا تسمعني بين الحين الآخر أتمتم بأغنية "لا يا امرأة، لا تبكي"، للنجم الشهير بوب مارلي؟
- لم أنتبه، عذراً. أنت شجاعة وبطلة، لأنك قهرت السرطان، أُقبّلُ رأسك الحليقة وأُقبّلُ رأسك بشعر رائع، وأقول لك: هذه البشرية ستقهر هذا الداء اللئيم ذات يوم، الإرادة على وجوه البشر تقول أشياء جميلة وتدعو للتفاؤل، أنا نفسي أشارك منذ أعوامٍ ثلاث بالسباق الرياضي الذي يُقام في مدينة آخن لأجل دعم أبحاث السرطان. قال أحمد.
- شكراً لمساندتك يا أحمد، أنت ترفع معنوياتي.

***** ***** *****

"ظاهرة الدكاكين الخاصة في ألمانيا آخذة بالانقراض تحت ضغط منافسة رأس المال، ومع هذا اِفتُتِحَ بالقرب من المنزل الذي يسكن فيه محل صغير وأنيق، فيه ما يلزمك من احتياجات، فيه كل ما ترغب أن تأخذه معك إلى المكتب من أجل إفطار الصباح.
دخلَ المحل كما العادة ذات صباح، لم يجد البائعة ولا ابتسامتها بانتظاره، ماهي إلا دقيقة حتى دخلتْ من الباب الجانبي، اعتذرتْ منه بابتسامةٍ وخدين حمراوين... رمتْ عليّه تحيّة الصباح، غسلتْ يديها وتمتمتْ: لقد دخنتُ سيجارة لتّوي، وأردفتْ: كنتَ قد أخبرتني أنكَ انقطعتَ عن التدخين، كيف استطعتَ ذلك!؟
أجابها: نعم لقد فعلتُ، حدثَ هذا منذ سنتين تقريباً، قراري كان هديتي لنفسي بمناسبة عيد ميلادي، لم أحتجْ حينئذ لنصائح من أحد أو عقاقير لتعويض نقص النيكوتين في جسدي، ثم أضافَ: أتدخنينَ كثيراً في اليوم؟
أجابتْ: أحتاج عشر سجائر في اليوم، أعيش ظروفاً صعبة منذ مدة... سألها: ماذا تقصدين بالظروف الصعبة؟
قاطعته قائلة: لا عليك، ماذا تريد أن تأخذ معك اليوم إلى المكتب؟
طلبَ فطيرة بالجبن، تفاحة وعلبة عصير، دفعَ الحساب وعزمَ على متابعة طريقه إلى الجامعة.
أوقفته، قدمتْ له قطعة حلوى هدية وقالتْ: أدخنُ رغم خوفي من غدر الزمان وإصابتي بمرض السرطان...
قال: لا مُبرِّر للخوف، ما زلت شابة!
قالتْ: خسرت زوجي قبل ثلاث سنوات نتيجة ورم خبيث في عنقه، خدمته أكثر من أربع سنوات إلى أن فارق الحياة.
قال: لروحه السلام.
تابعتْ حديثها: بعد وفاته مباشرة أُصيبَ والدي بسرطان المعدة، تم استئصالها، ما هي إلا أشهر حتى أصيب من جديد بسرطان العظام، اِضمَحَلَّت عظامه، وضعوا له قضباناً حديدية بديلاً عنها، سيموت حتماً، سيموت قريباً! وها أنا أقوم على خدمته أيضاً منذ ثلاث سنوات، يبدو لي أنّه قدري أن أعيشَ مع السرطان! مرض السرطان الخبيث لُغْز كما الإله الطيب... من يعرف مرض السرطان لا يصفه، ومن يصفه لا يعرفه.
أكملَ ما قالته: ومن يعرف الله لا يصفه، ومن يصفه لا يعرفه."

***** ***** *****

- نعم لثقافة التغلب على مرض السرطان... سأناضل لأجل ذلك ما حييت يا سابينه! ليس فقط لأنّك حبيبتي، بل لأنّ للإنسان الحق في حياة خالية من الأورام الخبيثة.
- دعني أُقبّل عينيك الصافيتين. قالت سابينه راجيةً.
- أنتِ حمامة زرقاء في السحب!
- ماذا تقصد يا أحمد؟
- ....

فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها علبة سجائر بولمول، ناولته سيجارة ووضعت في فمها سيجارة، أشعل لها وله، ثم أرخى ذراعه اليسرى على كتفها والسيجارة في فمه والذراع اليمنى تُعانق الهواء وضحك بأعلى صوته...

- ما الذي يُضحكك بهذا الصخب؟
- تذكرت كلمات لشاعرٍ من الشرق اسمه رياض الصالح الحسين.
- وماذا يكتب هذا الشاعر مثلاً؟
- لقد تُوفيَ بعد أن كتب مثلاً: "وأن ألفَّ ذراعي اليسرى حول كتفك، واليمنى حول كتف العالم، وأقول للقمر: صَوِّرْنا!"
- لم تجبني بعد، ماذا تعني حمامة زرقاء؟
- إنّها عنوان لرواية مليئة بالحزن والشجن لكاتب من الشرق اسمه حنا مينه يتحدث فيها عن معاناة المصابين بمرض السرطان. القصة تحكي قصة فتاة مريضة تعاني من ورم خبيث في النخاع الشوكي، يرافقها الأب في محنتها، يسافر بها إلى لندن ليعالجها هناك لكن دون فائدة، أخيراً تعود إلى الوطن لتنام فيه نومها الأخير مستريحةً من عذابها، من آلامها والشلل الذي أصابها...

"غالبا ما يصير الموت استراحة هانئة من وهم الحياة، أو من العيش في الوهم الحياتي، بالموت تتجدد الأمنيات، يعود الجسد للهدوء الذي يحب بعد رحلة تعبٍ وسباق، طوبى لأرواح الرجال والنساء الطيبة التي عاشت صامتة وماتت خرساء في مجتمعات ثقافة الرعب، أصبح الرعب فيها حاضراً في أدّق التفاصيل، طوبى لكل الأرواح الطاهرة التي تغادر محبيها بعد معاناةٍ حقيقيةٍ مع المرض، طوبى لأرواح النساء التي تغادر الحياة أثناء ولادةِ أرواحٍ جديدة، المجد والسلام للإنسان."

***** ***** *****

- لا تكن حزيناً مازوشياً يا أحمد، المازوشية لا تشبهك، هو أُسْلُوب مُبْتَذَل ممارستها والتلذُّذ بها في الغناء، في الموسيقى، في الرسم، في الكتابة، في السياسة، في حب الوطن، في العلاقات العاطفية وحتى في السهرات والأحاديث اليومية. المازوشية عدوة التطور. المازوشية دودة شرقية أصيلة!

"تذكّرت شيئاً، لماذا تعتقدين أنّنيْ كلّي حزين ولديّ بعض من فرِح، أي نعم عنديْ من الحزنِ الكثير، لكنّي لا أعتقد أنّه يفوقُ فرحي، ليسَ هناك منْ يعرفنيْ أكثرَ منّي، لستُ بجاهلٍ لذاتي ونفسي، فلا تحاولين إِقناعيْ بغير ذلك، لا تحاولين التشبّث برأيكِ كعادتكِ، إِنْ أنت ارتأيتِ شيئاً فهو الصواب، هذا ليس صحيحاً خاصّة عندما يتعلّق الأمر بي، لا تظنين أنّكِ تعرفيني أكثر ممّا أعرفني، كما أنني لا أعرفكِ أكثر منكِ، هذا أكيد، فدعِ عنكِ أوهامكِ يا صديقتي وأصغِ جيّداً لما أقول فلست غبيّاً ولا أحمق ولا مدّعي كاذب، الأمر ببساطة: أحبّ الهدايا كثيراً وأُسعدُ بها، هي تعني لي الكثير، إلاّ أنّي لا أملك لغةَ الأدباءِ وفلسفتهم لأوضّح لماذا أحبّ الهدايا؟ لماذا تهمّني الهدايا؟ كمْ أندم على الأشياء التي أُهديت لي، وفي لحظات غضب كسّرتها أو أعدتها أو مزّقتها! كثيراً ما أقرّر إبعاد الهدايا والتذكارات عن مجرياتِ الأحداث، ربّما الآن أستطيع ذلك قليلاً، لن أكسر أو أعيد أو أمزق بعد اليوم أي هدية تصلني مهما كانت... هل تذكرين أنّكِ كتبت لي شيئاً على مفكّرة المكتب؟ عندما غضبتُ منكِ مزّقتها ورميتها، كم أتمنّى لو بقيتْ."

- لستُ مازوشياً، أردتُ فقط أن أقول: القادرون على السرد الأدبي أو السياسي التحليلي للتفاصيل الحياتية بكل أبعادها ومضامينها وربطها مع بعضها البعض دون إضاعة الهدف المراد، هم القادرون على قراءة جوهر الأشياء، هم فلاسفة وعلماء، لا يستحقون منا إلا الاحترام ورفع القبعات عالياً.
- وهل يحتاج الورم السرطاني إلى رواية طويلة؟ ألا تكفية قصة؟ إذا استطاع شخص ما أن يجعل من رواية ما قصة قصيرة، حينئذ لا لزوم للرواية. كما قال الكاتب الأمريكي إرنست همينغوي.

- نعم، أعتقد معك حق، ربّما ينبغي على الروائي أن يشتغل على روايته طويلاً جداً إلى أن تصبح قصيرة كما ينبغي، لعله يستبدلها بقصة قصيرة. القصة القصيرة رصاصة، تصيب الهدف أسرع من أي رواية. هذا ما يقوله كاتب شرقي اسمه يوسف إدريس. بهذه الطريقة يتم حذف كثيراً من الروايات الملأى بالحشو. لكن هذا ما يتطلّب عبقرية أدبية ما زالت غير متوفرة في الأسواق الشرقية. أو لعلّها متوفرة لكن لا سوق لها أو مغمورة لألف سبب وسبب، ليس كل ما تطبعه دور النشر في عهد الدكتاتوريات هو الأجدر، ليس كل ما تسوِّقه أسواق الأدب في الشرق هو الأرقى...

- تستطيع القصص القصيرة الجيدة أن توفر، بشكل خاص للتلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات، مدخلاً رائعاً وواضحاً للولوج إلى عالم الأدب والإحساس بالمعاناة والمرض. قالت سابينه.

- ثَمَّة أمر لابد من ذكره وهو أنّني قرأتُ تقريباً معظم أعمال هذا الروائي الكبير، حتى روايته المُسمّاة المرصد. لكنني ومع هذا لا أعتقد أنّه سجّل التاريخ الحقيقي للحياة السياسية والاجتماعية في وطنه... لكنه كان الأكثر موضوعية على الأرجح، لم يكتب عن إيجابيات التواجد الفرنسي في وطنه مثلاً! أعتقد أنّه لم يستطع التعاطي بجرأة مع هذه القضية بحكم منبته السياسي والحزبي. لا أفهم كيف يكون الأديب مُتحزِّباً! لولا فرنسا لما تأسّست في بعض بلدان الشرق إدارة ومشروع دولة ومدارس وشوارع وأبنية خلّابة، وجودها في الشرق سرّع نمو العلاقات الرأسمالية، خلق نوعاً من درجات التطور الاجتماعي التي ما زالت سائدة حتى الآن... لقد بكّر الفرنسيون كثيراً في الخروج من بعض بلدان الشرق! يقول بعض النقّاد.

***** ***** *****

- آه كم تتعبني يا أحمد، ما علاقتي أنا بكل ما تهذي به، ها قد وصلنا إلى محطة القطار آخيراً، سافر الآن إلى آخن، سنلتقي يوم السبت.
- أتمنى أن أبقى معك قليلاً.
- لا، لا يا حبيبي لا وقت لدي، انظر إلى لوحة مواعيد السفر! سينطلق قطارك بعد ثلث ساعة من الآن.
- لكني تمنيت أن أرافقك الطريق إلى محل ألدي لشراء غلّاية القهوة! ثم أنّ معظم أشيائي ما زالت لديكم.

***** ***** *****

"وصلا صباحاً إلى أحد محلات ألدي لشراء ما يلزمهما لتناول الفطور في مكتب العمل، ولأنهما محكومان بالوقت، وبسبب نزقها الصباحي غريب الأطوار، فضّلت انتظاره قرب المخرج، دخل مسرعاً، اشترى ما أحتاجاه، وضع حاجياته التي تسوّقها في السوبر ماركت ألدي على السير النقّال ووقف ينتظر دوره كي تقرأ محاسبة الصندوق أسعار ما اشتراه ليدفع الفاتورة. خلفه ازداد عدد المنتظرين، أمامه وقفت إمرأة ألمانية ستينية مضطّربة، تبدو عليها معالم العَوَز واختلال الحالِ، في يدها اليسرى المفتوحة ثَمّة قليل من نقود معدنية، يقترب رأسها من كفها المفتوحة وبأصابع يدها اليمنى تُجري عملية العَدّ، كانت قد اشترت أكثر مما احتاجت، بالأحرى أكثر من قدرتها الشرائية.
طلبت المحاسبة المُهَذَّبة منها بلطفٍ أنْ تعيد بعض ما اشترت كي يصبح بإمكانها دفع نقود فاتورتها دون زيادة أو نقصان. وافقت المرأة الشارية على إعادة علبتين من الشوكولا، وعلبة مربى صغيرة. اكتشفت المحاسبة أنّ الفاتورة مازالت ناقصة، تماماً خمسين سنتاً. زاد اللَّغَطُ بين المنتظرين، المحاسبة تضغط على زر صوبها تطلب به من زميلتها فتح صندوق محاسبة إضافي كي تخفف من ضغط الانتظار.
اِمتَعَضَ الشاب المنتظر لدفع فاتورته، نظر إلى ساعته، الوقت يمضي، اقترب موعده، رفع صوته قائلاً: ألا يستطيع السيد ألبريشت مالك شركات ألدي، الرجل اليَهوديّ الأغنى في ألمانيا أن يهدي السيدة الخمسين سنتاً المتبقية من الحساب؟ لمّ لا يُخصِّص هذا السيد في كل فرع من فروعه المنتشرة في كل قرى ومدن العالم والبالغ عددها أكثر من عشرة آلاف، صندوقاً للتبرع في مثل هذه الحالات؟
ساد الصمت بين المشترين المنتظرين، احمرّت وجتنا الشابة المحاسبة، توقفت السيدة الستينية عن عَدّ نقودها، خفّف الشاب المنتظر لهجته قائلاً للمحاسبة: عذراً أنا لا أقصدكِ شخصياً بل أقصدُ هذا الرجل العجوز ألدي، عليه أن يستحي!
هنا ودون سابق إنذار ودون مبرر غادرت صديقته السوبرماركت، في هذه الأثناء حاولت الستينية إعادة ربطة خبز رخيصة، أوقفها الشاب، مد يده لجيبه، دفع عنها النقود المتبقية، نظر إليه المنتظرون والمنتظرات بدهشة، وَضَّبَتْ الستينية حاجياتها في عربةِ الشراء وتمتّمت بكلمات لم يفهمها، ودعتْ وذهبتْ.
حَضَّرت المحاسبة فاتورته، وضع ما اشتراه في كيس، دفع الحساب ومضى باتجاه سيارته، هناك انتظرته صديقته الشابة، كانت تراقب ما حدث، نظر إليها آملاً سماع كلمة إطراء، تفأجى بتقاسيم وجهها الغاضبة، فتح باب السيارة وسألها عن سر اِمتعاضها: نظرت إليه ولم تجبْ، كرَّر سؤاله فأجابت: ما فعلته لا يفعله رجل ينتمي لهذا المجتمع، لا تملك الحق بالتدخل والاعتراض، ما حدث ليس من شأنك...
أشعل سيجارة اِسترخاء ليأخذ وقته بالتفكير، كان حزيناً لردة فعلها، فجأة تقترب السيدة الستينية منهما مُتردِّدة بعض الشيء، ذراعها اليمنى ممدودة إلى الأمام وأصابعها مغلقة بإحكام كأنها تقبض على شيء ثمين، خاف الشاب من حركتها المفاجئة، ابتعدت صديقته خطوتين إلى الوراء، خاطبها دون أن يسمع منها شيئاً، أرجوكِ يا سيدتي اِمضيْ في سبيلك، أنا لا أحتاج ما دفعته لك، فعلتُ ذلك بطيبةِ خاطرٍ...
نظرتْ إليه بعيونِ راجيةٍ قولَ شيءٍ، سكتَ، تمتمتْ شيئاً جميلاً، دعتْ له بالخير، صديقته الشابة تراقب المشهد المسرحي بحذر، فتحتْ السيدة أصابع يدها، استراح في كفها شيء أحمر قانئ يشبه القلب، بل كان فعلاً قلباً بلون أحمر، أمام دهشته تراجع خطوة إلى الوراء، حسبها مجنونة تريد عرض نفسها للزواج، كما هي العادة في تلك البلاد!
قالت: هذا القلب يرافقني منذ بضعة سنين وقد نذرته هبةً لمن يفعل شيئاً كريماً لي، هو عزيزٌ على قلبي، إنْه جالبٌ للحظ، أرجو أن تقبله هديةً مني، وإذا ما أصابك حدث ما، أنظر فقط إليه، ليزول عنك الحُزْن والغمّ، تراجعَ عن الخطوة التي تراجعَ بها بل زاد عليها خطوةً إلى الأمام فتحَ يده اليمنى، انسكبَ قلبها الخشبي الصغير في يده، اقتربت منه بحذر، ضمّها إليه، ووَدّعها...
نظرَ إلى عينيّ صديقته الدامعة بعتبٍ، أحسّ بندمها، اقتربتْ منه، عانقته، اعتذرتْ منه هامسةً في أذنه: أعجبني موقفكَ أمام صندوق المحاسبة، حسدتكَ في سري، تمنيتُ لو كنتُ مكانك، لم أرغبْ أن تكون بسلوكك أفضل منا، لكن هذه هي تربيتنا، سامحني."

***** ***** *****
 -;-
أشعل سيجارةً ليأخذ وقته بالتفكير، كان حزيناً لردة فعلها، نظرَ إلى عينيّها الدامعتين بعتبٍ، أحسّ بندمها، اقتربتْ منه، عانقتْه، اعتذرتْ منه هامسةً في أذنه:
"لا تحزن يا أحمد، أنا متعبة وأنت عليك السفر إلى غرفتك وعملك ودراستك، سنلتقي قريباً، لماذا تشعر بالإهمال وبأن الآخر يبتعد عنك!؟ لا تخف من الظلمة، نحن نقف بالقرب منك! ألا تشعر بنا؟ لا تعرف كم أنا فرحة لرحلة لندن، سنكون معاً الوقت كله."

- من تكونين بحق الشيطان؟ ما هي قصتك يا سابينه؟ لا أعرف شيئاً عن حياتك!

- لا تفكر بحياتي وقصتي طويلاً، أنا لستُ إلّا أقل من اِمرأة بسيطة تحلم بالحب والسعادة، في كل الحالات قررتُ أنْ أخبرك شيئاً عني، لكن ليس شفاهيةً، فهذه نقطة ضعفنا، بل كتابةً فهذه مكمن قوتنا، لا نستطيع أن نتكلم قبل أن نفكر بما سنقوله، التفكير يَتَطَلَّبُ الوقت لأنّه الطريق الوحيد إلى المعرفة، "في التفكير تكمن الخطورة كلها" كما تقول فيلسوفتنا حنة آرنت، الشرقيّ وحده من يتكلم دون أن يفكر بما يُريد قوله، الشرقيّ يهاب التفكير، لم يتعلمه... كن صبوراً معي يا أحمد، ستجد رسالة طويلة عني في صندوق بريدك، سيحدث قبل موعد سفرنا إلى لندن، أعدك بهذا.

تناولت سيجارته من بين أصابعه، سحبت منها نفساً إلهياً، أعادتها إليه، ضمّت أصابع يدها اليمنى لتصير إسطوانة تخزين، قربّت قبضتها من فمها، نفختْ في داخلها دفء قلبها و رمتْ قبضة يدها، خزان حرارة قلبها باتجاهه، ثم قالت: هذه لك، اِلْتقطها، سأحبك دائماً.

عانق أحمد رأسها و وجنتيها بين كفيه القويتين، قبّل شفتيها وهمسَ لها: إلى اللقاء يوم السبت، سأشتاق إليك.

استوقفته، فتحتْ حقيبتها اليدوية، تناولتْ منها عدة علب سجائر بولمول، وضعتها في كيس ورقيّ أنيق، قدمتها له وقالتْ: خذها مني أرجوك، ستحتاجها في الأيام القادمة...



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -50-
- حدث في قطار آخن -49-
- حدث في قطار آخن -48-
- حدث في قطار آخن -47-
- حدث في قطار آخن -46-
- حدث في قطار آخن -45-
- حدث في قطار آخن -44-
- حدث في قطار آخن -43-
- حدث في قطار آخن -42-
- حدث في قطار آخن -41-
- حدث في قطار آخن -40-
- حدث في قطار آخن -39-
- حدث في قطار آخن -38-
- حدث في قطار آخن -37-
- حدث في قطار آخن -36-
- حدث في قطار آخن -35-
- حدث في قطار آخن -34-
- حدث في قطار آخن -33-
- حدث في قطار آخن -32-
- حدث في قطار آخن -31-


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -51-