أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسان خالد شاتيلا - جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية















المزيد.....



جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية


حسان خالد شاتيلا

الحوار المتمدن-العدد: 5043 - 2016 / 1 / 13 - 15:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



                              مـــقــدمــــة ثــانـية
                        ســـتاتـيــــس كـــوفيلاكيــــس
                             Stathis Kouvélakis                             
                              حســـان خــالـد شـــاتـيـلا
        جـــورج لابــيكـــأ، شـــخصــيته الســـياســـية والنظـــريــة
            Georges Labica, un profil et politique           
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
          جـــورج لابــيكـــأ، شـــخصــيته الســـياســـية والنظـــريــة
   Stathis Kouvélakis                               
                             ســـتاتـيــــس كـــوفيلاكيــــس
                              حـســـان خــالــد شـــاتيــلا   
            
"فيلسوف"، "مناضل"، "ماركسي" و"شيوعي"، ملتزم بلا هوادة بالنضال ضد الاستعمار والإمبريالية، وبقي وفياً لهذا النضال أسوة بنضالاته في غير هذين الميدانين وفي كل مجالات الصراع، ومنها بوجه خاص بأزمنة الأزمات الثورية والانقلابات الحزبية والنقابية التي كانت تجتاح فرنسا منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي. كلّ ذلك يجتاح الوعي عندما يأتي ذكر لاسم جورج لابيكا.  بل وإنه تمثَّل كل ذلك في وقت واحد. هذا، وإن من البديهي أن سيرته الذاتية، ومنها بوجه خاص "مرحلته الجزائرية"، فريدة من نمطها، وتَسجِّل له تفرُّده عن غيره من أساتذة الجامعة الماركسيين ما بعد الحرب العالمية الثانية. إننا سنعود إلى ذلك لاحقا. بالرغم من ذلك، فإن نموذجه ومثاله الأعلى الأخلاقي والنضالي، بالإضافة إلى "فكره المُعاش بمعاناة"، على حد تعبير حورج لوكاش في تصريحاته الصحفية التي يتحدث فيها عن سيرته الذاتية وكتاباته، تستدعي التوقف عندها لأهميتها وخصوصيتها. إن مفردات هذا الامتحان والتفحُّص شَغَلَت أندريه توزيل André Tosel عبر ما كتبه عن جورج لابيكا: "إن البعض سلَّط الأضواء على نقده للفلسفة، دون أن يحظى منهم باهتمام جدِّي، وذلك في ما كان البحث الفلسفي خلال القرن الماضي يتَّسم بابتعاده عن كل بناءٍ لنظام النظري. إنها لَمسألة تستحق النقاش مع الأخذ بعين الاعتبار تلك المكوِّنات التي تُقِيم بالصمت دون أن تبارحه". إن توزيل على هذا النحو يُقَدِّمُ بعض هذه المكوّنات الجوهرية: فإذا كان لابيكا لم يُنتِج "فلسفة"، حسب مفهوم سارتر ودولوز عنها، أو نظام نظري حسب مفهوم بورديو وهبرماس، إلإ أنه لم يكن بالمقابل ذاك الفيلسوف المضاد النقيض للفيلسوف، على غرار أطروحته التي تدافع عن "الخروج من الفلسفة"، أو من خلال بعض أفكاره التي توحي للفكر أن مقاربته للفلسفة لا تخلو من "ميتافيزيقا فلسفية"، على غرار هنري لوفيفر الذي يتحدَّث عن "فلسفة لابيكا"  "المتفتحة نحو تحوُّلات في المجالات المعرفية والميادين السياسية".
 
ما معنى "الخروج من الفلسفة"
ستحاول المدَونات اللاحقة أدناه أن تعمِّق فكرة "الخروج من الفلسفة"، وتتابع أيضا بعضا من تطبيقاتها: إنها من حيث أسلوبها (خارج كل نظام فلسفي، وهي أقرب إلى محاولة البحث منها إلى الدراسة، أقرب إلى المداخلة/ المجابهة، أقرب إلى العمل الجماعي منها إلى الكتاب والنظام الفلسفي من حيث أسلوبها، الأقرب إلى أساليب الإرشاد، الأقرب إلى الاستهزاء منها إلى التحليل الدقيق، الأقرب إلى الأسلوب الغنائي وشراراته المضيئة، الأقرب إلى الإرشاد الذي يأتي لتوحيد المنظور الآتي من الزمان وألعاب المصارعة)، فإن أعماله مستعصية على الفهم ما لم تنطلق من هذه الفكرة الأساس، ألا وهي "إن الفلسفة تفتقد إلى الموضوع الخاص بها". إنها ليست "أنطولوجية"، وليست أيضا "مفهوما لعالم النظام الفلسفي او المعرفي،   ليست "فلسفة البراكسيس"، ليست "نظرية الممارسات النظرية"، ليست "صراعا للطبقات من خلال النظرية"، أو حتى احتياطي لإنتاج "المفاهيم". إن مقولاتها ليست سوى "مفاهيم إرشادية"، أو "مفاهيم محدودة"، وليست مجموعة من المقولات ذات الاستقلال الذاتي والتي تزعم لنفسها أنها ميتافيزيقا العلم. إنها مفاهيم تحوز على الموضوعات ذات الصلة بميادين المعرفة لكي تُغَيِّرها، و"تقسِّمها". إن أعماله تُدْخِلُ المفاهيم الإرشادية أو المفاهيم المحدودة  إلى ميدان القوى المتصارعة كي تَكشف عن رهاناتها، او كما يقول فريدريك جامسون، تُدخل هذه المفاهيم في "اللاشعور السياسي"، وتحرِّر الطاقات الاحتياطية من المعرفة.
إننا ندرك بلا شك لماذا يظهر هذا "الخروج من الفلسفة" Ausgang ، باللغة الألمانية  الذي كان ماركس وإنجلز أعلنا عنه متن "الإيديولوجية الألمانية"، والذي يعود إليه لابيكا في عمله "الموقع الماركسي للفلسفة"، هو أقرب ما يكون إلى المقاربة "الميتافيزيقية الفلسفية" حسب طريقة هنري لوفيفر، منها إلى كل ما تقدَّم من التعريفات/المواقف الواردة أعلاه، ومن أكثرها اقترابا من التعريفات التقليدية، وأكثرها معادات للأيقونات، والتي تصب كلها في نهاية الأمر في إعادة إصلاح الميزة المفرطة للفلسفة وهي تزعم لنفسها أنها الأساس، وأنها منفصلة عن "البراكسيس". مقابل كل ذلك، وعلى نقيضه، فإن الخروج من الفلسفة" يَمْثُلُ من حيث هو طريق غير مرسوم مسبقا، والذي يُرجَع إليه دوما، ليس بمعنى "العودة لدى هيدجر، وطريقه عبر الغابة والذي لا يقود إلى أي مكان، وانفتاح نحو الوجود غير القابل أبدا للإدراك، والذي يَخضع للممرات المؤقتة التي تفتقد للغائية، أو لما يسميه لويس التوسير "الهروب الشاعري" إلى حيث "الميتافيزيقا"، والذي يؤدي في جميع الأحوال، شئنا هذا أو أبينا، إلى الخاصية الرئيسة التأملية للفلسفة. إن الطريق إلى ميتافيزيقا الفلسفة يختلف عن الممرات المرسومة بصورة مسبقة، بيد أنها بالرغم من ذلك تبدو هشة، وتكثر عبرها حوادث الاصطدام، وتمزُّق العجلات، وهي ممتلئة بالحفريات الداخلية/الخارجية التي تلازم الحقل "الفلسفي" الحضري. ممرات متَّجهة بالرغم من ذلك كله نحو جهة ما بعينها، وهي معدومة المعنى، وإن كانت متَّجهة نحو "الخروج"، حيث الفلسفة التي تَقمع التاريخ، البراكسيس والسياسة، ولكنها مع ذلك مستعصية دوما عن حيازتها بصورة مباشرة. وبانتظار الوصول إليها، فإن ممرا جديدا للخروج من الفلسفة يفرض نفسه، في ما هو يعود إلى نقد التحوُّلات التي تطرأ على المفاهيم التأشيرية المحدودة.
على نقيض من كل المحاولات الرامية الى العودة نحو تأسيس جديد للفلسفة، بما في ذلك تلك التي تُسمَّى الفلسفة الماركسية، فإن هذه المحاولات عبر طريق الفلسفة ترسم خطا مزدوجا للحد الفاصل: إنها وضعية علمية تتطلع إلى التخلي عن "المقولات إلا ما يبقى منها من حيث هي إرشادات ومؤشِّرات"، فتقمع بالتالي "ميدان القتال "الفلسفي. أي إنها تقمع مرسى العلم في الممارسة الاجتماعية التي تعاني، في نهاية المطاف، من الرهانات السياسية. إلا أنها تَقمع أيضا "السياسوية"، من حيث هي إفراط في السياسة كعلم، أي علم البروليتاريا حسب جدانوف، ما دامت السياسة لا تعمل في حيِّز السياسة ما لم تتوسط "المقولات التأشيرية" في الحقل العلمي، حيث يوجد هنا الخروج من الفلسفة، أو حيث يوجد هنا إفراط في تضمين الفلسفة معنى سياسيا باعتبارها صراع طبقي بالنظرية، حسب ما يذهب إليه ألتوسير. هذا التضمين الذي يعيد للفلسفة تفوقها الكامل، ما دام الصراع الطبقي لا تُدرك حقيقته إلا عبر الفلسفة. لذا، فإن الخروج من الفلسفة لا يقف فقط عند حدود القطيعة الحاسمة، وإنما هو يستدعي، علاوة على ذلك، فهمَاً جديدا لحدود القطيعة، واستيعاب ما تحمله القطيعة معها أو ما تعنيه من تأخير وراء السياسة وصراع الطبقات، وهو ما تكتمه الفلسفة، قبل أن تستعيده بصورة متسلِّطة. إن الفلسفة بهذا المعنى لا وجود لها بالمعنى الماركسي للكلمة إلا بحدود الخروج من الفلسفة من أجل قطيعة لاحقة. قطيعة لها لأنها متسلِّطة،  قمعية لا تعترف بالصراع الطبقي. هذا يعني أن ممارسة الفلسفة ممتنعة، فمكسيميليان روبسبيِّير من حيث هو نموذج مثالي لممارسة الفلسفة، ليس بالتالي ماركسيا، لكنه يعمل في الفلسفة عملا يُدرك ما هو خارجي بالنسبة إليه، عبر الشرخ الداخلي الذي يدخل إلى الممارسة السياسية قبل أن تتحول إلى فكر. هذا العمل (الإحداثي المتغيِّر، المتناقض، المتحوِّل، من حيث هو صيرورة) يُعرَف بتسمية المادية. إنه بصورة أكثر دقة، من حيث شكله المنجَز بأفضل صورة، تفتُّحٌ للمادية المتمركسة، حتى وإن أدَّى، علي خير وجه،  تضامنَه مع الماديات الفلسفية، التي تقع تحت سيطرة المثالية.
معنى الثورة المعادية للاستعمار:
مما لاشك فيه أن هذا الطريق نحو الخروج من الفلسفة إلى التاريخ (والإحداث بلا مفاهيم مستقلة عن حركة الواقع) ضيِّقٌ. بل وإنه أكثر من ذلك: باستثناء اللحظة الميتافيزيقية الفلسفية لدى هنري لوفيفر، فإن الماركسية الغربية بأجمعها تلتزم الصمت حيال هكذا طريق فردي وأحادي. علما أن صمود لوفيفر نفسه أمام إغراءات العودة إلى الفلسفة غير مؤكَّد، وأن القطيعة ما بين الفلسفة والميتافيزيقا الفلسفية غير مؤكد أيضا. هذه المقولة لدى مؤرِّخ "الماركسية الغربية" بيري أندرسونPerry Anderson  تشمل أيضا تكوينات الماركسية السوفياتية التي كانت تدافع عن القطيعة ما بين النظرية والممارسة، وترفض بالتالي الوحدة المتَّصِلة بينهما، والتي كان انتصار الستالينية يرسي لها. ف/"الماركسية الغربية"، على نقيض من الماركسية الكلاسيكية لدى القادة الثوريين الروس والألمان خلال العقود الأولى من القرن العشرين، منهم لينين، تروتسكي، بوخارين، وروزا لوكسمبورغ، إلخ.. تتقلَّص الفلسفة، بما في ذلك الفلسفة وعلم الجمال، لتنحو في حيِّز غير بعيد عن "الإيديولوجية الألمانية" التي كانت موضع نقد من ماركس وإنجلز، لتعوِّض ما كانت خسرته من الانفصال عن الممارسة السياسية، ولتتجنَّب في نفس الوقت نقد الاقتصاد السياسي والتجارب في حيِّز صراع الطبقات. لابيكا لم يكن راضيا عن هذه الصيغة لبيري أندرسون. كان يرى أنها تثير الشكوك حيال "ماركسية قطار الأنفاق"، والتي عرَفَت كيف تدافع، تحت القشرة السميكة المنتصرة لثنائية المادية التاريخية والمادية الجدلية، عن حيوية المادية التاريخية وخصوبتها. بالرغم من ذلك، فإن لابيكا يَفْصُلُ أعماله بصورة قاطعة عن "الماركسية الغربية" لبيري أندرسون، على مسار واحد على الأقل، ألا وهو ماركسية ترفض مقولة "التمركز الأوروبية"، وكَتْم مسألة الاستعمار، وكأن أنطونيو غرامشي وجان بول سارتر هما استثناء عن القاعدة كما يرسمها أندرسون. هذه المسألة تتقاطع إلى حد عظيم مع "الموقع الماركسي للفلسفة".
يَكتب جورج لابيكا في معرض دراسته لمقدمة ابن خلدون: "ثمة أناس يتمتعون بميِّزة لا مثيل لها، لأنهم يَجمعون في وقت واحد بين كونهم صانعي زمانهم والمعبِّرين عنه. إن هؤلاء يفعلون ويعرفون كيف يعبِّرون عن أعمالهم، ليس فقط على صعيد الأحداث، وإنما على صعيد الأسباب العميقة التي يتحدثون عنها في اكتشافاتهم (...)  إن هذا السياسي يتقِن التحليل، وهو فيلسوف. فوراء ما تتركه الأحداث من غبار، تراه يدرِك القوانين التي تندرج برؤيته، ليكون على هذا النحو شاهدا على قيمة المنهج الخلدوني الذي ما يزال حتى غاية اليوم يثير لدينا مشاعر الإعجاب. لعل لابيكا يرسم هنا الخطوط العريضة لشخصيته، أو بالأحرى التعبير عن حياته المختارة عمدا ،هو كجورج لابيكا. الجوهري في الأمر ليس هنا. ليس من الصعب أن نرى في حقبته الجزائرية، وفي أعماله بصورة عامة، تجربة الصراع ضد الاستعمار: إن دراسة كبار المفكرين من التقليد العربي الإٍسلامي، مقدِّمة  ابن خلدون وابن طفيل، تندرج في سياق وحدة مزدوجة: الفلسفة من جهة، والمنهج التحليلي الذي يهدف إلى دراسة التاريخ، الإنسان ومجتمعاته، فضلا عن البحث النظري والممارسة، والمشاركة المباشرة للمفكر في البراكسيس السياسي وزمانه.
حيث تلتقي الإيديولوجيا والممارسة السياسية، وهما في بداية التحرر من الدين، فإن الإيديولوجيا تَمْثُلُ من حيث هي قوة فعالة، قوة ذاتية مؤسِّسة للنظام السياسي. إن الإيديولوجيا هي التي تحتل حيزاّ مركزيا في دراسته لمقدِّمة ابن خلدون. فكاتب المقدمة يدافع عن فكرة مؤدِّاها "أن العصبية تدافع عن نفسها عبر التلاحم الإيديولوجي الذي يشكِّل تكوينا ضروريا لا بد منه لتشييد القوة السياسية: هذا هو الدرس المستقى من التاريخ. هنا تكمن خلاصة لتأسيس الدولة الإسلامية. خلاصة تُتَرْجِم ماهية الدينامية الاجتماعية، أي: "تجديد الفعل المُحَمَّدي". فعلٌ يراد منه توفير القوة، يَنجم عن التلاقي بين قوتين اثنتين، تضامن عضوي اجتماعي من جهة، ما دام موجودا في ميدان متنازع عليه، والدعوة النبوية من جهة ثانية، وهي من نمط سياسي ديني يتوق إلى التجسُّد عبر جماعة مناضلة. فلنشبه العصبية ب"عقل الحزب". العصبية، وليس التحليل الاجتماعي التاريخي حسب ما يزعمه المادِّيون.
يُسْتَشَفُّ ما وراء دراسة لابيكا للمقدِّمة دراسة لويس ألتوسير لماكيافيللي، أو إن الأولى منهما تذَكِّرنا بالثانية. ماكيافيلي ألتوسير دراسة تحتل منتصف الطريق ما بين مفهوم التموضع، وعلاقته المرتبطة بصورة وثيقة بالإيديولوجيا من حيث هي نقيض للعلم الذي كان ألتوسير يدافع عنه، أو من حيث هي صيغة ذاتية وإن كانت بنتائجها وثيقة الاتصال من حيث أوجه الشبه بسوء الطويَّة لمن كان يريد أن يراها بهذه الصيغة، كالغطاء الذي ينزل على الواقع لتجميله. هذا الدرس الذي يقود بصورة مباشرة إلى اللاهوتي السياسي، علم وبراكسيس السياسة، إنما يندرج في أفقَ بعيد عن التمركز الأوروبي على الذات، ليندرج في أفق الإنسانية المناضلة ضد البربرية الكولونيالية، وفي حيِّز ثقافي وجغرافي متمدِّد، وهو، من حيث أُسُسِه، بعيد كل البعد عن الغرب الإمبراطوري. الأمر الذي يستحق أن يُقارَن التحليل السياسي الديني لأعمال ابن خلدون وابن رشد، حيثما هو موجود عليه في دراسات المفكرين العرب والمسلمين، حسب دراسة لابيكا لهم، بتلك التي كان المختصُّون الماركسيون بسبينوزا بدأوا بإنتاجه في نفس الوقت تقريبا: بالرغم من التقارب ما بين مشاغل الطرفين، فإن دراسات لابيكا تختلف إلى حد كبير عن مفهوم الإيديولوجيا كخيال أو مُتَخَيَّل يَستولي على الجماهير الجاهلة من خلال الإيديولوجيا، دراساته إنما تختلف عن درسات ماكيافيلي وسبينوزا، والتي تتعارض مع المعرفة العقلانية، وتولِّد بصورة ذاتية مجريات الواقع.
لدى لابيكا ما هو بالفعل استثنائي: هو وحده من بين المثقفين الماركسيين الفرنسيين، بل والأوروبيين أبضا، أو من هم من أصل فرنسي وليسوا من المستعمرات الفرنسية، باستثناء فرانس فانون، هو وحده الذي كان يشارك بصورة مباشرة، وعلى مستوى عالٍ نسبيا من المسؤوليات، سواء في النضال ضد الاستعمار، في أعلى مستوياته، أي مسؤولياته في "جبهة التحرير الوطني الجزائرية"، سواء خلال السنوات الأولى من حياة الدولة الجزائرية الفتية، وهي الفترة التي غاليا ما أهملت خلالها  أعماله، حيث عُهد إليه بمهمات ذات صلة بجبهة التحرير، وإن كانت في نفس الوقت لا تخلو من التناقضات: تأهيل القيادات، متابعة انزلاق المسيرة الثورية، وخيانة ما انفكت تتعاظم للأمنيات التي كانت سائدة أيام الاستعمار الفرنسي، بالإضافة إلى تلك التي اكتُسِبَت تاريخيا، وهي ذات صلة وثيقة بالاستقلال. فإذا كان سارتر خلال الستينات من القرن العشرين يُمَثِّلُ بكل توكيد لحظة عليا في درجات الوعي المناهض للاستعمار بين المثقفين الأوروبيين ما بعد الحرب العالمية الأولى، وإذا كان سارتر يحاول في نصوصه عن الاستعمار، والعنصرية، وفي "نقد العقل الجدلي"، أن يفكر نظريا بالتجارب حول السيطرة الكولونيالية، والنضالات في سبيل التحرر، فإن مواقف سارتر لا تعدو كونها مواقف المراقب، المنحاز بكل توكيد، ومن حيث هو وريث التقليد الغربي. أما مسار لابيكا الشاب، فإنه يتكون في ما كان التحرر من الاستعمار يجتاز مرحلة هي من أهم مراحله الزمانية. لابيكا، كان عمره في العام خمسين من القرن الماضي، عشرين سنة.  وَجَد نفسه ما بين شاطئي المتوسط، مدينة نيس الفرنسية من جهة، ومدينة الجزائر من جهة ثانية. أي أنه وُجِدَ في صميم الحيِّز الإمبراطوري الاستعماري الفرنسي وهو في ذروة الإجرام. إن المعنى من وراء هذا الاستثناء جدير به أن يذكر بأحرف من نور، لا سيما وأن الثقافة الفرنسية، شأنها شأن غيرها من ثقافات القوى الاستعمارية، تندرج من حيث أُسًسِها في سياق من المكان/الزمان الكولونيالي الإمبراطوري. فلابيكا يمثِّل، بتعبير آخر، الماركسية والشيوعية الفرنسية، ما قبل وما بعد الاستعمار، بصورة تتجاوز المرحلة الجزائرية بحدودها الزمانية/المكانية: هذا هو المقياس الواسع الذي تقاس بالنسبة إليه أعماله مجتمعة، مقياس يُشَكِّل  "لخروج من الفلسفة" مركزها الحيوي.
شمولية اللينينية
يَنتُج عن كل ذلك: أن مقاربة فلسفية/غربية أوروبية، على مثل هذا المستوى من التشدُّد بما يتعلق بالمقتضيات الضرورية للبحث والدراسة، تواجِه لأول مرة حدثا تاريخيا اسمه لينين، وذلك منذ محاولات كل من ألتوسير ولوفيفر. ها هنا يجدر تفنيد مقولة "الماركسية الغربية" لصاحبها بيري أندرسون، والتي يحتل فيها كلا من جورج لوكاش وأنطونيو غرامشي موقع المؤَسِّس، والتي تأتي كنقيض "للماركسية الكلاسيكية"، حسب مفهوم أندرسون لتلك الغربية، أو كنقيض ل/"ماركسية شرقية لا على التعيين"، أي نقيض لماركسية لينين، البلاشفة، والأممية الثالثة التي تتسع بمكان واسع للوكاش وغرامشي. ماركسية شرقية، من المفترض أنها تُمَثِّل البربرية، التخلُّف، والأسيوية، حسب المفهوم الليبرالي للماركسية الأوروبية، بالقياس إلى تلك المفترض أنها شرقية. في الواقع، إن لينين إذ هو يستطيع أن يعيد كتابة ما سبقه إليه سابِقَيّْه ماركس وإنجلز، فلأنه يضعها في وضع ليس هو وضعه بالذات، وضع خارجي بالنسبة إليه، وضعٌ، بتعبير آخر، مفارقٌ من حيث الأمكنة/ الأزمنة/ التواريخ، بما يتيح له إطلاق العنان بحرية لطاقته وشموليته.
 
الماركسية والخصوصية
إن لابيكا يتطلع إلى تجديد ما كان لينين أعاد تأسيسه. ولا غرابة في الأمر ما دامت الأعمال الأولى للابيكا عن لينين تأتي في مرحلة تتلاقى فيها المرحلة الجزائرية للابيكا بالسنوات التي كانت ترافق عودته إلى فرنسا. ها هنا يتكون محور المشاغل الأبستمولوجية (نظرية المعرفة)، الفلسفة، والمشكلات الاستراتيجية للسياسة، وفهم للإمبريالية في أبعادها العالمية، وفي فهمها للخصائص القومية، والتي تتيح توحيدها في محور واحد. إن لينين، على حد قول لابيكا، في سلسلة من النصوص الرئيسة التي تتناول مسألة الخصوصية، والتي تأتي أيضا كاستمرار مباشر لأعماله في ما يتعلق بالمفكرين العرب والمسلمين، تقدِّم نموذجا لما هو المعقول الجلي الواضح للخصوصية القومية. نموذجٌ، وإن كان ما هو خصوصي، والخاص، أبعد ما يكون عن الانطواء على ذاته للتحوُّل إلى تَفَرُّد غير قابل للتغيير والقهر، فإنه يقود إلى الشمولية بحيث يظهر  مما هو شمولي مجسَّد، نمطا للإنتاج الرأسمالي في طور التحول إلى نمط شمولي، والتي تبدو فيها مفاهيم ماركس وإنجلز بمثابة المفاتيح. ذلك إذا ما توفَّر شرط واحد، ألا وهو أن يعاد تجديده وتطويره بصورة خلاقة من قِبَل أنصار المادية التاريخية. إن "تطور الرأسمالية في روسيا"، مرفقةً بنصوص من الجدل والمهاترات مع الشعبويين، غنيةٌ بما تحمله من شمولية التحليل الأكثر قربا من الخصوصية القومية، الإيديولوجية منها، الثقافية/ والاقتصادية.
على هذا النحو، فإن لابيكا لم يجعل من ابن خلدون سلفا لماركس لأن النظرية الماركسية بحوزتها احتياطي هائل من الشمولية. إن الماركسية وحدها المقتدرة على إدراك الرأسمالية من حيث هي موضوع هذه الشمولية، وذلك على نقيض من الشعبوية الحديثة التي تبرِّر نفسها بالرجوع إلى الدفاع عن نفسها باعتبارها علم اجتماع الحضارات، والتي تجد سنداً لها ها بالعودة إلى خصائص ثقافية، أو خصوصيات اقتصادية اجتماعية، والتي  تتذرع بما تسميه فروق  مطلقة بين المسارات القومية، على غرار الشعبوية الروسية المتأخرة، والتي تصدى لها لينين. الثقافوية في عالمنا الراهن اليوم، بصياغات دنيوية أو دينية، لم تَخفى على أحد، بما في ذلك أولئك الذين كانوا يزعمون تبعيتهم لماركسية ما، والتي أصبحت في ما بعد، او مع مرور الوقت، سائدة في كل مكان وزمان.
نظرية الإمبريالية
هذا الجدل اللينيني للخاص والشامل سيوضع موضع الامتحان على صعيد الرأسمالية الممتدة عبر العالم، والتي تحوَّلت فصارت إمبريالية.  وكان عُقد بالجزائر في شهر آذار/ مارس من العام 1969، غداة عودة لابيكا إلى فرنسا، ندوة حول الإمبريالية شارك فيها أساتذة جامعيين من شاطئي حوض البحر الأبيض المتوسط ومسؤؤولين سياسيين من الجزائر. ففي هذه الندوة ركَّز المشاركون فيها على النظرية اللينينية، وهي الأكثر تميُّزا في الماركسية. حيث قورنت، في المقام الأول، بإمبريالية روزا لوكسمبورغ، وبدرجة أقل أهميةً بإمبريالية هوبسون، هيلفيردينغ وكاوتسكي. قورنت أيضا، ولأول مرة مع الماركسية غير السوفياتية لما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت موضع دفاع باعتبارها متفوِّقة على سابقاتها.
 
لابيكا يبيِّن في معرض تذكيره بأطروحات لينين حول الإمبريالية من حيث هي مرحلة نهائية، نهائية بمعنى الحاضر الراهن للرأسمالية الاحتكارية، وليس آخرها كما يذهب بعضهم، يبيِّن أن انتقادات لينين لروزا لوكسميورغ تتلخص بنقطتين اثنتين:
آ)- الرأسمالية تَحمِل في طياتها مقدرة هائلة أو غير محدودة على التطور الداخلي، و تتعدى بمسافات شاسعة العالم غير الرأسمالي بما يتيح لها إمكانية التطور بصورة مبالغ فيها.
ب)- لما كانت الرأسمالية توسُّعية من حيث تعريفها، فإنها، بالتالي، تستطيع أن تجد الحلول لتناقضات إنتاجها بفضل إزاحة أو تحريك هذه التناقضات. الأمر الذي يَذهب بكل الآمال التي تعوِّل على انهيار الرأسمالية، طالما تصطدم تلك الآمال بإلغاء المحيط الخارجي للبلدان غير الرأسمالية، وتقف أيضا عند الحدود الداخلية لتلك البلدان، حيث المجتمع الذي يتقلَّص إلى الطبقتين المؤسستين، وهو لهذا السبب يكون غير قادر على إيجاد الحلول لمشكلة القيمة المُنتَجَة.
الجوهري في ما يتعلق بالإمبريالية هو في الاستنتاجات، أي فهم الإمبريالية من حيث هي ظاهرة سياسية واقتصادية، وهي، بالتالي أو بالنتيجة، استراتيجية من حيث علاقتها بالحركة العمالية الثورية. إن تحليل روزا للإمبريالية غير كافٍ، ويقودها إلى رؤية كارثية للإمبريالية من حيث تجلياتها المتطرفة بلا حدود: أي الحرب. فإذا كانت هذه الرؤية جذرية، إلا أنها تبقى ملتزمة في واقع الحال بحركة سلمية وأممية بصورة تجريدية، أي رفض تجريدي للحرب والقومية، والعجز عن إدراك التناقضات المُسْتَجِدَّة التي طرأت على المرحلة الجديدة: الحرب الإمبريالية العالمية حلَّت محل الحرب الكلاسيكية بين دولتين كما كانت سائدة في القرن التاسع عشر، محمول ثوري لحروب التحرر الوطني التي تعبِّر عن إرادة الشعوب المضطَهَدَة في التحرر.
من هنا تنبثق المفارقة: فإذا كانت روزا لوكسمبورغ التي تعيش وتناضل في ألمانيا تدرك قبل لينين بفترة غير وجيزة الانزلاق الانتهازي والإصلاحي للاشتراكية الديمقراطية الألمانية، ووسطية كاوتسكي، فإنها تضع يدها على الخط الفاصل داخل الحركة العمالية ما بين الإصلاحية والثورة. إن موقفها من الحرب الإمبريالية يبقى في نهاية المطاف مَديناً للخطوط العريضة لماركسية الأممية الثانية. إنها بصورة جوهرية أخلاقية، هذا إن لم تكن عقائدية من حيث تعاميها عن رؤية القمع القومي في عصر الإمبريالية، وعاجزة عن إدراك تناقضات الواقع. من هنا يَستَخلص لابيكا ما يلي: "إن التحليل اللينيني للإمبريالية يتميَّز عن سواه من حيث أنه غير مدين لغيره بما وصل إليه، وأن هذا التحليل يُنتِج بصورة مباشرة عددا من الأطروحات النظرية وذات الصلة الوثيقة بالممارسة ضمن الصراع الإيديولوجي داخل الاشتراكية الديمقراطية، بما يتيح القطيعة الفاصلة ما بين الإصلاحية والثورة". لذا، فإن لينين إذ هو يُعنوِن مفاتيح السياسة مفاتيح المرحلة، ولا غرابة في ذلك، فإن من المستحسن أن يُقرأ الكراس الذي كان كتبه في فصل الربيع من العام  1916 تحت عنوان "انقسام أم تَفَسُّخ"، و "الإمبريالية  وانقسام الاشتراكية"، في ضوء ذلك. الأمر الذي يُطلِق العنان بحرية للطاقة الكامنة في هذا الانقسام، وذك بتوجيه خطوط القوة في اتجاه جذري، وفق ما كان القائد البلشفي يفعله,
 
إن هذا الفهم العميق لنظرية الإمبريالية الكلاسيكية لدى لينين هو الذي يتيح للابيكا أن يُحَدِّثه بما يتوافق مع الوضع الحالي للإمبريالية، بعدما تُوِّجَت الإمبريالية بتوسعها فأصبحت "عولمة". ثمة هنا اتجاهين اثنين يَصُبَّان كلاهما في تحليل العولمة من حيث هي "إمبريالية جديدة".
-/ أولهما ما تكشفٌ عنه من عنف داخلي قوامه تجديد الأشكال التي كانت ترافق الرأسمالية، وهي وراثية عضوية منذ ظهور تراكم رأس المال. ففي العام 2001 كتب لابيكا تحت عنوان "نزع الملكية الوراثي"، حيث يعود بالرأسمالية إلى مرحلة ما قبل التاريخ، عندما كانت في الاٌصل مرادفة للنهب والسلب والاغتصاب والعبودية والرق والبربرية والاستعمار، والتي ما انفكت كالوسواس تصبو نحو تطوراتها للوصول إلى ما هي عليه حاليا من "تراكم للنهب والسلب"، على غرار ما يذهب إليه ديفيد هارفي David Harvey . (Accumulation by dispossession)
- / ثانيهما يلمس الخطوط العريضة والجديدة "للإمبريالية الجديدة"، من حيث هي هدف سياسي واقتصادي. هنا، يميِّز لابيكا، في قراءته للطبعة الجديدة لكراس لينين الصادر في العام 1916، بين ثلاثة أنماط من الرأسمالية: سيطرة رأس المال المالي/ التنافسي، الثورات التكنولوجية ومنها بوجه خاص الإعلام والاتصالات، وانهيار البلدان التي كانت تسمَّى "اشتراكية". هذه الأنماط الثلاثة تندرج في سياق تغلب عليه السيطرة البنيوية لإمبريالية ما على إمبريالية غيرها، لقوة ما فوق القوَّة العظمى الأمريكية التي تَفرض هيمنتها على رأس إمبرياليات ثانوية تابعة لغيرها. من جراء ذلك، فإن "العولمة تختلط بالأمركة، وبالأحرى، بغض النظر عن البربرية، فإن العولمة لا تختلف عن هيمنة الأمم المتحدة". 
-/ إن نقطة الاختلاف الرئيسة مع الفهم اللينيني للإمبريالية، إن هو لم يوجد هنا، أو في الأبعاد السياسية، فلأنه في المقام الأول يَتْبَع التكوينات الذاتية للإمبريالية. فالإمبريالية الجديدة تُمْثُل من حيث هي المرادف، ليس للانقسام، وإنما هي مرادف لتفكُّك الحركة العمالية. هذه الأخيرة إن هي لم تقع عرضة للتفكك، فإن منظماتها الرئيسة إذا هي لم تلتحق بإيجابية بالنظام الجديد، فإنها تَقْبَل بتعريفاته الأساس. "ها هنا يكمن الاختلاف" (الاختلاف وليس الخلاف) كما يشير لابيكا إليه قبل أن يوضِّح أن "لينين ينتمي إلى عالم فلسفة الأنوار، وهو، من هذه الناحية، أقرب ما يكون إلى معلِّميه منه إلى ما نحن عليه حيالهم". أما اليوم، وبالنظر إلى أقبح الهزائم التاريخية التي لحقت بنا، فإن العولمة تَمْثُل أمام ناظرينا من حيث هي "إمبريالية اليأس". بمعنى أن ما هو "افتراضيات إيجابية متعذرةٌ على الإدراك، فإن الانتباه اليقظ يُصاَدر من قِبَل القوة السلبية الهائلة التي تلازِم نظام العولمة أو الإمبريالية الجديدة". كيف إذن يستطيع ما كان يُسمَّى لدى لينين "انقساما"، كيف له أن ينبثق أمامنا من جديد: فإذا كان صراع الطبقات مهما تعادلت قوته مع نظام العولمة أو الإمبريالية التي تَمْثُل هنا من حيث هي إطاره، فإن صراع الطبقات يبيِّن أن ما يحمله من نزاعات غير قابلة للتجاوز، في ما يظهر التراكم الهائل المكتظ بالتناقضات التي تعيش في صميم العولمة، فإن صراع الطبقات إذا ما هو وضع نصب عينيه "إلحاق الهزيمة بالعولمة"، إنما هو يتيح أيضا تعريف هذا الانقلاب من حيث هو إنجاز لطبقتها: "لما كانت الرأسمالية عاجزة عن إنجاز العولمة بكاملها دونما تناقضات، فإن هذه التناقضات الداخلية تبتلعها قبل أن تُنجِز تكوينها بالكامل، بمعنى أن الاشتراكية وحدها القادرة على إنجاز العولمة". هذا يعني أن الاشتراكية والشيوعية هما البديل الوحيد قيد الإمكان، البديل الوحيد من أجل إنسانية موحدَة وقد تحرَّرت من تفتُتِها الراهن، أو إن التفتُتِ الراهن للإنسانية يبلغ من القوة ما يرغمها على توحيد صفوفها.
الإحداث في الفلسفة
ثمة تلاقٍ في أعمال لابيكا في مطلع السبعينات من القرن الماضي ما بين المرحلتين الجزائرية والفرنسية: الخصوصية، أي إن مقدرة نظرية الإحداث اللينينية ستشهد تطورا توضيحيا لها في نص تقرير عُرِضَ أمام ندوة كانت عُقِدَت تحت عنوان "لينين والممارسة العلمية"، بدعوة من مركز الأبحاث والدراسات الماركسية CERM التابع للحزب الشيوعي الفرنسي، وذلك في جامعة أُورسيOrsay  في العام 1970. شَهِدَت الندوة تعارضا ما بين التقرير الذي كان لابيكا قدَّمه أمام الندوة، وتقرير كان قدَّمه فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي لوسيان سيف Lucien Sève الذي يتبوأ منذ طرد روجيه غارودي Roger       Garoudyمركز الفيلسوف الرسمي للحزب. لوسيان سيف هنا يشدُّ الحبل لجهة الموقع العلمي للفلسفة الماركسية والمادية، ليبلغ بحثه أوجهُ عندما يبلغ ذروته على عتبة قوانين الجدل ومقدرتها على التكوُّن. لابيكا من جهته كان يركِّز بحثه حول المادية والتجريبية النقدية في ضوء تأثُّره بأفكار لويس التوسير. فلقد شدَّد، على نقيض من لوسيان سيف، الإشارة إلى المفارقة في مسعى لينين بين الممارسة العلمية، وبين ما تتركه هذه المفارقة من أثار في النضال الإيديولوجي والسياسي. 
ها هنا لابيكا يسلِّط الأضواء على "المقولات الإرشادية" التي تأتمر بها نظرية الإحداث، وفي مقدِّمة ما تأتمر به تأتي "المادة" التي تأمر "المادية" التي يدافع عنها لينين، ثم تندرج في الميدان الفلسفي من حيث هي مفهوم عن المصارعة، أو من حيث هي مصارعة في الميدان الفلسفي؛ حيث أن ما يميِّز الماركسي عن ميدان الفلسفة هو "عقل الحزب". هنا تعود "العصبية" لدى ابن خلدون بالظهور مجددا بعدما تكون اندرجت ب"الدعوى"، هذا، إن لم تكن الدعوى منقادة للعصبية: فإذا كان "عقل الحزب" عاجز عن الانفصال بصورة كلية عن الدعوى، فإن "عقل الحزب" لا يشكِّل في الواقع توكيدا للتضامن العضوي للمنظمة، وهو غير مهتم بالدفاع عن "خط الحزب" أو "خطَّه الرسمي"، أو "خط القيادة"، لكنه مُلزَم بالضرورة باستيعاب خاصية "عقل الحزب"، وتوكيدها من حيث هي (الخاصية) بصورة لا مفر منها، وأنها منحازة للمعرفة ومدافعة عنها، من حيث هي معرفة موضوعية و"مطلقة"، مندرجة في الوضع الذاتي لإنتاجها من حيث هي الحقيقة.
إن "المفاهيم الإرشادية" كما يفهما لابيكا، وهي قريبة من أفكار ألتوسير، لا وجود لها هنا والآن إلا من أجل تيسير السبل أمام المعرفة، وصدِّ المثالية التي تريد تزييفها. فهي، وإن كانت لا تشكِّل مجموعة منسَّقَة من النظم التي يتيسَّر دراستها بحد ذاتها او بصورة منفصلة، فإن "المفاهيم الإرشادية" ليست سوى مفاهيم تغيب عن الإحداث ما أن تؤدي وظيفتها أو الغاية منها، أو هي تذوب في ما أنجزته من إحداث. إنها، على حد قول فريدريك جامسون "وسائط قابلة للغيبوبة"، أو هي أقرب ما تكون إلى سلَّم ما أن يصل الإنسان الجدلي إلى الموقع المبتغى حتى يسحبه. لذا، ترى لينين، شأنه شأن ماركس أو حتى إنجلز (بالرغم من حالات من سوء التفاهم) لم يكتب أيٌّ منهما "المطول في الفلسفة الماركسية". واقع الحال، إن المادية والتجريبية النقدية ما هي سوى مداخلة أو رد كان يراد منه إنجاز مهمة لعامة الشعب ضمن منازعة فلسفيةُ، وذلك بصرف النظر عن الرهانات التي ترافق هذه المنازعة، والتي تتخطَّاها، ثم لا تلبث أن تدخل في حالة الغيبوبة. وعلى هذا النحو أيضا، فإن لينين يقرأ من حيث هو مادي الجدل لدى هيجل، ويسجِّل ملاحظاته التي شُوِّهَت من قبل الناشر السوفياتي عندما أعطاها عنوانا دخيلا عليها، وهو "الدفاتر الفلسفية". هذه المدَوَّنات تأخذ مكانها لدى لينين في الممارسة من حيث هي إحداث لا يميِّز بين النظرية والممارسة. لابيكا، من جهته، يبيِّن في ما بعد أن هذه المدوَّنات شأنها شأن فقرات من "أنتي دوهرينغ" التي غالبا ما تعتَبَر نصوصا فلسفية، نصوصا حول "المادية الجدلية"، وغالبا ما كان الناشر السوفياتي يدرجها عن غير وجه حق في أنساقٍ لنظام كانت تُجْمَع لتُنشَر تحت عنوان "جدلية الطبيعة". ثمة هنا، عبر "جدلية الطبيعة" للينين شاغل ذات صلة بعمل تأملي لمكتسبات العلوم الحديثة المهتمَّة بإحباط محاولات المثالية لانتزاعها منها كعلوم، بما في ذلك تلك التي يأتي بها العلماء أنفسهم.
إن المحصِّلة السياسية لهذه التطورات تُقرأ ما بين السطور في النقاش الذي كان يدور حولها في مطلع السبعينات من القرن الماضي. إنها ستظهر إلى العيان في نصوص نُشرت ما بعد ذلك، وبوجه خاص في "الماركسية اللينينية" لجورج لابيكا. هذه النصوص تردُّ على الهزيمة، هزيمة داخلية في المقام الأول، طالت الحزب الشيوعي في نهاية السبعينات. فقد ظهرت "الفلسفة الماركسية" كمؤسَّسة، إلا أنها لم تكن في واقع الأمر سوى تحوُّل ل/"عقل الحزب" إلى أُرثوذكسية تنظيمية، وعقيدة رسمية تُسمَّى "الماركسية اللينينية" يُراد منها منح المجموعة القائدة في الحزب شرعية يَفِيد منها الأمين العام للحزب جورج مارشي. هذا التحوُّل الذي يطرأ على "عقل الحزب"، وهو يُشْبِه هيجيلية الفقراء، يُقَلِّص "عقل العصبية" و"الدعوى" حسب ابن خلدون إلى دعاية رخيصة. دعاية يراد منها السيطرة على عقل الشعب تحت اسم "المادية الجدلية، وتَستخدم وحدة النظرية والممارسة بالاعتماد على صياغة تبرِّر بصورة بَعدِيَّة (نقيض القَبْلِية) الخيارات التكتيكية للقيادات الحزبية. هذا هو ما حَدَثَ من جراء "مادية جدلية" و"قوانين للجدل"، وغيرها من أسس الفلسفة الماركسية، شكلية وعقيمة، تَخْنُقُ بأغلالها الطاقة الهائلة لمعقولية النظرية.
إن تحويل الماركسية إلى فلسفة ما هو سوى الوجه الآخر ل/"عقل الدولة التبريري". هنري لوفيفر هو صاحب هذه الأطروحة التي تحظى لدى لابيكا على معناها العميق والواسع، طالما هي تسمح بالكشفَ عن القطيعة، إن لم يكن الخراب الذي يفصل ويقطع ما بين لينين وستالين. إنها، بوجه الدقة، هي التي تسمح بتفحص موقع النظرية دون أن تقع في "انحراف نظري" على حد قول لويس ألتوسير الذي يَعْتَبِرُ الستالينية انحرافا فلسفيا، وسقوطا جديداًإلى التطورية اللاهوتية، وعودة إلى المذهب الاقتصادي (أو الاقتصادوية) التي كانت شائعة خلال الأممية الثانية. فما هي الظروف التي تحدُّ هذه القطيعة ما بين لينين وستالين، أي معرفة الهزيمة التي تشكِّل مسمَّى هذا الخراب، والتي انتهت إلى انهيار الأمل الذي كان يعوَّل عليه من وراء أكتوبر 1917. 
الثورة، الحالة الاستثنائية، الديكتاتورية
في سياق الأحداث التي كانت تجتاز القرن العشرين، ومنها "مُجَمَّع الدولة الفلسفي"، فإن تعبير "الثورة" هو الذي كان يَشْغَل حيِّزا هاما في فرنسا خلال السبعينات من القرن الماضي. هذا الحيِّز من الوقت يتسع أمام المناقشات الساخنة حول مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" الذي كان يلتهب مع اقتراب الانتصار الانتخابي الذي يُسَجَّل ل/"وحدة اليسار" ولانتصار الاشتراكيين بوجه خاص الذين كانوا يستعدون لتحمِّل المسؤوليات الحكومية. هذا التاريخ يوافق في نفس الوقت استقرار رأي الحزب الشيوعي في ما يتعلق بالتخلي عن "مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا". التخلي عن هذا المفهوم، وما كان يرافقه من مناقشات حامية، لم يكن أمرا طارئا ومستجدا، طالما تتقدم عليه مناقشات غيرها كانت تجري في الخفاء استعدادا للإعلان عن نهاية ديكتاتورية البروليتارية. هنا، في هذا الوقت، تبلورت المواقف الرئيسة التي كَشَفت عن نفسها في ما بعد من خلال خطوط فصل معقدة ما بين هذه المواقف: رد الفعل الرئيس يأتي من جهة أنصار ألتوسير، ولاسيما مداخلات ألتوسير وإتيين باليبار  Etienne Balibar الذي نَشَر في حينه دراسة مطوَّلة في كتاب تحت عنوان "ديكتاتورية البروليتاريا". تيارات اليسار من خارج الحزب الشيوعي الفرنسي، من التروتسكيين إلى الماويين، والتي دخلت إلى ميدان النقاش من حيث هي "النقد اليساري"، تبنَّت بصورة واسعة مواقف ألتوسير وأنصاره. إلا أن التخلي عن هذا المفهوم بمبادرة من أمين عام الحزب جورج مارشي Georges Marchais حظى بتأييد المثقفين من أتباع قيادة الحزب، والذين نالوا من لابيكا تسمية مثقفون هاي فاي HiFi، وهم أيضا أنصار للشيوعية الأوروبية، ومنهم من هم من المتعاطفين مع ألتوسير، منهم بخاصة كريستين بوسي غلوكسمان  Christine Buci-Glucksman ، ونيكوس بولانتزاز Nicos Poulantzas . مجلة "دياليكتيك" التي كانت تنشر مقالات لجورج لابيكا أصبحت حيِّزا رئيسا يستقطب هذه المناقشات المرتبطة إلى حد كبير بالمشكلات الاستراتيجية الصعبة التي كانت في حينه مطروحة أمام الحركة الشيوعية الأوروبية، والتي كان أيضا يشارك فيها ماركسيون أوروبيون من إيطاليا وإسبانيا وغيرها من البلدان. أيا كان الأمر، فإن الماركسية الفرنسية ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تَعرِف في حينه واحدا من ذرواتها.
 
موقف لابيكا حيال تخلي الحزب الشيوعي عن "ديكتاتورية البروليتاريا موقفٌ "لينيني" بامتياز. هذا الموقف يَظهر في نصوص نُشرت عبر مجلة "دياليكتيك"، وبالأحرى في مقدمته ل/"الدفتر الأزرق" للينين، والذي يُعْتبَر نصا يمهد الطريق أمام "الدولة والثورة"، والذي لم يُنشر في فرنسا ما قبل العام 1977 . فإذا كانت مقدمته ل/"الدفتر الأزرق" قريبة للغاية من أفكار ألتوسير وباليبار حيال "ديكتاتورية البروليتاريا"، إلا أنها تتميَّز عن غيرها من حيث هي تركِّز عملها بصورة أكثر كثافة حول المواقف اللينينية، وتسعى إلى الإمساك بها في سياق تاريخي فريد من نوعه، وفي صميم الماركسية الثورية. ذلك أن لينين كان يواجه حالة تاريخية لا سابق أبدا لها، تتميَّز بالحرب الإمبريالية، وتأثيراتها التي كانت تمتص طاقات وقدرات دولة القيصر، بالإضافة إلى ظهور سلطة مضادة بين صفوف جماهير معبأة. ما حَمَلَ لينين على قراءة جذرية جديدة لنظرية الدولة في الماركسية. لينين، إذن، يعيد هنا على هذا الصعيد التأسيس من جديد للماركسية التي كانت عَرفت قراءة جديدة مع "نظرية الحزب" و"نظرية الإمبريالية".
هذه المقاربة، وبالأحرى هذا المنهج يَضَع من جديد على مائدة البحث العمل الاستراتيجي في الموقف اللينيني. إن لابيكا ليس على منوال ألتوسير الذي يندب ديكتاتورية البروليتاريا بصورة عقائدية خارجة عن نطاق التاريخ، يَندُب تخلي الحزب عن مفهومٍ، إذ هو يُهدِّم أسس "النظرية"، فإنه يتهاوى أمام الهجوم "الرجعي". لاسيما وأن المسألة هنا تتعلق بمعرفة ما هو الهدف من ذبح ديكتاتورية البروليتارية على مذبح من عقل دولة وحكومة تبنى على التو. الأمر الذي يقود بالحزب الشيوعي الفرنسي إلى تدمير ذاتي من جراء تخليه عن كل استراتيجية ملموسة للقطيعة الثورية في مكان وزمان فريد من نوعه، ألا وهو المجتمع الفرنسي في السبعينات، مقابل المشاركة في حكومة برئاسة الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتحت شعار "وحدة اليسار".
هذا الدرس لا تعوزه تتمة، ما دامت متابعته تظهر في اتجاهين اثنين يستجيبان لتطور الحالات التاريخية.  هذه المتابعة تصُبُّ، من جهة، في تحليل ملموس لوضع ملموس، هو أفضل ما توصَّل إليه المثقفون الماركسيون النقديون في فرنسا، والذي يَظهر في كتاب تحت عنوان "لنفتح النافذة يا رفاق"، وشارك في تأليفه بالإضافة إلى جورج لابيكا، كلا من إتيين باليبار، غي بواGuy Bois ، جان بيير لوفيفر Jean Pierre Lefebvre. كتاب يَجْمَع ما بين دفتيه الفكر الاستراتيجي من أجل خط جماهيري موحَّد، ونضالي، غير انتخابي، وإن كان يحوز على الواقعية، والذي بقي مع الأسف دون غد. هذه المتابعة ستظهر من جديد، من جهة ثانية، من حيث هي في الظاهر رؤية تاريخية أكثر من غيرها، من خلال دراسة يخصُّها لابيكا لماكيميليان روبسبيير Maximilian Robespierre ، والذي يصدر في حينه مع اقتراب الاحتفال بمرور قرنين اثنين على الثورة الفرنسية.
مرة أخرى يركِّز لابيكا هنا على الصلة الوثيقة ما بين الفلسفة والسياق السياسي اللذين يلتقيان في حيِّزٍ يقف عنده القائد اليعقوبي (أنصار الدولة المركزية القوية) ماكسميليان روبيسبيير، وذلك في عمل له تحت عنوان "روبسبيير السياسة تقود إلى الفلسفة". الفلسفة هنا هي فلسفة القانون الطبيعي حيث يَستنِبط منها لابيكا، على منوال أرنست بلوخ، ما تحوز عليه المساواة والديمقراطية من احتياطي هائل عبر حركة "صيرورة الشعب" التي تفشل بالوصول إلى هدفها حسب ما يَتَجسِّد عبر سيرة حياة "الحارس المُزْعِج" روبيسبيير. غير أن ما هو جوهري هنا هو، بخلاف ما يذهب إليه إرنست بلوخ، يُعْثَرُ عليه في قلب وصميم سياسة تقود إلى الفلسفة، (أو حسب ترجمة أخرى "سياسة الفلسفة") ما دام لابيكا يضع عقيدة الحكومة الثورية، وما يرافقها من حالة استثنائية مؤَسِّسَة لنظام جديد، في صميم وقلب سياسة الفلسفة (السياسة التي تقود إلى الفلسفة) . لابيكا هنا أقرب ما يكون إلى قِراءة أندري توزيل للفيلسوف الألماني كانط،، وقراءة زيزيك لكانط. إذ إن لابيكا يعيد مناهضة القانون بصورة جذرية في فكر/ممارسة روبسبيير، الى القطيعة مع الإيديولوجية القضائية: الديكتاتورية الثورية هي تعليق للقانون، وقطيعة مع الحق حسب ما كان عليه في عهده السابق، وهي أيضا مخرج قاتل نحو ديمقراطية حقَّة. ذلك أن الحق لا يأتي من خلال الحق، طالما يبقى العنف الثوري ضرورة لا مفر منها، بل وإنها ضرورة تأسيسية لتشييد نظام من نمط آخر، نظامٌ متحرر. إلى ذلك، فإن المختبئين وراء الإيديولوجية القضائية، على نقيض من روبسبيير وكانط، هم الذين يرون التناقض ما بين الديمقراطية والديكتاتورية الثورية، كما يرون التناقض بين الديمقراطية والعنف المؤسِّس.
إن استدعاء الثورة الفرنسية (1798) التي انتهت إلى انتصار الليبرالية وقمع اليعقوبية، اليعقوبية التي كانت هي الأقوى ما قبل هذا الانتصار الليبراليي، إذا ما عدنا بهذه الثورة إلى تلك اللحظة التي كانت تشهد إرساء السياسة المعاصرة، فإن لينين - كما يفعل لابيكا من خلال دراسته لروبيسبيير - يصل بنا إلى لحظته الشمولية: إن العقيدة اللينينة، في ما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا، هي نقيض الشواذ الروسي الذي ينقل إلينا أعراض التأخر والاستبداد. اللينينية هي الامتداد للتنظير الناجح لمشكلة المعاصرة، بالرغم من أن المعاصرة تنطوي على كثرة من الألغاز: إن الثورة، من حيث هي حدث/ صيرورة نحو عالم من نمط جديد، غير قابلة للتقليص إلى دولة، بالرغم من أن هذا الحدث/الصيرورة يبتكر أشكالاً جديدة من التنظيمات الدستورية.
بعد صدور كتاب: "روبيسبيير: سياسة الفلسفة" بأشهر قليلة، كفَّ اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكي عن الوجود...
نهاية اللينينية والعودة إلى بدايتها من جديد
فكيف انقلبت على نفسها تلك اللحظة الثورية، لتتحول إلى السلطة القمعية للدولة-الحزب؟ كيف انقلب على نفسه العنف الثوري ليصبح قمعا بيروقراطيا؟ كيف وصلنا إلى هذه "النكبة المظلمة" بعدما انهارت "الاشتراكية الواقعية"، دونما قتال، ولم تعد فعلية. إن لابيكا شأنه دوماً يعود إلى لينين لتقصي الجواب وذلك تحت عنوان "الرهان الضائع، بحثٌ حول أزمة الماركسية (الواقعية)". فلقد جاء الجواب في مطلع الأمر عبر، "معجم الماركسية النقدي"، فاتحة بقلم جيرار بن سوسان ، تحت عنوان "أزمة الماركسية" تشير، بموافقة من لابيكا، إلى أن ازمة الماركسية "طبيعية" بمعنى ما. ففي قلب الماركسية يوجد، كما هو معلوم، البعد السياسي للماركسية من حيث هي وحدة النظرية والممارسة. هذا البعد يتجلى بنمطين اثنين: نمط النظرية السياسية لدى مؤسِّسَيها  ماركس وإنجلز، وهي الجانب "الأكثر ضعفا" في أعمالهما.
حيث أن قلب المشكلة يتجلَّى، حسب النمط الثاني للمشكلة، عبر أشكال الانتقال إلى الشيوعية، أي الاشتراكية، ليس من الناحية التجريدية، أو ليس من حيث الاستيلاء على السلطة بصورة سريعة وخاطفة كما هو الحال مع "كومونة باريس"، إنما من حيث أن المشكلة مجسَّدَة باعتبارها مهمة جماهيرية فورية على صعيد بلد شاسع أشبه ما يكون بالقارة.
هذا هو السبب الذي يُلزِم من جديد العودة إلى لينين، وبالأخص لينين في مرحلته الأخيرة، لينين رجل الدولة، وليس لينين ذاك الثوري الذي كان يريد احتلال السماء. إن المسألة ليست مسألة تبحث عن الصفاء والأصل الصفي، وإنما للإمساك بعمل الماركسية في ما هي تواجه حالة لا مثيل لها في الحاضر والماضي معا: أي ثورةٌ منتصرة بيد أنها معزولة، فوق أرض مترامية الأطراف، بلد مدَّمر وهو ينزف دماءه. وتجربة ذاتية فريدة من نوعها، عائمة في الفراغ، ومعلَّقة ما بين بحر من الفلاحين الجوَّع وبين بروليتاريا تشكِّل أقلية السكان، شبه مبادة بالحرب، هذا كله إن لم تكن البروليتاريا مستنفذة من جهاز الحزب والدولة. إلى ذلك، فإن الماركسية، إذن، تفتقد هنا إلى التطبيقات الجاهزة، فضلا عن أنها مُلزَمَة على الابتكار.
 
ما ذا كان ردُّ لينين أمام هذا الوضع القاسي إلى حد عظيم؟ لابيكا يتابع هنا لينين في آخر معركة له. يتابعه عبر نصوص لينين خلال عامين 1922-1923. أو إنه يتابع رهانات لينين: تبني "السياسة الاقتصادية الجديدة NEP" مقابل تسديد الثمن المطلوب لإعادة التحالف مع الطبقة الفلاحية. الأمر الذي يؤدِّي إلى تراجع (مؤقَّت ؟) إلا أنه يقود المشروع الاشتراكي إلى العودة نحو التنفيذ بهدف تطوير التعاون، من جهة، وإنجاز"الثورة الثقافية" من جهة ثانية، وإعادة تنظيم جهاز الدولة بصورة عقلانية، ثالثا، ومد النظر نحو "الشرق"، حيث الجماهير المُسْتَعمَرة في آسيا، رابعا، وهي التي تقوم بأعباء النضال الشيوعي التحرري بعدما تسلَّمَتْه من البروليتاريا الأوروبية. هذا الرهان للينين ينتهي إلى الفشل. فلا غرابة، طالما يَصْعُبُ أن توجد شروط غير مناسبة من هذا القبيل. بل إن هذه الظروف تمضي قدما إلى ما هو أبعد من ذلك. إذ إن صيغة هذا الرهان في ما يتعلَّق بالحزب لا تخلو من وسوسة. ألم يضع لينين نفسه على مسار روبيسبيير عندما يعوِّل، في نهاية المطاف، كل الآمال على انتقاء القيادات بمقياس الأخلاق الثورية؟ الا يدلِّل هذا المقياس على العجز السياسي؟ فإذا كان الفشل لا يتسلَّل إليه أي شك، فكيف نَقبَل بالرغم من هذا الفشل مقاييس الأجداد والعهد القيصري السابق. كيف لنا أن نستسلم أيضا للحتميات والتفسيرات التي تحاول، بالرغم من هذا وذاك، عقلنة الظروف إياها.
يلاحظ لابيكا أن لينين كان يتساءل بصورة دائمة "عمن سيربح المعركة؟". كان لينين يتحفظ من جهة الإجابة على السؤال. يتحفظ حتى بالإجابة على سؤال يتعلق بتحديد السمات الرئيسة لثورة أكتوبر. لاسيما وأن رهان لينين يتعلق بالإجابة على السؤال الأعظم، سؤال الأسئلة كلها، والذي كفَّ عن أن يكون موجَّها لمعرفة الإجابة على هذا الجانب أو ذاك من الرهان، وإنما ذهب بعيدا لمعرفة ما إذا كان الرهان نفسه تتوفر لديه الأسباب التي تبرِّر المراهنة. لابيكا يضع يده هنا على الخيط الذي يربط رهان لينين برهان الفليسوف الفرنسي رينيه باسكال. هذا الرهان الذي كان يغري الماركسية النقدية الفرنسية، من لوسيان غولدمان إلى دانييل بن سعيد. رهانٌ قوامه فكر الممارسة بالرغم من أن هذا الفكر يفتقد إلى كفالات تضمن له بصورة مسبقة النجاح. تضمن أيضا له إحداث ممارسة فوق أرضية تفتقد إلى الشمولية. رهانٌ يَفتقد أيضا إلى جدل للأحداث ضمن حيثية تنفصل فيها السياسة عن التاريخ، بالرغم من أن السياسة بالأساس لا تنفصل عنه. لابيكا ينتهي في "الرهان الضائع، بحثٌ حول أزمة الماركسية (الواقعية)"، إلى فرضية مُحَمَّلَة بالأسئلة: فإذا كان الرهان اللينيني يعني أن "الاشتراكية الواقعية" لم تتطور قط بفضل التطور الرأسمالي، فإن هذه الاشتراكية الواقعية لم تكن لتمثِّل سوى صورة طبق الأصل عن الرأسمالية، وليس البديل عنها، حتى أن الغاية منها تكشف عن وظيفتها من حيث هي الوسيط نحو رأسمالية موحَّدَة على الصعيد العالمي. وإلا كيف يُمكن أن تُفهم هذه الازدواجية، وهذا الانقسام ما بين السياسة والتاريخ؟ فإذا كانت السلطة في اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية مورست محل البورجوازية بصورة ازدواجية، وليس من حيث هي سلطة بديلة، فإن السؤال حينئذ يتوخى الإجابة عن معنى "إحلال السلطة السوفياتية محل البورجوازية"، كما يتوخى في نفس الوقت معرفة النتائج المستَخرَجة من هذه الازدواجية. 
إلحاق الهزيمة بالهزيمة
إذا كان يصح أن نقول إن البحث التاريخي والنقاش حول المفاهيم يملك بحد ذاته قيمته، فإن ابتكار ممارسات جديدة بهدف إلحاق الهزيمة بالرأسمالية هو وحده المؤهل لتقديم الحلول. بيد أن الحلول بدورها تستدعي المساهمة في إيجاد هذه الحلول. لذا، فإن لابيكا  تراه يكرِّ س المرحلة الأخيرة من حياته، وهي ممتدة من نهاية "الشيوعية التاريخية" إلى غاية وفاته، من أجل هذه المساهمة. إن أعماله، خلال هذه المرحلة، تتمركز حول عملين اثنين. أولهما عبارة عن مجموعة مقالات حول "الديمقراطية والثورة"، وثانيهما عمل تحت عنوان "نظرية العنف. هذا العمل الأخير يُعْتبر بمثابة الوصية. لذا، فإن العمل الماثل بين أيدي القارئ قوامه هنا توجيه التحية لانهيار الاشتراكية السوفياتية، شرط أن يُفهم منها أنها تحرُّر من أجل إعادة البناء. أي إلحاق الهزيم بالهزيمة.
 
هذه البساطة للتعبير عن الانهيار تُعْتَبَر أطروحة قوية شرط أن يُفهم من وراء ذلك أن هذه الأطروحة نقيضٌ للحدس، وهي جدلية. فإذا كان الانهيار يستحق توجيه التحية إليه من حيث هو تحرر، فما ذلك إلا لأن المقصود من وراء ذلك أن الانهيار حامل التحرر يشكِّل أعظم هزيمة تُبلى بها الطبقات المسيطر عليها منذ ما يزيد عن القرن الواحد. فكيف تكون هذه الهزيمة تحررية بالرغم من أنها تترجِم عن نهايةً كل الرهانات النظرية والسياسية التي كانت محمولة من قِبَل "ماركسية الأنفاق المختبئة" طوال القرن العشرين؟ إنها، بالمعنى الجدلي، تُحوِّل وتَقْلُب الهزيمة إلى تحرر. إنها تهزم الهزيمة. هذا هو معنى هذه الأطروحة.
يرى لابيكا ان هذا الاقتراح هو ببساطة الاقتراح الوحيد المؤهَّل لإحداث القطيعة مع ما يُعْتَبَر هزيمةً تقود إلى الاستعصاء، والتراجع إلى الوراء. ما بين العناصر المكوِّنة للاستعصاء َتظْهَر، ليس فقط بمفردها مواقف التخاذل والتنازل، إنما تظهر معها مواقف غيرها، منها مواقف أولئك الذين رفضوا التخاذل والتنازل، بيد أنهم يُحِمِّلون أنفسهم مسؤولية الهزيمة، فيجلدون أنفسهم، ويرتدون ملابس الحِداد إلى ما لا نهاية، ثم ما يلبث أن ينقلب الحداد إلى تهاون مع الهزيمة. إلا أن لابيكا كان من بين القلَّة من الماركسيين التي نجت خلال القرن العشرين من الهزيمة، فلم تَلحق به – على حد قول سلافوج زيزكSlavoj Zizac-  مرض "نرجسية الهزيمة" التي لحقت ببعض قوى اليسار.
إن إحداثياته النظرية، وبالأحرى النظرية السياسية، استمرت خلال الفترة الأخيرة من حياته حول ثلاثة محاور، حسب ما هو مبين لاحقا: نقد الإيديولوجيا، العلاقة التأسيسيَّة ما بين الديمقراطية والثورة، وأفكاره في ما يتعلق بالعنف والتي تعيد للعنف الثوري مصداقيته.
نقد الإيديولوجيا
يأتي مصطلح الأيديولوجيا متن "المعجم النقدي للماركسية" بقلم جورج لابيكا (ص ص 224-235)، وترجمة بوسطلة عبد الله، في ما يلي نصه الكامل:
"إن عبارة إيديولوجية هي من عبارات الماركسية التي يحق لنا الإقرار بشيوع استخدامها. ومن الصعب حصر عدد المؤلَّفات والمقالات أو الدراسات التي اعتنت بتحديدات معنى هذه العبارة واستعمالاتها في خضم تشعب دلالات في منتهى التناقض. وتعكس اللغة السائدة ذاتها صدى تلك الدلالات المتباينة، فنجد في موضع معنى للعبارة يتعلق بالحذر (الإيديولوجية هي مجرد دعاية في خدمة مصالح خاصة). ونجده في ثانٍ متعلقا بالغرور (ليست الإيديولوجيا سوى ضرب من الخيال)، وفي مكان آخر متعلقا بالريبة (ألا تشمل الإيديولوجيا سائر الأنشطة والمعارف ذاتها؟). وبالفعل، فإن نشأة المفهوم يكتنفها الغموض. فكلمتا "إيديولوجيا" و"إيديولوجيون" نحتها دوست دو ستراسي سنة 1798 عندما قطع مع علم النفس العقلاني للدلالة على "علم الأفكار" الذي أراد تأسيسه بمثابة "قسم من أقسام الفيزيولوجيا وتابع لها"، في الاتجاه نفسه الذي سارت عليه أعمال كابانيس وكونديَّك. هذا الاتجاه الذي "أنشأ فعلا الإيديولوجية". وقد أعطى كل من نابليون وشاتوبريان لإيديولوجيا معنى منتقصا. ويرجع ذلك إلى "رد فعل سياسي وديني" مثلما عبر عن ذلك بيكافيه. وتَبنَّى كل من ماركس الذي كان قرأ على الأقل سنة 1844 الجزأين الرابع والخامس من كتاب لدوست دي ستراسي، وإنجلز لفظ الإيديولوجيا الذي أعاد من جديد حرصهما على معرفة الأصول من إرجاع الأفكار إلى جذورها، وذاك تحت تأثير التفاهة التي كانت سائدة.
 
 
1/ الإيديولوجية والواقع:
اكتسى ظهور المفهوم معنى نقديا وسجاليا عندما ظهر لديهما أول مرة. ويمثل هذا الظهور نتيجة تطور مساهما الشخصي الخاص بهما عبر الفلسفة الألمانية أو بالحري عبر الأشكال التأملية التي تعكس فيها الوضعية الألمانية وعيها بذاتها. إن هذا الوعي هو وعي التناقض بين تأخر ألمانيا المادي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي بالنسبة لبلدان مثل فرنسا، وخاصة مثل بريطانيا العظمى التي سبق أن انخرطت في الثورة الصناعية، وبين تقدُّم نظري تطور نسبي في فلسفة الحق الهيغيلية، ونقد الدين لدى فويرباخ. إن إبراز وقع التأكيد عليه بصفة مستمرة في أعمال ماركس وإنجلز بعبارات مثل "في الواقع"/"في الوعي".
إن الإيديولوجيا أولا وبالذات تعبير عن جانب من تلك الوضعية التي يتم التفكير فيه.
وبمعنى آخر، فإن "الإيديولوجية الألمانية" حُكم عليها نهائيا بأن تٌعمى عن موضوعها من فرط تنزيله حيث لا يوجد، بل حتى بأن تُعمى عن كل موضوع لأنها تَعتبر واقعا، ما صاغه فكرها عن هذا الواقع، وتحسب هذيانها أفعالا وخصوماتها الداخلية ثورة. وتعني الإيديولوجيا المعرفة التأملية النظرية التي تَعتقد أن الأفكار "تقود العالم" أو أن "الفكرة تصنع التاريخ". وبهذا المعنى، فإن الإيديولوجيا هي اللاواقع، أو اللاتاريخي، او مثلما أصبح يُقال عادة في الاستعمالات اللاحقة هي ما ليس من البناء التحتي. وهذا ما سينتج عنه عدد من الأطروحات:
-/ إن العلاقة الفكرية Geistiger Verkehr  بين البشر خاضعة لعلاقاتهم المادية Materieller Verkehr . ف/"إنتاج الأفكار والتصورات والوعي" يَستمد مصدره من هذه العلاقة ومن هذا النشاط الماديين اللذين هما "لغة الحياة المحقَّقَة". وتتمثل وظيفة الإيديولوجيا الأولى في نسيان مصدرها. فهل أن ارتباط الإيديولوجيا بالممارسة ظاهرة أزلية أم لها تاريخ محدّد؟ ترك كتاب "الإيديولوجية الألمانية" هذا السؤال معلقا، لأنه كأنه يشير إلى أن الإيديولوجيا وُجِدَت خلال مرحلة تاريخية مرحلة يُحتمل أنها عَرفت شفافية نسبية بين الإيديولوجيا وشروط الوجود المادية، وذلك قبل ظهور التقسيم الفعلي للعمل، وفي وسعنا وصف هذه المرحلة بمرحلة ما قبل الإيديولوجيا.
-/ الإيديولوجيا مكوَّنة من انعكاسات  Reflexوأصداء  Echosلمسار حياة البشر المتحقِّق، وإن هذه الكينونة الواعية   Das Beweste Sein تَستهلك كل وعيهم Das Bewustsein .
-/ إن الإيديولوجيا هي انعكاس مقلوب للعلاقات المتحقِّقة. إنها العالم مقلوبا رأسا على عقب auf dem kopf، وصورة الغرفة المظلمة التي تكتفي أولا بملاحظة أنها هي ذاتها نتاج تاريخي (8).
-/ الإيديولوجيا لا تتمتع بأي استقلالية، سوى في الظاهر، هذا الظاهر الذي سرعان ما ينقشع بفعل التمعن بعملية تكوين هذه الإيديولوجية؛ وأسباب هذا المظهر بدوره يوضع جانبا في مرحلة أولى.
-/ وليس للإيديولوجية تاريخ/ ولا تطور بالانفصال عن تاريخ العلاقات المادية. إن كل فكر او نتاج فكري أثر لهذه العلاقات ويتحول معها. "الإيديولوجيا" هي: الأخلاق، الدين، الميتافيزيقا، إلخ، سائر أشكال الوعي ونواحيه. وهذا هو شأن الفلسفة التي تشكِّل لذاتها تاريخها الخاص وكل تاريخ. وكذلك هو شكل الدين الذي "لا جوهر خاص له ، بعكس ما يظن أُوتو باور، أو شأن المسيحية التي لا جدوى من البحث عن تاريخها خارج ظروفها النابعة من التجربة. ويماثل ذلك شأن الحق الذي ليس سوى وهم. وقد دوَّن ماركس في مفكرة خاصة يقول: "لا تاريخ للسياسة، للحق، للعلم، إلخ، للفن للدين، إلخ".
هذا لجهة الوصف. فينتج عنه قيام حد فاصل بين العلم والإيديولوجيا، وذاك في ما يتضمنه التقابل بين "تصور" مادي وتصور "مثالي". وهو فصل جذري بين العلم والإيديولوجيا. وقد عبَّر عن ذلك ماركس وإنجلز بوضوح.  " حيث ينتهي التأمل النظري في الحياة المتحقَّقَة يبدأ تحليل النشاط العلمي، تحليل مسار تطور حياة البشر العملية. وتنقطع عبارات الوعي الجوفاء وتحل محلها معرفة متحقِّقة". إن العلم بصفته علما تاريخيا يتصل بإنتاج الفكر نقيض الإيديولوجيا. فعندما يتم فسح المجال للعلم لا تعدو الإيديولوجيا أن تكون إلا كلاما أجوف لا معنى له، وعلما مزيَّفا أكثر منها وعيا مزيَّفا ينقشع انقشاع الصباح مع طلوع الشمس. إنها تقاليد عصر الأنوار. وتقاليد بيكون "مؤسس" المادية الذي كان أول من استعرض عبادة الأصنام، وأشاد بالحركة المناهضة لعبادتها، وهي الحركة الإيكونوكلاستية Iconoclasteعلى أنها بداية المعرفة العلمية.
وسِجُلُّ مفهوم الإيديولوجيا بهذا المعنى الأول كسبا ستتم المحافظة عليه. نقد الفلسفة المشبَّهة بالمثالية؛ هذا النقد المنخرط في إشكالية القلب، قلب المفاهيم. وقد كرَّر إنجلز ذلك في كتابه "ضد دوهرينغ"، عندما أشار إلى "الطريقة الإيديولوجية القديمة المحبَّبة"، والتي تُسمَّى عند البعض "الطريقة القبليَّة"، ولا تتمثل في معرفة الخصائص الملازمة للموضوع باستخراجها من الموضوع نفسه، إنما في استنتاجها لهذه الخصائص بطريقة برهانية من المفهوم المجرد لذلك الموضوع. وقد عاد إنجلز إلى هذا النقد بصرامة في كتابه "لودفيغ فويرباخ ...، حيث ينزل جذور الفلسفة مثل الدين في "تصورات الناس المتحجرة والجاهلة في المرحلة البدائية". وإن لفظي "مثالي" و"إيديولوجي" بالنسبة لكروتشه وللعديد من الآخرين لفظان مترادفان".
2/ القاعدة والبناء الفوقي:
إلا أن القلب ليس التكوُّن وليس استعارة تفسيرية. وتوصل ماركس بصورة ما إلى طرح إشكالية أخرى هي إشكالية "مقدمة المساهمة" الشهيرة التي يمكن تلخيصها في الجدول التالي:
(2) ع (علاقات إنتاج)          بنية أو قاعدة /أ/
(1) ق (قوى إنتاج)                    = =
بناء فوقي سياسي                      /ب/
أشكال الوعي                            /ج/
ويتضح هذا الجدول في سلسلة من الافتراضات:
-                العلاقة أ/ب – ج في مجملها: هي المادية؛
-                المجموعة أ/ب/ج/ تحدِّد مفهوم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية (ت إ إ )
-                التناقض ق إ/ع إ ، حيث تلعب ق دورا محدِّدا ("محركا") ، يحدِّد المسار الثوري، ويُحْدِث "انقلاب" كل ال ت إ إ ؛
-                إن عدم تجانس (تنافر) هذا الانقلاب: إن هذا التنافر "صارم من الناحية العلمية" في ما يتعلق/"القاعدة المادية" أو "الشروط الاقتصادية للإنتاج"؛ وعكسه (افتراضي ضمني) بالنسبة ل/"أشكال الإيديولوجيا"؛
-                من حيث زمنية هذا التنافر: ينتقل تأثير التغيير في القاعدة "بسرعة نسبية" إلى البناء الفوقي  ungeheure.
-                و لا تبقى هذه الافتراضات بدورها دون إبداء ملاحظات حولها:
-/ في ما يتعلق ب"اختصار" العناصر الثلاثة أ/ب/ج/ في عنصرين اثنين: القاعدة والبناء الفوقي، حيث نلاحظ في آن واحد معا أن ب و ج أصبحا ملتحمين أو مندمجين على أساس اختلافهما مع (1) و (2) جراء مقاربتهما. إذ إن ألفاظا  مثل "بناء فوقي" و"أشكال الوعي" و"أشكال إيديولوجية" اعتبرت مرادفات؛ وإن ب التي تبدو أولا بمثابة "بناء فوقي" و"أشكال الوعي"، وأشكال "إيديولوجية" اعتبرت مرادفات؛ وإن ب تبدو أولا بمثابة بناء فوقي حقوقي وسياسي ثم في أسفل الجدول بمثابة "أشكال حقوقية وسياسية" مدرجة ضمن الأشكال الإيديولوجية تحافظ مع ذلك على علاقتها ب أ (..."علاقات الإنتاج (ع أ) التي ليست سوى التعبير الحقوقي، الموجودة مع علاقات الملكية...")؛ ثم أنه ألا يفضي إلى "إدراج" هذا المستوى" الحقوقي السياسيـ نظرا لما يتكتم عليه النص، إلى مسألة الدولة "القوة الإيديولوجية الأولى"، كما قال إنجلز بصفة أعم إلى مسألة علاقات الإنتاج؟
--/ في ما يتعلق بالعلاقة أ/ب ج ، أي التناقض بين ق إ من ناحية ع إ وبين الأشكال الإيديولوجية من ناحية أخرى، هذه العلاقة التي تُقرأ حسب اتجاهين (اتجاه مزدوج)، اتجاه المسار في الواقع: نسير من أ (1) (2) إلى ب ج ؛ واتجاه المسار في الوعي ("الأشكال الإيديولوجية التي بمقتضاها يعي البشر هذا الصراع ويخوضونه حتى النهاية") فنسير من ب ج أو (ج ب؟) إلى أ؛ فالمرئي" في هذا الصدد، أليس أنه يتعين على ب ج أن تقرأ من زاوية أ ؟
وباختصار ألا نرى في هذه الصفحة عُقدة مسائل طالما لازمت التفكير الماركسي أو غيره وغذَت العديد من "تعريفات" أُعطيت للإيديولوجيا.
ومن البديهي أن يكون الاهتمام شبه الوسواسي بنص 1859 اليتيم الذي أولته إياه مجمل التقاليد الماركسية، من خلال المراهنة على تفسير مادي للإيديولوجيا . وقد طولب إنجلز الشيخ بإلحاح شديد، خاصة من قِبَل الأممية الثانية أن يفعل ذلك. وقد انكب أغلب المنظِّرين على معالجة هذه المسألة في ما بعد  يقودهم الشعور بأنهم إزاء مجال لم يتم إنجازه بعد. وتعبِّر المفاهيم الدلالات والتصورات المقدَّمة في إطار مسألة الإيديولوجيا، عن التردُّد والصعوبة، فهي تقدِّم عرضا شاملا للمواقف التي تبناها المنظِّرون الماركسية بحثا عن نظرية عامة للإيديولوجيا التطورية والوضعية والكانطية الجديدة ومدرسة فرانكفورت، إلخ. وسيضطر فريدريك إنجلز نفسه إلى اللجوء إلى وسائط، وذلك لتقدير الفرق (المسافة) بين القاعدة / البناء الفوقي، فيتعرَّض في موضع إلى المستويات أو "الحلقات الوسيطة"، تلك التي عقدَّت الصيرورات وجعلتها غامضة. وفي موضع آخر يتحَّدث عن إضافة بعض الأشكال الإيديولوجية السائدة، (مثل اللاهوت في القرون الوسطى)، وفي مكان آخر يقع الحديث عن الاستقلالية النسبية للإيديولوجيا. ويَطرح منهج الاستنباط بطريقة محيِّرة الإشكالية المتعلقة بتحديد آخر التحليل، ويبرز هذا المنهج من جديد وبصفة دائمة استعارة القلبauf den kopf )  واستعارة التقديم والتأخير، ويرجه الأمر إلى الدياليكتيك كآخر ملجأ. سوف يعود لابريولا إلى دور الإيديولوجيا السلبي/الإيجابي، ويتحدث عن التحليل وعن الاختزال وعن الوسائط والمكوِّنات، فاقترحّ شبكة المفاهيم والمعارف الضرورية للتفكير في كل الهياكل الاقتصادية وتشكُّلاتها التاريخية ب/"علم النفس الاجتماعي" وب/"أرضية اصطناعية" (ميدان اصطناعي) . وأكد بذلك أن الماركسية هي النفي القطعي والنهائي مع كل إيديولوجية". ومع ذلك قام ضد التعامل مع الإيديولوجيات على أنها "فقاقيع زائلة". ويصل في مناقشته ل/لابريولا إلى مفاهيم مماثلة (وسائط علم النفس الاجتماعي و"الحلقات الوسيطية") ويرفض مفاهيم أخرى ("العرق"). ويلح بليخانوف بدوره على أهمية دياليكتيك يتحاشى السقوط في الاقتصار على العامل الاقتصادي؛ فأظهر تدخل الطبقات في تغيير الإيديولوجيات، وأكد على فكرة السيطرة الإيديولوجية. وكان اعتماده دائما على نص 1859 ، حيث قرأ "إن علاقات الإنتاج نتيجة، وقوى الإنتاج سبب". وقد أفضى به هذا الاعتماد إلى البديل التالي: تكون المجتمعات البشرية من منظور نظرية العوامل عبئا ثقيلا سيقع على "قوى مختلفة، الأخلاق والحقوق والاقتصاد، إلخ، وسحب هذه المجتمعات البشرية وحملها بطريقة عشوائية على درب التاريخ. وتأخذ الأمور مجرى مغايرا من مفهوم المادية الحديث. وتتجلى "العوامل التاريخية" تجريدات (مجردات) خالصة (مجرد تجريدات)، وعندما ينقشع ضبابها يتضح أن البشر لا يصنعون تاريخا متعددا ومتباينا، تاريخ الحقوق والفلسفة إلخ، لكن يصنعون تاريخا واحدا هو تاريخ علاقاتهم الاجتماعية المشروطة بمستوى قوى الإنتاج في كل لحظة.
"إن ما نسميه إيديولوجيا ليس إلا انعكاسا متعدد الأشكال (الصور) داخل الفكر، ويتصل هذا الانعكاس بهذا التاريخ الأوحد وغير القابل للتجزئة".
وقد نقد بوخارين أيضا "نظرية العوامل" هذه، وأقام فارقا بين البناءات الفوقية والإيديولوجية جاعلا من الإيديولوجيا حالة خاصة من حالات البناء الفوقية، وذلك للوصول إلى أنه يوجد لدى ماركس علاقة ارتباط متبادل وانسجام بين نمط التصور Vorstelhungsweise ونمط الإنتاج. وكان غرامشي في تناوله لما ذهب إليه لابريولا الوحيد الذي كلَّف نفسه عناء قراءة دستوت دي ستراسي، وعاب غرامشي على بوخارين بقاءه "مقيَّدا بالإيديولوجيا"، وميَّز من جانبه بين "إيديولوجيات عضوية" ضرورية لهيكل ما، وبين "الإيديولوجيات العفوية". وبما أنه قرأ صفحة 1859 اهتدى بفكره إلى أن البشر يصبحون واعين بالصراعات التي تظهر في عالم الاقتصاد وذلك في ميدان الإيديولوجيا. وبرفضه إدماج الإيديولوجيا في علم النفس يدرج غرامشي الإيديولوجيا في الوحدة قاعدة/بناء فوقي، هذه الوحدة التي تكسبها قدرة تأثير ناجعة. وقد بقي دون شك مفهوما الهيمنة والكتلة التاريخية كما نعلم، بالإضافة إلى الأكثر جدة وثراء منذ "ملخَّص" ماركس. ولنذكر بأن صفحة 1859 نفسها أوحت للينين الرائد استعارة الهيكل (الاقتصاد) واللحم والدم (البناء الفوقي). وأوحت الصفحة نفسها لستالين بالصورة البيداغوجية صورة الإسكافي الذي يتحدَّد وعيه بالكائن الاجتماعي.
3//الطبقات والإيديولوجيات
مسألة أخرى لا تختلف عن المسائل السابقة ولكنها قد تبتعد عن إشكالياتها، وقد كانت هذه المسألة مطروحة في "الإيديولوجية الألمانية". وكان ماركس وإنجلز في إطار انشغالهما بتحليل تشكل الإيديولوجيا التي وصفا مظاهرها قد أبرزا ثلاثة عناصر.
4/ وجود الطبقات في المجتمع
إن الطبقات لا تحتل مواقع متشابهة في الإنتاج. فهناك طبقة تهيمن والطبقات الأخرى مسيطَر عليها. وتتصل ممارسة الهيمنة في الوقت نفسه بالإنتاج المادي والإنتاج الفكري geistiche : أي أن القوة الاقتصادية هي أيضا القوة الإيديولوجية. ونضيف: والقوة السياسية أيضا."أوليست الأفكار السائدة شيئا آخر سوى التعبير الفكري  idéelleعن العلاقات المادية السائدة، هذه العلاقات المادية السائدة التي تُفهم صياغتها كأفكار". إن الأفراد الذين يكوِّنون الطبقة السائدة ويحدِّدون هذه العلاقات المادية "ينظِّمون في الوقت نفسه إنتاج أفكار عصرهم ويوزِّعونها". إن هذه الصيغ المقترحة تَطرح بوضوح التماثل بين طرفي المعادلة. وتبدو رافضة ولو بدرجة ضعيفة للهوة بين الواقع وتصوره؛ وترفض اعتبار الأفكار سلعا كغيرها من السلع؛ وتنفي أن يتخلَّل الإيديولوجيا أي وهم. إنه تأويل مسطَّح يتم التخلي عنه في اللحظة التي يظهر فيها: إن العلاقات المادية التي تَمنح طبقة ما وضعها المهيمن توقظ لدى هذه الطبقة رؤية هذه العلاقات؛ ولا تقدر على عدم التفكير في وضعيتها الخاصة. "إنها أفكار هيمنتها"؛ الأفكار التي تُنتجُ عن هيمنتها، والتي لها وظيفة تبرير هذه الهيمنة في نظرها وفي نظر الطبقات التي تهيمن عليها. المفهوم هنا أنه إذا كان دائما مطلوبا من الأفكار السائدة لعصر معيَّن وطبقة معيَّنة تأمين شرعيتها بصفتها هذه، صفة السيادة، عندئذ تصبح العملية أكثر إلحاحا، بقدر ما يغدو حال القاعدة المادية التي تؤسِّس السيادة أقل اتساعا. ويعود الفارق هنا بقوة: فمصلحة الطبقة السائدة التي غاليا ما تَختلط مع "تصورها" لنفسها، يجب أن تقدَّم على أنها مصلحة جمعية أو "لكي نعبِّر عن الأشياء في مستوى الأفكار: يتعيَّن على هذه الطبقة إضفاء صفة الكونية على أفكارها". ويجد انفصال الإيديولوجيا هنا أساسه. فهو يفسِّر الوهم والتعاكس معا و"ليس نظام العلاقات الواقعية التي تَحكم وجود الأفراد، إنما العلاقة المتخيَّلة لهؤلاء الأفراد بالعلاقات الواقعية التي يعيشون في ظلَّها". وبوصول هذا الانفصال إلى أقصاه يُفضي إلى الوعي باستقلالية المقولات. "ويمكن أن نقول إذاً على سبيل المثال: في زمن سيطرة الأرستقراطية كانت السيادة لمفاهيم الشرف والإخلاص، إلخ. وفي زمن البورجوازية سادت مفاهيم الحرية والمساواة إلخ" وقد سَجَّل المفهوم المثالي للتاريخ هذه الظاهرة وجعلها منطلقاً له. ولم يبق له إلا استخلاص المجتمع المدني من المقولة التي تتضمنه ومن أشكال الوعي التي اَنجبتها بنفسها. وبلغة أخرى، "فإن التاريخ المثالي يَعتَبر العصر في ظاهر اللفظ فقط وحَسَب ما يعبِّر العصر ذاته، وحَسَب تمثُّل العصر لذاته.
ب/ عملية استخلاص المهنة
هكذا حدَّد لها ماركس القطاع العام إذ قال: لقد انطلق الأفراد وينطلقون دائما من أنفسهم. وإن علاقاتهم هي علاقات مسار حياتهم المتحقِّقة. فكيف يحصل أن تترقى علاقاتهم إلى الاستقلالية ضدهم؟ ,ان قوى حياتهم الخاصة تصبح لجبروتها قوى مضادة لهم؟ وباختصار: تقسيم العمل الذي تتوقف درجته على القوة المنتِجَة تنمّى في كل لحظة. ويوضِّح ماركس أن التعاكس أو التضاد auf den kopf  الإيديولوجي لا يمكن تلافيه لاسيما أن المهنة، من طبيعتها أن تَسمح بذلك أكثر: "فالقاضي مثلا يطبِّق القانون ولذلك يُعتبر التشريعية مثابة محرِّك حقيقي نشيط"؛ وتكون سلعته في علاقة مع ما هو كوني . ولا تلعب استقلالية المهنة دورا بمعزل عن وجود الطبقات، فإنها تتداخل معها إن أصبحت الظروف الخاصة ظروفا مشتركة وعامة بالنسبة لأي الطبقات. ويرتبط الفرد بهذه الظروف ارتباط السياسة بالتجارة. ويجب أن نوضِّح أن العلاقة فرد/طبقة هي علاقة معرّضة للتأرجح في كتاب "الإيديولوجية الألمانية". وتتميَّز بعدم الدقة الراجعة لمشروع الإشكالية الذي ما زال في طور الإنجاز. ونرى ذلك على سبيل المثال في هذه العيِّنة التي تحمل خاصية إبراز تعدُّد وجهات النظر الممكنة، وذلك في هذا القول: "إن هذا التناقض بين القوى المنتِجَة وشكل التعامل الذي حدث كما رأينا مرات عديدة في التاريخ الماضي ومازال يحدث إلى الآن (في أيامنا هذه) دون أن يعرِّض على أية حال القاعدة الأساسية للخطر. وقد انفجر هذا التناقض بالضرورة، في كل مناسبة، في ثورة متَّخذا في الوقت نفسه أشكالا ثانوية متباينة، مثل نزاعات شاملة أو صدامات الطبقات المختلفة أو تناقض الوعي أو صراع الأفكار gedankenkenkampf  إلخ، أو النزاع السياسي، إلخ. ويستطيع المرء من منظور ضيق أن يعزل أحد هذه الأشكال الثانوية ويَعتبره أنه أساس هذه الثورات. وهذا أمر يزداد بقدر ما كان الأفراد الذين باشروا الثورات ينسجون أوهاما تتصل بنشاطهم الخاص تبعا لدرجة الثقافة ولمرحلة التطور التاريخي".
ج/ دور الإيديولوجيين
نجد تقسيم العمل، الذي لا يظهر فقط في انقسام المجتمع إلى طبقات وفي توزيع الأفراد في مهن مختلفة. هذا التقسيم الذي يشق الطبقات أيضا. ويَخلق في صلب الطبقة المهيمنة تقسيما (انشطارا) بين "العمل الفكري والعمل اليدوي"، بين المفكرين والفاعلين، أو بمعنى أدق " بين مصممين إيديولوجيين فاعلين" die aktiven konzeptiven ideologen ، وبين متلقِّين سلبيين" mehr, plus, passiv an rezeptiv .
وهكذا تملك كل طبقة سائدة محترفيها الخاصين، عمالها العامين. من رجال دين ورجال دولة وحقوقيين وكتاب أخلاقيين، سواء كانت وظيفتهم جلية أمامهم أم لا. وفي ظلهم يَجني الصناعي أرباحه من أعمال لا ينجزها بنفسه، ويروِّج التاجر ثروات لم يصنعها. والرأسمالي في حاجة للقاضي حاجة مزدوجة، ليكرس عن طريق الجميع شرعية لا تخدم سوى مصالح طبقته، وليحقِّق لنفسه الوهم على أن الشرعية دائمة.
وتَطرَح هذه التحاليل مسألتين مختلفتين: مسألة وظيفة الطبقات ومسألة وظيفة الدولة ( وهما مسألتان غائبتان في مقدمة سنة 1859)
1.3. في ما يتعلق بالطبقات بصفتها مُنتجة للإيديولوجيات ومستهلِكَ لها وجب البحث عن الإيديولوجيا إذاً في الدراسات التاريخية الملموسة التي لا تعبِّر فقط عن تأثيرات هذه الإيديولوجيا على وعي المجموعات والأفراد، وإنما تعبِّر أيضا عن الخاصية المادية المندرجة في الممارسات (العادات والتقاليد واللغة والأدب والدين والفلسفة...)، وفي المؤسسات (نشر المعارف والثقافة و...السياسة، والأحزاب). ومن المجدي الانكباب على المصنفات وخاصة تلك التي المسماة  ب"التاريخية"، حيث ترد إشكالية الإيديولوجيا بطريقة مكثَّفة. هذه المؤسسات التي تأطر رأس المال، وأعمال نقد الاقتصاد السياسي، حيث يغيب لفظ إيديولوجيا أو يكاد. إن المصنفات المذكورة تمثِّل منجم معلومات نظرية. ويقدِّم كتابا "الصراع الطبقي في فرنسا" و"الثامن عشر من برومير" اللذان يحيل إليهما إنجلز بصورة منهجية في هذا الصدد أحسن مثال. انظر إيديولوجية "الأخوَّة"، والإيديولوجية "الجمهورية"، واستمرارية إيديولوجية ثورة 1789 في أحداث 1846. "يقوم بناء فوقي على أساس مختلَف أشكال الملكية، وعلى ظروف الحياة الاجتماعية، وهو بناء فوقي من الانطباعات والأوهام ومن طرق التفكير والتصورات الفلسفية الخاصة. وهي أشياء توجدها الطبقة بأسرها وتشكِّلها على أساس هذه الظروف المادية، وعلى أساس العلاقات الاجتماعية المطابقة لتلك الظروف. والفرد الذي يتلقاها إما عن طريق الموروث، وإما عن طريق التربية، وبإمكانه فعلا أن يتخيَّل أنها تمثِّل الأسباب الحقيقية المحدِّدة ومنطلق نشاطه". إن الإيديولوجيا ليست أبدا انعكاسا سلبيا، بل تشكِّل فاعلا تفرزه الطبقة. وقد تطرقت أعمال إنجلز في "وضعية الطبقة الكادحة في إنكلترا"، و"حرب الفلاحين"/ من بين غيرها، على الطريق نفسها، ثم كان على "الجريدة الريناينة الجديدة"/ وكتاب "الحرب الأهلية بفرنسا"، وآخر عمل  لم يتم إنجازه Urchristentem أن تتبع ما قبلها. هذا دون أن نتحدث عن المراسلات (بين ماركس وإنجلز) تلك التي تعج بملاحظات تحيل كلها إلى مفهوم مركزي: مفهوم الطبقة. إذ إن إيديولوجيا ما ترجع دوما إلى طبقة، وتخدم مصالح طبقة ما. فالطبقة منخرطة في الوقت نفسه في مسار  الإنتاج وفي الإيديولوجيا، وهذا يعني أنها تتمثَّل في الإيديولوجيا (مهما كان نوع هذا التمثُّل) علاقتها الخاصة بالمسار. ولكن هذا التمثُّل ليس أكثر "حرية" من المسار ذاته؛ فهذا الأخير يُنتج الإيديولوجيا ويعيد إنتاجها مرارا. إننا بعيدون كما هو ملحوظ عن علاقة ميكانيكية حيث يكون مآل الجهد من أجل المطابقة بين سلسلتين السقوط في الابتذال. وإننا لأبعد ما نكون عن ذلك. لاسيما وأن لا وجود لطبقات تتجلى دائما كمعطى جاهز مثل مجموع قطع الساعة المُشَكِّلة لآليتها، وأن لا وجود لأسوار عازلة بين الطبقات؛ وأن الصراع الطبقي هو الصيغة التي بها توجد الطبقات، ومثلما قال ماركس هو: "مَخرج كل هذه القذارة". وقد أبدع لينين في هذا الشأن مثل إبداع بريخت في "كتابات حول السياسة والمجتمع"، أو بلوخ في "فكر عصرنا".
2.3. في ما يتعلق بالدولة، فإن العلاقة مسيطِر/مسيطَر عليه هي التي توضع موضع سؤال. ويوحي كتاب "الإيديولوجية الألمانية" بوضوح أن سيطرة المثالية وسيطرة البورجوازية تمثّلان شيئا واحدا متجانسا. وهكذا أُقيم جسر بين الإيديولوجيا والمكانة المتميِّزة لطبقة ما، وبين القوة المادية والقوة الروحية، وبالتالي أُقيم أيضا مبدئيا، جسر بين إمكانية نقد جذري، أي مدَّعم تاريخيا، أو نقد "علمي" يتصل بالأفكار السائدة وبين الثورة البروليتارية. وسيكون كتاب "بيان الحزب الشيوعي"، من هذه الوجهة، قاطعاً: "إن البروليتارية الشريحة الاجتماعية الأكثر تدنيا حاليا، لا يمكن لها أن تنهض وتأخذ انطلاقاتها دون أن تفرقع كل البناء الفوقي للشرائح التي تكوِّن المجتمع الرسمي"). لكن إذا لم تكن الأفكار السائدة دائما سوى أفكار الطبقة السائدة، وإذا كانت لا توجد غرابة في تحرك الوعي الاجتماعي في كل العصور، بقطع النظر عن كل تعُّدد وكل تنوع، بأشكال موحَّدة وبأشكال من الوعي لا تنقرض تماما إلا بانقراض التناقض الطبقي كليا"، فكيف يتسنى للبروليتاريا فرض أيديولوجيتها وسياستها، وبالتالي فرض هيمنتها؟ أفلا يجري الأمر، من "الإيديولوجية الألمانية" إلى "البيان الشيوعي"، وكأن "الإيديولوجية البروليتارية" تتضمن تناقضا في مستوى العبارة؟ ثم إن وظيفة الدولة باعتبارها "قوة إيديولوجية أولى"، وباعتبارها صانعة للإيديولوجيا بتغييب العلاقة بالظواهر الاقتصادية مثلما سوف يؤكِّده إنجلز، أليست هذه الوظيفة وظيفة حاجز منيع؟ هناك إجابتان ممكنتان وباستطاعتهما أيضا الاستنجاد بدعامة مقدمة 1859 سواء قرأناها على أنها بناء ذو مستويين (قاعد/بناء فوقي انظر الجدول السابق (أ/ج) أم قرأناها على أنها بناء ذو مستويات ثلاثة (الإحالة أ/ب/ج) نفسها. في الحالة الثانية نجد أنفسنا إزاء شكل انقسام-انعكاس (مسألة الاستقلالية المثالية في "الإيديولوجية الألمانية" أو مسألة الانفصال المثالية في الأطروحة الرابعة "أطروحات فويرباخ". إن الطبقة التي تسيطِر على علاقات الإنتاج تفرض بفضل الدولة سيطرتها على مجموع البناء. فالإيديولوجيا هي انعكاس مقلوب لعالم معكوس رأسا على عقب، مسحور. ولا مفر من مثال الصورة المعكوسة في المرآة، وذلك من ظاهرة الاستلاب إلى الفيتسشية (أو التيمية)، او عبادة الأصنام) وكلتاهما دائمتان. ففي الحالة الأولى تنتشر الإيديولوجيا في كل مكان داخل البناء الاجتماعي. وإن الوعي بالصراعات وبالممارسات هو وعي الأسياد الذين يسهرون بالاحتفاظ بنفوذهم، ووعي المقهورين الذين يسعون إلى فرض هويتهم، وذلك حتى عبر المرآة التي يمدُّهم بها الأسياد. وتخدم المطالب الأولى مصلحة الإيديولوجية البورجوازية بغية تحولها ضد نفسها: أي مطالب من نوع حرية-مساواة-أخوَّة وعدالة اجتماعية، بل حتى القانون الذي يبقى قانونا بورجوازيا في ظل ديكتاتورية البروليتاريا. وتحكم علاقات اجتماعية مشابهة صنفي الوعي، وتضبط حدودهما برقابة الصراع الطبقي. ثمة إذن تاريخ للإيديولوجيا فعلي، وممارسة بروليتارية ممكنة. وفي الواقع إن المنطقين يلتقيان دون الوصول إلى تغطية بعضهما تماما. وفي هذا المعنى، فإن مشكلة الفيتيشية في "رأس المال"، ليست مختلفة جوهريا مع إشكالية مقدمة سنة 1859. وبالنسبة لكتاب "البيان"، مثلما كان الشأن في ما مضى بالنسبة لكتاب "المسألة اليهودية"، فإن البروليتارية هي بصورة ما المقصي المطلق من التشكيلة الاجتماعية البورجواية، قطبها السالب، وقطبها النقيض. ولا تخضع البروليتارية بهذا المعنى وبطبيعتها لهيمنة ما. ويمكن أن نتساءل هل يمكن للبروليتارية أن تحافظ على معنى وجودها بما أن "كل خاضع لقساوة الحسابات الأنانية. وبالنسبة لكتاب "رأس المال" حيث يغيب لفظ إيديولوجيا أو يكاد، يجب أن نفسِّر سيطرة رأس المال على العمل أيضا في صلب ميدان الأفكار. فلم تعد الطبقة العاملة خارج المجتمع، فهي لا توجد إلا خاضعة لرأس المال، وذلك سواء ضمن نظام الأجر أو ضمن المؤسسات و"أشكال الوعي". وهذه الأشكال هي تعبير عنه. فالطريقة المادية الوحيدة، وبالتالي العملية، كما يكتب ماركس "تتمثَّل في تفسير كيف تأخذ ظروف الحياة الواقعية شيئا فشيئا شكلا متعاليا (بعيدا عن الواقع" . وبمعنى أخر كيف تنشأ فيتيشية العلاقات الاجتماعية وتشيءها، ثم ماهي شرعية هذه الأجوبة الكامنة في الأنساق  السائدة المتمثلة مثلا في التعاضدية وفي العقد وفي العمل الحر أو المساواة، وكيف يمكن إرساء نقد خارجي عن طريق الثورة. وبما أن الإيديولوجية المقهورة هي بالضرورة وفي الوقت نفسه شكل رضوخ وشكل صراع، فإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والصراع الطبقي، يعيِّن النقطة الأكثر تناقضا، حيث تسعى السياسة البروليتارية جاهدة لكسر جليد الأجهزة الإيديولوجية. إن تدعيم استقلالية الطبقة المقهورة يتداخل مع إبراز النزعة الشيوعية المرتبطة عضويا بكتاب "البيان الشيوعي. إن هذا التدعيم هو الرهان الحقيقي لقلب الهيمنة. هذا الرهان الذي يكمن هو أيضا في صلب العلاقات الرأسمالية. وهنا يكمن بلا شك هذا المنطق المزدوج الذي حاول إنجلز التفكير فيه، وذلك بتعويض مفهوم إيديولوجيا ب"النظرة إلى العالم". وتشكل نزعة معاداة الدولة لدى الطبقة العمالية (ديكتاتورية البروليتارية في كتاب "الحرب الأهلية في فرنسا" الظرف الملائم للرد على دولة البورجوازية بصفتها منتَجا ومراقبا إيديولوجيا. كما تشكِّل هذه النزعة النقيض الأكيد للاقتصادية التي جعلت من الماركسية ذاتها إيديولوجية مقهورة، إذ إن تغيير ميدان الطبقة العاملة ليس قط بالأمر الذي يمكن اعتباره وكأنه منجز.
4/ الإيديولوجية العلمية
حسم لينين الأمر بسرعة مسجلا الطابع الذي أصبح سائدا في الماركسية والحركة العمالية العالمية. مجذِّرا بذلك في السنوات الأولى من القرن العشرين نزعة الأممية الثانية الإصلاحية، تلك النزعة التي كانت روزا لوكسمبور قد شرعت من قَبْلِ في صياغتها. وجمع لينين بين المقولة الكاوتسكية المتصلة بالتلاحم بين الطبقة العمالية والعلم لاستعمالها في كل ظرف قومي، وبين المقولة التي ستصبح مفضَّلة لدى غرامشي، والقائلة بأن تخلق الطبقة بنفسها مثقَّفيها الخاصين بها والمناقضين للإيديولوجيين البورجوازيين، وذلك لطرح مسألة تتمثل في أنه يمكن وجود طريق ثالث بين الإيديولوجية البورجوازية والإيديولوجية الاشتراكية. وعلى الطبقة العاملة أن ترتقي إلى وعي مجموع البناء الاجتماعي، و"ينبغي أن تكون لها معرفة دقيقة بالعلاقات المتبادلة لجميع طبقات المجتمع المعاصر". أما إيديولوجية هذه الطبقة العمالية فهي الاشتراكية الديمقراطية، وتصبح هذه الإيديولوجيا مطيَّة للعلم، وتربط عضويا (ربطا وثيقا) النظرية الثورية بالحركة الثورية. ومن ثمة فإن "الأيديولوجي" لا يكون جديرا بهذا الاسم إلا إذا سار في طليعة الحركة العفوية، تلك الحركة التي يدلّها على طريقها، إن كان يَعرف قبل الآخرين حل كل المسائل التي تصطدم بها حتما "عناصر الحركة المادية". ويكون الوعي الطبقي أولا بمثابة "وعي حاصل" متمكِّن من العقلانية ومن الاحتمالات الثورية. وتتحدَّد الممارسة السياسية آنذاك بالمبارزة ما في هذه الكلمة من معاني. ويعوِّض اعتبار شمولية النضال عن طريق الأفكار السائدة، تلك التي أهملها لينين (الذي كان في ما يبدو يجهل فيتيشية البضاعة بفضح العدوى وفضح الردَّة اللتين تَحدثان داخل الاشتراكية الديمقراطية تحت تأثير عدوى الإيديولوجية البورجوازية الدائمة، سواء كانت هذه العدوى راجعة لتأثيرات البورجوازيين الصغار أم لدور المثقفين. وبالتالي ينفصل مفهوم الإيديولوجيا عن مفهوم البناء الفوقي، ويبرز الحزب، مثل البروليتاريا كما ورد ذكرها في كتاب (البيان الشيوعي" بمثابة مجتمع مضاد، بل يبرز بمثابة دولة داخل دولة. ويتحوَّل التقابل علم/إيديولوجيا ليصبح عقلا حزبيا، وعلما حزبيا.
 
وسيوجد من جديد، ودفعة واحدة، التناقض القديم الذي ستعطيه المجتمعات الاشتراكية، أو بالأحرى واقعها قبل 1917، دورا جديدا. وإذا أخذنا العلاقة أفكار مسيطِرة/طبقة مسيطِرَة على ظاهر اللفظ، تصبح هذه العلاقة لدى المجتمعات الاشتراكية مبدأ منظَّما. ويترتب على ذلك التلقين الإيديولوجي الذي يُنتج ثانية سيرورة السيطرة البورجوازية مقلوبا رأسا على عقب. ويظهر ذلك في دور التعليم وفي إرساء التعليم الماركسي اللينيني والدعاية، والرقابة...وقد تذهب النزعة الاندفاعية المتحكِّمة بإنتاج "الإنسان الجديد" إلى إعطاء العوامل الإيديولوجية دورا متميزا (انظر "الثورة الثقافية" الصينية أو "ثورات الذردتشية الثلاث". وليس تقديس الشخصية الذي ظهر في هذا البلد أو ذاك محض صدفة ولكنه نتيجة نظام معيَّن. وتمثِّل هبَّة النزعات القومية داخل الماركسية المطبَّقة تلك الهبَّة التي قد تصل إلى صدامات مسلَّحة بين البلدان الاشتراكية، مظهرا أخر، وتقوِّي استمرارية التناقضات الواقعية وفي مقدمتها الاستقلالية العمالية هذه الظواهر.
وعلى الجملة، فإن خطر أدلجة الماركسية كما لمسه لابريولا أصبح متأكدا. وبالفعل ينقلب "العلم" إلى عقيدة، بل إلى تعليم ديني، ويصبح بذلك منذ اللحظة التي يطرأ فيها تحوُّل في تحليل موازين القوى التي يضمنها الحزب تحوُّلا لا مردَّ له، ويتحوَّل هذا التحليل إلى أوامر وشعارات ، ويكون الأمر أكثر استفحالا عندما تمارس المركزية الديمقراطية مثل مفتاح نظام آلي، حيث تقرِّر الإطارات كل شيء، وحيث يكون الحزب "القائد السياسي للطبقة العمالية" دائما على حق.
ملاحظة: إن صعوبة الإحاطة بمفهوم إيديولوجيا لدى ماركس وإنجلز ذاتيهما يشهد على طابع النظرية المتفتِّح، كما يشهد على العراقيل الناجمة عن التبسيط المفرط. فبين القبول بدلالة منقصة سائد لدى مؤسِّي الماركسية، وبين دلالة المفهوم الموضوعية لدى لينين من ناحية، وبين الاختزالات الميكانيكية الميكانيكية وإعطاء الأولوية للبناءات الفوقية هذه الثنائيات المتكاملة، ثم اعتماد درب التحليل العيني "المادي" للإيديولوجيات انطلاقا من ظروف نشأتها التاريخية، وانطلاقا من دور هذه الإيديولوجيات في صلب الهياكل الاجتماعية التي لا تنفصل عنها. وبحثا عن نظرية عامة في شكلها، بما في ذلك "البيان الشيوعي"، تفضل البحوث المختصَّة التي يعوِّض ثراؤها البساطة الظاهرة، سواء تعلَّق الأمر بمفهوم "النظرة إلى الكون"، أي بمعنى الماركسية التاريخية نفسها، أم تعلَّق بميدان ما سمُّي "بناء فوقيا" (أدب، لغة، فلسف، دين، إلخ). وإن استراتيجية سياسية، بروليتارية، على عكس النزعة الاقتصادية، مثل الفلسفة والتاريخ، ما زال هذا التحديد موضوع الساعة، بانسبة لمفهوم الإيديولوجيا أكثر من أي وقت مضى.
جورج لابيكا
ترجمة بوسطلة عبد الله
جيرار بن سوسان، جورج لابيكا، معجم الماركسية النقدي، صفاقص/بيروت، دار محمد علي للنشر/ دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003
الديمقراطية-الثورة
إن الإحداث في حيِّز الإيديولوجيا (الإحداث: الممارسة السياسية التي تنتقل بصورة متصلة غير منقطعة من العفوية والتلقائية الثورية إلى النظرية الثورية والوعي الثوري المنظَّم حزبيا معرفيا. ح.خ.ش.) هي ممارسةٌ. ففي اللغة، كما في مفاهيم الهيمنة المسيطِرَة، إذا ما اجتازتها الممارسة من أولها إلى آخرها، فإنها تستدعي ترجمةً سياسيةً لها قوامها صياغة للشروط اللازمة لمقاومة هيمنة الطبقات المسيطِرَة، ودحرها. لذا، فإن لابيكا يُدرك في ضوء هذا التعريف للإحداث، في مؤلَّف له بعنوان "الديمقراطية والثورة"، أن هذه الصياغة قوامها ما يأتي: إن انهيار اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، شأنها شأن هزيمة التجارب الثورية في القرن العشرين يُبيد أعداء الثورة الاشتراكية، بيد أنه يُبْقي على عدو واحد (العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة (ح.خ.ش.). هذا العدو، وإن كان يَفتَقِد إلى وزن كافٍ مقابل الطبقة الثورية، فإنه يحطِّم توازناته وقوانينه مطلقا العنان لغرائزه الفتاكة والمدمرة.  مقابل هذا الخصم تقف قوى هائلة من حيث ضخامتها، لكنها متنوعة، متعدِّدَة، بل وإنها أيضا تفتقد إلى التجانس في ما بينها. بتعبير آخر، فإن التوافق في ما بينها كي ما يُكْتَسَبُ، إنما تعوزه، كي ما يُنْجِز وحدة أو اتحادا تنظيميا، تلقائية ٌغير متوفرة له، تضمن إنجاز هذا التوحيد التنظيمي (حركة مناهضة العولمة النيوليبرالية انحسرت بعدما كانت عَرِفَت مدا شعبيا واسعا. ح.خ.ش.). الأمر الذي يقود بنا إلى الفرضية السياسية التالية: إحداث أنماط هذا التوافق، البحث عن شروط تكوّنها في كتلة واحدة متجانسة بحيث تصبح قادرة على انتزاع النصر. المهمَّة الملقاة على عاتق الثوريين الشيوعيين أو الاشتراكيين تُلْزِم بإعادة بناء الماركسية بما يتلاءم مع القرن الواحد والعشرين. ماركسية مُحَمَّلة بانتصار ممكن. ماركسية المقاومة أو السلطة المضادة. ماركسية يدعونا لابيكا إليها مقابل ما يُسمِّى "حركاتية"، والفوضوية التي تنتشر لدى اليسار اليوم، بما في ذلك اليسار الجذري.
فإذا كان من المتعذر العودة إلى التشكيلات التي كانت سائدة في الماضي، وكان أيضا من المتعذر إعادة المصداقية لسياسات كانت مُؤْتَمَنَة على الوعي الثوري، فإلى أيِّ سند تعود إليه هذه الفرضية؟ بمعنى آخر: ما هي خطوط الشَرْخ ضمن الهيمنة الليبرالية الراهنة؟ ما هي، أيضا، المكوِّنات الداخلية في الزمن الراهن للسيطرة الليبرالية على الوعي السائد بين المسيطَر عليهم، والتي تسمح بتكوين فرضية مناهضة للهيمنة؟
إن جواب لابيكا، في ما يتعلق بتكوين الفرضية المناهضة للهيمنة الليبرالية، المناهضة، بتعبير آخر، للوعي المفروض إيديولوجيا وبالعنف على المُكوِّنات الواعية للمسيطر عليهم، جواب لابيكا على هذه الفرضية يواكب تصاعد مطلب الديمقراطية بصورة ملِحَّة، واسعة الانتشار وشمولية. المطلَب الديمقراطي هو نفسه الدرس العميق والقاسي المستنبَط من تجارب الماضي، بما في ذلك فشل الأنظمة المنبثقة عن ثورات القرن العشرين. لذا، فإن هذا المطلّب المُلِحُ هو اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. هذا، وإن هذه الرأسمالية من حيث هي محرِّكٌ للعولمة الإمبريالية، إنما هي عدو الديمقراطية، ومزيِّفة للديمقراطية، بل وإنها مزيِّفةُ السياسة والديمقراطية في وقت واحد معاً. 
إن المعنى من وراء انطلاق مسارات الديمقراطية وتعزيزها لا يشكل فقط وسائل للصمود. بل وإنها إلى جانب ذلك طرقٌ للهجوم المضاد. فلكي تبقى المسارات الديمقراطية واقعية لابد لها بالضرورة من مهاجمة الملكية الخاصة والدولة التي تتمركز سياسيا بها السلطة الاجتماعية. لذا، فإن طرح مسألة الديمقراطية، ديمقراطية فعلية ومنتصرة، إنما يستدعي لزاما أن تُطرح مسألة السلطة، وذلك في مواجهة الأطروحات الفوضوية ذائعة الصيت، والتي تعجز عن الاستغناء عن السلطة نفسها من حيث هي سلطة قمعية تستدعي برأيهم تمتين "السطات المضادة" وغيرها من سلطات متعدِّدَة. إذ إن التوافق بين القوى الاجتماعية المتعدِّدَة يحدث في الميدان الاستراتيجي، بالإضافة إلى الهدف المقصود من الديمقراطيةَ. لاسيما وأن تَحَكُّم رأس المال موجَّه ضد هذه الاستراتيجية الثورية، موجَّه أيضا ضد الهدف المقصود من وراء الديمقراطية. إن مقاومة هذا الهجوم المضاد لرأس المال لا يقوى على صده أيَّ شكل تنظيمي منفرد بنفسه. مسألة العنف الثوري تأتي إلى هذا الحيز الاستراتيجي الثوري، الديمقراطي الثوري، لتأخذ مكانها عيره. عبر ما إذا كان هذا العنف دفاعيا، أم ليس دفاعيا فقط، وإنما وسيلة أيضا للدفاع عن المُسْتَغَلِّين ضد عنف الأقليات المستَغِلَّة، فضلا عن كون هذا العنف قطيعة مع شرعية العدل البورجوازي، وكون العنف أيضا خلَّاقا لنظام من نمط جديد. إن انبثاقاً للديمقراطية، وقد أُعيد تَشَكُّلُها على هذا النحو، انبثاقها من مسار إِحداثها بصورة ملموسة، وليس حسب طريقة الليبرالييين التي تقوم على أسس من الترتيبات ما بين المؤسسات، أو الترتيبات التنسيقية. إنهما يجعلان من هذه الديمقراطية الثورية العادلة ديمقراطيةَ مجموعةٍ من الممارسات التي تُتَرجِم عن الإمكانية المتَّسِعَةٍ للسياسة.
إذن، فإن الديمقراطية والثورة لا تنفصل الواحدة عن الأخرى لتشكلا تكوينين منفصلين. كلا، إنهما لا تنفصلان لأن الانفصال يجعل منهما مُكَوِّنَتين اثنتين إِحداهما مختلفة عن الأخرى. إنهما متماثلتين ضمن علاقة ما بين الشكل والجوهر، الشكل والماهية، حسب تعريف سبينوزا. إنها بهذا المعنى، أي شكل وماهية، تدلِّلان على صيرورة واحدة من نمطين اثنين، ضمن حركة واحدة إحداثية. إن الديمقراطية بمفهوم لا بيكا تضحى على هذا النحو الديمقراطية-الثورة أسماً يُبنى عليه، في ظروف الرأسمالية النيوليبرالية منزوعة اللِّجام، "خطا جماهيريا "متلائما مع "الحركة الواقعية التي تنتهي إلى إلغاء الحالة الراهنة"، والانتقال منها إلى الشيوعية. (الديمقراطية-الثورة): باختصار شديد، فإن الديمقراطية الثورية العادلة متن سياسة واسعة، كي ما تُحدَث، فإنها لا تُنجز دوما ما لم تكن الثورة ملازمة لها بصورة مستديمة. ح.خ).
العنف التحرُّري
هاهنا يظهر التلاقي بصورة متقاطعة بين خطوط نقد الإيديولوجيا وبين خطوط الفرضية السياسية للديمقراطية-الثورة: هاهنا تظهر مسألة العنف من حيث هي قمعٌ، كبحٌ وكبت، تمارسه السيطرة النيوليبرالية الراهنة لتغطية ما تمارسه من عنف ضد المستَغَلّين. إن هذا الكبح، بتعبير آخر، يشكِّل حلقة صلبة ضمن الإيديولوجيا المسيطَرَة، وهيمنتها القضائية. إنها، هي نفسها التي تزيِّيف الديمقراطية. تزييفها، بوجه خاص، حينما تَنْزَع بصورة مزيَّفة عن "دولة القانون" بناءها السياسي. تنزع عنها حقيقتها السياسية، لتُكْسِبها شكلا ما هو سوى لعبة التمثيل التشريعي وقد فُرِّغ من ماهيته. ثم قلِّص حتى بات آلةً لإنتاج إجماع سياسي، و"خيار" لا يلبث بدوره أن يتبعثر ضمن خيارات لا حصر لها في سوق السياسة. فإذا لم تتَّضح مسألة العنف، فإن من المستحيل إذن تقبُّل فرضية الديمقراطية-الثورة.
 
هذا هو موضوع المؤَلَّف الأخير لجورج لابيكا. "نظرية العنف" عملٌ تركيبي بعناية، لا مثيل له بين غيره من أعماله ما بعد "الموقع الماركسي للفلسفة". الأمر الذي يحملنا على اعتباره بمثابة تتويج لما سبقه من أعمال، فضلاً عن كونه وصيَّته الأخيرة. إنه فريد بين غيره من حيث نمط التركيب، حتى وإن كان يَتِيه ببعض القراء. إنه أيضا على غرار عنوانه ذي الحضور الكلي، أو الحضور في كال مكان، فإن لابيكا يَذهب بالقارئ إلى زوبعة من المراجع التي تذهب من دراسة معمقة للإنجيل، وفي مقدمته كتاب النبي أيُّوب، إلى اجتياز ممر طويل لفن الرسم الإيطالي، عبر مكتبة ضخمة من الادب السوسيولوجي، الفلسفي، السينمائي، المسرحي ومحض الأدبي. كل ذلك يجتمع حول عصر ثقافي ذي بعدٍ أشبه ما يكون إلى كوكب الأرض. هذا العمل يتجاوز بصورة قاطعة وكلِّية كل ما هو تمرين للتنقيب في بحر من العلم. ثمة هنا مقارنة ممكنة وتوضيحية مع "مبدأ الأمل" لدى إرنست بلوخ. فلابيكا يجهد كي يبيِّن أن العنف ذو حضور كلِّي في عالمنا الراهن. من هنا تأتي صعوبةٌ جمَّةٌ في حصر العنف بكلمة واحدة تجعل منه "مفهوما" فلسفيا أو غير ذلك. "العنف" كما يؤكد لابيكا في مقال له منشور في "المعجم النقدي للفلسفة"، في العام 1985، إن العنف ليس "مفهوما". "العنف" يَتْبَع مبدأ التشتت في كل مكان بصورة جذرية. ما كان يحمل لابيكا على تأليف "نظرية العنف" من حيث أن مُؤَلَّفه يعادل الشكل المجازي للعنف.
لكن الممر برتسم رويدا رويدا مع التقدّم بصورة تدريجية بالقراءة. الأمر الذي يقود بقارئ هذه الترسُّبات الثقافية التي تجتاز الزمان من الماضي إلى الحاضر، من خلال التضييق المركَّز للموضوع، يقود بالقراءة إلى الأنماط الإيديولوجية التي منها يَصْدر اليوم ما ندركه من العنف. من هذه الأنماط الإيديولوجية للعنف تنتقل القراءة إلى الأسس الموضوعية أو بالأحرى النسقية لإيديولوجية العنف بمعانيها الإيديولوجية، بما يقود بالتالي إلى "العنف الثوري". فإيديولوجيات العنف تَمْثُل بذاتيتها المفرطة وآليتها الميكانيكية وممارستها، سواء من ناحية "الضحية المعذَّبَة" التي تُقاسي من العنف وتحظى بدفاعنا عنها، أو سواء من جهة ممارسة العنف بصورة في غاية العدوانية، وتستحق من الجميع إدانتها. هنا لابيكا يُنَبِّه إلى أن الموافقة على الصيغة الإيديولوجية للعنف المفرِط بآليته الميكانيكية، وهو واسع الانتشار في المجتمع، واسعٌ حتى أنه يَكتَسِب قوة ما هو بديهي، ما هو في واقع الأمر، ولهذا السبب على وجه التحديد، ما هو سوى الإيديولوجية القضائية المسيطرة، الإيديولوجية المؤَسِّسَة ل/"دولة القانون" المعاصرة. إذ إن ما هو قانون، ليس هو سوى أسلوب وشكل العلاقات الاجتماعية للدولة، ولا صلة له بالحق والقانون بنظر الضحايا المعذّبين والمستَغَلّين. لذا، فإن المعايير التي تؤسِّس للحق والقانون، هي التي تكشف، على نقيض ما تدَّعيه أساليبها وأشكالها، تكشِف عن عنفها المفرِط وعدائيتها المفرِطة. إن الدعوى إلى الحق والقانون بشكله وأسلوبه المزعوم، ما هو سوى ما يفترضه الحق والقانون، وهو علاوة على ذلك أشكالٌ للعنف المفرط.
بتعبير آخر، فإن القانون في مجتمع الصراع الطبقي، ليس نقيضاً كما هو يزعم لمخالفة القانون، إنما هو بالذات أداته التأسِّيسِية والتحويلية باسم "شرعية" مزعومة مزيَّفة، وذلك بحسب الظروف والشروط. إنه ليس نقيض العنف، إنما هو تقنينٌ للعنف أو عقلنةٌ له. إنه تحديدٌ لترسيم وانحياز حدود العنف بصورة مستمرة، وهو في نفس الوقت ممارسةٌ للعنف، وقيادةِ لأجهزة الدولة له باسم "الشرعية". يترتَّب على ذلك إذن أن "الهدف" من القانون الذي يزعم أنه يهدف إلى محاربة العنف، أو حتى تقليصه، إنما يهدف بما في ذلك في الحالات "العادية" إلى التستر المكّثف بصورة واسعة على ما يسمِّيه العنف "الموضوعي"، وبتعبير أدق التستر وحجب نظام الدولة وبنيتها. حجبٌ، في المقام الأول، للعنف الاجتماعي والاقتصادي. حجبٌ لكل ما يُشارك في الآليات الطبقية للسيطرة الرأسمالية، والتي تَسْحَق حياة البشر وتُثير هلعهم حيال الدورة الاقتصادية، أي حيال التسريحات، البطالة والبؤس. (فإذا ما حذفنا الإيديولوجيا أو وضعناها جانبا، فإن المجتمع الرأسمالي، من وجهة نظر "الصراع الطبقي"، أومن حيث الوجود بالقوة، يَخَضَع دوما إلى "حالة الطوارئ". للتدليل على ذلك، فإن سلطةَ الطبقةِ البورجوازية المسيطِرَة لا تفرض حالة الطوارئ، من حيث الإمكان، وحسب الدستور المعلَن، ما لم تَفرض التهديدات عليها ذلك. هذا كلَّه من حيث ما هو ظاهرٌ معلنٌ. أما وأن الصراع الطبقي موجود دوما بالقوة، كنقيض للدولة البورجوازية، ومن حيث هو ظاهرٌ غير مخفٍ، وكانت إيديولوجية "المشرَّع" قانونيا ودستوريا موجودة بالإمكان، فإن الطبقة البورجوازية المسيطِرَة تستعير بصورة متسَّتِّرة وبالمجاز والإمكان إيديولوجية القانون لممارسة حالة الطوارئ بصورة يومية مستمرة بيد أنها مخفية وراء الزيف الإيديولوجي للقانون.  ح.خ.ش). فالعنف "المشرَّع" القاتل الذي تمارسه خفية الأجهزة القمعية للدولة، حتى وإن كان يقع تحت سيطرة القضاء بحدود "دستورية" حسب مزاعم الإيديولوجيا، فإنه يتضمن بصورة مستديمةٍ آلياتٍ عقابية آكلة للحوم البشر، مخفيَّة في خبايا الحيِّز العام، لا يعلم بها أحد، (أو هكذا يُخَيَّل للإيديولوجيا). لكنها وفق حقيقة الطبقات المُسْتَغَلَّة تبدو وثيقة الاتصال بسيطرة البورجوازية المهيمِنَة، حيث تُشَكِّل دولة العقاب النيوليبرالية شكلها الراهن.
هذا هو السبب الذي يحُول دون أن تضَعَ الدولة حدّاَ لعنف المُسَيّْطر عليهم، عنفهم المضاد. ذلك حتى وإن  كانت تغيِّر أشكاله، شروطه وظروفه، منذ ظهور الأشكال المتنوعة للعنف الشعبي المضاد، وهو فردي أحيانا، جماعي أحيانا أخرى، وصولا إلى العنف الجماهيري الذي يشكِّل إشارة يقينية تدلِّل على الأوضاع الثورية. إن عنف المُسَيّْطَر عليهم ما هو سوى ردٌّ على العنف البنيوي للنظام، أي عنف مضادٌ يعود بعنف الدولة إليها. إنه عنفٌ ضروري ولا مفر منه. ذلك أن من المحال أن يُقَلَّصَ عندما يكون موجَّها ضد علاقات اجتماعية هي من حيث ماهيتها عنيفة. فضلا عن ذلك، فإن العنف المضاد إذن ليس موضعا لخيار حر من جهة المُسَيّْطَر عليهم طالما هو من حيث الجوهر رد فعل على عنف النظام. لذا، فإنه لا يساوي العنف القاتل الذي يُمارَس من قِبل الدولة والطبقة المسيّْطِرَة. أما "اللاعنف" المُنادى به هنا وهناك، فإن لم يكن موضعا لخيار انتقائي، أي يدمِّر نفسه بنفسه، فإنه يتكشَّف عن معنى أكثر رزالة من الآمال الفاضلة، أكثر رزالة من الإعلان الصريح عن العجز. إن هكذا موقف لا يمكن الدفاع عنه. فإذا كان العنف بالممارسة يتدرج في قسوته درجات درجات، فإنه لا يقف أبدا عند درجة الصفر. أي إن اللاعنف لا وجود له.
ما يستحق منا التنويه هو أن "نظرية العنف" للابيكا تعود بنا إلى نقطة البداية، وهي العنف "الإلهي" حسب ما يظهر علية في كتاب النبي أيُّوب. هذا العنف من حيث جذريته عنف عبثي يتخطى الخير والشر، لأنه هو الذي  يؤسِّس لمعنى مؤدَّاه أن الانبثاق المطلق لعالم لا يحوز على المعنى ما لم يَحُز على الإيمان به (...المُتَرجِم).
إن العنف الذي يسَتولي على الدولة يحطِّم الجهاز القديم ويُشيِّد مشروعية جديدة تهدف إلى إلغاء العداوات الطبقية. هاهنا تكمن حلقة المقاومة التي تحدِثُها الإيديولوجية المسيطِرَة. إنها تريد في مقاومتها الأخيرة أن تَمنَع التفكير. مقابل ذلك، فإن مقاومة الجماهير، الشعب، أو الطبقة المستَغَلَّة، للعنف المسيطِر الذي تمارسه البورجوازية، (بل، واختراقها للبورجوازية الحاكمة، بما في ذلك انتهاك الحدود الدنيا للشرعية السائدة من قبل أكثر المضْطَهَدين جذرية، يبدو مبرَّرا من جهة العنف المؤَسِّس شرط أن يكون عنفا استراتيجيا يؤسِّس لحكم عادل من نمط جديد (ح.خ.ش). في مثل هذه الحالة، فإن ممارسة العنف الاستراتيجي المؤسِّس لعدالة يُمليها المضطَهَدين، المستَغَلِّين أو المسيطَر عليهم، لما كان هذا العنف استراتيجيا، أو مؤسسا لعدالة ومساواة جديدة، فإنه لن يسقط في شمولية الدولة-الحزب (... ) إنه عنف مؤسِّسٌ، عنف مُسَيَّس على غرار ما كان ماركس، إنجلز ولينين يدعون إليه.
لابيكا، بهذا المعنى، لا يفصل ما بين العنف والقوة ما دام إنجاز الفعل السياسي هو نفسه إنجازٌ للسلطة/القوة. ذلك أن خط الفصل الحقيقي لا يمر ما بين العنف وبين السلطة، إنما هو يمر بين عنف الطبقة البورجوازية المسيطرة، وهو مضاد للثورة، وبين العنف الاستراتيجي الثوري التحرُّري. فالاستراتيجيون السياسيون الذي يراعون هذا الخط الفاصل ما بين عنف الطبقة البورجوازية المسيطرة، والعنف الثوري، هم وحدهم الذين يبلغون إلى الأهداف المرجوة من الثورة-الديمقراطية. أما وقد دقَّت ساعة العولمة النيوليبرالية، العولمة/الإمبريالية، التي تَنْتُج عن تراكم الملكية، والتي ترافقها شراسة وحشية منذ بدء التراكم البدائي في التاريخ، فإن العنف المعادي للنظام الرأسمالي، يندرج اليوم في البرنامج السياسي، بما في ذلك البلدان الأوروبية، وذلك على غرار ما تكشفه حالات العصيان العام في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى في العام 2005، وفي اليونان في العام 2008، وفي جزر الكاراييب في العام 2009. هاهنا يتناهى إلى أسماعنا صوت الثورة المعادية للاستعمار، المعادية للإمبريالية، صوت فرانس فانون: "إن العنف عندما تَضحى أعباؤه مسؤولية مُنْجَزَة... فإنه أشبه ما يكون بالوساطة المَلَكِيَّة". وساطة نحو هذا الأمل البسيط، بالرغم من كونه جذريا، والتي تملأ الأسطر الأخيرة ل/"نظرية العنف"، آخر أعمال جورج لابيكا: نهاية لكل احتلال، نهاية لكل تدخُّل، سواء أكان سياسيا، عسكريا، أو إنسانيا؛ إلغاء القوات المسلَّحة، إغلاق السجون. أو بتعبير آخر: السلام التحرُّري بدل عنف النظام الرأسمالي المنظَّم.
كيف يمكن التعبير بصورة أوضح عن هذا الدرس في "صيانة الماركسية والإبقاء عليها"، على حد قول نقاد الماركسية ومؤرِّخوها عندما يصفون جورج لابيكا بأنه "الساهر على الماركسية".
ستاتيس كوفيلاكيس
Stathis Kovélakis
حسان خالد شاتيلا
 
باريس، 20 فبراير 2009 / باريس 12 كانون الثاني/يناير 2016
·        ستاتيس كوفيلاكيس Stathis Kouvélakis، هو أستاذ الفلسفة السياسية في كينغز كوليج بلندن    King ‘s College، عضو أسرة تحرير المجلة الفصلية كونتر تان Contretemps
•                من مؤلفاته: الفلسفة والثورة من كانط إلى ماركس، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية، 2003 - فرنسا الثائرة والحركات الاجتماعية، باريس، منشورات تكستوييل، 2007- مدخل إلى نقد فلسفة القانون لدى هيجل، باريس، منشورات إيليبس-ماركيتينغ، 2001 – سارتر، لوكاش وألتوسير/ ماركسيون في الفلسفة، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية  2004- ماركس العام  2000، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية،2000 – قاموس ماركس المعاصر، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية، 2001.
•                Philosophie et Révolution. De Kant à Marx
•                L’introduction à la critique de la philosophie du droit de Hegel
•                Sartre, Lukacs, Althusser, des marxiste en philosophie
•                Marx 2000
•                Dictionnaire Marx Contemporain
 
 



#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الأول - مقدمة رابعة جورج لابيكا: تغيير العالم بلا معلّ ...
- مقدِّمة :في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم - حوار مع جور ...
- لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران، حرب التحرير الشعبي ...
- يونان – حزب سيريزا: لمن تقرع الأجراس؟
- الأزمةُ الثورية منعطفٌ أعرج، مُعوجٌّ ومتعرِّج نحو اليسار، وث ...
- -برنامج الصراع الطبقي-، لسلامة كيلة
- الطبيعة المادية في أعمال يوسف عبدلكي
- ثورة الخامس عشر من آذار: مستقبل حزب الله: ضحية الاستبداد الش ...
- ثورة الخامس عشر من آذار:هزيمة الثورة المضادة رهنٌ بوحدة اليس ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكم ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليه ...
- اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية
- ميدانية القاهرة (ثورة في ثورة)
- ثورة الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستم ...
- -دور ومهام اليسار الثوري في سورية- (تتمة وتصويب).
- حسان خالد شاتيلا - كاتب ومفكر يساري - في حوار مفتوح مع القار ...
- ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إ ...
- -واجب الكراهية- للطغيان والتسلط - في العنف والعنف الثوري*
- التاريخ غير المرئي للثورة المستمرة
- .../... ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وب ...


المزيد.....




- الصحة في غزة ترفع عدد القتلى بالقطاع منذ 7 أكتوبر.. إليكم كم ...
- آخر تحديث بالصور.. وضع دبي وإمارات مجاورة بعد الفيضانات
- قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار في غزة ...
- بوريل من اجتماع مجموعة السبع: نحن على حافة حرب إقليمية في ال ...
- الجيش السوداني يرد على أنباء عن احتجاز مصر سفينة متجهة إلى ا ...
- زاخاروفا تتهم الدول الغربية بممارسة الابتزاز النووي
- برلين ترفض مشاركة السفارة الروسية في إحياء ذكرى تحرير سجناء ...
- الخارجية الروسية تعلق على -السيادة الفرنسية- بعد نقل باريس ح ...
- فيديو لمصرفي مصري ينقذ عائلة إماراتية من الغرق والبنك يكرمه ...
- راجمات Uragan الروسية المعدّلة تظهر خلال العملية العسكرية ال ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسان خالد شاتيلا - جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية