أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حسان خالد شاتيلا - ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليهم















المزيد.....



ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليهم


حسان خالد شاتيلا

الحوار المتمدن-العدد: 4209 - 2013 / 9 / 8 - 02:17
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    




يشير لينين، في ما يتعلق بدور كل من النضال الاقتصادي
والنضال السياسي، والعلاقة بينهما، في ضوء التضارب
ما بين الآراء حيال هذه العلاقة في صفوف الاشتراكية الديمقراطية،
إلى أن الصراع الطبقي يدمجهما في كل واحد، علما أن تقييد
الحقوق السياسية للبروليتاريا أو حرمانها من الحرية، يقود
بالضرورة ودوما إلى وضع السياسة في المقام الأول.
ويلاحظ، في هذا السياق أنه "لم يطرأ أيضا أي تغيير يُذْكَر
في ما يتعلق بموقف حزب العمال حيال غيره من أحزاب المعارضة.
وفي ما يتعلق أيضا بهذه العلاقة، فإن الماركسية تشير إلى الموقف
الصائب الذي يَبتعد، على حد سواء، عن المبالغة في ما يتعلق بدور السياسة
والتآمر (على نمط أُوغست بلانكي وأتباعه)، والاستخفاف بالسياسة،
أو تقليصها إلى ترقيع اجتماعي، إتنهازي وإصلاحي..". *




بعد فترة وجيزة على مرور الخامس عشر من آذار 2011، تاريخ بدء الثورة الشعبية في سورية ضد طغيان الرأسمالية البيروقراطية، سلطتها الطاغية وأجهزتها القمعية (الأبارتشيك)، زَعم السفاح بشار أسد أن "حالة الشغب التي تجتاز سورية مؤامرةٌ...". أولا، فإن هذا الخطاب يُجرِّد الثورة من أهم مكوِّناتها، إلا وهو التكوين الاقتصادي الاجتماعي في سورية، من حيث هو حاملٌ لثورة الطبقات الشعبية. ثانيا، فإن خطاب السفاح، إذ هو ينفي، على هذا النحو، أن تكون سياسته الاقتصادية الاجتماعية هي المحرِّك وراء الثورة الشعبية، ويتَّهم "الآخر" بأنه المسؤول عن حالة "الشغب" التي تجتاز المجتمع، فإن خطابه الذي ما فتئ يُكيل، على مرور أيام الثورة، الاتهامات لسياسات أجنبية، ب/"التآمر" على سورية، ويردِّد بأنها "مؤامرة خارجية". غير أن إن الطبقات الشعبية التي تميِّز، بما اكتسبته من خبرة عبر أحداث التاريخ، وبحسها العفوي، أحسن التمييز بين من هو الخائن، وبين من هو الوطني، تَعرف أن السفاح المتسلط على المجتمع شريك ٌرئيسٌ في المؤامرة الخارجية، بل وإنه أحد رؤوسها الضالعة بمحاربة الطبقات الشعبية من أجل الحفاظ على سلطة الرأسمالية البيروقراطية في سورية، وإنجاز حلمها الجهنمي الموروث عن الأب من الأبن بأن تكون بمفردها، هي وليس حلفاؤها، السلطة الوحيدة المسيطرة على الشارد والوارد في كل ما يتعلق بالحالة الإقليمية. حلمُ السلطة السورية، أباراتشيك وحلفاء السوق الداخلية والخارجية، خلال عهد الجنرال حافظ أسد وابنه السفاح، بالسيطرة على بلاد الشام وما بين النهرين. ذلك يرجع لسبب واحد لا ينقسم إلى أرقام وأعداد. إن توفير الأسباب التي تكفل للسلطة الحاكمة في سورية حالة من الدوام، يتوقف على مدى سيطرتها على كل ما يجري إقليميا، مهما قل شأنه، ومهما كان يكلف هذا الهدف من زهق للأرواح ودمار للعمران. آل سعود يمارسون سياسة إقليمية مماثلة.

مجزرة حماة 1982 ! تحالف الجنرال أسد مع شاه إيران، ثم الملَّات ضد العراق خلال حروب الخليج ! خيانة الأب للفلسطينيين إبان "أيلول الأسود"، ثم في لبنان ! حصر المقاومة حصرا قاطعا مانعا حاسما في بقعة صغيرة من جنوب لبنان، والعهد بها لأقلية من أقلية بعينها ! مشاركة الجيش السوري في حرب الخليج الثانية إلى جانب الحلفاء ! سكوت نظام الجنرال الأب عن الغزو الأمريكي البريطاني للعراق ! حالات من الاغتيالات غير معدودة، منها عدد من القادة العسكريين الذين شاركوا بطريقة أو بأخرى باغتيال رفيق الحريري ! اغتيالات لا حصر لها، منها اغتيال غازي كنعان، عماد مغنية، اللواء محمد عمران ! شن حرب من القتل والاعتقال والتعذيب على أكراد منطقة "الجزيرة" في العام 2006 ! التاريخ المأساوي لاحتلال الجولان، من الأب، وزير الدفاع إبان حرب حزيران 1967، حافظ أسد الذي أَعلن، في حينه، عن سقوط القنيطرة قبل أن يَدخل إليها جندي إسرائيلي واحد؛ هذا الإعلان الذي كان يترافق مع انسحاب كيفي للجنود السوريين من الجبهة الأمامية !، إلى الابن الذي يقود بدهاء لا يضاهيه فيه أحد سوى الجنرال الأب، حربا على مختلف الجبهات العسكرية ضد شعبه ! ناهيكم والصمت المطبق عن الجولان في سياسة الابن والأب الذي تَراه يخرج من هزيمتي 1967 و1973 العسكريتين أقوى سياسيا على الصعيدين الإقليمي والدولي مما كان عليه عندما كانت قوته العسكرية أفضل حالا ما قبل الحربين الاثنتين، مما آلت إليه من خسائر وأضرار ما بعد هاتين الحربين ! وزير الدفاع المهزوم في الحرب الأولى ينقض على السلطة ويسمي نفسه رئيسا للجمهورية ! رئيس الجمهورية المهزوم في الحرب الثانية يُنًصِّب نفسه قائدا للمقاومة، الصمود والتصدي، والممانعة ! صمتٌ مروِّعٌ يُطْبق على الجولان المحتل دون أن تُعَكِّر صفوه صدى رصاصة واحدة ! اعتراف الأب، ما أن سيطر على الحكم، بالقرارين 244 و338، الذي يوافق على التفاوض مع إسرائيل، وبالتالي يتضمن اعترافا ضمنيا بها ! المفاوضات الغامضة مع إسرائيل بوساطة الأفندي أردوغان ! هذه وتلك شواردٌ من قائمة لسياسة إجرامية تبدأ بالتآمر على الوحدة بين سورية ومصر، على امتداد عقود من التاريخ كانت خلالها قيادة أركان الجيش حكرا على عصبية اجتماعية، عصبية سياسية، بعينها، تبدأ ولا تنته، حتى لو أدى الحفاظ على هذه السياسة التي تُمارس من قِبَل هذه السلطة ذات الخمسة عقود من الحياة، إلى إبادة الشعب بشتى أنواع الأسلحة والوسائل القمعية.

بتعبير آخر، فإن عامة الناس، العوام، العامة، أو الطبقات الشعبية، لم تنطل عليهم السياسة الرسمية للسلطة خلال عهديها الاثنين، الأب والابن. قالت تعرِّف بالأول منهما: إنه "أسد في لبنان، وأرنب في الجولان". ثانيهما، أعلى صفة يٌسمَّى بها، حسب سلم معايير الشخصية السياسية في الحارات، الضواحي و القرى، إنه "سفاح".

1-) تاريخ سورية السياسي موجود ما وراء حدودها الطبيعية والسياسية:
تاريخ سورية تاريخ من المؤامرات والغزوات، منذ العصر اليوناني ما قبل التاريخ، وحتى غاية شهر آب/أغسطس من العام الحالي 2013، والذي يؤرِّخ للشهر الخامس ما بعد مرور السنتين اثنتين على بدء ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية. لكن، بالمقابل، تاريخ سورية تاريخ من الثورات، منها بوجه خاص، ومن جراء حداثتها النسبية قياسا بأزمنة تمتد إلى ما قبل مولد السيد المسيح، حالات كثرى من عصيان متجدد لأهل الشام الكبرى تجاه مركزية السلطان العثماني، منذ القرن الثامن عشر بأقل تقدير. ثم العاميات، من انتفاضات الخبز في الشام، إلى تمرد الفلاحين ضد سلطة الإقطاعين، والتي تسجل لبدء انتشار العلاقات الرأسمالية في الريف، وتكوُّن محدث للبورجوازية في المدن، فإن قنصليات الدول الأجنبية في بيروت استفادت، بالمقابل، منها لتشجيع الأهالي على الانفصال عن الدولة العثمانية. الثورات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي ما بعد الثورة العربية الكبرى، والنضال ضد الدكتاتوريات العسكرية ما بعد جلاء المحتل الفرنسي، ثم ثورة الوحدة بين سورية ومصر. إلى آخره، إلى آخره. هذا التعبير الذي يَحتمل كل المحتويات. "إلى ما لانهاية" والذي يُفيد، إذا ما توخينا تحاشي الخوض في مناقشات لا فائدة يرجى منها، هنا، في ما يتعلق بمعرفة ما إذا كانت الوقائع التاريخية لجريمة الانفصال، والثامن من آذار 1963، و18 تموز من نفس العام، و23 شباط 1966، و16 تشرين الثاني 1970، وخطاب العرش (خطاب القسم أمام مجلس الشعب) العام 2000، ثورات أم انقلابات. ذلك أنها، أيا كانت هذه الأحداث، ثورات أم انقلابات للعسكريتاريا، فإن "العامل الخارجي"، كي نتحاشى، ولو بصورة مؤقتة، تعبير "مؤامرة"، يبسط يده بارتياح عبر هذه الوقائع.

بتعبير آخر، إن جانبا هاما من تاريخ سورية الاجتماعي السياسي، إن توخينا البحث عن مصادر تكوُّنه، فإنه يقبع ما وراء الحدود الطبيعية لسورية، وما يُسمى تجاوزا ب/"الحدود السياسية" المعترف بها من "عصبة الأمم"، وفق ما هي مفروضة، بالقوة، بموجب معاهدة سايكس بيكو. إن تاريخنا، بتكويناته القومية العربية، والكردية، وغيرها من قوميات وشعوب، ليس كله سوريا. فالعامل الخارجي، تكوين هام من مكوِّنات هذا التاريخ، منذ عهد الثقافات والحضارات السامية، إن لم يكن اليونانية والرومانية، حتى غاية اليوم. حتى إن سورية، من حيث حدودها الدولية الحالية، ليس لها، في الماضي القريب والبعيد، من جراء تراجع حدودها تارة، وتقدُّمها تارة أخرى، عبر التاريخ. أو إن تاريخها ولِد في سان ريمون، عشية الحرب العالمية الأولى، من أجل إطعام جيوش الحلفاء من مزارع القمح الشاسعة في منطقة الجزيرة السورية، أو حول حقل نفطي في الموصل السورية، أو كأس من المشروبات الروحية مترع بدماء الشعوب، كان كل من المستر سايكس والمسيو بيكو رفعه كي يشرب نخب موت الإمبراطورية العثمانية، وامتداد الكولونيالية الرأسمالية نحو شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط وجنوبه .

بيد أن دور العامل الخارجي في وقائع التاريخ وأحداثه العظمى التي تُسجِّل لمنعطفات كيفية في التكوين الاقتصادي السياسي لمجتمع ما، ليس حصرا، فقط، على خصوصيات التاريخ في سورية. فلكي تَعرفَ – على سبيل المثال - تاريخ ألمانيا وثقافتها، كما كان يقول كارل ماركس، لا بد من مغادرة الحدود الألمانية، والذهاب منها إلى عامِيَّة (كومونة) باريس. تاريخ ألمانيا ليس ألمانيا. إن ينبوع تاريخها الحديث، ينبض أحداثا عظمى خارج أراضيها. بل، وإنه تاريخ الروابط العمالية في بريطانيا، والثورات العمالية في فرنسا 1848 و1871. فرنسا الحرب العالمية الثانية، ما كان لها أن تتحرَّر لولا الحلفاء. الثورات الصينية، والفيتنامية، والكورية، ما كان لها أن تنتصر على الإمبريالية اليابانية والفرنسية والأمريكية خلال النصف الأول من القرن العشرين لو لم تتلق المساعدات من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية. بالمقابل، فإن ديكتاتور إسبانيا، الجنرال فرانكو، لم يَسحق ثورة الجمهوريين، شيوعيين، اشتراكيين، فوضويين وديمقراطيين، إلا بفضل التوافق بين الدولة السوفياتية ودولة هتلر النازية التي تعهدَّت لستالين باستبعاد بلاده عن الحلم النازي، وذلك تحت أنظار "الجبهة الشعبية" في فرنسا، والتي كانت تشكَّلَت بموجب التحالف بين الاشتراكيين والشيوعيين، والتي وقفت تتفرج على مذبحة الجمهوريين الإسبان استجابة منها للسياسة السوفياتية. بل، ويُحكى أنها نَصَبَت العراقيل أمام استقبال اللاجئين الجمهوريين الذين كانوا يتوافدون إليها بالألوف المؤلَّفَة حفاظا على حياتهم من بطش الميليشيات الفاشية، وهربا من التوافق التكتيكي، إن لم يقال "التآمر"، بين الكرملين وهتلر وحكومة الاشتراكيين الفرنسيين. إن هزيمة الدولة الصهيونية في حرب تموز 2006، وانسحاب جيشها من لبنان في العام 2000 تحت وابل من النيران والعمليات العسكرية للمقاومة الشعبية اللبنانية، ما كان لمثل هذه الإنجازات الخارقة للمعتاد بمقياس الهزائم العربية أمام الجيش الصهيوني أن تنتصر على العدو، لولا إمداد ملالي إيران لحزب الله بالسلاح والمال.

2- حيازة التاريخ ما بين مقاومة "العامل الخارجي" والتآمر معه:
مؤامرة سايكس بيكو التي تحظى اليوم بتأييد شوفيني من كل الذين يتمسكون بغيرة مجنونة بالحدود السياسية لدول ما بين النهرين، بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، أو نجد والربع الخالي، سَرقت هذه الثورة من عشائر وقبائل البدو بقيادة الشريف حسين، وزعامة أشباه الحضر. في مقدمتهم كل من، مؤتمر باريس (1915) الذي كان عٌقِد بين أنتليجنسيا، فشلت في بلورة المبررات الإيديولوجية للدولة العربية القومية، وحكومة أول دولة عربية برئاسة الرئيس هاشم الأتاسي. عملية السطو الدولية نجحت في تقسيم هذه العصبيات الاجتماعية والتكريس لها، بحبس كل منها في حدود يعود تاريخها إلى المنتزه البحري في إيطاليا، مدينة سان ريمون. بالمقابل، فإن الثورة العربية الكبرى تُعلن عن بداية مرحلة تاريخية تمتد حتى غاية اليوم، ما دامت هذه الحدود باقية ما يقيت المعاهدة إياها. حدودٌ مطوقة بأسلاك شائكة من سياسات العصبيات الاجتماعية، وغير الاجتماعية، والقوانين الجائرة للسياسة الدولية. بيد أن هذه الثورة، بالرغم من فشلها، إلا أن أهدافها باقية، هي الأخرى، ما بقي حيازة الشعوب المقهورة والمضطهدة للتاريخ حيا، بالرغم من أنه مدفون منذ انتصار الجنرال غورو في موقعة ميسلون على الشهيد يوسف العظمة، تحت سطح جوف بركاني كثير الزلازل. حيازة التاريخ باقية، ما بقيت الشعوب المضطَهَدَة تكافح من أجل تكوين هوية قومية تبني بها دولة قومية تحوز بها على التاريخ. حيازة التاريخ، هنا، ليس حسب الغنوصية اليهودية (الماركسية) لمدرسة فرانكفورت، وعلى رأسها والتر بنيامين. إنما تظهر حيازة التاريخ بقوة واقعية عبر تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، كما تأميم حكومة مصدِّق للنفط في إيران. انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو الذي لم يَعْتِمِد، وهو في جبل سانتا آنا عشية زحفه على هافانا، على المساعدات الخارجية، بالرغم من أن السياسة الأمريكية، من حيث هي العامل الخارجي، كانت تتيح أمام الثورة فرصة ضعيفة بالنجاح، قد أعادت للشعوب المكافحة من أجل تحررها ثقتها بأن حيازة التاريخ في متناول يديها. انتصار الثورة الفيتنامية من أقوى الأمثلة على ذلك.

الجنرال حافظ أسد كان، هو الآخر، يتوق إلى حيازة التاريخ مدفوعا بثقافته القومية التحررية والاجتماعية. بيد أن مثل هذه الحيازة، سواء كانت قومية أو محض شخصية، سواء كانت تتوق إلى بناء الإمبراطورية العربية، أم دولة قومية إقليمية مترامية الأطراف تتجاوز الحدود الدولية لسورية، أم كانت دولته، هو، بمفرده، صاحب المُلْك معبود الجماهير، غير أن العامل الخارجي أرغمه، منذ اليوم الأول لانقلابه على رفاقه، على الخيار، كي ما يبني إمبراطورتيه العربية، بالرغم من أن الظروف الدولية والعربية ما كانت لتتيح له أية فرصة بالنجاح، ما بين منح الحكم الديمقراطي للشعب، والدولة العسكرية التي تضمن له المُلْك بدون منازع. اختار الدولة العسكرية. ثم قاده، ما غاص فيه من معارك ضد الحركة الديمقراطية في المجتمع السوري، من جهة، وما مارسه من حروب ومعارك وتحالفات إقليمية ودولية ضد الشعب الفلسطيني، إلى خيار آخر جديد، من جهة ثانية. فلقد أزاح الدولة جانيا، ولم يبقِ سوى على الجيش وتوابعه من الأجهزة الاستخباراتية القمعية التي نَمَت وتنظَّمَت بصورة مُحكًمًة التنظيم، وتربَّت على يده في ظل عبادة الفرد. ما تشهده سورية اليوم، بخاصة ما كان منه يتعلق بعصيان أي انقلاب لجيش السلطة على قيادته، ناهيكم والحرب الكلاسيكية للعسكريتاريا التي تَستَخدم كل أنواع الأسلحة وأنماط القتال ضد الشعب، كان الجنرال حافظ أسد أعد له العدَّة منذ استيلائه على المُلك. المعارضة، بما في ذلك التجمع الوطني الديمقراطي، كانت تخاطبه، بعبارة سيدي الرئيس". الطبقات الشعبية، ما أن اكتشفت في السبعينات معاداته للشعوب، كانت تُطلق عليه في السر، بالهمس، تسمية "السلطان"، لإدراكها أن وجه الشبه، من حيث الجبروت والطغيان وقتل الأحرار بلا حساب، ما بين هذا الأخير والسلطان عبد الحميد السفاح، تفقأ العين.

لقد احتل العامل الخارجي خلال العهدين الأخيرين من التاريخ السياسي لسورية حيزا مركزيا في سياسة الأب حافظ وابنه بشار. هذان الأخيران، لا يختلفان، إلا من حيث وحشية الرأسمالية البيروقراطية، عن القيادات السياسية ما بعد الجلاء الفرنسي، لأحزاب الشعب والوطني والقومي السوري، بالإضافة إلى الانقلابات العسكرية المتتالية ما بين 1949 و 1955. كانت السياسات، ما بين الجلاء والوحدة السورية المصرية، تذهب بدورها في منحى من تأثير السياسة الخارجية لآل سعود، وعراق شركة البابلاين، ومصر الملك فاروق، وبنك سورية ولبنان الفرنسي، ومعاهدات الأحلاف. سفير آل سعود في دمشق كان يوزِّع الهدايا والرواتب لعدد من قادة عهد الاستقلال الوطني، وعلى رأسهم صبري العسلي. فرنسا، على سبيل المثال، كانت تموِّل الحملات الانتخابية لخالد العظم بصورة قروض غير مسدَّدَة من بنك سورية ولبنان. الحزب الشيوعي السوري، وروافده كحركة أنصار السلام واتحاد الكتاب العرب، كان "أداة طيِّعة" بيد السياسة السوفييتية. أعداء الوحدة بين سورية ومصر يعتقدون أن خوف الجيش السوري من اتساع النفوذ السوفييتي في سورية بصورة مطَّردة، هو السبب الذي حمل سورية بقيادة الجيش وأجهزته على "الارتماء بين أحضان عبد الناصر".

بالرغم من أن السياسة الدولية، أو العامل الخارجي، يَدخل من الباب العريض في سياسات كل الدول، أيا كانت طبيعة نظامها الاجتماعي السياسي، غير أن ولاء الطبقات الشعبية في سورية لسياسة جمال عبد الناصر القومية والدولية، يستمد مبرِّراته من كونها تمثِّل، بأنظار الجماهير الشعبية،وشرائح من الطبقات الوسطى، ومنها البورجوازية الصغيرة، التي مارست دورا قياديا في الساحة السياسية الاجتماعية ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، تُمثِّل سياسته حيازة الشعوب للتاريخ. "العملاق العربي"، لم يقف على قدميه كالمارد بأنظار الطبقات الشعبية، إلا لأنه واجه السياسة الدولية على اختلاف أنظمتها الاقتصادية الاجتماعية، من موقع الند الذي بفضح ما يحاك على الشعوب العربية من مؤامرات. نموذج السياسة الدولية لدى عبد الناصر، مقياس واقعي للتمييز، القاطع الفاصل، ما بين العامل الخارجي والمؤامرة. وقائع التاريخ المادية ما بعد الجلاء، وحتى غاية السنة الثالثة من تاريخ ثورة الخامس عشر من آذار، تؤكِّد أن اليمين، شأنه شأن تراكم راس المال الذي يرسم للسياسة الليبرالية برامجها في الحكم والمعارضة، لا وطن له. لذا، فإنه يستفيد من العامل الخارجي أقصى ما تكون عليه الاستفادة. إلى حد أن الخيانة والمؤامرات الداخلية والخارجية والفساد، كل ذلك يتلاشى أمام ثقل واتساع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية في السياسة الخارجية لليمين الليبرالي. لاسيما، وأن العولمة الليبرالية اخترقت كل الحدود، ودمَّرَت الحركات الاجتماعية والتنظيمات النقابية، إلخ. ذلك، بخلاف اليسار الشيوعي والقومي. فإن العامل الخارجي لدى الشيوعيين يعادل الأممية البروليتارية. في ما يُعول اليسار القومي في سياساته على التضامن بين الشعوب المضطهدة وحركات التحرر الوطني والاجتماعي. حافظ وبشار، لأنهما يمارسان سياسة الرأسمالية البيروقراطية التي تحظر على الشعب ممارسة السياسة للدفاع عن حقوقه الاجتماعية والقومية، مما يؤدي إلى انفصال السلطة وأجهزتها عن الشعب، وبل وإن السلطة تنقلب ضده ليصيح عدوا خطيرا يهدد مُلْكَها، في ما تتحول هي، بأنظار المُستَغَلِّين المُضطَهَدين المظلومين، إلى سلطة حاكمة أجنبية عن شعبها، فإن ظروف العامل الخارجي، الدولية والإقليمية، تشكل بأنظار الأباراتشيك وحلفائهم في السوق الداخلية والدولية، السند الرئيس لديمومة المُلك. لذا، فإن سياسة كلا من أسد الأول وأسد الثاني، وهي المرتبطة بالسياسة الإقليمية والدولية ارتباطا عضويا ووظيفيا معا، ليست، من أولها إلى آخرها - وكان الأول انقلب على رفاقه في حركة 23 شباط 1966 للحؤول دون تدخِّل الجيش السوري إلى جانب الفلسطينيين في إربد أثناء معارك أيلول الأسود ما بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الهاشمي في الأردن - ليست سوى ناعورة من التآمر على الحركات الشعبية في سورية وفلسطين ولبنان والعراق وتركيا، وغيرها. التآمر لإخماد الثورة الفلسطينية في لبنان والأردن، وتقويض حركة التحرر الوطني والديمقراطي في لبنان وسورية. مؤامرة، مؤامرات، ذات حدِّين اثنين من المقايضة. الانفراد في قيادة الرأسمالية البيروقراطية وروافدها في إطار من نفوذ إقليمي ودولي لعهدي أسد الأول كما أسد الثاني، مقابل تعهد من السلطة، جيشها وأجهزتها، للسياسة الدولية بقمع كل القوى المعادية للإمبريالية والصهيونية، ومصالحهما في المنطقة والعالم.
أسد الثاني هو رأس المؤامرة على سورية والحركة الثورية في شرقي المتوسط. بيد أن مؤامرته ليست كغيرها من المؤامرات. إنها، هذه المرة، لن تطال، فقط، ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، وإنما تتسع وتتشعب إلى مسلسل من الإبادة والدمار لا يوفِّر على أية قوى سورية وغير سورية الهلاك من أجل حفاظه على المُلك.

3 - حيازة المُلْك مؤامرةٌ ما بين شبكات من المتآمرين:
قبل المضي قدما في تفكيك المؤامرة العظمى لأسد الثاني، والتي لن توفر على أحد الهلاك فوق الأرض السورية، فإن العلاقة بين حيازة التاريخ وبين حيازة الملك، تسبق كل ما يأتي من نقدٍ للمؤامة العظمى، طالما تشكِّل هذه العلاقة الإشكالية لدى العهدين الأخيرين معضلة سياسة لا خلاص منها. ما يجعل، من هذه المعضلة، تلك َالعقدة غير قابلة خيوطها المتشابكة للتفكيك، قاعدةَ راسخة في كل المؤامرات التي كان العهدان وقفا على رأسها. العهدان اثنان لم يميِّزا ما بين حدي المعضلة. فلقد سارت سياسة العهدين اثنين على مسار من الجمع، التوفيق والتوحيد، بين حيازة التاريخ والمُلك. بمعنى أن المُلك، بمنطق الأول والثاني، هو نفسه حيازة التاريخ. مذبحة المخيمات الفلسطينية في لبنان، على سبيل المثال، تكرِّس للمُلك من حيث هي تحفظه تجاه السياسة الدولية التي تمدُّه وحدها بأسباب الاستمرار. بل، وإنها توفر أمامه الأسباب كي ما يَفرض نفوذه الإقليمي والدولي، على مسار متدرج زمانيا من تشييد الإمبراطورية الإقليمية بقيادته. هذا هو المنطق السلطاني لحيازة التاريخ. منطق لم ير قط، خلال ما يزيد عن أربعة عقود من التاريخ السياسي لسورية، هذا الاسفين الصهيوني الإمبريالي الذي يَشطُر في قمة السلطة السورية العلاقة ما بين حيازة التاريخ وحيازة المُلك، والذي يَمنحه السلطان كل يوم بصورة أقوى، بمقدار ما هو يحطِّم المجتمع الشعبي، ويكافح حركات التحرر الوطني والديمقراطي. لكنه يَحرمه، بالمقابل، كلما ابتعدت أكثر سياسته عن التحرر الوطني والقومي والاجتماعي، وانصرفت عن إنجاز مهام التنمية الاقتصادية والبشرية نحو تكريس الرأسمالية البيروقراطية، تحرمه من حيازة التاريخ. كان حافظ أسد شريكا وفيَّا لأنور السادات. فقد استفاد "الأرنب" من انسلاخ مصر عن السياسة العربية الرسمية من جراء توقيع الثاني على معاهدة كامب ديفيد، كي يصول ويجول في الساحة العربية والإقليمية على هواه. السادات يعترف بإسرائيل، والأرنب يفتك بالثورة الفلسطينية في كل مكان بلا حساب. لقد طَرَدَ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من دمشق وهو مرتاح البال مطمئن الخاطر، ما دام هو الذي طَرَد، قبل ذلك، المجتمع وطبقاته الشعبية من السلطة، إن لم يكن فرَّغ مجتمع الطبقات الشعبية من انتماءاته السياسية، حزبية، قومية، اجتماعية، وفلسطينية في المقام الأول. بل، وإن فتك الأسد الأول بالثورة الفلسطينية، وازدراءه لانتفاضة الحجارة الأولى، قادت بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى أوسلو، ومن ثم إلى كامب ديفيد، وانتهت إلى الحجز عليها في المقطع. هكذا كان الأرنب يحوز على التاريخ. على مسار من الحفاظ على المُلك، بمنحى ينصب حواجز شائكة من العقبات والمؤامرات التي تُفضي إلى الحؤول دون حيازة الشعوب على السلطة والتاريخ معا. التنمية الاقتصادية، تطوير الثروة البشرية، استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، الديمقراطية، التحرر، العلمانية، الاشتراكية، الوحدة العربية، الحرية، الحريات السياسية والنقابية، حق تقرير المصير للشعوب، وفي مقدمتها الشعب الكردي، بناء البنية التحتية بمقاسات عالية من الرقي والتقدم، بوجه خاص في مجالي التربية والصحة العامة، تشجيع ثقافة الانسان الاجتماعي، لم يُنجز أيٌ من هذه المهام في عهديهما، إن لم يكن المسار السياسي النموذجي السائد سار في عهد الأرنب، وما يزال يسير في عهد السفاح، في منحى من تقويض هذه التكوينات الاجتماعية، الواحدة تلوى الأخرى.

في هذا السياق من الظروف الدولية والإقليمية، فإن السلطة في سورية تَستمد أسباب نشوئها واستمرارها معا، من السياسة الدولية، إن لم تكن المؤامرات. فلقد بنى أسد الأول حجر الأساس في سلطته من تلغيم وتفجير السياسة العربية بموافقته على القرارين ذات السمعة السيئة، بعدما كان ترك الثورة الفلسطينية في الأردن بمفردها تقاتل الجيش الهاشمي في الأردن، ما أرغمها في نهاية الأمر إلى الهجرة نحو لبنان. جيشه الذي خان الوحدة العربية، وانهزم قبل أن يخسر المعركة في القنيطرة أمام الجيش الصهيوني، هو الذي أرغم الثورة الفلسطينية على الهجرة من لبنان إلى تونس، بعدما كان خسر للمرة الثالثة المعركة ضد إسرائيل في حرب تشرين. هذا الجيش، منذ ارتكابه لجريمة الانفصال لم يمارس أي دور وطني، قومي وتحرري. فتك هذا الجيش بالأكراد في سورية، بعدما كان شارك جنبا إلى جنب مع الحلفاء في حرب الخليج لتحرير الكويت. ثم، ما لبث أن وقف يتفرج على غزو الحلفاء للعراق. هو الذي كرَّس للانفصال الأسود، وأعدم الوحدويين العرب في الغوطة الغربية، عند المدخل إلى دمشق عن طريق الربوة، في سجن مزة العسكري وضواحيه الممتدة على ضفاف بردى وأزرعه السبعة. ثم، هو الذي وضع أيضا يده بيد الجهاديين القادمين إلى العراق عبر سورية، عندما كان يمهِّد لهم أسباب الانتقال الآمن من سورية إلى العراق ل/"مقاومة" الغزو الأمريكي البريطاني. هو نفسه الذي كان يسلِّم بيده هؤلاء الجهاديين لوكالة المعلومات الأمريكية (سي. أي. إي) وهم في طريق عودتهم من العراق إلى بلدانهم عبر الأراضي السورية. طائرات النقل الجاسوسية التابعة للبنتاغون، والتي كانت تلملم الجهاديين من شتى بلدان العالم لإيداعهم في سجن غوانتنامو، كانت تهبط سرا في المطارات العسكرية السورية لاستلام هؤلاء من أيدي الاستخبارات العسكرية السورية. إن قائمة الدسائس والتجسس والمؤامرات، إن لم تكن الخيانات، في تاريخ هذا الجيش الصعلوك، لا يُعْرَف لها بداية ونهاية. هذا الجيش، صاحب هذا التاريخ، هو الذي يبيد اليوم الشعب السوري، ويأتي على المعالم العمرانية لسورية، ويدمِّر بأسلحته الثقيلة البنى التحتية للاقتصاد السوري. قائمة لا أول لها ولا آخر، من مؤامرات وخيانات لم تنته بعد، ما دام الجيش الخائن عاكف على تنفيذ سلسلة من المؤامرات لن تتوقف ما لم ينقرض من الوجود، عندما تُشيِّد الثورة الشعبية جيشها الشعبي.

المؤامرات مع المتآمرين على الصعيد الدولي والإقليمي، إذن، تطغى على سياسة العهدين، ما دامت تستعيض عن استمداد مشروعيتها القانونية، أو الإيديولوجية بالمعنى السياسي المادي، من المجتمع، باستمدادها من السياسة الدولية، أو العامل الخارجي. الثقة بالشعب، خلال هذين العهدين، معدومة. المجتمع عبء ثقيل يُعهد به إلى الأجهزة القمعية كي تروضه. الأباراتشيك أجهزة منفِّذة معدومة المبادرة ولا تمارس أية سلطة. كل السلطات بيد شخص واحد يَعتَمد على "عصبة" موالية له بصورة عمياء لا ينال منها خدش صغير. تنحية مئات الألوف من السوريين، من النخبة ومن عامة الشعب، إما بالقتل، وإما بالسجن والنفي و"الهجرة الطوعية". ذلك أن المجتمع كان يُعتَبَر بأنظار أسد الأب عائقا أمام بناء إمبراطورته الإقليمية لحيازة التاريخ والسلطة بيد واحدة. لذا، فإن المجتمع ملغى من البرنامج السياسي للعهدين. هذا البرنامج الذي يَحرُم الشعب وقواه التحررية، الوطنية، الديمقراطية، الوحدوية، من ممارسة السياسة بحرية حرمانا لا يَعرف الرحمة. إنها، في هذا السياق من مؤامراتها الإقليمية والدولية، انهالت قتلا وتشنيعا بالفلسطينيين، والقوميين، والشيوعيين، واليساريين، والأكراد، والديمقراطيين، لتحصر، ل- تحصر المقاومة المناهضة للجيش الصهيوني، بأقلية من سكان جنوب لبنان. حزب الله من حيث هو حزب لأقلية من الشيعة. إنها، على هذا النحو، تُحرِّم على الشعب، سواء بعامته وعمومه، أو سواء حتى لشرائح شعبية بعينها، حمل السلاح لمقاومة العدو الصهيوني. المقاومة الشعبية لإسرائيل والسياسة الدولية، محظورة على الشعب، يَمنحها "القائد" لجماعة بعينها محدودة الحجم، ويستردها منها، عندما يريد، وكيفما يريد. السلطة، خلال عهديها الاثنين، تفرز، من هذا البلد العربي وذاك، عددا من الضباط العسكريين لتوكل إليهم قيادة "منظمات فلسطينية" مؤتمرة بها وحدها، تُنَفِّذ في ساحة العمل الفلسطيني دورا تخريبيا، في مسعى للحيلولة دون حيازة القرار الفلسطيني على أي استقلال عن السياسة السورية. فضلا عن ذلك، فإن سلطة العهدين اثنين وطَّدَت "العصبية"، وما يتفرَّع عنها من تكوينات مرادفة للعصبية، كركن من أركان الحكم. العصبية، دينية، سياسية، قومية، وأخرى طفيلية ملتفَّة من حول السلطة تضمن بفضل هذه العصبية الطفيلية مصالحها المالية. حاشية من المُؤْتَمَرِين. الخدِّام، الوكلاء، المتعهِّدون، مدراء الأعمال ورؤساء المجالس الإدارية للشركات، السماسرة، الوسطاء، من كافة الديانات والطوائف والقوميات، تشكِّل، هي الأخرى، أيضا، شكلا من أشكال العصبية السياسية الطفيلية، التي تشارك السلطة في تدوير رأس المال ضمن مسالكها، أو تلحس ما ترميه به السلطة لها من فتات. "العصبة" المقرَّبة من القصر، والمطَّلعة على الداني والبعيد، تشكِّل فرعا منها الأعلى مرتبة من سواها.

هذا هو منطق تنظيم الجيش السوري، منذ استيلاء الجنرال على السلطة في تشرين الثاني 1970، بأقل تقدير. منطق مقولته تقيس كل تنظيم، أيا كانت مكوِّناته، عسكرية، سياسية، اقتصادية، دبلوماسية، إلخ، بمقياس الولاء للحاكم المطلق الذي يُلغي من سياسته كل ما يمت بصلة إلى الإنابة والتفويض ومنح الثقة. هذا المنطق في حيازة المُلك والتاريخ، إذ هو يُطِيْعُ السياسة الدولية وما يرافقها من مؤامرات مستمرة، بما يكفل له المُلك، فإنه يشارك في مؤامراتها من أجل حيازة التاريخ. منطقٌ يملي على العهدين استبعاد كل الوطنيين والأحرار، من جميع الديانات والطوائف والقوميات، من الجيش، وبوجه خاص من قيادات صف الضباط، إلى الأمراء. إن النمط الاستبدادي المتآمر للسلطة هو الذي يملي العصبية. إي إن السياسة أو السيطرة على السلطة، هي مصدر العصبية. فإذا كانت السياسة تتكئ على الدين، أو الطائفة، لبلوغ السلطة، كما هو الحال لدى جماعة الإخوان المسلمين، أو مجموعة من القيادات الحاكمة في سورية، والتي توظِّف الطائفية في خدمة السياسة، من أجل الحفاظ على المُلك، فإنها تستعين بالطائفة أو غيرها من الجماعات الأثنية، بدافع محض سياسي، مكيافيللي. الغاية تبرر الوسيلة. السلطة تبرِّر العصبية. غير أن العصبية، إذا ما تحَّركت في اتجاه مضاد للسيطرة على السلطة، فإن السياسة، الملك، جمع الثروات أو تراكم رأس المال، هو ما تهدف إليه، وليس اتساع النفوذ الجماعي، كي لا نقول الاجتماعي، وانتشار العقائد الدينية، ليس الطائفة بحد ذاتها. لذا، فإن السلطة، خلال عهديها الاثنين، تراها لا تعير أهمية قصوى لدين بعينه، أو طائفة بعينها. غير أنها تحافظ على استقرارها، واستمرارها على المُلك، بفضل عصبية أوسع. العصبية الطفيلية التي لا صلة لها بالدين والقومية، طالما هي وليدة السلطة. إنها عصبية السلطة مفرَّغَة من العصبية الدينية، الأثنية، القومية، الشعوبية، إلخ.

الجيش السوري مبنٍ على الأسس الهندسية والمعمارية، وبالأحرى الاقتصادية الاجتماعية، لعصبية السلطة، التي تمارِس الحكم مؤتمرة بالقائد المُلهم الذي سَحَب منها كل إنابة عنه، أو تفويض منه. معيار الوطنية والقومية والاشتراكية والليبرالية والتحرر الوطني، بل وإن المعيار الاثني بدوره، غائبٌ، معدومٌ، في سلَّم مقاييس بناء الجيش السوري. هذا جيش مأجور للسلطة، للرأسمالية البيروقراطية، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، ومؤامراتها.

تاريخ الجيش السوري ذو لون أسود. مصدر اسوداده الحالك، لطخات من الهزائم العسكرية، والتآمر والاغتيالات والتعذيب والظلم والاستغلال والطغيان، وكل ما يُدبِّر من أمثال هذه العمليات في الأقنية المَظلِمة للدبلوماسية، وأقبية الاستخبارات التي ترتد عنها الشمس من هول ما تراه وراء جدران سُدَّت نوافذها، وجحور السفاح وأعوانه، والتي لا يصل إلى مخابئها وسراديبها المحفورة في باطن الأرض نورٌ. جيشُ مكونُ من عصبية السلطة التي تهضم شتى أنواع العصبيات الاجتماعية، قبائلية، أسرية، دينية. عصبية سياسية.. فلقد حَبَكَ الجنرال أسد تنظيم جيشه، منذ كان رئيسا للأركان، ثم وزيرا للدفاع قبل أن يستولي على القيادة العامة للقوات المسلحة، بصورة مُحْكَمة النسيج. إنه، لم يترك في هذا التنظيم النسيجي أية ثغرة يتسلَّل منها ضباط وطنيون ديمقراطيون للانقضاض منها على رأس الجيش. الأحرى أن يُقال أنه نظِّم جيشا من الرعاع لا وطن لهم، وضع تحت تصرِّفهم بيت مال الشعب كي ينهبوه في وضح النهار، أمام أبصار المواطنين والقضاء والأباراتشيك. هذه هي حقيقة جيش، بدل أن يُحاكَم وزير دفاعه، قائده العام، وتَقْتلع من ثيابه المزركشة أوسمته ونجومه ونسوره، ثم يُودع السجن، يُحكم بالإعدام، أو يُسَرَّح من الجيش، إن لم يُسمَّى سفيرا لسورية إلى إحدى الدول النائية في إفريقيا، فإن قائد الجيش تراه يركب على أكتاف جيشه كي يُنَصِّب نفسه في أعلى منصب قيادي لسوريةّ! بل، وإنه، علاوة على ذلك، يحوز على لقب "القائد المُفدَّى".

إذا كان المشروع الإمبراطوري العربي ل/الأرنب، بُني جيشُه وسلطتُه السياسية بالاعتماد على العصبيات الموروثة، شبه المندثرة، من نمط إنتاج الاستبداد الشرقي، فإن السياسة في سورية كانت منذ القِدَم وما تزال تندرج في السياق التاريخي لنمط إنتاج الاستبداد الشرقي. هذا النمط السياسي الإنتاجي، وإن كانت أثار العصبية الاجتماعية ما تزال تسيطر على المجتمع والسلطة، فإن هذه العصبية الاستبدادية الشرقية، تتغيَّر وتصير على مسارين زمانيين اثنين من التاريخ السياسي الاجتماعي، مختلفي الوتيرة. فالقديم الموروث من العصبية لا يفنى إلا بعد مرور فترة طويلة من انتهاء أجله. الجديد المحدَث من العصبية الطفيلية السياسية التي تَجمَع ما بين ما هبَّ ودبَّ من الموروث القديم لا تظهر، بدورها، حداثتها واختلافها عن العصبية الموروثة القديمة بصورة كاملة التبلور إلا بعد مرور فترة زمانية على تكوُّنِها. إن هذه الأخيرة، ما أن تصل إلى مرحلة متقدِّمة من التبلور، فإنها تؤول إلى الفناء، لأن تراكم رأس المال واستتباب المُلك على طوال عقود يفكِّكها تحت تأثير ثروتها المالية التي تسعى، في تطور لحق، كي ما تستمر إلى نفي نفسها، وإرساء إيديولوجية جديدة، سياسية، ديمقراطية، ليبرالية أو اجتماعية. إنها تتحول، على هذا النحو، من عصبية سياسية طفيلية إلى نظام وتنظيم سياسي معاصر.

إن كل هذا الموروث من عصبيات اثنية، وإن كان يقاوم الفناء أمام تكوين جديد من عصبية سياسية طفيلية تتأخر في الظهور بصورة متبلورة تامة التكوين، فإن العصبية السياسية الطفيلية التي تُعْتَبَر التكوين الجديد الذي لم يرقَ بعد إلى التكوين السياسي الحديث، والذي ما يزال يعاصر موروث بال من الاستبداد الشرقي لم يتوارَ بصورة نهائية، فإنه كي ما يَسقط بدوره مع فناء نمط الاستبداد الشرقي وزواله، ويتحول إلى تنظيم سياسي حديث للسلطة والمجتمع، أو يبلغ إلى هدفه النهائي، لموروث بالٍ لم يتوار بصورة نهائية، فإن هذ العصبية السياسية الحديثة، وقبل أن تتحول إلى تنظيم سياسي لا صلة له بالعصبيات الموروثة، القديم منها، الاثني الديني، الاثني القومي، الاثني الشعوبي، الاثني الديني السياسي، والحديث منها، العصبية الطفيلية للسلطة، أو العصبية السياسية، فإنها، ما أن تتبلور كعصبية سياسية طفيلية للسلطة كاملة التكوين، حتى تؤذن بانقراض الموروث البالي من الاستبداد الشرقي، وتتحول هي نفسها، إلى تنظيم سياسي حديث كدولة ديمقراطية ليبرالية، أو دولة الديمقراطية الاجتماعية المجالسية، في مجتمع لم يعد فيه أثر للموروث القديم والحديث من نمط الاستبداد الشرقي. إن كل الموروث البالي من عصبيات الاستبداد الشرقي، وكل ما هو حديث من عصبية طفيلية للسلطة، أيا كانت هويته الاثنية، مسلمة سنية أو مسيحية مارونية، كان وما يزال حتى غاية الشهر السابع من العام الثاني لثورة الخامس عشر من آذار 2011، يؤيِّد العهدين، يخضع لهما بانقياد عبودي، يستفيد مما يقدِّمُه من خدمات للعهدين، ويحيا مما يَنعم عليه السلطان من هدايا، احتكارات وتعهدات، ويشارك، في هذه الأثناء، في بناء جيشه الحصين، وسوقه الرأسمالية. غرف التجارة والصناعة وعدد غير قليل من النقابات المهنية والمهن الحرة، ما فتئت تؤَيِّد السلطة والسلطان، من حيث هي إحدى مكوِّنات العصبية الطفيلية للسلطة على اختلاف انتماءاتها العصبية القديمة الموروثة، سنية، شيعية، علوية، مسيحية، شعوبية، بيد أنها من حيث تكوُّنها كعصبية طفيلية للسلطة، فإنها عصبية الانتهازية الاستبدادية والمتوحشة. ثورة الخامس عشر من آذار تشكِّل، ضمن هذا السياق من عصبيات موروثه ومحدثة، آيلة إلى الاندثار أمام الحداثة والمعاصرة السياسية، ثورة آذار تشكل، في هذا السياق التاريخي لسورية، البوادر الأولية لزوال نهائي لنمط إنتاج الاستبداد الشرقي وما يرافقه من العصبيات البالية.

لكن العهدين، في نهاية الأمر، وإ ن كان نمو كل منهما، ينرج في سياق تاريخي موضوعي من العصبيات الأثنية، دينية وقومية، أو العصبية الطفيلية التي تتمخض عن ارتباط مصالح عدد من التكوينات الاقتصادية الاجتماعية بالسلطة البيروقراطية، منها الأسرة والزبائن والعملاء والوكلاء والموظفين والحراس والخدَّام والحاشية ورجال الأعمال والمقربين من القصر، إلا أن الروابط العصبية للسلطة لا تعدو كونها ثانوية بالقياس إلى ثقل أوزان العامل الخارجي، أو السياسة الدولية، المؤامرات والمتآمرون. إن سلطة العهدين، وإن كانت كرَّست كل منهما للعصبية بنمطيها القديم الموروث والحديث، البيروقراطي، الانتهازي، الاستبدادي - وذلك في ما عَجز، في هذه الأثناء، "خطاب القَسَم" (خطاب العرش) الذي كان ينادي بالانفتاح والحريات والحداثة والمعاصرة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، عن تخطي نمط إنتاج الاستبداد الشرقي، والوفي بالوعود التي كان قطعها أمام مجلس الشعب - إنما يستمدَّان السلطة من أعمدة الحكم الدولية التي أجلست السلطة السورية، منذ 16 تشرين الثاني 1970 بأضعف تقدير، وحتى غاية الشهر السابع من العام الثالث لثورة الخامس عشر من آذار، فوق وسادة مطاطية الحركة، مبنية من مؤسسات عسكرية واستخباراتية صلبة غير قابلة للتفكك أو الانهيار، مهما كانت الزلازل والعواصف السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، عنيفة. ثورة الخامس عشر من آذار ستأتي عليها، وتحيلها إلى ذكريات، إذا ما استمرت.

هذا الارتباط الدولي للسلطة يبلغ درجة عالية من القوة في أدائه لوظائفه وترميم عضويته بما يكفل للسلطة الاستمرار، حتى أن دور العصبية الأثنية الدينية في بناء السلطة يكاد يتوارى أمام علاقات الارتباط الحديدية والوثيقة التي تَجمع ما بين قيادات الجيش وأجهزته بأجهزة وقيادات أركان الدول الإمبريالية التي تسيطر في عهد العولمة، ما بعد انتهاء الحرب الباردة، على السياسة الدولية. هذا الارتباط الذي يمد السلطة بأسباب وجودها وبقائها، هو الذي يملي، في تطور لاحق، وفي هذه الأثناء، على أسد الثاني أن يبدأ بتنفيذ المؤامرة العظمى. إذ إن الأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي، والتي قلَّصت الميزانيات المفلسة للدول الإمبريالية، بما في ذلك ميزانياتها العسكرية، ارغمتها على تغيير آلية سياساتها الحربية المعادية للشعوب، والبحث عن آلية جديدة لاستغلال الشعوب المضطَهَدَة بصورة لا تقل عداء واستغلالا لها. فإذا كان النمط العدواني الجديد للدول الامبريالية، يُوفِّر عليها نفقات عملياتها العسكرية العدوانية في أفغانستان والعراق، بوجه خاص، ويحرمها من زج قواتها الحربية في النزاعات بصورة مباشرة، إلا أنه، بالمقابل، يضاعف من عدائها للشعوب، ويوسِّع في استغلالها لها، طالما هي تبحث عن مخرج من أزمة النظام الرأسمالي، المستفحلة المستمرة، عبر توسيع سيطرتها على أسواق وثروات الشعوب، بما في ذلك شعوبها هي. إن سياسة الترويج للمبيعات من الأسلحة، وشحن الحروب الإقليمية ما بين "دولها" (إذا كان مصطلح دولة يشملها)، وتدمير الحدود القومية التي تسد المنافذ أمام العولمة النيوليبرالية، بالإضافة إلى نشر الحروب دون أن تتدخل قوى السياسة الدولية الإمبريالية فيها بصورة مباشرة، هذه السياسة هي التي تُسيِّر الأنظمة السياسية للرأسمالية العالمية من أجل الخروج من هذه الأزمة الخطيرة التي تسيطر عليها، وتهدِّد دولها وأنظمتها بثورات تقضي على النظام الرأسمالي في العالم. هذه السياسة الإمبريالية هي التي تملي اليوم على أسيادها أن يتخلَّصوا، على وجه السرعة، من كل التكوينات المقاومة لهم، من طالبان، ومنظمة القاعدة، والجهاديين، وإيران النووية، وحزب الله، والفلسطينيين - ما لم توافق قياداتهم، وهي تعَرف اليوم حق المعرفة أن سياسة الحكام العرب منذ النكبة لا تختلف عن السياسة الصهيونية، من حيث أن القاسم المشترك بين الأولى والثانية قوامه إبادة الشعب الفلسطيني والتخلص منه - ما لم توافق على حشر دولتهم المسخ في زقاق ضيق من حارات فلسطين التاريخية.

4- سورية فضاء لاستعراض تروستات الأسلحة لإنتاجها من الصواريخ وطائرات التجسس دون طيار:
النمط العدواني الجديد للصهيونية والإمبريالية قوامه العهدة للسفاح بتنفيذ مؤامرة عظمى للتخلص من كل هؤلاء، وتفويضه، بالنيابة عنهم، بمهمة مؤداها الزج بحزب الله في دام مع الجهاديين، واستدراج إيران للتدخل إلى جانب السلطة المسيطرة وحزب االه، بما يبرِّر، بالتالي، لكل من تركيا وإسرائيل أن تخوضا معركة مشتركة للإطاحة بإيران والجهاديين وحزب الله فوق المسرح السوري، أرضا وبحرا وجوا، وذلك في ما يتكفَّل الجيش السوري بإخماد ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية. وجه الخلاف، هنا، ما بين الأرنب والسفاح، أن الأول نَقل النزاع الإقليمي والدولي إلى الساحة اللبنانية، كي لا يخوض، معركة حربية طاحنة وجها لوجه مع الفلسطينيين، وليس إسرائيل، حسب ما كان يردِّدُه كبار الصحفيين العرب والأجانب، فوق الأراضي السورية. أما الثاني، فإنه، بخلاف الأول، يوافق بأن يجعل من سورية ساحة للاقتتال ما بين هؤلاء، ويتعّهد أمام السياسة الدولية المدين لها كأبيه بالمُلك، أن يجعل من الأرض السورية مقبرة حربية لدفن أعداء الإمبريالية والصهيونية.
إن ما يستجد منذ ظهور التأثيرات الاجتماعية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية للأزمة الرأسمالية، وهي تظهر ما بعد ظهور التأثيرات الاقتصادية بفاصل زماني، يمتد بدوره على مسار فترة من التفاعلات والتداعيات التي تسبق ظهور الأوجه العسكرية والدبلوماسية للأزمة، طالما لا تظهر هذه الأخيرة إلا بصورة متأخِّرة، ما يستجد، هو أن حلفاء أسد الثاني، وعلى رأسهم حزب الله وإيران، أصبحوا ثقلا عليه لا يطاق. بالمقابل، فإن ثورة الخامس عشر من آذار، تخيف كل هؤلاء. إنهم، بما في ذلك المعارضة السورية وجيشها الحر التي تَعَلَّقَت بدورها منذ اليوم الأول للثورة، بزيل السياسة الدولية. هذه الثورة الشعبية إذا ما ستمرت، فإنها مقبلة على قطيعة كاملة وحاسمة مع هذا النمط السياسي السائد منذ أيام الشيخ تاج الدين الحيسني، إن لم يكن قبل هذا الأخير بفاصل زماني مديد.

ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، والتي تحمل معها وعودا بعودة المجتمع السوري إلى توجيه سياسة السلطة على مسار من التحرر القومي والاجتماعي، والسير على مسار السياسة الوطنية المتحالفة مع قوى التحرر والديمقراطية في العالم، مؤهَّلة لمناهضة الصهيونية والإمبريالية بالعمل الثوري والمقاومة الشعبية. هذه الثورة هي التي أَطلَقَت إشارة البدء بتنفيذ المؤامرة العظمى بقيادة السفاح بشار الجزار الذي ما فتئ، على غرار أبيه، يقطع الوعود أمام السياسة الدولية، ويتعهد بقمع كل حركات التحرر والديمقراطية واليسارية، حيثما تصل زراعه الحديدية. من فصول هذه المؤامرة متعدِّدَة الحلقات، بالإضافة إلى ما تقدَّم، أن تَدفن السلطة، أول ما تَدفن، المجتمع الرضيع الذي وُلِدَ لتوه من رحم التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، بعدما كان أسد الأول دَفن هذا المجتمع حيا؛ دفنه وهو على قيد الحياة. لكن المجتمع الدفين تحت أنقاض ما كان الأب خلَّفه وراءه من دمار سياسي واجتماعي لسورية، قاوم الموت، ليولد من جديد مع الثورة. إن الشعوب العظيمة، مهما يبلغ شَرِهُ السلطان الحاكم المتسلِّط للبطش ومص الدماء من قوة مجنونة، فإنها تقاوم الاستغلال والظلم من أجل البقاء على قيد الحياة. إنها تنتصر، مهما كلفت الثورة من تضحيات على الموت لتحيا، ، بحرية وكرامة.

آ- إلى ذلك، فإن السياسة الدولية، حسب التصريحات الرسمية لدبلوماسيَّتها وقياداتها العسكرية، "لا تعتزم من وراء (الضربة الاستراتيجية) إسقاط نظام بشار الأسد". إنما تريد، من وراء ذلك، الضرب على أصابعه بقلم الرصاص، كما يفعل المدرس اللطيف مع تلامذته المشاغبين أو الكسالى في المدرسة الابتدائية. تأديبه بصورة لائقة كي لا يعود إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية. بطل "الجريمة والعقاب" للروائي فيودور ميخالوفيتش (1866)، راسكولنيكوف، إنسان طيب ذات نوايا حسنة. بيد أنه يضع أفكاره العقلانية موضع التنفيذ بصورة معوجَّة، ما يقوده إلى ارتكاب جريمة. غير أن جريمته، مالم يرافقها الغفران، التوبة والندم، فإن حياته مع أمثاله من البشر تغدو جحيما لا يطاق. ثمة هنا مسحة مسيحية، بالرغم من أن المجرم يضع حريَّته فوق كل القوانين والأخلاق والعادات، وكل ما هو مسَلَّم به في المجتمع البورجوازي والارستقراطي. الأمر يبدو أكثر وضوحا في رواية له كانت نُشرت قبل هذه الأخيرة، وتُلقي الأضواء عليها. ففي روايته "في قبوي" (1964)، يوجِّه دوستويفسكي نداءً يائسا من أجل حرية الفكر. بطل هذه الرواية يعاني من مرارة الوجود، ويُمضي حياته على وتيرة من القسوة. بيد أنه، علاوة على ذلك، إنسان نذل، شرس، مغتاظ من المجتمع، يتفاخر ببذاءة، صلف وسخرية، بما يأتيه من أفعال مُخزية. إن الكاتب يوجِّه إلى العالم الغربي، العقلاني والوضعي، عبر هذه الشخصية، رسالة مؤدَّاها أن الإنسان ليس آلة ميكانيكية، وهو لا يطيع قوانين العقل، ويَعصى على مصالحه. إنسان يحلو له، على نقيض من كل العقلانيات، أن يَضِيِع، أن يفقد أثر العقل وقوانين المجتمع، طالما لن يعرف الحياة الهنيَّة في مجتمع من العقود والمواثيق والتقاليد. إن الإنسان، باختصار، حسب هذا الروائي العالمي، كائنٌ حرٌ، إذ هو لا يتنكَّر لما يحمله من حب ل/"المساكين"، ويتمنى التقدم للشعب الروسي، إلا أنه يهجر القواميس التي تصادر بوقاحة طبيعة الإنسان. عن هذه الإنسان، وُلدِ، نسخة طبق الأصل، الجنتلمان باراك أوباما، المثقف الاشتراكي، المانداران، البريزيدانت فرانسوا هولاند، المستر كاميرون، الأخضر الإبراهيمي، المعارضة السورية (أو الأخوة كارامازوف)، والمستر كيري، والمسيو لوران فابيومس، والجنرال أسد، السفاح بشار الجزار، والفرنش دكتور، صديق الغزو الأمريكي للعراق، برنارد كوشنير، منذ بدء عهد الحداثة والمعاصرة. وَجْهُ الشبه بين هؤلاء وأولئك من الزعماء وبين إنسان دوستويفسكي، أن هذا النموذج البشري، واسع الانتشار في جميع أنحاء العالم، يدوس على كل القوانين، بما في ذلك ما يسنُّه بنفسه من تشريعات (إنسانية). غير أنه، على غرار الإنسان في هاتين الروايتين، مُثقّف من النخبة المُنتَخَبة، يّفْقَد كل أثر لقوانين المجتمع العقلانية باسم حرية ما فوق الطبيعة (ما فوق وليس ما بعد)، والتي كان الكاتب الروسي يدعو إليها. إنها، طوال القرنين الأخيرين، نمط الحرية، ما بعد موت الله، حيث يصبح كل شيء ممكن، كما كان يردِّد الكاتب الروسي وراء فريدريك نتشه. إلا أن ما العالم بصدده اليوم من نموذج إنساني (حر)، كذا، يختلف إلى حدِّ ما، أيضا، عن هذا النموذج من إنسان المعاصرة والحداثة في وعهدا المبكر، من حيث أنه يخلط ما بين الحرية ومصالحه، ويَجري، بخلاف النموذج إياه، وراء مصالحه. أما "الإنسان الاجتماعي" لثورة الخامس عشر من آذار، والذي يصارع كي ما يوُلد في أوساط الشباب، فإنه، شأنه شأنه الشيوعيين الثوريين، واليساريين القوميين، وُلِدَ عن إنسان يأتي من مصدر تاريخي آخر. إنه إنسان جماعي. أو إنسان الجماعة الذي يَربط حريته وحقوقه المعيشية والمدنية والشخصية، بصورة لا ينفك نسيجها الكفاحي عن الاجتماع، الطبقة، الشعب والأمة. هذا الانسان الثوري وليد العاميات، كومونة باريس، عاميات الشام وجبل العرب، المخيمات الفلسطينية، مذابح سجن تدمر وحماة، الحملة المعادية للأكراد على إثر وقائع الأحداث في ملعب كرة القدم بالقامشلي، وامتداداتها في اليوم التالي إلى دمشق ودمَّر في الغوطة الغربية (2006)، تاريخ سجن مزة العسكري وعدد من أقبية الاستخبارات لا يُحصى لها عدد، الثورات والانتفاضات ضد الحكم العثماني وولاة الشام والاستعمار الفرنسي، الثورات من أجل فلسطين، ميدانية التحرير، و ... .

ب- إذا كانت الضربات العسكرية لا يُراد منها إسقاط النظام، فلأن السياسة الدولية ما تزال تعوِّل على السفاح كي يُنجِز مهمَّته حتى غايتها القصوى، ألا وهي دفن الجهاديين في باطن الأرض السورية بصورة نهائية. الدول العظمى الناشئة، البرازيل، الهند، أفريقيا الجنوبية وغيرها، والتي تحوَّلَت إلى ورشة صناعية لإنتاج أموال العولمة النيوليبرالية بقيادة السياسة الدولية، ترفض الضربة الاستراتيجية.

ج- الهدف في حقيقة الأمر من وراء هكذا ضربات يرمي إلى تصعيد النزاع الحربي على الصعيد الإقليمي. أي أن تُستدَرَج إيران وحزب الله إلى الزج بقواها بصورة كثيفة في سورية، بما يمهِّد الطريق، في فترة قريبة لاحقة، أمام التدخل العسكري لكل من تركيا وإسرائيل في هذا النزاع الحربي الإقليمي. بتعبير آخر: المشاركة على نطاق واسع في هذه المؤامرة العظمى التي تتغذَّى من أموال وأسلحة وسياسات آل سعود، والأفندي التركي، إلى جانب الجامعة العربية.
د- إن الطبقة السياسية في العالم بوجه الإجمال منقسمة على أمرها تجاه هذه "الضربة الاستراتيجية". انظر إلى القادة السياسيين في البلدان الرأسمالية العظمى ومثيلاتها من دول عظمى ناشئة، أحزابا، مجالس مُنتَخَبَة، ورأي عام. اليمين واليسار على حد سواء في جميع أرجاء العالم. هذه المؤسسات النيوليبرالية التي تسهر على العولمة، ترفض في بريطانيا العظمى أن تَمنَح المستر كاميرون أي تفويض بتنفيذ أية عمليات عسكرية في سورية. فرنسا الرسمية والشعبية لم تُجْمِع على هكذا عملية. ألمانيا التي تحظر دستوريا تخويل جيشها تنفيذ عمليات حربية خارج أراضيها، ما لم يتوفَّر لها شروط قاسية، ترفض، بما في ذلك كلب الراعي الألماني، المشاركة مع التحالف في هكذا عملية. في واشطنن، ثمة معارضة قوية للسياسة العسكرية ل/(لبريزدنت) أوباما حيال سورية، بما في ذلك أعضاء في مجلسي العموم والشيوخ من حزبه الديمقراطي. هذا الرفض يُعزا إلى أن أصحابه لا يترجون أية منفعة من وراء ضربة حربية محدودة، تتراوح مدتها في الولايات المتحدة بمنطق الدستور الذي يُطلق يد رئيس الدولة في تنفيذ عمليات فوق أراضي البلدان الأجنبية خلال مدة تتراوح ما بين 60 و 90 يوما. الدستور الفرنسي يَمنح، هو الآخر، صلاحيات مماثلة لرئيس الدولة، خلال فترة أربعة أشهر. هؤلاء، منهم من يريد - والمفارقة ما بين الموقفين المعارضين مرئية كوضوح الشمس للسياسي الأعمى !! - توجيه ضربة قاضية لنظام السفاح، لذا، فإنه يرفض الضربة المحدودة التي تَحمُل معها، بوجه الممكن، تداعيات إقليمية غير متكافئة من الناحية الاستراتيجية مع الأهداف المرجوة من وراء الضربة التأديبية. منهم، بالمقابل، وبوجه خاص في أوساط اليسار الشيوعي والثوري، من يرفض كل أشكال الحروب المعادية للشعوب، التكتيكية منها والاستراتيجية. ها هو ذا المدير السابق للمدرسة الحربية الفرنسية، يؤكِّد، بصريخ العبارة، في حديث له عبر القناة التلفزيونية "فرنسا 24 ساعة" بقوله: "إننا لا نريد إسقاط بشار أسد لأن سقوطه سيؤدِّي إلى مذبحة تطال العلويين والشيعة والمسيحيين. إننا نريد، من جهة، نيله بالضعف، وتدمير القوة النووية لإيران".

إنهم، في حقيقة الأمر، يُنفِّذون سياسة حربية في شرق المتوسط يُراد منها حماية الدولة الصهيونية من الكيمياوي السوري، والنووي الإيراني. إن سياستهم عَزَفَت عن نصب العراقيل أمام تسليح حزب الله والجهاديين بأسلحة الدمار الشامل، ولم تعد لتكتفي بتوجيه التحذيرات الحازمة في هذا الصدد، إلى هؤلاء وأولئك، لأن هذه الأسلحة، إن لم تصل إلى مستودعاتهم من الأسلحة، فإنها في طريقها إليها. لذا، فإن السياسة الدولية قرَّرَت التخُّلص منهم بصورة نهائية، مما جعل منهم، بالتالي، عبءً ثقيلا على المتآمرون، وعلى رأس بشار أسد. هذا، علما أن ما يزعمونه من خطر سوري يهدِّد إسرائيل، غير موجَّه للسفاح، وإنما يُعبِّر عن خوفهم من انتقال هذه الأسلحة، إلى سوري سواه مجهول الهوية، إذا ما سقط نظامه. أضف إلى ذلك، أن الأبرياء من أبناء الشعب السوري، سيذهبون – عن طريق الخطأ – ضحايا للصواريخ الأمريكية وغيرها. إن إسرائيل هي الشغل الشاغل للسياسة الدولية. وإن الضربة المحدودة غير موجَّهة للجيش السوري، وإنما يُقصد من ورائها الإغلاق على مستودعاتها بقفل مسلَّح مفتاحه بيد السفاح بشار الجزار، وحده دون غيره. لاسيما، وأن ما يسمَّى بالجيش السوري النظامي يُعَمِّر دهرا من الزمان، ولن يؤول إلى الشيخوخة إلا وهو يتابع ما كان بدأ به من تنكيل بالشعبين السوري والفلسطيني، بالإضافة إلى لبنان، والعراق، والأكراد، و(تأجيل) – حسب ما يَزْعُم – استرداد الجولان إلى ما لا نهاية. إن أي عمل عسكري يطال النظام المهيمن في سورية، سياسة حربية لا طائل منها، و لا مبرِّر لها، طالما يتكفَّل الجزار بإنجاز ما يلزم لتقويض الثورة الشعبية، وحزب الله، وإيران، والجهاديين. إن انتصار ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، إذا ما هي استمرت، فإنها ستغيِّر كل هذه المعطيات.

ه- السياسة الدولية تمارس اليوم في سورية الاستراتيجية بعينها التي كان أسد الأول مارسها في لبنان. أي نقل المعركة المسلحة إلى ساحة ثالثه يتقاتل فوق سطحها، أو بين شوارع مدنها، الأعداء. السياسة الدولية، ومنها السياسة الإسرائيلية، لن تزج بنفسها في النزاع مع عدوها، الإيراني، حرب الله، الثورة السورية، الشعب الفلسطيني، فوق ترابها، أو فوق أراضي عدوها إيران. كما أن إسرائيل والسياسية الدولية لن تحارب الجهاديين وحزب الله وإيران والثورة السورية، فوق أراضيها، أو على مشارف حدودها. إنما هي تختار سورية مسرحا للنزاع مع أعدائها، وعلى رأسهم ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، وحزب الله، وإيران النووية، طالما يُنفِّذ أسد الثاني المؤامرة العظمى. ألا وهي، تحويل سورية إلى مقبرة لدفن ثورتها الشعبية، حزب الله، الجهاديين، ونظام الملات الإيرانيي.
و- التراب الوطني لسورية لن يتسع لدفن الموتى في باطنه إذا ما أنزل فلاديمير بوتين قواته العسكرية من سطح الأسطول الحربي الروسي الذي يتدفق نحو الشواطئ الشرقية لحوض المتوسط، إلى الأراضي الروسية، من أجل دعم الأسد بالنيابة عن فرانسوا هولاند وباراك أوباما، ومنح هذين الأخيرين ما يكفي من مبرِّرات لتقليص ضرباتهم الصاروخية والجوية، من حيث مدتها وكثافتها.

ز- الدبلوماسيةُ دجلٌ لطيف يخفي وراءه عصا غليظة. إن دبلوماسية السياسة الدولية ما فتئت تؤكد في الأيام القليلة الماضية أن الهدف من عمليتها يقتصر على تأديب النظام الحاكم، كي لا يعود إلى استخدام هذا النوع من الأسلحة القذرة. كأنهم يضعون، على هذا النحو من الوقاحة والصلافة، الشعب السوري، وليس النظام، أمام خيارين اثنين صعبين. الموت بالأسلحة الثقيلة وعلى أيدي (الشبيحة) ذبحا وتعذيبا، أو الموت بأسلحة الدمار الشامل. الجواب: إن السياسة الدولية تختار اليوم للشعب السوري أن يموت بأسلحة النظام، زبائنه ومرتزقيه، وتوفِّر عليه الموت خنقا وتسمما بغازات أسلحة الدمار الشامل. إن ما يزيد عن مائة ألف مواطن سوري قتلوا بأسلحة النظام، وحوالي مليونين آخرين منهم هاجروا ليأووا إلى معسكرات (الاعتقال) في الأردن وتركيا، ليس كل ذلك بأنظار السياسة الدولية خطوطا حمراء. كلا، إنها، في الحقيقة، خطوط بيضاء شفافة تَكشُف عن حقيقة علاقات الصداقة التي تربط ما بين السفاح بشار الجزار والسياسة الدولية الإمبريالية التي تعوِّل عليه كل الآمال. الحقيقة، هي أن راعي البقر (الكاوبوي) الأمريكي، بلباس المارينز وعيونه المعلوماتية التي تحدِّق بسورية من الفضاء، لو أنها تريد أن تقضي على صديقها، لاصطادته بصاروخ موِّجه، طالما تلاحقه بأقمارها الفضائية حيثما رحل، حلَّ وارتحل. حتى لون سراويله وسراويلنا الداخلية لا يَخفى عليها. إنها تحوز بيدها ما يكفي من تقنيات أسلحة معلوماتية متطورة كي تُوَجِّه إليه "ضربة قاتلة"، حيثما كان مختبئا. سواء كان متواريا عن الأنظار في أقبية قصوره المدرَّعة، المضادة للصواريخ والمَجَهَّزة بكل ما يلزم من حديد ونار وحجارة وإسمنت وطائرات عمودية ومطارات، لحمايته من الشعب. أو سواء كان مشمِّرا عن زراعيه، حيثما كان يترأس مجلسا كهنوتيا سرِّياً، يدبِّر الدائس والجرائم في القنوات الآسنة لدبلوماسيته التي تسيل جرائمها السياسية عبرها، لتصب في نهاية رحلتها المغامرة في المحيط الدولي للمؤامرات الإمبريالية، الإيرانية، التركية، والإسرائيلية.

الدبلوماسية شعوذةٌ لطالما سخر لينين منها ومن الدبلوماسيين، بشماتة منقطعة النظير. إن مقصدها الأول والأخير يدور ويناور حول إخفاء النوايا الحربية العدوانية، والمطامع الاستغلالية الاستثمارية المستترة وراء القمصان المزركشة، وفرَّاشات وربطات العنق، والمراسم الكهنوتية التي تَستُر وقاحتها وصلافتها بألبسة المناسبات. لغتها ذات التعابير الغامضة تبدو في ظاهرها مسالمة، متمسكة بروح الصداقة بين الشعوب. بيد أنها في باطنها، بخلاف ما تدّعيه من مساع ووساطات حميدة، والبحث عن حلول سياسية للحيلولة دون سفك دماء الشعوب، تأتي مسرحياتها على وتيرة من الضجيج الإعلامي، متأخِّرة، ما بعد القرار الحربي الذي كان اُقِّر سرا في وقت سابق في أعلى المجالس السرية للسحرة المنافقين، أي ما قبل التصريحات والبلاغات الرسمية التي تسيل من ألسنة وزارات الخارجية، وموظَّفي السلك الدبلوماسي. المستر كيري، كالمسيو فابيوس، أقرا، أبا عن جد، في الحكومات المتقدِّمة والمتأخرة في الزمان، إبادة الثورات الفلسطينية والسورية والمصرية، وغيرها من ثورات لشعوب تكافح من أجل تحرير العالم من سيطرة القوى الفاعلة في الساحة الدولية، وبناء عالم من نمط جديد. هذه الدبلوماسية موروثة عن معاهدة سايكس بيكو، وما يليها من مؤتمرات دولية ما هي إلا مؤامرات على حرية الشعوب. إنها تُدعى مؤتمر يالطا، وبرنامج كذا وكذا للتنمية، ومشروع مارشال، معاهدة كامب ديفيد، الأولى والثانية، اتفاقية أوسلو، الرحلات المكوكية لصاحبها المستر كيسنجر، والمسيو هيرفيه دو شاريت (الوساطة الفرنسية التي تولاها وزير الخارجية الفرنسي في العام 1996 بعد عملية «عناقيد الغضب» الاسرائيلية ضد لبنان، والتي كُلِّلَت بالنجاح في ما يُعرف ب/"تفاهم نيسان" بين لبنان – أو الجنرال أسد - وإسرائيل)، والرحلات المكوكية للفرنش دكتور المسيو برنارد كيشنر ( أَغدَق هذا الأخير الوساطات ما بين قادة لبنان السياسيين من أجل التوصل لحلول توافقية بينهم بعيدا عن السياستين السورية والإيراني، بشأن التعجيل في انتخاب رئيس لبناني توافقي بحسب تعبيره).

ح- هذا السفاح الجزَّار لا يختلف، إلا من حيث درجة الإجرام والخيانة والتآمر، عن غيره ممن حكموا سورية أثناء الانتداب الفرنسي، وما بعد الجلاء، وإبان عهد الوحدة والانفصال، وما يلي ذلك من انقلابات، 1963، 1966، 1970، وخطاب القسم (العام 2000) من حيث هو انقلاب أبيض. الوقائع التاريخية التي تبيِّن مدى تَحَكُّم السياسة الدولية بقادة السياسة السورية، ومنها كثرة من الحقائق التي تكشف عن اتباع أكثرية منهم سياسة غير وطنية، إن لم تكن تآمريه، فإن هي شذّت عن ذلك، فإنها غالبا ما تكون صبيانية، طفولية عندما يقُصد من ورائها المزايدة بين فريقين اثنين. يتنازعان الانفراد بالسلطة، أو كسب (تفوُّق) سياسي على دولة أخرى منافسة. العدو الصهيوني والسياسة الدولية والرجعية العربية هي وحده التي تستفيد من هكذا صبيانية وطفولية، لتعزيز نفوذها في سورية وجنوب وشرق حوض المتوسط. حركة 23 شباط اليسارية قادت مقاومة شعبية مسلَّحة فوق الأراضي الإسرائيلية ما بين 1966 و 1967، انطلاقا من الأراضي السورية، غير عائبة بما سيتمخض عنها من نتائج على الصعيد السوري والإقليمي. حتى إذا ما جاء يوم الخامس من حزيران/يوليو 1967، فإن الهزيمة التي لحقت بالجيشين السوري والمصري، تَفضَح سياسة الاستفزاز السورية للإسرائيل، والتي مورست من قِبَل قيادات حركة 23 شباط 1966 من أجل إنجاز ثلاثة أهداف على الأقل. أولهما "الحؤول دون أن تبقى القضية الفلسطينية في الثلاجة"، حسب ما كانت تُردِّد حركة 23 شباط، وذلك في إشارة إلى أن جمال عبد الناصر لن يَدخل حربا مع إسرائيل ما لم يتوفَّر لدى مصر ما يكفي من القمح في خزانات الحبوب الاحتياطية لإطعام الشعب المصري لمدة ثلاث أو أربع سنوات. ثانيهما، تشييد المقاومة الشعبية المسلِّحة لمواجهة الصهيونية والإمبريالية. الأمر الذي يؤدي بدوره، من جهة، إلى تقليص دور الجيش السوري ووزير الدفاع الجنرال أسد، وترجيح كفة اليسار والقادة المدنيين لحركة شباط، في موازين القوى غير المستقرة ما بين الجنرال أسد ومعه ضباطه من جهة، والقادة المدنيين لحركة شباط .

وجه الطفولية هنا يكمن في تساهل الرفاق المدنيين مع الجنرال أسد الذي كان يتأمر عليهم منذ الثامن عم آذار 1963، والذي كان ينحِّي، من وراء الكواليس المعتمة لوزارة الدفاع، القيادات العسكرية، أو يستفيد من تنحيتهم، بانتظار الاستيلاء على السلطة والانفراد بها. أسد الأول خاض حرب حزيران 1967 في ما كانت عيناه غير مصوَّبتين نحو جبهة الجولان والأجواء السورية. كان يُحدِّق بعين على الصراع ضمن حزب البعث، وبخاصة نحو الرفاق قياديي حركة شباط. في ما كانت عينه الثانية تراقب الشعب السوري توجسا من (طفرة) شعبية تقضي على أحلامه. هذه الهزيمة التي لم تَدخل في حسابات الرفاق عندما عقدوا العزم على مواجهة إسرائيل بالمقاومة الشعبية، ادَّت إلى رجحان كفة آل سعود والرجعية العربية والإمبريالية في الموازين الإقليمية للقوى. إن هذا الرجحان المختل يُؤْذِن، بدوره، اعتبارا من "حرب الخمسة أيام"، بنهاية السياسة العربية التي لم تكن وقفت على قدميها إلا بفضل جمال عبد الناصر الذي كان يُهيب الساسة العرب الموالين للغرب الرأسمالي، ويرغمهم على اتباعه، ولو كان ذلك، فقط، من حيث الخطاب الرسمي. الرفاق المدنيين اليساريين والثوريين، مضوا في طرقهم نحو ترسيخ المقاومة الشعبية المسلَّحة. الجنرال أسد كان، في هذه الأثناء، يتحيَّن الفرص للانقضاض على رفاقه المدنيين.

إن القصد من وراء سرد هذه الحلقة من التاريخ المعوِّج للسياسة السورية، وإن كان، من جهة، يُراد من ورائه الإشارة إلى أن اليساريين المدنيين دفعوا بالمقاومة الشعبية إلى الأمام، وتركوا الجنرال أسد في المؤخِّرة، بانتظار أن يتخلَّص اليسار المدني الثوري منه بعدما تُنجز المقاومة الشعبية انتصارات تكتيكية على أرض الحرب الشعبية ضد إسرائيل، فإن القصد، من جهة ثانية من سرد هذه الوقائع، ينتهي إلى التوكيد بأن اليسار الثوري انتحر عندما ترك وراء ظهره مجرما يتربص بهم، ولن يلبث أن يغدر بهم. كان حريا بهم أن يتخلصوا من عدو الشعب الذي لا يثق إلا بالعسكريتاريا الموالية له بصورة عمياء، ويَعْتَقِد، علاوة على ذلك، أن الشعب قطيع من المواشي تبحث عن الماء والكلأ، وأن السياسة من اختصاص سلطته الفردية وحدها. القصد أيضا من وراء هذا السرد لوقائع أربعة سنوات من تاريخنا، يقف على التوكيد بأن باب المؤامرات والمتآمرين مفتوح على مصراعيه في سورية، ما دامت الهزيمة، كالصبيانية والطفولية، لا يُعاقب عليها. بل وإن المسؤولين عنها يدوسون فوقها كي يتسلقوا درجات أعلى من السلم الذي يقود إلى القمة العليا للسلطة. إن ثورة الخامس عشر من آذار إذا ما استمرت، ومن ثم انتصرت، فإنها، ولأول مرة في تاريخ سورية، ستقاضي السلطة ومن يحيط بها.

ط- إذا كانت الجريمة السياسية عبر التاريخ في سورية لا يُعاقب عليها، وكانت السلطة دوما وأبدا ما فوق القانون، وكان العامل الخارجي أو السياسة الدولية مبرِّرا لتآمر السلطة ضد المصالح الحياتية المعيشية للشعب، ومن أجل تنفيذ سياسات تفتقد لكل ما هو إخلاص للقضايا الوطنية والقومية والاجتماعية، فإن كاتب هذه الأسطر يَقتطف، هنا، للتدليل على هذا النمط غير الوطني من السياسة السائدة في سورية منذ القدم وحتى غاية اليوم، يقتطف فقرة موجزة من "مذكرات" الأستاذ أكرم الحوراني للتذكير وإن كان بمثال واحد، فإن هذا المثال يٌشكِّل عيِّنة واحدة من الجسم المريض: لقد أصبح العقيد أديب الشيشكلي " حجرة عثرة أمام الأحداث الدولية المعقدة التي توّجت بحلف بغداد". فالعقيد، وإن كان صديقا للحزب القومي السوري، ويؤيِّد السياسة البريطانية للحزب، وكان استفاد على الصعيد الشعبي، بعدما نحَّى دميته العقيد فوزي السلو عن السلطة، والذي كان ولاه رئيسا للدولة السورية لفترة وجيزة كي يمسك هو بكل مفاتيح السلطة من سراديب وزارة الدفاع والمكتب الثاني، وذلك قبل أن يتوج نفسه رئيسا للدولة كامل السلطات، استفاد من تأييد هذ الحزب له كي يَكسب نفوذا جماهيريا، فإنه، بالرغم مقاومته لكل سياسة تطالب باتحاد ما بين سورية والعراق، إلا أنه رهن سلطته بتأييد انضمام سورية لحلف بغداد، وسياسة الاستعمار الجديد. وكان، في هذه الأثناء، كل من رئيسي الوزراء في العراق "نوري السعيد وفاضل الجمالي يلعبان لعبة مزدوجة. فمن جهة كانا يعملان للاتحاد بين سورية والعراق، ومن جهة كانا يعملان لتهيئة العراق للانضمام مع إيران لحلف باكستان – تركيا.. وبعد إن أَعلن (حافظ الجمالي) ارتياحه لقيام هذا الحلف ولانضمام العراق إليه، اضطر إلى القول، بعد إن واجه معارضة عنيفة من البرلمان العراقي - إن العراق لم يفكر بهذا الموضوع ألان وإذا وجدت فكرة أو مصلحة في المستقبل للانضمام إليه فان الحكومة ستتقدم بذلك إلى المجلس - ، .. وقد وَصفت صحافية فرنسية حلف باكستان أنقرة وصفا طريفا، إذ شبهته بحبل مد بين أبعد عاصمتين في الشرق، بين أنقرة وكراتشي لإغراء ما بينهما من البلاد الأخرى للامساك به، وبذلك يتم إنشاء حلف دفاعي إقليمي جديد يكون امتدادا لميثاق الأطلسي نحو الشرق ليسد الثغرة في حلف الدفاع الغربي الذي طالما دعت لندن وواشنطن لسدها عن طريق مشاريع سمي بعضها بمنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وسمي غيرها قيادة الشرق الأوسط الخ ... وافق الشيشكلي وأيد الطرح الأمريكي البريطاني الفرنسي والتركي بخصوص مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط، في الوقت الذي عارضته رموز بارزة في الحكومة آنذاك، ومختلف الأحزاب والتنظيمات الشعبية، إضافة لمصر وبعض الدول العربية الأخرى، ووقف الشيشكلي بحزم ضد إلحاق سورية والأردن بالعرش العراقي، واستطاع أن يكسب دعم النظام المصري والسعودي باعتباره خصماً لنوري السعيد في العراق ". الأستاذ أكرم الحوراني، ينتهي من خلال سرده لذكريات التاريخ ذات الصلة بأديب الشيشكلي، إلى النتيجة التالية: "هذه هي قواعد اللعبة الدولية البريطانية والأمريكية في إجهاز الجيش السوري، وحرف السياسة السورية، عن مجراها الشعبي الرئيسي".

5-السلطات والمعارضات اخطبوط واحدٌ أحدْ، مختل الأذرع:
امتدت أزرع أعظم أخطبوط في العالم، وأكبرهم سناُ، حيوان كل المحيطات والبحار الرأسمالية لاستغلال الشعوب، والذي تعاني أزرعه المتلاطمة خللا تكتيكيا، يجعل بعضا من أشدِّها قوة يلتف حول بعض أزرعها الأكثر ضعفا، إن لم يخنقها، وذلك بعدما افتقدت أزرعه بصورة مستحكِمَة للتنسيق الوظائفي ما بينها من جراء الأزمة الرأسمالية المستفحلة. هذا الأخطبوط المريض، وَجَد في المياه الرأسمالية الساخنة لبحر الأموال في سورية مشفى له، يعينه على استرداد ما لحق به من علل صحية وظائفية. فإذا كانت أزرعه تختلف اليوم أسماؤها باختلاف الحالة المرضية لكل منها، روسية، أمريكية، أوروبية، صينية، في ما يتعلق بجنس الإناث منها. آل سعود، وآل نهيان، وأل خليفة، والمجلس الوطني، والائتلاف الوطني، والجيش الحر، في ما يتعلق بجنس الذكور منها. هيئة التنسيق، في ما يتعلق بجنس ثالث منها، لا هو بذكر، ولا هو انثى، طالما ينتمي إلى نوع من الملائكة لا جنس لها، كالعفريت على سبيل المثال. فإذا كان حال الأذرع مستقر على ما هو عليه من اضطرابات وظائفية، فإن المركز العصبي للأخطبوط المختل بصورة مجنونة، ما هو رأس آخر غير بشار أسد وأجهزة السلطة الخاضعة والموالية له. هذا الأخطبوط يعاني جهازه العصبي، كما هو واضح ومرئي للعيان، من علَّتين طبيعية أو بيولوجية. العلَّة الأولى تتعلق بخلل العلاقة ما بين الأذرع والرأس. الثانية منها، خلل ما بين الأذرع التي تَفتقد في ما بينها إلى التنسيق والتناغم في أدائها لوظائفها.

هيئة التنسيق، تشكِّل خلايا نشطة تؤدي وظائفها في دماغ الأخطبوط بالرغم ما يصيبها كل يوم من علل. الائتلاف الوطني والجيش الحر و"المثقفون"، يُنَفِّذون، بعدما اكتسب كل منهم مهاراته الحسية الحركية من التلاطم ما بين الأذرع، بل وإنه نشأ عليها وهو ما يزال في مهد الطفولة، ويأدون مهام الأذرع، الأمريكي منها، الأوروبي، الصيني، الروسي، التركي، الخليجي، والإسرائيلي أيضا، بمنطق الإيديولوجية السائدة، وحسب الأنماط النموذجية للأدلة التبريرية (براديغما) تبرير التبعية للسياسة الدولية، بما في ذلك التلميح بالسلام مع إسرائيل)، والتي تَدفن حقيقة الصراع ما بين مطالب الشعب المعيشية، الحياتية، الاجتماعية، القومية والتحررية، وبين المصالح العالمية للرأسمالية، الصهيونية ، أباراتشيك سورية، الرأسمالية البيروقراطية، والعصبية الطفيلية، هذا النسيج الهجين لقميص السلطة المضاد للرصاص.

آ- إن تحالف القوى (الديمقراطية الوطنية)، (كذا)، التي تُشكِّل في ما بينها ما يُسمَّى ب/المعارضة (المعارضات) السورية، تحالفها مع "جماعة الإخوان المسلمين"، يؤدي وظيفة قوامها إلحاق الشلل بإحدى الوظائف الرئيسة للثورة، وتقييِّد أيديها بسلاسل صدئة. شللٌ متأت من تقديم الائتلاف الوطني، المجلس الوطني، ميثاق دمشق، المثقَّفون، المنبر والقطب الديمقراطي، وعدد لا يحصى من الشلل والعصبيات (المعارضة)، تقديم، هؤلاء وأولئك، تنازلاتٍ استراتيجية للجماعة بحجة أن الوحدة الوطنية بين جميع القوى السياسية المعارضة ضرورةٌ لا بد من توفِّرها لأسقاط النظام. إن سياسة "الوحدة الوطنية" للمعارضات السورية، والتي تشكِّل حجر الأساس لتحالف مكوِّناتها مع الجماعة، اسم شكلي يفتقد لمضمون واقعي. إذ إن الفقه السياسي للجماعة يُملي عليها برامج سياسية، مهما ارتفعت مقارباتُها السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والدبلوماسية، إلى أعلى درجات الاعتدال، فإنها، من جهة أولى، تبقى، بالرغم من ذلك، منفصلة بمسافة زمانية كونية عن المهام التاريخية الموضوعية للثورة، كإعادة توجيه الاقتصاد والإنتاج بما يلبي الاحتياجات المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، وفتح أبواب ونوافذ المقاومة الشعبية، بعدما أَغلَقت عليها السلطة المهيمنة وراء السور المحصَّن للأثنية السياسية الطائفية، نحو الشعب، بما يؤهِّله الدفاع عن نفسه إزاء السياسة العدوانية للصهيونية والإمبريالية، . أضف إلى ذلك، من جهة ثانية، أن النضالات القومية والاجتماعية، طبقية وغيرها، والتاريخ الطويل من الثورات الوطنية التحررية، وتكوُّن الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية والفلاحية، وانفتاح المناهج التربوية في مجال التربية والتعليم منذ الخمسينات نحو العلم والمذاهب الوضعية، كانت، هذه النضالات القومية التحررية طريقاً ممتدا أمام المجتمع والسلطة في سورية يصبو إلى آفاق التحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، على مسار من الخصوصية القومية، نحو العلمانية. الجماعة في المرحلة الراهنة من تاريخنا، تُجاهِد من أجل النكوص عن طريق العلوم والمذاهب الوضعية. غير أن المهام المُلِّحة اليوم، والتي تَفرض، من جهة ثالثة، بقوة لا تقاوم، خلال المرحلة الراهنة من تاريخ سورية والعالم، تَفرُض نفسها على سورية ، مجتمعها ودولتها الصائرة نحو التكوين، كتشييد الديمقراطية الليبرالية، أو الديمقراطية الواسعة التي تمتد سلطاتها، حسب مفهوم يساري شيوعي، لتشمل المجالس المحلية والتنسيقيات، ودولة المواطنة إلى جانب دولة القانون، وحقوق الإنسان، والحريات الفردية والعامة، والتساوي بين المواطنين والمواطنات أمام الحقوق السياسية والإدارية، فضلا عن التساوي بين جميع السوريين والسوريات دون أي تمييز اثني أمام قوانين الأحوال المدنية، كالزواج والطلاق والإرث، لن يُنجَز من هذه المهام المُلِّحة والعاجلة أيةً منها. سيُثابر، على هذا النحو، الموروث المتهالك القِوَى من مجتمع نمط إنتاج الاستبداد الشرقي على مقاومته للديمقراطية الليبرالية والاجتماعية على حد سواء، وسيقف عقبة كأداء أمام نشوء الإنسان الاجتماعي، وذلك مالم تتفوق الدولة العلمانية على ما يُسمى ب/الدولة المدنية، ناهيكم ودولة رجال الدين.

ب- المقارنة بين أحداث التاريخ بمفهوم المادية التاريخية، يقود إلى أخطاء في تحليل الواقع، لأنه يقع ضحية الخلط والمزج، بالرغم من أن المقارنة تستند إلى معايير نقدية معرفية، بين أزمنة متباينة، لكل منها صيرورتها وظروفها الموضوعية. لذا، فإن انتقاد الجماعة في سورية، بالقياس إلى الجماعة في مصر، سيأتي على الأولى، ويَقضي عليها قضاءً مبرما. لا سيما وأن الجماعة في مصر قفزت فوق الدستور، وتأهبت لتشييد مؤسسات للدولة على أسس دينية، وسَرَقت الثورة من الطبقات الشعبية، في غفلة عن التاريخ. إنها تُقَطِّع المسار الزماني للثورة (الديمقراطية) إلى عتبات متدرِّجة على طريق بناء دولة ما بعد حسني مبارك، ثم تقلب السلم رأسا على عقب. فقد وَضَعَت قاعدتها الأعلى في درجات السلم الانتخابي الديمقراطي، والتي تنتهي، بمنطق الأنظمة الديمقراطية، بانتخاب رئيس الجمهورية، نحو الأسفل، فبدأت بانتخاب رئيس للجمهورية، وتركت صياغة الدستور إلى ما بعد الانتخابات التشريعية. إنها، بالتواطؤ مع الجيش والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، نظَّمَت انتخابات الرئاسة والمجلس التشريعي ولجنة صياغة الدستور المنبثقة عن البرلمان، بأسرع وأقصر وقت ممكن، قبل أن يُتاح للطبقات الشعبية أن تُنَظِّم قواها السياسية، وبحيث تقتلع الجماعة وحلفاؤها كل السلطات بالطرق (الديمقراطية)، ما دامت هي وحدها الأحزاب المنظَّمة والفاعلة كتنظيم سياسي في ساحة الصراع الاجتماعي في مصر.

من وجهة نظر مادية تاريخية، لا وجه للمقارنة بين تنظيم الجماعة في مصر وتنظيمها في سورية. إنها في سورية تحوز على جيش حر لها فيه نفوذ فعَّال. فضلا عن ذلك، فإن كفة الجماعة في سورية، من الناحية السياسية، راجحة، طالما تسيطر هذه الجماعة الكهنوتية على المعارضات إياها، وتًحكم سياستها إلى حد واسع، ما دامت قيادات المعارضات (الليبرالية) تنقاد إليها. كلا، لا وجه للمقارنة بين السورية منها والمصرية. إن برنامج الجماعة في سورية، لا في مصر، مجهول المضمون، ولا يُعْرَف له جدول زماني، فحسب، وإنما هو يُرغم حلفاءَه في الائتلاف والمجلس والميثاق على السكوت عن مستقبل الحرب والسلام مع إسرائيل، وتجاهل مستقبل التكوين الاقتصادي الاجتماعي، بحجة أن (الموضوع) مؤجَّل إلى ما بعد سقوط النظام الحاكم. كل المهام مؤجلة إلى المرحلة الانتقالية. حتى أن "الوحدة الوطنية" باتت تدور إلى ما لانهاية في الفراغ معدومة الوزن. تدور، ليس على مسارٍ من مدارٍ فضائي مبرمج، وإنما تستسلم لدائرة حلزونية تدور بها حول نفسها. فلقد التقى حلفاء الائتلاف والمجلس والميثاق والمنابر والشلل والعصبيات الشرقية حول (وحدة وطنية) مفرَّغة من الوطنية والوحدة معا. فإذا كانت الجماعة، ومعها المعارضات، تنادي باسترداد الجولان، إلا أنها تغضُّ الطرف عما تُقدِّمه لإسرائيل في إطار هذه المقايضة، التي تَحكم على سورية، بحكم أن اختلال كفة إسرائيل والإمبريالية والرجعية العربية هي الراجحة في موازين القوى العسكرية والدبلوماسية، الإقليمية والدولية، تَحكم عليها، بما هو ضروري لأنه ممكن ، بالتخلي عن مقاومتها للصهيونية، وعقد معاهدة مماثلة لمعاهدة كامب ديفيد، لتنتهي، في نهاية المطاف، إلى تذويب سورية، دولتها ومجتمعها، في السياسة الدولية والإقليمية والعولمة النيوليبرالية.

فلنفترض، بمنطق محض سفسطائي، أن العامل الخارجي هو الذي يَحكم سورية منذ نشوء المدينة في واحاتها ما قبل التاريخ، بما يُكبِّل أزرع أخطبوط معارض، وأن السياسة الدولية والإقليمية لا تترك هامشا من الحرية أمام هذه المعارضات بحيث ترسم سياستها بما يستجيب للمهام القومية، الاجتماعية، التحررية، والاقتصادية التي لن تجد حلا لها إلا عبر "الثورة المستمرة"، فإن هذه السياسة المعارضة، إن لم تكن جزءً لا يتجزأ من مؤامرات الأسد والسياستين الدولية والإقليمية، والتي تهدف إلى تقويض ثورة الخامس عشر من آذار، والتخلص من حزب الله والنووي الإيراني، وفرض السلام بين سورية وإسرائيل، وإلغاء الحدود السياسية بين سورية والدول المجاورة لها، بما في ذلك الدولة الصهيونية، وتذويب سورية في السياسة الدولية الإمبريالية والعولمة النيوليبرالية، فإن هذه السياسة، بافتراض أنها (وطنية) وفق جدل محض سفسطائي، فإنها تَدْفَع بسورية، في جميع الأحوال، ومن وجهة نظر مادية سياسية، نحو الدمار الشامل، أي الاندثار تحت ركام من خرابٍ لحرب كان المتحاربون فوق أرضها، وضمن حدودها السياسية الغابرة، ينتمون إلى أحفاد متأخرين من أسرة "الأخوة كارامازوف".

ج- الثورة المضادة في التاريخ السياسي لسورية لها تاريخ، طالما تَشْغَل الأحداث العظمى، فوق الساحة الكفاحية المتحرِّكَة للمعارك الشعبية التي ما فتئت، منذ الجلاء بأقل تقدير، تخمد لتنهض من جديد، حيزا هاما على مساره المضطرب. كل ما يسير بسورية في اتجاه مخالف للمهام الاقتصادية الاجتماعية، التي تجد تعبيرا لها في الساحة الكفاحية المتحركة للمعارك الشعبية، إنما يَصبُّ في منحى الثورة المضادة. الثورة الشعبية في سورية، على سبيل المثال، ضد الديكتاتور العقيد أديب الشيشكلي، بقيادة البعثيين والقوميين العرب والشيوعيين والاشتراكيين وشرائح من الديمقراطية البورجوازية التي قاومت الديكتاتور إلى جانب شرائح قومية يسارية من الجيش، وإن هي انتصرت في نهاية المطاف بقيادة عقيد من الجيش صديق للاشتراكيين والقوميين، مصطفى حمدون، إلا أن القيادات السياسية التقليدية للبورجوازية والإقطاع سرعان ما وَضَعت يدها على سلطات الدولة، ثم، ما لبثت أن اغتالت عقيد الركن عدنان المالكي الذي كان يقود التنظيم البعثي في الجيش السوري. كلما تنهض الحركة الشعبية في سورية من أجل إحداث تغيير في التكوين الاقتصادي الاجتماعي، وتتوفر الظروف الداخلية في الساحة السياسية، فإن الجيش ينقض على السلطة كي يسرق من الطبقات الشعبية حركتها. مقاومة الحركة الشعبية لجريمة الانفصال، على سبيل المثال أيضا، وفَّرَت أمام الجيش الظروف السياسية الداخلية، للانقلاب على عهد الانفصال، ومن ثم مصادرة الحركة الجماهيرية. أقل ما يقال في هذا الصدد: إن جريمة الانفصال حلقة في مسلسل الثورة المضادة. سياسة ما بعد هزيمة حزيران 1967، بدءً من اعتراف الجنرال أسد بالقرارين الدوليين 224 و 338، مرورا بالبصبصة على أيلول الأسود، والمشاركة في مذابح المخيمات الفلسطينية في لبنان، ومن التلاعب بقضية الشعب الكردي تارة مع عشائره، وتارة ضد مطالبه القومية، بأقل تقدير، إلى التكوين الاجتماعي السياسي للمعارضات، الائتلاف والمجلس وميثاق دمشق والمنابر والشلل والعصبيات من كل نوع، وهيئة التنسيق، تجلس، هذه وتلك، بقفاها العريض فوق كراس من صناعة النجار الأجنبي.

فالسياسة الدولية، ومنها الأمريكية بوجه خاص، هي التي فَرَضَت على قادة المعارضات، ومنهم أنتليجنسيا المنابر وهيئة التنسيق التي تعوِّل أعظم الآمال على دور كل من روسيا والصين وإيران من أجل توفير أسباب النجاح أمام (الحل السياسي) - وهو برأيها حل دولي - ، كل هؤلاء وأولئك، يَجْرُون وراء الجماعة إياها اعتقادا منهم أن كل تغيير للنظام الحاكم، عاص على المنال، ما لم تتوثَّق عُرى (الوحدة الوطنية)، وشرط أن يُشَكِّل الإخوان المسلمين الحلقة الصلبة في (ميثاق وطني) لتحالفات مُحْكَمة العقد. إن (وحدة وطنية)، لا محل فيها لمطالب الطبقات الشعبية وصراعها من أجل البقاء على قيد الحياة وللحفاظ على العيش بكرامة وحرية، تَنبُذُ، بالإضافة إلى ذلك، الصراع الطبقي ومناهضة الإمبريالية والصهيونية، وتترك حقوق الشعب الفلسطيني في أدنى درجات سلم المهام السياسية، وهي، وإن كانت تعترف أو تتنكر للحقوق القومية للشعب الكردي، فإن اعترافها له بها، كما تنكرها لها، إنما هو في الحالتين الاثنتين مُغْرِق في الديماغوجيا، وهي، فوق ذلك كله، ترمي يثقلها من أجل حيازة الدعم العسكري من السياسة الدولية للجيش الحر، وتستنجد أو تتسوَّل علانية، أو "على عينك يا تاجر" من السياسة الدولية أن تتدخل عسكريا ل/"(حماية الشعب السوري)"، إن هكذا (وحدة وطنية)، ومعارضات، و(برامج سياسية)، ما هي سوى مجلس هش، ركيك، خليط، مزيج، هجين، من العصبيات، الدينية، العشائرية، القبائلية، البدوية، شبه الحضرية، وشِلَل، وشرائح من الطبقات المُسْتَغِلَّة، لا علاقة لها بالطبقات الشعبية، إن لم تكن المسافة الفاصلة ما بين المعارضات والثورة الشعبية لا نهاية لها، ما دام لكل من المعارضات من جهة، والجماهير من جهة ثانية، زمانه التاريخ، وسلطته السياسية الاجتماعية.

د- السلطة المهيمنة ليست وحدها، في نهاية المطاف، ضليعة بالمؤامرة. فالمعارضة بكل تكويناتها، وليست الطبقات الشعبية وأقلية من اليساريين والشيوعيين الناشئين، شريك رئيس فاعل ضمنها، وأنيط بها مهمة، بين مهام غيرها، تبرير كل ما يحدث من استعدادات للتدخل الخارجي، وما يأتي من عدوان خارجي.

6- الخاتمة أو الوداع:
ينتهي ما تقدَّم من عرض للحالة السورية إلى نتيجة مؤداها أن ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية إما أن تستمر خلال ما يأتي من مرحلة انتقالية، وما يليها من مراحل، أيا كان تكوين مؤسساتها الليبرالية.. وإما أن تنتصر الثورة المضادة، وتقضي مؤامراتها، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مخفٍ، على الشعب، لتصل إلى حيازة غاياتها، وهي كثرة متنوعة يَجًمَع ما بينها قاسم مشترك واحد، ألا وهو إلغاء الشعب، وتحطيم المنظمات السياسية والنقابية للمجتمع، وتكريس الدولة والسلطة الرأسمالية.

آ- الجيش السوري طاغية، جهاز مُنْتِج للفساد، خائن للوحدة العربية، مكرِّس الانفصال، حامٍ لمعاهدة سايكس بيكو، خائن لثورة التحرر الوطني الفلسطيني، خائن للشعب الجائع العاطل عن العمل المريض المنهوب المستغل، خائن للحقوق القومية للشعب الكردي، خائن للسيادة على ترابه الوطني، خائن، بالتالي، للجولان؛ هكذا جيش لا لزوم له البتة. إن ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية تُعلن عن نهاية هذا الجيش، ونشوء الجيش الشعبي في وقت قريب لاحق. جيش المقاومة الشعبية. كل الشعب مسلَّح بشتى أنواع الأسلحة الفردية وغيرها من الأسلحة الدفاعية والهجومية، وليس مقصورا على قِلَّة من أقلية اثنية سياسية دينية. إن استراتيجية المقاومة الشعبية المسلَّحة، بهذا المعنى بعينه، والتي تغيب عن برامج المعارضات، تُشكِّل أحد الأعمدة الاجتماعية السياسية التي ترفع الوحدة الوطنية المنشودة.

ب-إن الطبقات الشعبية، من ميدان التحرير إلى تنسيقيات الثورة في سورية، هي وحدها التي تنصب حاجزا سياسيا وعسكريا أمام المؤامرات، والعامل الخارجي، والسياسة الدولية، والثورة المضادة، وكل ما يزحف نحو سورية من أمثال هذه وتلك، وذلك عبر الثورة المستمرة. إن حربا ثورية شعبية من أجل القطيعة التامة مع التكوينات السياسية الاجتماعية السائدة، الحاكم منها، والمرشَّح، تحت المظلَّة الواقية للسياسة الدولية، لحكم سورية في المستقبل ، تُخَلِّف هذه الحرب الثورية، مهما تبدو تضحياتها بالأرواح جسيمةً، فإنها، شأنها شأن الصراع الطبقي، تُخَلِّفُ عددا من القتلى، وحالات من الدمار، أقل بكثير مما تتركه الحروب الإمبريالية ومؤامرات الرأسمالية البيروقراطية.

ج- ثمة اعتقاد سائد في أوساط المعارضات السورية، منذ الثمانينات، يؤكِّد أن السلطة مسؤولة عن إقصاء الشعب عن السياسية. ثمة اعتقاد آخر سائد في هذه الأوساط يُسًلِّم بثقة عمياء بتفسير مؤداه أن الشعب، ومنه الشباب بوجه خاص، ابتعد عن "التجمع الوطني الديمقراطي"، وأحزابه، من جراء الخوف من قمع السلطة. ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، والتي انطلقت بصورة عفوية تلقائية لا علاقة لأحزاب المعارضة بها، لا من قريب ولا من بعيد، تُبيِّن اليوم، أن الطبقات الشعبية، على نقيض من طبقة الأنتليجينسيا، وإن كانت خلال العقود الأربعة الأخيرة، أي منذ خانت الأحزاب اليسارية والقومية الوحدة السورية المصرية، وكرَّست لجريمة الانفصال، وزيَّفت هزيمة حزيران تحت اسم "النكسة"، وشَوَّهت الاشتراكية المزعومة، ثم بصبصت على مذبحة الثورة الفلسطينية في لبنان، قبل أن تقف لتتفرج على ما يجري في أفغانستان والعراق، وإن كانت محرومة، منذ ظهور هذه الوقائع التاريخية، من أحزاب ثورية تناضل من أجل القضايا القومية، الاجتماعية السياسية التحررية، للطبقات الشعبية والوطن، فإنها هي التي عَزلت نفسها عن كل ما يمت بصلة للموروث البالي من نمط إنتاج الاستبداد الشرقي، بما في ذلك نمط تنظيم وعمل أحزابِ ما تزال تتحرك على وقع وتيرة من العصبيات والاستبداد ضمن هيئاتها الحزبية.

الطبقات الشعبية هي التي انفصلت عن السياسة والأحزاب، بخلاف ما يسود من رأي شائع التداول في أوساط الانتيلجينسيا التي تزعم أن طغيان السلطة هو الذي أبعد المجتمع عن السياسة. يا ويل هكذا طبقة مثقفة، يا ويل تكويناتها السياسية التي لم ولن تعترف يوما أن الطبقات الشعبية لم تنفصل فقط عن سلطة استغلالية متآمرة، وإنما انفصلت، وبالمسافة عينها، عن هذه الطبقة، وعن ابائها من قادة سياسيين يتربعون فوق ميثاق دمشق الذي فتح الأبواب المشرَّعة أمام جماعة الإخوان المسلمين كي يزحفوا إلى البيوت في سورية، وتجمع اليسار الماركسي الذي يلتزم ويروج لماركسية أكاديمية جامعية مدرسية لا علاقة لها بالنضال الشيوعي، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي كان وما يزال يُسَيِّر سياسته على خطا من "الإصلاح التدريحي السلمي"، ثم المجلس الوطني وما تمخض عنه من ائتلاف وطني يطبِّل ويزمر ليلا نهارا من أجل التدخل السياسي والعسكري للسياسة الدولية، وذلك في منحى من سياسته الأحادية التي تتخلى عن مهام التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، لتكرس سياستها في منحى أحادي يبدأ بتسول التدخل الخارجي ويقف عند حدِّه. لكن الطبقات الشعبية، صاحبة ثورة الخامس عشر من آذار، تهدف من وراء ثورتها إلى القضاء على كل هذه المعطيات والوقائع. بيد أنها لن تُنجز منها أية مهمة ما لم ترسم استراتيجيتها السياسية على أسس من الثورة المستمرة.

د- في مسارٍ من هذه المؤامرات الكونية، فإن المعارضات السورية، يمينها ويسارها، باستثناء اليسار الثوري وليد الخامس عشر من آذار، ليست سوى أدوات ثانوية، أو قطع تبديل للدبابة الإيديولوجية التي تُسَيّر المبررات للسياسة الدولية، أو دواليب لترسانة من الأسلحة مصدرها آل سعود، وآل خليفة، وآل نهيان، والسياسة الدولية، إطارات من المطاط الليبرالي لآلة رأسمالية فتاكة تَقْطَع المسافات في جميع أرجاء سورية، طولا وعرضا، في عصر العولمة النيوليبرالية.

ه- هذه صورة للثورة المضادة، مدى قوتها، اتساع ترسانتها الحربية، تاريخٌ لأسسها ومصادرها الدولية، مؤامرات كانت أم عوامل خارجية. بالقابل، فإن ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية، كانت وما تزال عفوية تلقائية، تفتقد إلى التنظيم الواعي للممارسة، ولم تأتي حتى غتية الشهر السابع من العام الثالث للثورة، بقيادة، أو جبهة يسارية ثورية. تائهة، كانت وتبقى ما لم تتمخض عن قيادة يسارية ثورية. هي المستهدفة من وراء المؤامرات. لذا، فإنها، ولما كانت نشأت عفوية وما تزال، فإنها الضحية. غير أنها، بالرغم من أن المؤامرات الكونية تستهدفها، وإن كان المتآمرون يتسلَّلون كل يوم بصورة ما انفكت تتكاثر إلى صفوفها، وهم مقيمون في عقر دارها، وحتى وإن كان اليسار الشيوعي واليسار القومي مصاب بشتى أنواع الانحرافات، فإن ما هو ضروري لأنه ممكن، سيوفِّر أمامها أسباب الاستمرار، لاسيما وأن الظروف الموضوعية للتكوين الاقتصادي الاجتماعي لن تجد حلولا لها إلا عبر الثورة المستمرة.

و- إذا لم تندثر سورية من التاريخ تحت ركام من الدمار، فإن السياسة الدولية ستَحمل إلى السلطة أحط وأرذل وأحقر حثالة الطبقة السياسية. هذا توصيف لتكهنات هي أبعد ما تكون عن أحكام القيمة والخطاب الأخلاقي الذي يتطفل دوما على السياسة في بلدان الاستبداد الشرقي. هذا ما يأتي، ما لم تتفق السياسة الدولية مع السلطة المهيمنة حول الأهداف المطلوب إنجازها في سورية ما بعد القضاء على كل من الثورة الشعبية، وحزب الله، والنووي الإيراني، وهو، الحدود المفتوحة في الاتجاهين، الدخول والخروج من وإلى سورية. ما يعنى أن حدود الجولان، وما تبقى من فلسطين، والأردن، آيلة إلى الزوال، جمركيا، أمنيا، وسياسيا.

ز- إذا ما أستمرت الأحداث كل منها على وتيرتها السائدة حتى الشهر السابع من العام الثاني للثورة، فإن زمان الثورة المضادة ذات الوتيرة السريعة، سيتقدَّم على مسار الثورة الشعبية ذات الوتيرة البطيئة. في مثل هذا الحال، فإن المسار الراهن للأحداث، حتى وإن حَمَلَ إلى السلطة الانتقالية أشرف وأنبل السياسيين في سورية – بالمعنى السياسي البورجوازي للأخلاق السياسية – ، فإن ما يسود في المرحلة الانتقالية، من حيث هو امتداد اشتقاقي من الحالة الراهنة للثورة المضادة، وما يرافقها من سيطرة دولية وتبعية سورية لهذه الأخيرة، وقبل أن تنشأ المرحلة ما بعد الانتقالية، فإن السلطة، أو الدولة إذا ما تكونت دولة في سورية، السلطة / الدولة، من حيث هي جهاز جبار ينظِّم المجتمع ولا يخضع له في تكوينه، سرعان ما تحيل هؤلاء من قادة المرحلة الانتقالية، أنبياءً وملائكةً، إلى أحط صنف من السياسيين في العالم.

ح- إذا ما توقف القتال، وفشلت الثورة لأنها لم تتحول إلى ثورة مستمرة، فإن الانتصار المرحلي لقوى الثورة المضادة سيؤدي حالات لا يُحصى لها عدد من الكوارث الإنسانية الاجتماعية. فإذا كان من الصعوبة بمكان التكهن بمعدَّل حالات الانتحار، والذي سيرتفع ارتفاعا جنونيا، فإن من اليسر بمكان أن نتوقع منذ اليوم طبيعة انتمائها الطبقي الاجتماعي. المهجَّرون أكثر هشاشة نفسانيا من سواهم. ولما كانت الهجرة انتشرت بين الطبقات الشعبية والشرائح الدنيا من البورجوازية الصغيرة، بعدما هبطت سقوف منازلها قوق رؤوس سكانها، فإن الكوارث الإنسانية الاجتماعية التي تطل منذ اليوم من الأفق السوري لن تقتصر على ارتفاع معدلات الانتحار، وإنما ستتسع لتشمل أنتشار البغاء، واتساع الجريمة والمخدرات والعصابات المسلَّحة، واستضافة سورية للمافيا الروسية، وغير هذه وتلك من ظواهر إنسانية اجتماعية، والتي ستجد لنفسها رغد العيش في ظل الثورة المضادة المنتصرة.

ط- الوداع يا سورية إذا ما استُنْفِدَ زمان الثورة المستمرة.


حسان خالد شاتيلا
مطلع شهر أيلول/سبتمبر من العام 2013



*) لينين، احتجاج الاشتراكيين الديمقراطيين في روسيا، 1899، الأعمال الكاملة (بالفرنسية)، المجلَّد 4، ص 181، المنشورات الاجتماعية، باريس- موسكو 1973.
لينين في أعماله بدحض بصورة مستديمة سياسة التآمر، من حيث هي سياسة البورجوازية، والتي تتناقض مع النضال الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، للشيوعيين، من أجل تشييد سلطة الطبقة العاملة.
-) "لقد أوضحت (نظرية ماركس) المهمة الحقيقية للحزب الاشتراكي الثوري. إنها ليست ابتكار خطط من أجل إعادة تنظيم المجتمع، أو وعظ الرأسماليين وخدَّامهم كي يُصْلِحوا مصير العمال، أو تدبير المؤامرات، وإنما تقع عليه مهمة تنظيم الصراع الطبقي للبروليتاريا، وقيادة هذا الصراع...". لينين، برنامجنا، 1899، المرجع السابق، المجلَّد 4، ص 217.
-) بدأت الاشتراكية الديمقراطية في روسيا تمارس النضال الفعلي في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن التاسع عشر. واجهت منذ البدء قوتين اثنتين كانتا سبقتهما إلى ساحة النضال. فمن حجة أولى، كانت "إرادة الشعب" (Narodnaïa Silva)، أنصار أوغست بلانكي والحركة الاشتراكية الإنسانية من النمط الفرنسي، تأخذ على الاشتراكية الديمقراطية الروسية انعزالها على هامش النضال السياسي الموروث عن الحركة الثورية الروسية، في ما كانت الأولى تخوض مع هذه الأخيرة معركة جدل عنيد. وكان، من جهة ثانية، المجتمع الليبرالي الروسي غير مرتاح أمام انتقال الحركة الثورية في روسيا من يد الإصلاحيين من أنصار بلانكي الإنساني، إلى يد الاشتراكية الديمقراطية. هنا، يلاحظ لينين، أن الجدل ما بين الاشتراكين الديمقراطيين وهذين الفريقين "يدور حول المسألة السياسة. ولما كانت الاشتراكية الديمقراطية تناهض المفهوم الضيق ل/"إرادة الشعب"، هذا المفهوم للسياسية، والذي كان يُخْتَصَر إلى تنظيم المؤامرات، فإن الأمر أنتهى بهم إلى مناهضة السياسة بصورة عامة. وهم أقْدَموا على مناهضتها أحيانا ( وذلك بالنظر إلى أن مفهوم المؤامرة هو الذي كانت كفته راجحة)". لينين، حركة متراجعة لدى الاشتراكية الديمقراطية الروسية، 1899، المرجع السابق، المجلد 4، ص 286.
-) "إننا، في أحيان كثيرة، اضطررنا في البدء، إلى فرض حقنا بالوجود ضد أنصار "إرادة الشعب"، والذين كانوا يَفهمون من مصطلح "السياسة" نشاطٌ على هامش الحركة العمالية يَختصر السياسة إلى المؤامرة وحدها دوه غيرها". لينين، الأهداف الفورية لحركتنا، 1899 (نُشِر هذا النص في العدد الأول من جريدة أيسكرا)، المصدر السابق، المجلد 4، ص 382.
-) "هذا هو هدفنا الأول، أن نساعد على التنظيم السياسي للطبقة العاملة وأن نطوِّره، هذا هو هدفنا الأساس. إن كل من يُنَحِّيه إلى المرتبة الثانية، ويَعْزُف عن إناطة كل الأهداف والبرامج الخاصة، به، يسير في طريق لا يُعرَف إلى ما ينتهي إليه، ويُلْحِق ضررا خطيرا بالحركة. والحال أن الذين ينادون الثوريين إلى مناهضة الحكومة باللجوء إلى حلقات التآمر المعزولة، والمنفصلة عن الحركة العمالية، هم أول هؤلاء". لينين، المرجع السابق، ص 384.
-) انظر، لينين، ما العمل، المختارات، المجلد 1، الجزء 1، ص 301 وما بعده.
-) في تعليق للينين حيال اغتيال ملك البرتغال، يَكتب ما يلي: "|إننا من جهتنا نكتفي بإضافة مفادها أن في الأمر ما يدعو إلى الأسف: إلا وهو أن الحركة الجمهورية في البرتغال لم تُعر بعلانية وبصورة كافية لكل المغامرين ما يَلزم من اهتمام بأمرهم. إن من دواعي أسفنا ان يكون من جديد اغتيال ملك البرتغال برهانا على حالة من مؤامرة الذعر المتآمر، أي أنها تنم عن العجز، غير القادر من حيث تكوينه على بلوغ هدفه، وذلك، في ما لا يزال الذعر الأصيل، القومي، الإحيائي التجديدي، ذاك الذعر الذي مدَّ الثورة الفرنسية بشهرتها، ضعيفا. إن اكتساب الحركة الجمهورية البرتغالية للمزيد من النفوذ ليس أمرا مستحيلا. فعواطف البروليتاريا تميل دوما نحو الجمهوريين ضد الملكيين. لكن النجاح في البرتغال لم يَفرض حتى غاية اليوم سوى حالة من الهلع على النظام الملكي بعدما اغتيل له ملكين اثنين، دون أن يتوصَّل هذا النجاح إلى الإطاحة به". لينين، عملية اغتيال ملك البرتغال (البروليتاري، العدد 22، شباط/فبراير 1908)، مصدر سابق، المجلد 13، ص 497.

ملاحظة: العودة إلى لينين، هنا، تَستمِّد مبرِّرَها من واقعة قوامها أن المعارضات السياسية في سورية تَختصر اليوم، في ضوء برامجها وممارساتها، ثورة الخامس عشر من آذار، والسياسة، إلى مجرد مؤامرة. لينين، يَمضي في هذا المنحى عندما يبيِّن إلى أي مدى يَشْغل التآمر حيِّزا واسعا في السياسة البورجوازية.



#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية
- ميدانية القاهرة (ثورة في ثورة)
- ثورة الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستم ...
- -دور ومهام اليسار الثوري في سورية- (تتمة وتصويب).
- حسان خالد شاتيلا - كاتب ومفكر يساري - في حوار مفتوح مع القار ...
- ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إ ...
- -واجب الكراهية- للطغيان والتسلط - في العنف والعنف الثوري*
- التاريخ غير المرئي للثورة المستمرة
- .../... ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وب ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وبؤس اليسا ...
- ثورة 15 آذار السورية: اليسار في سورية تائه في رقعة ألعاب الس ...
- ثورة 15 آذار/مارس في سورية: الخطاب السياسي أولا وأخيرا
- -ميدانية القاهرة- (مقدمة)
- إيديولوجية تجمع اليسار الماركسي (تيم): مقاربة نقدية ومادية
- جورج لابيكا أو تغيير العالم بلا معلِّم
- يمين ويسار، نهاية الاستعصاء
- اليمين واليسار في عهد -الإعلان- والخلاص-*
- الضفة الجنوبية لحوض المتوسط مطالبة بانقاذ المنتدى الاجتماعي ...
- لبنان*
- المقاومة كمصدر للديمقراطية


المزيد.....




- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حسان خالد شاتيلا - ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليهم