أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد منيري - مارسيل خليفة: صوت الحب و الحرية















المزيد.....


مارسيل خليفة: صوت الحب و الحرية


رشيد منيري

الحوار المتمدن-العدد: 1369 - 2005 / 11 / 5 - 11:39
المحور: الادب والفن
    


حين سَلّم المدير العام لمنظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم كويشيرو ماتسورا لمارسيل خليفة لقب فنان السلام لليونسكو، في السابع من يونيو/حزيران 2005 قال : "تُكرم اليونسكو الشخص الذي بات رمز جيل بأكمله في بلدان الشرق الأوسط كما في العالم أجمع كما أنه من خلال موسيقاه ناشط لا يكل لأجل السلام والحوار بين الثقافات". أما خليفة فقد خاطب الحضور في مقر المنظمة بباريس قائلا: "اسمحوا لفنان اليونسكو من أجل السلام، هذا الفنان الذي صرته أن يتعهد أمامكم العمل بكل ما أوتي من إمكانات كي لا يُحكم بالموت على موزار كل مطلع شمس في بقعة ما من بقاع أرض البشر". كانت هذه المرة الأولى التي يُتوج فيها فنان عربي بهذا اللقب، و إذا كان هذا التتويج إضافة خاصة لمسيرة مارسيل خليفة الفنية، فإن هذا الأخير من طينة المبدعين الذين يشكلون بدورهم إضافة للجوائز و الألقاب التي يتسلمونها، إنه واحد من أهم المجددين في تاريخ الموسيقى العربية، برز منذ ألبومه الأول الصادر عام 1975 "وعود من العاصفة" كمبدع متفرد ، معلنا رؤية أصيلة و خلاقة للتأليف الموسيقي و العزف على آلة العود.
ولد مارسيل خليفة عام 1950 في عشميت، القرية اللبنانية الواقعة على هضبة فسيحة شمالي محافظة جبيل، حيث أشجار السنديان و الصنوبر تظلل نهري بعشتا و الفرطوش، و حيث الشاطيء يحتضن السهل و يُسَورُه الجبل، و الميناء الصغير يودع الصيادين صباحا، ليستقبلهم مساء بالشفق و يحضنوه بالأغنيات. كان والده ميشال خليفة يعمل سائق أجرة في القرية ليوفر العيش لأسرته المكونة من زوجته ماتيلدا و أبنائه مارسيل و أنطوان و شقيقاتهما الأربع. و كانت عشميت تعرف تمايزا واضحا بين الناس، فمن جهة كانت هنالك قلة من الإقطاعيين الذين ورثوا الأراضي عن أيام حكم العثمانيين و ورثوا معها لقب "البكوات"، و من جهة أخرى كان الفقراء الذين يُدعون "العرمط"، و إلى هؤلاء تنتمي أسرة خليفة.
كانت ماتيلدا تحمل معها ابنها مارسيل إلى الكنيسة، فيُسَر كثيرا بسماع التراتيل الكنائسية. كما يسر بسماع صوت الآذان القادم من مئذنة في كفر سلا القريبة من عشميت، و بصوت الأرمونيوم الطالع من مدرسة الفرير. و في مساءات عشميت الصافية ينتظر مع الآخرين عند الميناء عودة البحارة و هم يغنون من بعيد.
في الأعياد، كان ميشال يستضيف بعض الغجر الذين يَعبرون الضيعة. و مقابل بعض القروش يعزفون و يغنون في حين ترقص غجرية جميلة. و في الأماسي تجتمع الأسرة لتستمع إلى أغاني محمد عبد الوهاب الطالعة من الفونغراف القديم مصحوبة بالكثير من الخشخشة، و لتغني رفقة الجد يوسف الذي كان صيادا و فنانا معروفا في عشميت، يغني و يعزف على الناي و يرقص الدبكة. كان مارسيل يحب جده كثيرا لحنوه و مرحه و ولعه بالموسيقى:
" كنت طفلاً آنذاك لا أتجاوز الخامسة من عمري, أقفُ على عتبة القبو ألعب بطابةٍ صغيرة، وانتظر جدي يوسف في زيارته اليومية لنا، وعندما أسمع رندحة العتابا والميجانا من بعيد أترك الطابة وأركض مسرعاً باتجاههِ أتعربش على أكتافهِ العريضة، و وجهاً لوجه أمام طربوشه الأحمر، فأمسك الشرابة التي كانت تتدلى على النقرة من الخلف وأبدأ بهزها يميناً ويساراً مع إيقاع أغنية سكابا يا دموع العين سكابا".
و قد لعب الجد دورا هاما في توجه حفيده إلى الموسيقى: "بدأت مع الموسيقى والوتر صغيراً حيث كان صوت رنة وتوتر خيط قصبة صيد جدي على كرسي الخيزران يمثل الصدى الأول لتجربتي ، مع الصوت واللحن،ومنذ ذلك الزمن البعيد وأصابعي تداعب الأوتار".
في المدرسة كان مارسيل يستاء من الأناشيد التي تلقن للأطفال، لأنها تبدو له رتيبة و خالية من الحياة، فكان ينتظر الوقت الذي يلتقي فيه بأصدقائه في الحي عند قناة المياه الممتدة من نهر إبراهيم، حيث يغنون أغاني رائجة، و يلعب هو دور قائد الأركسترا مرتجلا مجموعة إشارات لم يكن أحد يلتزم بها. ثم في البيت كان الفتى المولع بالأنغام يكمل أمسياته بالتطبيل على كل ما تقع عليه يده حتى ضاق منه الأهل، غير أن ماتيلدا انتبهت لموهبة طفلها، و طلبت من زوجها ميشال أن يشتري لابنهما آلة موسيقية.:
" أتساءل أحيانا ما الذي كنت سأفعله لو لم تدرك أمي آنذاك مع طفولتي الأولى جنون أصابعي بحيث أقنعت والدي بأن يشتري لي آلة موسيقية"
كان الصبي يتمنى الحصول على آلة كمان، و نظرا للظروف المادية للأسرة، فقد اشترى له الوالد آلة أرخص، و كانت العود. طلب ميشال من صديقه أنطوان الذي يعمل سائقا أن يشتري له عودا من سوق الحميدية بالشام، و دفع مقابل ذلك 25 ليرة. و بمجرد حصوله على العود بدأ مارسيل يعزف دون أن يتحكم في الدوزان. في اليوم التالي ، حمل الوالد ابنه إلى "حنا كرم"، دركي متقاعد في القرية، يعزف بعض المارشات العسكرية و بعض البشارف و السماعيات و اللونغات التركية، ليعلمه العزف. بعد مُضي ثلاتة أشهر، استدعى "حنا" أهل الطفل و قال أنه و لد موهوب جدا ثم أضاف:" لازم تشوفو شو بدكن تعملو أنا ما بقى عندي شي أعطيه".
هكذا انتقل مارسيل خليفة ليتتلمذ على يد الأستاذ حليم اللقيس الذي تعرفت عليه العائلة بالصدفة. ظل يدرس عنده مدة تسعة أشهر، حيث يقصده مشيا على الأقدام من عشميت إلى جبيل. و في أحد الأيام و هو عائد إلى بيته توقفت سيارة بها شخصان و سألاه عن أهله و مقصده، قال إنه ابن ميشال خليفة فأركباه معهما السيارة. كان أحد الشخصين عازفَ العود المتمكن إبراهيم حبيقة، رفقةَ صديق له يدعى عبد الأحد كلاب. رافقاه إلى البيت فاستضافهما والده ميشال بسرور، و ليلتها عزف إبراهيم حبيقة على العود في حين كان مارسيل ينصت مسحورا . إلى أن طلب منه إبراهيم أن يعزف للحاضرين شيئا ففعل، و ما أن استمع إليه هذا الأخير حتى أصر أن يحمله إلى فريد غصن.
كان غصن عازفا بارعا على آلة العود، عائدا للتو من مصر بعد أن تتلمذ على يده فريد الأطرش و لقن أسمهان مبادئ الموسيقى و العزف على العود و لحن لها بعض الأغنيات، كما لحن لأم كلثوم أغنية "وقفت أودع حبيبي" من أشعار أحمد رامي. لكنه لم ينل ما يستحقه من الشهرة و لم تسع أية مؤسسة لإحياء أعماله الهامة بعد أن توفي في ظروف صعبة.
اصطحب ابراهيم حبيقة مارسيل إلى "جل الديب" حيث يقطن فريد غصن:"حين دخلتُ إلى بيته رأيتُ رجلا متقدما في السن، هادئا و في نظرته حنان". ربت الشيخ على كتف الصبي الخجول و سأله " شو بدك تسمعنا؟" فعزف له سماعي رست لعازف البزق السوري المعروف محمد عبد الكريم. كان غصن يرفض تعليم صغار السن و المبتدئين لكنه ما أن استمع لعزف مارسيل خليفة حتى وافق على تعليمه فورا، و قال لإبراهيم حبيقة أن يحمله إلى الكونسرفاتوار. هكذا بدأت دراسة مارسيل الموسيقية ببيروت، و نشأت بينه و بين غصن علاقة خاصة، فكان الأخير يقوم له باختبارات قدرة و يكتب له تمارين ينفذها في الامتحانات. تواصلت دراسة مارسيل الموسيقية بتفوق، رغم الظروف المادية الصعبة للأسرة حيث كان بحاجة إلى مصروف للحضور إلى بيروت مرتين في الأسبوع إضافة إلى مصاريف المعهد: "كانت الثلاث ليرات التي أحتاجها كأجرة للبوسطة ذهابا و إيابا مبلغا كبيرا يومها بالنسبة لوضعنا". لكن والده كان يسعى دائما إلى أن يؤمن له المال الذي يحتاجه لصقل موهبته، متجاهلا ما يتهمه به أهل القرية من أنه يضيع مستقبل ولده، و لم يكن يطلب إلا أن يكون ابنه طالبا متفوقا، فحين كان مارسيل يقدم له نتائج امتحاناته في معهد الموسيقى التي كانت جيدة دائما، مثلا 18 على 20، كان ميشال يغضب لأن على مارسيل أن يحصل على نقطة كاملة 20/20 و لم تكن مرافعات الإبن بكون الموسيقى مثل تمارين الإنشاء لا تحتمل علامة كاملة تفيد في شيء. و ذات مرة كتب مارسيل مقطوعة موسيقية و رفض، مدعوما من فريد غصن، أن يخضع لبرنامج الإمتحان، هكذا امتحن في مقطوعته و حصل على نقطة كاملة 20/20. و عوض أن يفرح الأب ميشال لذلك فقد صرخ كثيرا في وجه ابنه ثم قال: " صار لي خمس سنين عم قلك بيحطو عشرين". و صارت مهمة الصبي أن يحافظ على تلك العشرين !
و بالإضافة إلى دراسته في الكونسرفاتوار، كان مارسيل خليفة ينصت إلى إنتاجات الأخوين رحباني المسرحية و الموسيقية معتبرا إياها مدرسة موازية، فكان ينتظر بلهفة بث مسرحية الرحابنة بياع الخواتم على أمواج الإذاعة عام 1963، " كان هنالك شيء في أعمال الرحابنة يسحرني و لاسيما في مسرحيات مثل الشخص و ناطورة المفاتيح و هالة و الملك".و كان لعاصي الرحباني صديق في عشميت يدعي كريستوف كرم، يزوره رفقة أخيه منصور في الأعياد. مرة أحب كريستوف أن يُعَرف مارسيل بالرحابنة فدعاه. حمل عوده و ذهب و هو في أشد حالات الرهبة لمجرد التخمين أنه سيكون في حضرة الفنان الكبير عاصي، حتى كاد أثناء دخوله يتعثر في السجاد ، سأله عاصي عما يود إسماعهم إياه، فعزف مارسيل و بعدها قال عاصي: " كفي تمرينك.. كفي درسك..لأنو ما في شي مهم غير الدرس" و قد تأثر مارسيل بذلك كثيرا. بعدها استمع لموسيقى الرائد الأكبر سيد درويش، ثم محمد القصبجي المجدد الكبير و العازف المتمكن على العود، و وديع الصافي الذي كان يبهره صوته الساحر في أغنية "لو"، كما أنصت بحب لعبد الحليم حافظ الذي رافقه خصوصا في سنوات مراهقته، و في العام 1964 استمع لأول مرة لأم كلثوم عبر الراديو في لقائها الشهير مع محمد عبد الوهاب من خلال أغنية " إنت عمري"، فاكتشف فيها صوتا استثنائيا و شخصية خارقة و أحب من وقتها ذلك الصوت الذي لا يتكرر. عن هذه التأثيرات يقول خليفة:
" من دون أن أدري كانت هناك تأثيرات بالطبع، لكن منذ بداية عملي سواء مع كركلا أو في "وعود من العاصفة" كان هنالك خط مختلف. هناك مخزون داخلي من الآخرين لكن عليك أن تقوله بلغتك، حتى في الكنسرفتوار حين كان فريد غصن يعطيني مقطوعاته لأعزفها كنت أحاول أن أعزفها بطريقة خاصة، أي كأنني أنا مؤلفها، ربما الخصوصية تأتي من هنا"
وعام 1970 تخرج مارسيل خليفة من المعهد الموسيقي متخصصا في آلة العود، و في هذه الفترة توفيت أمه ماتيلدا جراء إصابتها بالسرطان، عن سن يناهز التاسعة و الثلاثين، ماتيلدا التي كانت تمنح النور و الحرارة لأسرة خليفة، و أول من وعى موهبة طفلها:
" أذكر أيام زمان عندما كنت ولداً وأخاف من العتمة، العتمة والأولاد ما بيحبوا بعضهم، والنعاس يحمل زوادته ويأتي ليسكن ليلاً، وقبل أن يصل النعاس كانت أخبار أمي الحلوة مشواراً من كونٍ إلى كونٍ، تأخذني من بيتنا العتيق إلى مطارح جديدة، كانت أصابعها الجميلة وهي تمتد إلى جبيني المغطَّى بخصل الشعر الهاربة، تخربط العالم وتفركش العتمة، وبعد أن تنهي الحكاية كانت ترجّع وبلا انقطاع ترنيمة مليئة بالحب تأخذني إلى النوم، كنت في العشرين حين رحلت أمي، ما زلت أرى جسدها المسجّى في البيت، عروس صغيرة نائمة، قبّلتها على جبينها البارد، وحملوها عند الغياب، مشيت مع الحشد المودِّع بخطى وئيدة، على طرقات البلدة الترابية، صور لا تفارقني أبداً."
بهذا تضاعفت مسؤوليات ميشال خليفة تجاه أبنائه و اضطر للتفرغ لهم بالكامل، و صار يقوم بأعمال المنزل، "كنت أحب أبي، لكني اكتشفته حين كبرت أكثر، و أحببته أكثر".
مباشرة بعد تخرجه، عمل مارسيل خليفة أستاذا بالمعهد ذاته الذي درس فيه، و في الوقت نفسه قام بالعزف منفردا على العود بكل من أفريقيا الشمالية و أوروبا و أمريكا الشمالية إلى أن أصدر على نفقته الخاصة ألبومه الأول "وعود من العاصفة" عام 1975، كما شرع قبل هذا بسنة في تأليف موسيقى لعروض الباليه الشرقي لفرقة كركلا و فرق رقص أخرى . وكان قد أسس عام 1972 فرقة موسيقية ضمت جميع موسيقيي بلدته عشميت، اختصت في أداء التراث الغنائي العربي و قام رفقتها بإحياء العديد من الحفلات في لبنان، هذه الفرقة شكلت نواة لتأسيس فرقة الميادين عام 1976، التي استمر معها خليفة في تقديم موسيقاه مؤكدا كل مرة على ريادة آلة العود، حاملا في قلبه لبنان الجريح و فلسطين المغتصبة و آلام المقهورين في كل مكان، دون أن تؤول أغنيته إلى ما يشبه الخطابة أو الصراخ، مُصرا على الموسيقى كلغة إنسانية عميقة، تشاركه الغناء أميمة الخليل ذات الصوت الساحر و الرقيق. و ابتداء من التاريخ الذي تأسست فيه فرقة الميادين أنتج خليفة أزيد من عشرين ألبوما غنائيا و موسيقيا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "على الحدود"، " حلم ليلة صيف"، "فرح"، "ركوة عرب"، "تصبحون على وطن"، "ع الأرض ياحكم"، "مداعبة"...كما ألف موسيقى تصويرية لمجموعة أعمال سينمائية لمخرجين منهم الراحل مارون البغدادي و صوفي سيف الدين و سامي ذكرى و أسامة محمد. و اهتم أيضا بالجانب الأكاديمي في الموسيقى، حيث ألف عام 1982 موسوعة في العود و مقاماته قدم في فصولها تقنيات جديدة و غير مسبوقة في التعامل مع هذه الآلة.
ومن خلال التآليف الموسيقة لآلات عربية كالقانون و الناي ساءل خليفة الموروث الموسيقي من داخل القوالب التقليدية ذاتها. كما قدم رؤية أصيلة للتعامل مع النص الشعري من خلال انفتاحه على القصيدة الحديثة بما فيها قصيدة النثر التي لم يسبق لأي موسيقي عربي أن تعامل معها، إذ ألف موسيقى لقصائد بعض شعراء النثر كقاسم حداد و إنسي الحاج في عمله "الجسد" الذي يُنتظر صدوره. النص الموسيقي عند خليفة لا يتبع إيقاعات القصيدة من أجل وضع "لحن"، و إنما يحيا حياته الخاصة بالمحايثة، يقول ما تقوله القصيدة بلغته، يفضحها و يفجر إمكاناتها التعبيرية، مضيفا قلقه الخاص إلى قلقها، مستكشفا المساحات التي اقتربت منها دون أن تقولها و عن هذا يقول خليفة: "أنا أتعامل مع القصيدة من موقع المؤلف الموسيقي. أرفض أن أكون صانع جمل موسيقية لقصائد شعرية. عندما آخذ أية قصيدة للعمل عليها، أبدأ بتأليف الموسيقى انطلاقا من الإيحاء الذي يعطيني إياه النص. أكتب موسيقى بكيانها الذاتي. بوجودها خارج القصيدة أعتبر أنها تحترم القصيدة. بمعنى أوضح، إذا أخرجت الموسيقى من القصيدة و كانت لا تعيش بحد ذاتها، فهذا يعني أنها مجموعة من الأصوات لا كيان لها. و هذا بالطبع ليس هدفي و أرفض هذا الأسلوب في التأليف. هذا السعي إلى تقديم مفهوم متجدد للغناء يجعل أغنية مارسيل خليفة تنخرط في أسئلة التأليف الموسيقي بما هو مصطلح يسعى إلى اختزال المسافة بين العلم والفن، و هو ما يبدو واضحا من خلال ألبوماته الغنائية، حيث حضور النص الموسيقي وازن في الأغنية. إنه جديد يصر مارسيل خليفة -شأن قلة قليلة من الفنانين العرب الكبار- على تقديمه لنا، ذلك أن الأغنية العربية دأبت على تمجيد الصوت البشري و الكلام المغنى على حساب الجانب الموسيقى و الآلي ، مما جعل المتلقي العربي مرتبطا أساسا بالمعاني الملموسة للأغنية دون أن ترقى ذائقته إلى مستوى تذوق التعبير الموسيقي المجرد. هكذا أعاد خليفة توزيع موشحات من قبيل "بدت من الخدر"، "بالذي أسكر"، " يامن لعبت به الشمول" بشكل جديد، ساعيا إلى خلخلة الثابت في الموروث الموسيقي العربي من داخل هذا الموروث نفسه، و استكشاف داوخله القصية من أجل إعادة قراءته قراءة أصيلة، بما تعنيه الأصالة من تقديم الجديد ارتباطا بالسيرورة التي سبقته. و من يستمع مثلا إلى دبكة العاديات بالشكل الذي قدمها به مارسيل خليفة في ألبوم "بساط الريح"، سيكتشف ذلك الغنى في الموسيقى الشعبية، و يكتشف معه مقدرة مارسيل خليفة الفذة و الطفولية، على استعادة الدهشة أمام الثرات الموسيقى العربي و الشعبي الذي كاد يتجمد جراء التعامل معه بشكل فلكلوري تابث.
في "كونشرتو الأندلس"، جعل خليفة العود ينفتح لأول مرة في تاريخ الموسيقية العربية على الأوركسترا السمفونية، معترفا لهذه الآلة بقيمتها، مفجرا الإمكانات التعبيرية التي تزخر بها، مستعملا القوالب الغنائية و الموسيقية العربية الكلاسيكية كاللونغا في الجزء الموسيقي من الشريط و الموشح في الجزء الغنائي. يقول: "أردت لآلة العود عند كتابتي لها أن تشك في ما هو قائم، لتنفتح على الأوركسترا و تنفتح على نفسها. و بنيت العمل على وحدة موضوعية و على عمق في الأبعاد يتشابك مع الزمان و المكان. و الشكل أو القالب الذي عملت عليه ليس يعني شكلا حدود الموضوع الخارجي للأندلس. الشكل هنا هو الخارج و الداخل في ترابط و تعاكس في توتره، و قلعة بين الوهم و الواقع تبدأ بالزغاريد، بسقوط الأندلس، و تلك الزغاريد الآتية من بعيد محمولة على أوتار الكمانات المتعددة، و تنتهي بسقوط الأندلس أيضا. الماضي و الحاضر معا يتشابكان و يتصارعان في الحاضر البائس و الماضي الذاهب في الغموض. الماضي و الحاضر يندمجان بين سطح البحر و قاعه في تقابل نغمي كالكونتربوان(contrepoint) يربط الماضي بالحاضر عند كل مقطع و ينحو بالإثنين نحو نهاية محتومة". و قبل الكونشرتو بمدة غير قليلة كان مارسيل خليفة قد قدم "غنائية أحمد العربي" ذات النفس السمفوني و الملحمي العميق، و التي تعد بحق ذروة من ذرى الموسيقى العربية. كما اعلن من خلال "جدل" أسلوبا مغايرا للتأليف لآلة العود، مغامرا بتقديم عمل محض موسيقي لآلتي عود و كونترباس و آلة إيقاع، لجمهور متعود على الإهتمام بكلمات الأغاني. و تمكن مع ذلك، من خلال السهرات الحية، من أن يحقق تواصلا حميما مع الجمهور، و حدث التواطؤ الجميل الذي يدعو إليه خليفة مستمعيه، المستمعين الذين يريد لهم خليفة أن ينتجوا من خلال التلقي و أن يسائلوا تصوراتهم الجاهزة في الشعر و الموسيقى و الحياة. يقول الكاتب صبحي حديدي: "لاريب أن الفن الذي يقدمه مارسيل خليفة هو من طراز رفيع يندرج مباشرة في ما يسميه علم الإجتماع الثقافةَ العليا high culture، و لكنه في الآن ذاته يستقطب الآلاف من مختلف الشرائح السوسيولوجية، و لهذا فهو أيضا جزء من الثقافة الشعبية". فموسيقى خليفة تمتلك واحدة من أهم الميزات التي تصنع الفن العظيم؛ إلتقاء ذائقة النخبة بذائقة العموم. ففي الوقت نفسه الذي يردد فيه آلاف الناس من مختلف الفئات العمرية في المدرجات و القاعات الكبيرة أغنيات من قبيل "و أنا أمشي"، "ريتا"، "جواز السفر"، تُعزف موسيقى خليفة من طرف كثير من الأوركسترات العالمية، كالأوركسترا السمفونية لكييف kief، أوركسترا المعهد البولوني، أوركسترا سان فرانسيسكو، أوركسترا مدينة تونس...
و إذا كان مارسيل خليفة قد أولى هذا الإهتمام الكبير للنص الموسيقي، فإنه لم يتوان ، من خلال اختياراته الشعرية، عن أن يكون صوتا للمكمَّمين. فغنى للذين تذبل زهرة أعمارهم في الشقاء اليومي، و الذين تَسلب منهم الحرب حق الحياة، مُعلنا الموسيقى فعلَ حب و حرية: " الناس اليوم في حاجة إلى الخبز و الورد و الحب، و إلى الخروج من مستنقعات التخلف و القهر و القمع و الكبت و البؤس و اليأس و النقص الكبير في الحرية. فهذه معضلات و قضايا إنسانية ليس مقبولا لصانع الموسيقى أو الأغنية التفرج عليها، عليه أن يخلق الحوافز التي تؤدي إلى تغيير الواقع. و هنا يكمن دور النص إن كان موسيقيا أو غنائيا. فما قيمة النص إذا لم يكن مخلصا لقضية تحرير الإنسان و تحرره؟ و ما قيمة النص إن لم يكن متمردا؟ فالحضارة صفتها لحظة تمرد !".



#رشيد_منيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العازف
- ثلاث ساعات مع يوجيف أتيلا في مقهى فرنسا
- مقبرة تدور حول الشمس
- السفينة-شعر
- الغرفة صباحا-شعر
- رجل عار.. تماما
- وطن-شعر
- وردة واحدة من أجلها../شعر
- خوف-شعر
- المهمة......قصة قصيرة
- رغم أخطاء العزف
- واحد يكفي
- حدائق النور لأمين معلوف: حكاية نبي أخطأ الزمن


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد منيري - مارسيل خليفة: صوت الحب و الحرية