أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - صيد الذكرى















المزيد.....

صيد الذكرى


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4973 - 2015 / 11 / 2 - 23:25
المحور: الادب والفن
    


كنت في جلسة مع مجموعة من أصدقائي، فإذا بأحدهم يأخذ جهاز التحكم في التلفاز، فبحث بعينيه في أزراره، ثم شغله بصوت صاخب. فقلت في خاطري: ليته لم يفعل، لأنني أعلم يقينا أنني سأكون مضطرا إلى التعليق على بعض الحوارات التي تصاحب دائما رؤية بعض المشاهد، سواء كانت سلبا، أو إيجابا. لاسيما في لحظة ينتظر منها أن تحمل رأيي فيما ينسجون حوله ذيول الكلام البريء. فأحيانا يكون سطحيا، وأحيانا يكون مفيدا إياي في رص بعض تصوراتي للعقل الإنساني، والبشري. ويشهد الله أنني أشعر بحرج في ذلك، بل غالى بي الجرح كثيرا، فابتعدت عن نفحات جلسات أصدقائي، لئلا أضطر إلى مثل هذه التعليقات التي تكون جارحة لبعض البطون المتخمة بالرداءة، والوقاحة، وناقمة على عقول تعجن خرافة امتلاكها لباب الحقيقة، وبحبوحتها، ونعيمها. فوضعي الجريح لا تطيق قدرته أن تحمل أكثر مما ينزف منه بين آلام المسير، والمصير، ولا تريد أن تضاف إليها حقن السموم التي نتجرعها من الاختلاط بأقوام قل انتفاعهم بدليل المنطق، والعقل، والحرية. ولهذا لا يجوز في مقاييس حياتي أن أستمع إلى تفاهة أنزه سمعي عن هديرها المنتحب باليأس، والإحباط، ولا أن أدرج شيئا في ذهن ينتظر مني رأيا يوازي ما رسمه بين مفردات اعتقاده، وهو مخالف لما اعتقد، أو أرى. وإلا، سأكون خائنا ثقتي بنفسي، وهادما يقيني بأنني ما وجدت في الأرض لأوقع عن السماء، ولا لأداجن وأتزلف وأتملق من أجل كسرة خبز جافة، قد أكلناها بعز، قبل أن ينالها غيرنا بذل قتل كرامته، ووأد طبيعته الآدمية. فكيف سيكون وجهي في يوم من الأيام ناصعا، ولامعا، إذا رأيت عصارة أقوالي تحدث عصابا وانفصاما في ذات سواها خالقها، وعدلها، ثم دنستها بفكر ممسوخ، ومشوه. تلك هي حقيقتي التي أربكت كثيرا من التجار بالدين، والعقيدة، والعباد للمال، والحظوة، والزهاد عن العفة، والكرامة. فكوني رجل دين، لا يعني أنني أمتلك عطارة مفتوحة الباب إلى جهة المعبد، أبيع فيها بخور الخرافة، وشموع الهلوسة، وجلود الشعوذة. بل كوني رجل دين، يعني أنني أحترم الإنسان، وطاقته على الإدراك، وموهبته في صنع الجمال الذي يحب أن يكون سرا لوجوده، وماء لحياته.
كانت النتيجة غير مرضية لي، فصاحبي شغل جهاز التلفاز، ونحن جلوس، نبتغي بين هوامش هذا الزمن المترع الفواجع أن ننال هدوءا وسكونا نتصنعه في طرائف هزلنا، وتظرفنا، ولو لم يكن حقيقة مكنونة فينا. لأننا ندرك يقينا أن ما يعتري المثقف الحقيقي، أو المفكر، أو رجل العلم، هو أعظم بكثير مما يعتري غيره من هموم، وغموم. لأن طبيعتنا المتعالية في شعائرها، وطقوسها، لا تسمح لنا بما تمنحه لغيرنا، ولا تهبنا ما تنحله سوانا. لا لأننا غيرٌ معقد عند الآخر، أو أن الآخر غيرٌ حقير عندنا، بل غيرنا يجوز له أن يخوض في الحديث بلا نظام، ولا سياق، وغيرنا يطيق أن يقول ما يراه، ولو لم يكن صوابا، بل بإمكانه أن يكسر الطابوهات، ويتحدث في المكروه، والممنوع، والمحرم، ولا أحد سيحاسبه، أو سيعاتبه. لكن وضعيتنا مخالفة لذلك.! فكلمة واحدة قد تنطق بها، تكون سببا في ضياعك سنوات بين غيابات التهمة، والريبة، بل ربما تؤدي بذلك إلى سبعين داهية. فكثير من مثقفينا تغيب عنهم حقائق جلى في معاملة العامة، لأن أخلاق الخاصة حجاب عن درك ما ينبت بين الذوات المفتوحة على الرياح والعواصف من أوهام، وأحلام، وأورام. فأحيانا يظن المثقف أو غيره من المتعالين بحس النخبة، أن من يخاطبهم سذج، وعوام، وأوباش، وأوغاد، وكل ما يقوله من كلام، أو حديث، لن يكون محل متابعة في عقولهم، وأذواقهم، وأحيانا يظن أنه ذكي في أمور الدين، والدنيا، ويغيب عنه أن فقهاء الدنيا أكثر ذكاء ونباهة من فقهاء الآخرة. لأن فقهاء الدنيا، ولو كانوا أميين، فهم يتعاملون مع لغة الأرقام، والصفقات، وقوانين البيع، والشراء، ويعرفون ما يروج في عالم الاقتصاد من نظم، وسلوك، وأخلاق. وتلك ثقافة تغيب عنه، ويغيب عنها، إلا إذا كانت المعرفة سبيلا له إلى كسب ما يكسبون، وتحصيل ما يحصلون. وأحيانا يظن أنه بتحبيره وتمطيطه لكلمات طنانة، ورنانة، قد يكشف الحجاب عن الذوات العليلة، فتستكين العقول، وتستلين القلوب، ثم يتحولون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وإذ ذاك سيكونون تبعا لوهمه، وفواعل لفعله، ومراصد لأمره. أشياء كثيرة يظنها المثقف في غرته واغتراره بتفوقه العلمي، والمعرفي، وهو لا يدري أن العامة ما استكانت لغيرها إلا لأمرين، وهما سبب في استجابة شراستها لعذوبة غيرها: الأول: أمر عقيدتها. ولذا تخبط رجال الدين وأدعياء الطهرانية بين أمداء نفسها، وعقلها. وها هي الآن بعد أن انكشف سر سحر التخييل، تفقد ثقتها بكلامهم، وخطابهم. الثاني: أمر مصلحتها. ولولاه لما حملتهم الأشواق إلى مجاراة ذا، وذاك، لا لرغبة في سواد أعينهم، ولا في لمعان وجوههم، وإنما لما يملأ عليهم عقولهم من إدراكٍ للمصلحة بتلك الوسائل.
فلا غرابة إذا كان إحساسي بالعامة أقوى مما هو عند غيري ممن ظنوهم بلا قيم، ولا مبادئ. لأنني أجزم في ذاتي بأنهم يمتلكون ذكاء، ودهاء، قد لا أمتلكه في كيسي، ولا أحتويه في جرابي، لأن ما زحفوا إليه في لحظة ألجمتها للتحصيل، لم يكن من متمنيات زحفي، ولا من رغبات حلمي. ولهذا، أقررت بأنني إن جاريتهم في أرض عرفوا غموضها، وغضونها، لن أفوز في آخر الحصة إلا بفقدان لحظة الانتصار على شهوة الدنيا، وملذاتها. وحقا، قد شاهدت ذلك في كثير من مراحل حياتي، وتأملته في أناس رفعتهم العامة إلى أعلى عليين، ثم هوت بهم إلى أسفل سافلين، لا لأنهم فقدوا تميمة الاتجار بالفضيلة، والآخرة، ورقية الوعود، والعهود، بل أدركت العامة عدم توازن السيرة مع الخطاب، وعدم تحاور الذات مع الفكر، والشكل مع المضمون. فأردتهم بعد ما رفعتهم، وأهانتهم بعدما أعزتهم، فكانوا أسعد الناس بانتصار خطاب اللحظة على وعد المستقبل. فجهاز العامة عندي في الإدراك أقوى من جهاز كثير من المتحذلقين بالثقافة، والمعرفة، والمتعاظمين بذواتهم، وعقولهم، والمزايدين بغيرتهم، وشرفهم. ولولا ذلك، لما كانوا عماد أي تمرد، وثورة، وانتفاضة. بل لولاهم لما توقف علم من الأعلام على أرض من الأراضي، ولا عرف النظام في كون من الأكوان. إذ النظام لم تصغه خطابات النخبة المجنونة باللحظة الهاربة، بل وضعه العامة بزنادهم، وأرواحهم، وكرمهم، وتضحيتهم. وإدراكي لهذا، قد جعلني أقرا فيهم التاريخ، ونشأته، وتحوره، وزيفه، وكذبه، وأدرس فيهم كيف يمنحون اللحظة، وكيف يسلبونها، وكيف يرفعون أعلاما، وكيف يخفضون أقواما. لأنهم الأقدرون على إحداث الخلل في المعادلة التي نعيش هباءها، وعماءها، والأجدرون بأن ينظر إليهم بعين الإكبار، والإجلال، لا بنظرة التحقير التي يزفها المتبرج بعهر بثقافته إلى أذهانهم، وأكوانهم، وهو يخال عقله في فقر ذاته، قد أدرك مفتاح النفوس والعقول بين صحراء المعرفة المنكوبة. وهنا، ظهر لي أن كثيرا من المثقفين أغبياء، وبلداء، ولو أظهروا الذكاء، والفطنة، والكياسة، لأن كلامهم لا يتجاوز حدود دائرتهم الضيقة، ولا ينفصل عن أحلامهم المقيدة برضا العامة، وسخطهم، وغضبهم. ولولا ما فيه من نرجسية النخبة التي أهلك غرورها أناسا بين قبور التاريخ، أو ما فيه من استفزاز لبعض العقول التي تجاوزت حد السؤال البسيط إلى بداية السؤال الفلسفي، الأنطولوجي، لكانوا أتعس خلق الله على الإطلاق، ولصاروا حمقى بين مشافي المعتوهين، والمنبوذين.
شغل صديقي جهاز التلفاز، فإذا به يتوقف سهم حظه على مجموعة من المادحين في إحدى القنوات الفضائية، فنظر إليهم بعين السخرية، ونظرت خلسة إلى عينيه المكتنزتين لسؤال عميق، ونحيب سحيق. وقلت في نفسي: يا لطيف ألطف بنا فيما جرت به المقادير. زفير مخنوق، ونفس مكتوم، وأنا أنتظر رجة ذلك، وهزته، وبركانه، وزلزاله، لأن ما رأيته قد أثار سؤالي قبل أن يثير سؤاله، وأغاضني قبل أن يغضيه. وفي تلك اللحظة التي أتأمل فيها كيف ستكون ردة فعله على ما رآه، وتسمرت عيناه فيه، والجو غير مؤهل لأن يقول شيئا جميلا عنه، لأنه شهد تلك المجموعة من المادحين يتمايلون، ويترنحون، وأدخنة البخور تعلو المكان المنمنم بثريات، وشموع، وأشعة الضوء تتركب في شكل تهويمات حول الفضاء، والسطوح. أمرَّ يده على الأزرار التي تمنيت لها أن تجمد، وأن لا تصرخ. وانتقل من هنا إلى هناك، لكي يتوقف عند محطة أوحت إليه بنظر حصيف. وهناك، حط رحله، وتنفس، وغرز عينيه في الشاشة، وقال بعدما أدار وجهه نحونا، وتفرس وجوهنا الشاحبة، وملامحنا الغائرة: عجيب، والله عجيب.! هل رأيتم أولئك المداحين... كل واحد منهم متهدج البطن، ومتورد الوجنتين، ومحمر الشفاه، ومزركش اللباس، وهو يتمايل، ويترنح، ولا يدري أن إخواننا يقتلون هنا، وهناك.؟ أي استخفاف بأعيننا هذا.؟ لا، بل هو الاستغباء لنا.؟ هؤلاء يريدون أن يستروا المجازر الرهيبة التي تقام في العالم باسم الحرية. لكنهم أخفقوا في تصوير اللحظة البائسة. فها هي القناة الأخرى تروي كيف تتحدث البنادق بلغة غير التي تتحدث بها الحناجر. سكت. وقال: ما رأيك يا شيخ. أمر عظيم. تكلفت السعال، وابتسمت، وقلت: لست شيخا، فهل سلبتني ريعان شبابي، لكي تصفني بالشيخ.؟ تذكرت بيتا لأبي أمية الحنفي كنا حفظناه من شواهد الألفية. فأنشدته:
زعمتني شيخا ولست بشيخ (((()))) إنما الشيخ من يدب دبيبا.
فقلت: إن قنواتنا إفراز طبعي لمجتمعاتنا، فكما تشكل مجتمعنا من التناقض، فإن أعلامنا أيضا تشكل من ذلك. هكذا تصنع ثقافتنَا توجهات فكرنا، وذوقنا، وآرائنا. حاولت أن أنهي ذلك الكلام، لأنه سيجرنا إلى متاهات كنت في غنى عنها، لما فيها من تعكير صفو اللحظة، وتدنيس سماعنا بآراء وتحليلات تجانف الحقيقة التي لا نعرف من حقيقتها إلا جزءا بسيطا. بل الأغرب أننا لم نعرف كوامن الحرب الباردة، وغيرها من التوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلا بعد مرور زمن طويل عليها. فكيف سأجازف بقولٍ لا أدري هل هو عين ما يدبر في الكواليس التي تدير رحى الصراعات الدائرة على أمتنا المكلومة، أم هو رأي اقتنيته من حدود معرفتي بالأشياء المتصارعة في واقعي، والمتعاركة في كوني. فقلت لصديق لي يحفظ بعض السور من القرآن: اقرأ لنا شيئا من كلام الله، لعلنا ننسى الآلام، والفواجع، والفظائع، ويسكن هوج المكان، وصخبه، وصراخه، ولو لم يكن أولئك الأصدقاء أهل جلبة، وصداع، لكن مناقشة هذه الأفكار المتخلفة الأنظار، تحدث بين عيني فقاعات، وتموجات، وشعيرات، قد تتعبني كثيرا في النظر إلى طلاوة الأماكن التي نبنيها من قش اللحظات الساهمة. لأنني سأكون بين أمرين: إما أن أكون صريحا مع ذاتي، فأقول رأيي في حدود طاقتي، وليكن بعد ذلك ما كان، أو ما سيكون. وإما أن ألوح، ولا أصرح، وأتحدث في أمور هامشية تنسي عمق أصل القضية، وتجري الحديث في مجرى الضباب، والعتمة. وذلك ما سيجعلني مرتبكا، وحائرا، وسيفقدني صداقتي مع أناس تجمعني بهم هموم الحياة، ومتاعبها، وأوجاعها، وأخفف عنهم ببعض إشاراتي، وهمساتي، ويخففون عني ببعض نصائحهم، وتوجيهاتهم. وما أصعبها من لحظة تكون فيها بين خيارين: إما الحياة بعزة، وإما الموت بكرامة، فكلاهما معشوق للذات. فأيهما أقرب إليك في قرارك الأقرب إلى صفاء ضميرك، ونقاء سريرتك.؟ فالأمر بالنسبة لي عسير، لأنني أرى مثلَ يراه شيوخي من ملازمة الصمت في الأمور التي يكثر حولها الاحتمال، والاختلاف، والنقاش، بل أرى أن مهمتي لا تتناسب مع الخوض في متاهات لا تصنع فكرا، ولا رأيا، ولا قرارا. فقصارى جهدي أن لا أخرج عن يقيني فيما كلفت به من مهمة تحتاج إلى دراية، وكياسة، وحنكة، ودربة، وما عدا ذلك، فله خلوة أخلد إليها في الليل الأبهم، فأدون رسومي على صفحة بياضي، وأنقشها على لوحة من النحاس، لعلها تكون خير هدية لأبنائي، وقرائي، وأصدقائي.
قرأ صديقي آيات من سورة الإنسان، وكان ذلك فتحا مبينا. إذ جرنا الحديث إلى التحدث عن الإنسان، وكيف وصفه القرآن، وكيف رسم له صورة حقيقية، وواقعية، وكيف ألزمه بخيار النجاة إن رغب، وأراد، وإلا، فإن عقابه سيكون جريا على تضييعه، وتفريطه. وهنا انجذبت إلى تلك المعاني المخزونة بين الكلمات الأزلية، لكي أظهر أن القرآن لم يضع تلك الصورة النمطية التي خطها الوعاظ لهذا الكائن العجيب، والغريب، بل وصفه بما يستحقه من أوصاف، ونعته بما فيه من نعوت، وجعله أثرا منفعلا بما يحدث في واقعه، وفي الوقت نفسه أوجده فاعلا متفاعلا، يصنع الحياة، ويبني القيم، ويؤسس للحقيقة. هكذا رسمه القرآن ماديا فيما هو مادي، وروحيا فيما هو روحي. وما لم يتحقق التوازن بين عنصريه، فلا يمكن له أن يسير نحو آفاقه التي تشرأب إليها عيناه. وأي خلل يحدث في تصوير حقيقته، فإنه سينتج التطرف في اعتداله بين الأشياء التي تسير معه وفق نظام محكم، وبديع. وأي إسفاف به، أو استخفاف، أو استحمار، أو استبلاه، لن يجعله حملا وديعا، ولا رخوا بليدا، بل يترع عمقه بمشاعر الكره، والحقد، والكراهية، ويحشو عقله بأفكار مشتتة لا تصنع استواءه في الطبيعة، والكون، والحياة، والوجود. وإذا أنتجنا هذا النوع في الإنسان المدمر في باطنه، والمحطم في إرادته، فإننا قد صنعنا الدمار، والخراب. لأن الحقود الذي نشأ بين محاضن الضياع، والفراغ، لن يخلق بين طيوف حلمه شجرة المحبة، ووردة الأخوة، بل سيكون جبارا، منتقما، لا يغرف نجيعه إلا من مستنقع الألم، وأوحال الوحشة. وذلك ما سيُنتج له أعداء ينتظرون نهايته، ويرقبون كيف يزيلون وجوده. وهكذا تتوالى المشاهد النازفة بالعداوة، وتتابع الصور بلا أمل في صناعة السلم، والسلام. فداعش نتاج مجتمعات استوطنتها الضغينة، والكراهية، وعصارة واقع فاسد الحظوظ، والرغبات. ولكن حين خططوا لرد الاعتبار إلى ذواتهم المهشمة الأنماط، والسياقات، هل تناسوا ما حفَر في أعماقهم نبعَ الكراهية.؟ كلا، بل زرعوها، وغرسوها، وها هم يجنون ثمارها، وينالون غلتها. فإن اكتفى العالم بإنهاء كراهيتهم، ولم تختلط لديه أوراق توت مصالحه، فإنه سينهي عالم الكراهية في الكون الإنساني. وإذا لم يكتف بزارعي القتل، والخراب، فإنه سينتج عالم الكراهية في كون سئم صوت الرصاص، وضج من الغبار، وكل من الدخان.
انتهت تلك الليلة، وودعت صديقي الذي أبلغني إلى كني، وعشي، وولجت عالم مراجعاتي لأفكاري، فكتبت ما جادت به تلك اللحظة من ترانيم الشجون، واللواعج، ومرت عليها شهور. وها أنذا أعود إليها بعدما عثرت على تلك الوريقة بين أوراق شتى، تحمل كل واحدة منهن ذكرى، وبلوى، وشكوى. فآه، آه، تلك الأوراق أرواح ناطقة باسم الزمان، والمكان، وأصوات مكتومة، ومختومة، لا يمكن لها أن تحرق، ولا أن تمزق، لأنها عرق يراع يكتب ما يمر عليه من آلام، وآمال، ويدون معاناة الحرف، والكلمة. وأحيانا أجتاز على جسر الزمن سريعا، وأنسى أشياء كانت جميلة، وثمينة، وأهدم معالم هادرة، وصادمة. لكن شرودها عن النوق التي تسوقني إلى متحف التاريخ، ولو حصل في الذات التي تسرع الخطى نحو لحظة الموت، والفناء، فإنني في شدة بلبلة اللحظات الصاخبة، أؤوب إليها بين أوراقي المتكومة على رصيف الذكريات، فأجدد العهد مع الماضي، وأتذكر كيف كنا أغرارا، وكيف صرنا عجزة عن الهمس، والنجوى، وكيف كنا حمقى، وكيف غدونا مجانين. أشياء نحملها بين طيات مشاعرنا، وننساها بين رف من رفوف هزائمنا. وتمضي أعوام، وتتوالى آثام، ونتذكر ما كتبناه عن الزمن الغادر من أفكار، أو أنظار، فنستعيد الحلم البض، والأمل الغض، ولكن أنى لما مضى أن يعود.!



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية


المزيد.....




- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - صيد الذكرى