محسن حنيص
(Mohsin Shawkat)
الحوار المتمدن-العدد: 4864 - 2015 / 7 / 12 - 00:39
المحور:
الادب والفن
مصحف الملكة نفيسة
بقلم : محسن حنيص
حين ماتت عمته نجيبة أورثته صندوقا عتيقا مليئا بالحكايا . اجبرته ان يعيش في عهد مباد . أرضعته مقتا ونفورا من العهد الجمهوري . وكان عليه ان يكبر ويفعل الكثير لكي يعرف ان كانت عمته ربته بشكل جيد ام لا . أن كانت قد أطعمته غذاءا صحيا أم سكبت في اعماقه سما .
ظل طوال سنين ينفر من الثورات و من جدارية جواد سليم . الكثير من حوله يتكلم عن ثورة لكن وجهه يرسم صورة اخرى . الكل يسمونه نصب الحرية الا هو . وحين يمر في ساحة التحرير يحاول ان يتحاشى الجدار أو يميل بوجهه كي لا تقع عينه عليه .
عمته نجيبة عاقر . أخذته من اهله فصارت امه حتى ماتت فعاد اليهم .
كانت تعمل خادمة في القصر الملكي . ولولا جدول الخفارة لكانت واحدة من ضحايا المجزرة التي حصلت في الرابع عشر من تموز .
دخلت عمته قصر الرحاب عن طريق الوصيفة رازقية . كان عملها يشمل الطبخ والتنظيف وسقي المزهريات . عاشت اجمل سني عمرها في القصر وتعرفت على كافة زواياه وخدمه وحراسه .
وصلت نجيبة بعد ساعتين من أنتهاء المجزرة . رأت الجماهير المحتشدة بأنتظار فتح باب القصر كي يبدأ فصل النهب والتخريب . علمت من الواقفين ان التصفية شملت الجميع بمافيهم الخدم .
وحين كلف بالكتابة عن قوس النصر , وجد فقرة تشير الى رغبة السيد الرئيس بتشييد جسر يربط قوس النصر بجدارية جواد سليم . يحتل النصبين موقعا مفصليا في تاريخ وجغرافيا البلاد . الاول في الكرخ والثاني في الرصافة ولا يفصلهما سوى نهر دجلة . ولذلك فان تشييد جسر بين النصبين يسمح بألتقاء التاريخ و أضافة جسر جديد في بغداد . وهي رغبة مشروعة لزعيم ترك بصماته في كلا العصرين .
وحين أطلع على هذه الفقرة اضيفت أعباء جديدة . أصبح الطريق وعرا جدا للوصول الى شقة دجلة . اصبح بمواجهة مباشرة مع الجزء الأكثر أيلاما في حياة العمة و الام الحنون للسنوات الثمان الأولى من عمره . أصبح في مواجهة مع حادثة يصعب العبور منها .
حين فتح باب القصر وسمح للناس بالدخول هرعت نجيبة تفتش عن الجثث . في الباحة عثرت على مصحف مثقوب بالرصاص . عرفت على الفور أنه مصحف الملكة نفيسة الذي طالما مسحت عنه الغبار . رفعته من بين الانقاض ووضعته في حقيبتها . كان ذلك اليوم هو الاكثر حزنا في حياتها . شاهدت الجماهير وهي تنقض على عالم كان قبل ساعات هو عالمها . بدأ فصل النهب والتخريب . شاهدت الناس وهي تتزاحم لتفتيت تاريخها . تخلع الستائر التي كانت تفتحها بيديها , تفكك الاسرة التي كانت ترتبها . اواني الفخار التي تمسحها . الطاولات والقدور التي تحضر بها طعام الاميرات . حنفيات الحمام وكل ماتطاله الايدي , تخلع الشبابيك , صور الاميرات , السجاد , الفرش , وحتى عدة الحلاقة . شاهدت تفاصيل عمرها تتفتت قطعة قطعة , يتفكك الزمن , وتمحى التفاصيل , يتم مسح كل ما يدل على الوجود , تنتزع حتى الالوان من الحيطان . تركت الناس واتجهت تبحث في محيط القصر عن القتلى . قالوا لها انهم نقلوا الى المشرحة .
خرجت من القصر وتوجهت الى الطب العدلي في الباب المعظم . كان الازدحام قد اجبرها على متابعة التفاصيل الشنيعة لذلك اليوم من الكرخ الى الرصافة .
لازال نواح عمته مطبوع في ذاكرته , و ثوبها الاسود ومجلس العزاء الذي تقيمه لوحدها في البيت كلما مرت ذكرى ذلك اليوم بينما الناس تحتفل في الشوارع بالأبواق والطبول والمركبات المزينة بالصور والاعلام .
وحين كبر سعدون وجد نفسه في مأزق حقيقي فقد كانت عمته من القلائل الذين ينوحون في هذا اليوم . وقد اورثته شذوذها . في العيد يذهب الأصدقاء الى الباب الشرقي وقبل سينما ميامي يقفون لألتقاط صورة تذكارية . يتردد في الوقوف معهم , لا يحب ان يظهر في صورة فوتوغرافية فيها هذا الجدار . يسألهم أن كان بالامكان تغيير المكان ؟. يستغرب اصدقاؤه من سلوكه فيظل صامتا لا يعرف بماذا يجيب . يتردد بالقول أن وراء ذلك عمته . لا يجرؤ أن يقول ان خلف الجدار جريمة . .
لم يكن لنجيبة ابناء فقد كانت عاقرا . التفتت يوما فرأت الى جوارها أم منتفخة البطن ولديها فائض من البنات والبنين . سألتها ان تعطيها مولودها القادم . نظرت الحامل في عيني زوجها فهز رأسه موافقا . قيل له ان عمته هي التي قصت الحبل السري بنفسها. هربت به على الفور قبل ان ترجع الأم في كلامها .لم تعطها حتى فرصة لمعرفة ان كان ولدا ام بنتا . بقي في حضن عمته حتى وافاها الأجل فعاد الى حضن امه من جديد .
تركت له عمته صندوقا فيه جميع حاجياته . انتقل معه الى بيت أهله . في الصندوق يوجد كل ما يفرقه عن أخوته . فيه جزء ثمين من عمره . مستودع لكل الاشياء التي أحبها وحصل عليها . كان الصندوق من خشب الصاج المرصع بالنجوم الفضية . طراز كلاسيكي يحاكي صناديق ألف ليلة وليلة . بقي مغلقا زمنا طويلا . كان الصندوق يحوي كل القصص التي حكتها له عمته عن العفاريت والجنيات والحوريات . مازال يحفظ في داخله شرائط الاميرات وسراويل الملوك الصغار وشراشف نوم مطرزة بالحرير . بحور النسيان السبع , ودواء العيون المطفأة . وتيجان الملوك المخلوعين . وملابسه ولعبه وحفاظاته والمصاصة البلاستيكية لتهدئته .
غير انه عثر بين طيات الملابس على مصحف عتيق مثقوب من جهتيه في ثلاثة مواضع . ثقوب بحجم الاصبع تخترقه من الجلد الى الجلد . فتح المصحف , قلب اوراقه فوجد رسما لجدارية جواد سليم مثبت بالصمغ ومذيل بآية من سورة الملك مكتوبة باليد .
((فارجع البصر هل ترى من فطور ))
هنالك سهم يربط الآية بالرسم . رأى جثة بلا معالم لم يبق منها سوى الثلث تتدلى من شرفة حجرية . ظن انها احدى منحوتات النصب . دخل الشك بقوة. راح يفتش عن صورة للنصب بين اوراقه . عثر على بطاقة بريدية . وضع البطاقة الى جانب المصحف . هنالك شئ غريب . حسب عدد المنحوتات فوجد فرقا . هنالك منحوتة ناقصة او هنالك منحوتة زائدة .
قلب اوراق المصحف فعثر على سورة غريبة بعنوان :(سورة الرحاب) . كلام عتيق يشبه هذيان عمته وهي في النزع الأخير . بدأ بالقراءة فتزاحمت علامات الاستفهام . كانت (السورة) تحكي قصة يوم شنيع مستعينة بمنحوتة أختفت من الجدارية .
خرج في ساعة مبكرة من ايام تشرين . وضع المصحف في جيبه . وصل الى الباب الشرقي . وقف في اول جسر الجمهورية كي يرى النصب بوضوح . فتح المصحف قلب اوراقه حتى وصل سورة الرحاب .
كان الجو ملبدا بالغيوم والسماء تبرق مع اصوات للرعد مخيفة .فجأة سقط شئ من السماء , شقها نصفين . نصل ملتهب أنقض مثل طائر عملاق وسقط على الجدار العظيم . سقط البيت الاول من معلقة جواد سليم المؤلفة من اربعة عشر بيتا . شاهد ذلك بعينه .. فأختفت أجزاء من الجدارية . لم تعد عينه هي نفسها. حين سكت الرعد وهدأت السماء وتوقف تساقط المطر, فتح عينيه من جديد . رأي جسرا ملونا يربط مابين قوس النصر والجدارية , فدهش وشكك في عينيه . فركهما جيدا . أزاح النعاس والسكر والوهم وخداع البصر.
وضع جواد سليم عملا نحتيا باهرا لكنه بلا بداية . المنحوتة الأولى أختفت من الجدار . هل كان جواد سليم على علم بذلك ؟ . الذين يعرفونه يؤكدون أخلاصه للفن . حين طلب منه الزعيم وضع تمثال له في الجدارية رفض ذلك بوضوح . لكن جواد سليم مات قبل ان يرى مسلته وهي تحتل قلب البلاد . هل يعلم النحات عن أختفاء الساعات الاولى من الرابع عشر من تموز وتحديدا الساعة الثامنة وعشر دقائق صباحا والمكان هو قصر الرحاب .
سوف يظل هذا السؤال مربكا . كيف يمكن ان تشيد جدارية بلا بداية ؟ ومن المسؤول ؟
سوف يسقط البيت الاول من معلقة جواد سليم المؤلفة من اربعة عشر بيتا حيث أخرج الجميع وهم بثياب النوم وجمعوا في باحة القصر . لم يستغرق التفاوض سوى عشرة دقائق .. ادركوا على الفور ان كل شئ قد انتهى فأرتدوا الى تلك الغرائز البدائية والعناصر الاولية التي صنع الله منها مخلوقاته . قبلت العائلة المالكة التنازل عن كل شئ للعسكر: العرش والبلاد والقصور وكل ميراث هذا البلد القديم . لا يريدون سوى النفاذ بجلدهم , ابقاء الروح داخل الجسد . مطلب واحد لاغير . لكن الانقلابيون كان لهم رأي آخر .
الواقفون في الباحة من اليمين الى اليسار: طباخ تركي , خادم , ملك صغير يهيأ نفسه للزواج , ملكة عجوز تحمل مصحفا تدعى نفيسة , الأميرة عابدية , طفل يدعى جعفر اليتيم , خال الملك والوصي على العرش , الاميرة هيام زوجة الوصي, الخادمة رازقية ومحمد فقي جندي الحرس .
جاء العبوسي من الخلف . فتح نيران رشاشه في قوس قزح بديع ودقيق . أفرغ ثمانية وعشرين أطلاقة . لم يخطئ أحدا . الى جانبه ضابط يدعى النقيب مصطفى عبدالله خشي أن يستأثر زميله بهذا الشرف ففتح نيران رشاشه من الامام على الاجساد التي كانت في طريقها الى التهاوي. الملكة العجوز تقف وراء حفيدها ,تضع المصحف فوق رأسه , وفي محاولة يائسة عامرة بالدلالات تضع مصحفها امام اعين المهاجمين , تحاول صد الرصاص القادم اليهم , يثقب الرصاص المصحف ويدخل جسد الملك اولا يخترقه ويدخل جسدها .
تصاعدت الغيرة والحمية في بقية الضباط الاحرار: انهمر الرصاص من كل جانب . من كل يد تحمل السلاح . لا يخلو المشهد من شتائم وصراخ . لن يستغرق المشهد سوى بضعة دقائق . سوف يختلف الضباط الاحرار فيما بينهم على حقوق واسبقية الرمي . كل يدعي أنه الاسبق . وقبل أن يبلغوا قيادة الانقلاب ينبغي أن يتفقوا , أن لا يستأثر أي منهم بشرف هذه المجزرة . سوف يكتبون تقريرا كاملا يتضمن عدد الطلقات واماكن التصويب ومساهمة كل شخص ويتركوا أمر التقدير لقيادة الانقلاب . سوف تقطع الرؤوس و تفصل عن الأبدان وتوضع على رؤوس الحراب ليسيروا بها الى مقر الانقلاب في وزارة الدفاع . سوف يختلفوا حول حصصهم من تلك الرؤوس. وسيمضي بعض الوقت قبل أن يتوصلوا الى تسوية . سوف يخرج عموم الناس ليملأوا الارصفة والشرفات ليتفرجوا على الموكب الراجل
كان جواد سليم نائما في سطح الدار يغطي وجهه بشرشف . يمكن للشرشف ان يحجب الضوء لكنه لايقدر ان يحجب دوي الرصاص وصرخة الضحايا ؟. رفع الفنان الغطاء وأمال برأسه من فوق سياج الدار . مرت الرؤوس في الزقاق محمولة على حراب الضباط الأحرار .
هل كان ذلك حقيقة أم أضغاث أحلام ؟
الكلاب المسعورة تمر من تحت باب الدار تجر بأسنانها جثة بشرية . كلب جائع يحاول ان يلتهم العضو الذكري , يخرج لسانه القرمزي , يلطعه فيجده مرا , عندئذ يضعه في مؤخرة الجثة . المشهد يثير عاصفة من النباح . نباح الكلاب يشبه التصفيق والزغاريد .
أين كان الفنان في هذه اللحظة ؟ هل غطى وجهه ؟ هل سد أذنيه ؟
الم يخطر في باله ان يضع هذه اليوتوبيا في عمل نحتي ؟
سوف تواصل الجثة المتهرئة طوافها مبتعدة عن داره .
هل تابع بعينه الحادة خط السحل؟. هل يدري أين طافت وكم من الامتار صبغت بدمها ؟. انه الصانع لهذا الجدار هل نتركه يواصل نومته أم نوقظه ؟.
الجثة تطوف الشوارع الرئيسية وتعبر الجسور. تتكسر العظام وتتهرأ المفاصل . تسجل رقما قياسيا في السحل : خمسة آلاف متر .
هذا الرقم المبجل . هذا السحل الجمهوري جدا , ألا يستحق وقفة من برونز ؟
تتناثر الاشلاء على الارصفة في تكوين باهر مروع , تعلق فوق شرفات المباني . تتدلى مثل لعبة خشبية . تتحول الى هرم شاورما , تقطع اجزاء منها بساطور. أحدهم يأتي بفعل خلاق . أرهاصة العهد الجديد . يقطع الذكر ويضعه في الدبر . الجماهير تصفق . تلقى الجثة من الشرفة . تسحل من جديد حتى تصل الى وزارة الدفاع . تعلق على عمود للنور . تتدلى مثل خرقة غسيل .
أنظر بعينك أيها الفنان البعيد المدى الى الصورة . أرجع البصر كرتين .
الا تراها مغرية وتستفز الازميل ؟. ألا تحمل مقومات عمل نحتي ؟
على الاقل لتخليد ذلك الوحش ألغائر في أعماقنا . اليست هذه هي صورة رائعة لأعماقنا؟ .
في اللحظة التي يفتح فيها الجندي الشامخ قضبان السجن كان هناك ضابط يسدد على مجموعة من العزل بينهم أربعة نساء .
استيقظ أيها الفنان قبل فوات الاوان . هنالك فرصة لعمل نحتي يهز عرش الرب . انظر بعينك الثاقبة . هل عمرك شاهدت ثلث جثة ؟ . هل شاهدت من قبل شاوررما من لحم بشري ؟. كيف فاتتك ايها الفنان العظيم ؟
خائف من هذا السهو . كيف سينام أهله بعد ذلك ؟.
هنالك علامة يصعب تجاوزها . منذ اربعة عشر قرنا وأهله يلبسون السواد . كل عام يجلدون اجسادهم بأشواك من حديد. يطعنون جماجمهم بالخناجر . لايستريحوا حتى يروا الدم يتدفق . يتعرون ويلطمون حتى تحمر جلودهم . يجرون صغارهم ليسكبوا في أفئدتهم المرارة. يرضعونهم الندم و البكاء .
لماذا لا يهتزون على ماجرى البارحة ؟. هل ينتظرون اربعة عشر قرن اخرى ؟
متى يلطمون في تموز ؟
ثمة قناطر بين كربلاء و الرحاب , بين عاشوراء وتموز. في كربلاء يخرج سهم مسموم, يطير في السماء , يهبط ليمر في عنق عبدالله الرضيع . في الرحاب تخترق رصاصة عنق طفل يتيم أسمه جعفر ربته الاميرة عابدية . هنالك عرس للقاسم أبن الحسن وهنا عرس لفيصل الثاني الذي يعد حقائبه ليلاقي عروسته في لندن . في كربلاء رؤوس تقطع وترفع على اسنة الرماح . في الرحاب جثث تسحل وتعلق على الشرفات .
لكن للأمانة التاريخية ينبغي الأعتراف انه رغم الكثير من التماثل الا ان هنالك فارقا خطيرا في أخلاق الطرف المنتصر في كلا الحادثتين . هنالك فارق نوعي بين الضباط الاحرار وقادة جيش يزيد يدعو الى التأمل . يسجل الضباط الاحرار في الرابع عشر من تموز خسة وجبنا وافتقارا تاما للشهامة والنبل لاوجود لها في جيش يزيد . ان تعليق رأس الحسين واصحابه على أسنة الرماح والسير بها الى الشام هو عمل غير مستهجن في ذلك الوقت . ليس القصد منه الاهانة او التنكيل بل الهدف الاساس وربما الوحيد هو الأعلان عن نهاية التمرد . في العاشر من محرم لم تقتل او تمس أمرأة واحدة من معسكر الحسين ووصلوا الشام واستقبلوا في قصر الخليفة دون ان يتعرضوا لأهانة تذكر .
نصب سعدون لوحده خيمة للعزاء بعيدا عن خيمة اهله وقدورهم . سألهم : لماذا نلطم هنا ولا نلطم هناك ؟.
كلما أراد أهله وضع رمز للمصيبة يرتكبوا خطأ فادحا . فهم محاطون بعوائق معرفية . كل جدار يؤكد نفس المعاني . عبادة الموت هو الغاية والوسيلة . لاشئ يعلو فوق الموت . وما هو مطلوب منه هو المشاركة في هذا المهرجان . ان يضع مبررات ووصف جميل لازهاق الارواح . أن يضع اسبابا جديدة ومبتكرة . لا توجد مهدئات لهذا العصاب الجماعي . في كل شوارع المدينة وساحاتها هناك خطأ فادح . كل مرة تسقط اللحظات الهامة ويعبرها أهله ليؤسسوا دورة دم جديدة . سوف يصلب الزعيم ويبصق بوجهه. وسوف تعلق الجثث في الساحات العامة ويطلب من الناس التصفيق والهتاف والحضور. وسيأتي الناس ليصفقوا . لن يوقف احد هذا النوع من الاحتفالات . سيكون الناس قد تعودوا, والذين شاركوا او صمتوا في تموز سوف يواجهون نفس المصير في شباط , وسوف تمتلأ السنة بالمخازي .
سوف ينصب خيمة للعزاء ينوح فيها لوحده . وسيدخل عليه احدهم ليقول
(( انك تنوح على مجرم شنق أربعة عقداء وثلاثة شيوعيين , والعدالة تقتضي ان يشنق سبعة مرات ))
يسجد سعدون للعدالة لأنه يعبدها , ولكن هل كانت العدالة حاضرة في تلك الساعات ؟ من هو ممثلها ؟ لماذا لم يؤخذ (المجرم ) ويشنق في زاوية بعيدة , في واحدة من دهاليز العدالة ؟ . لماذا تتولى القصاص شوارع بغداد وساحاتها وجسورها وارصفتها وشرفاتها واعمدة الكهرباء التي تنيرها ؟ لماذا يتلطخ كل هذا بدمه ؟ لماذا يراد لأهله أن يسيروا على أرصفة ملطخة بالدماء ؟ أليس من العدالة أن يشنق المجرم وهو حي ؟ أن يعلق وهو بكامل جثته ويسأل عن رغبته الأخيرة ؟ . لماذا شنقوا ثلثي جثته في الرصافة وبقي ثلثا في الكرخ تنهشه الكلاب المسعورة ؟. هل الكلاب المسعورة هي ممثل العدالة ؟
لماذا بقي أهله يتفرجون طوال النهار من شرفات المنازل . لماذا سمحوا لعيون اطفالهم أن تظل مفتوحة ؟ لماذا لم يغطوها مثلما يفعلون امام جسد عار . الم تكن الجثة المسحولة عارية . لماذا تركوها تشبع من هذا العري المزدوج . أي صنف من المخلوقات هم ؟
كان الى جانب (المجرم ) ستة أبرياء لماذا ذبحوهم ؟ . تنازلوا عن كل شئ لا يريدون سوى الرحيل . لماذا أصر الثوار الاحرار على دفنهم بثيابهم؟ ونام الجميع في تلك الليلة بلا أرق . وسيحتفل الناس كل سنة وسيضاف يوم الى سجل العطلات الرسمية . يوم بهيج تزين فيه الشوارع , تكنس وترش وترفع الاعلام وصور الثوار . سوف يتقدم المنفذ الرئيسي أمام رئيسه ليضع على كتفه نجمة جديدة ويرسله ملحقا عسكريا في موسكو .
وفي غمرة أرتباكهم الدائم وانحطاطهم المتكرر كانوا يبحثون عمن يرفعهم بأية وسيلة. عمن يرسم لهم صورة زاهية سامية , فقد سأموا من رداءتهم . عثروا على نحات هو من نفس طينتهم . يحلم بالخلود والسمو وتربى مثلهم على دروس الأنشاء والتربية الوطنية وبعضا من صخب ذلك العصر . تسوية جديدة تضاف الى سجلهم . لم تعد شوارعهم نظيفة ولا تساعدهم على السمو , كل مافيها يخدرهم , يجعلهم أكثر استعدادا لخطأ آخر .
لم يكن الفنان داعية للقسوة لكنه وضع في قلب البلاد جدارا باهرا تختفي وراءه جريمة بشعة . اسقط بطريقة غامضة تماما لحظة دموية جديرة بالخلود .
شيد النصب و ثمار الخوف لم تنضج بعد. لماذا سقطت البداية . هل كان الفنان خائفا ؟ هل كان خاضعا للجماهير ام كان جزءا منهم ؟.
هل كان جواد سليم مهتما بصعود الحقيقة ام صعود الجدار ؟ , متواطئا ام غبيا ؟, هل كان انسانا ام نحاتا متهافتا بلا قيم ؟.
ولماذا مات مبكرا وقبل ان تتكحل عينه برؤية جداره . هل هي لعنة الرحاب التي اكلت الزعيم وكل مساعديه , واكلت والعبوسي ومعه جميع المشاركين في ذلك اليوم الشنيع ؟
تأسس الدم المعاصر في الرابع عشر من تموز . يتقدم الى منصة المسرح ضابط اسمه عبد الستار العبوسي ينحر سبعة رقاب . يضع اقدامه على صدور القتلى . من هناك يرفع سماعة التلفون ليبلغ قادة الانقلاب بتنفيذ المهمة . يسمع تصفيقا وهتافا من الطرف الاخر . يذاع البيان رقم اثنين على الفور , يحصل العبوسي على اطراء لائق وملحقية عسكرية في موسكو .
حتى الآن ليس هنالك اية ضجة . لم يبك أحد ولم تسقط دمعة واحدة , لم يتأسوا ولم يعترفوا . (كان القاتل اكثر شرفا منا جميعا ). بعد ثلاثة عشر عاما وضع فوهة المسدس في سقف فمه ووضع حدا لليالي الأرق وسيل الكوابيس والزيارات الليلية للضحايا . كانت الملكة نفيسة تزوره يوميا وهي تحمل مصحفها المثقوب بالرصاص وتقف عند حافة سريره لتمنع عنه النوم
اما الأهل فكانوا أكثر حيطة من القاتل . اوكلوا الى واحد من النحاتين أن يعيد رسم الحدث . وضع لهم صرحا شاخصا متعاليا ساميا وباهرا . أعادوا فيه سرد الحكاية من اليمين الى اليسار في أربعة عشر بيتا . علقوها على جدار في قلب العاصمة كي يروها من جميع الجهات . كي يروها كل يوم , ويطمئنوا تماما ان كل شئ جميل في ذلك اليوم التموزي :
ينابيع تتفجر ماءا , وامرأة حبلى بالخير , وسكينة محاطة بأغصان السلام , وطفل تائه يجده اهله , ومطرقة تستعد للبناء . معلقة شعرية للاعصاب المجهدة التي يأست من نفسها فراحت تبتلع حبوبا الفاليوم .قصيدة مديح فاقع لذواتنا المتهرئة . طمطمنا الجريمة وراء جدار برونزي وذهبنا الى أسرة نومنا.
لابد ان يفتخر أهله انهم نجحوا في تجاوز الكثير من العوائق فيما يخص الضمير . اصبحوا قادرين على وضع الارواح في علب أو خانات. أصبح لديهم طمغة زرقاء يختمون بها اللحم المجاز , هي نفسها طمغة الرقابة الصحية في المجازر الحكومية . ينامون ملأ الجفون ويشخرون دون أبطاء . مجرد بضعة كلمات وقصائد وصخب جماهيري . مجموعة هتافات , يختمون بها افضع المشاهد . هنالك ارواح تصلح للذكرى واخرى تصلح للنسيان .
يتوقف الدم في اللحظة التي يتوقف الجميع عن اراقته .في اللحظة التي لا يختلف احد على تسميته . بعد الوصول الى وصف دقيق وواضح له . وعزل كل الهتافات والصخب فلا يبقى سوى لحظة ازهاق الروح , لحظة اقتراب الحبل وضيقه وصعوبة اخراج النفس وضربات القلب المتصاعدة واليقين الحاد بارتفاع الموت وقسوته فوق اية قيمة اخرى . سوف يتوقف الموت تلقائيا حين يكون هناك عزما كونكريتيا على الاحتفاظ بالحياة بأي ثمن . بطي صفحة الموت كليا والتنكيل والتسفيه المتعمد لكل الدعاوى الفارغة للاعلاء من شأنه , واولها الموت من اجل العقيدة .
لا توجد عقيدة أرفع شأنا من الموت , ولا يمكن ان تكون أعلى من أعواد المشانق . وأسوأ من القتل هو القصاص او الثأر , هذا المسخ الروحي الذي يغوص في العمق .
نحن حيوانات بائسة نشبه اي جمل يقاد الى المسلخ , وكل ما يتمناه هو الخلاص والهرب . الجمل لا يعشق الحبال ولايبتسم للرجال الذين يلوحون بها . ولكننا على خشبة المسرح الوطني نرى جملا آخر . جملا يغني وهو يعانق السكين . مسرحنا عريض يمتد من المقهى وينتهي بصورة الشهيد المعلقة في الجدار وبينهما الاقبية السرية واطنان القصائد .
بعد كل مجزرة يضطرب الكلام , تتفتت المفردات , ويخرج معجم جديد . منذ قرون وسعدون ينتظر تعريفا حادا لشرعية الموت . تعريف حاد ودقيق لعملية الخنق وحز الرؤوس . وضع الشروط اللازمة لاخراج الروح من الجسد ووضع ضوابط لتنفيذها .لابد من اعادة البراءة التي افتقدتها الجفون. لم تعد تملك تلك السرعة الفورية للصد واغلاق العين كي لاترى المناظر الموبوءة. . كانت لا تحتمل منظر بقر البطون فكانت تنغلق تلقائيا , تضع ستارا امام العين كي لا تبصر, كي لا تشارك, وهو اضعف الايمان .
...................
هولندا
2014
#محسن_حنيص (هاشتاغ)
Mohsin_Shawkat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟