|
الطائفية و الوعي الوطني
محمد كمال
الحوار المتمدن-العدد: 4844 - 2015 / 6 / 21 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك معادلة رياضية ثابتة لها مصداقيتها العلمية في تحديد طبيعة العلاقة التي تربط بين عنصرين أو قوتين أو مفهومين ، و طبيعة العلاقة التي تحددها هذه المعادلة هي علاقة عكسية، بمعنى أنه كلما إزدادت قيمة عنصر في المعادلة نقصت قيمة العنصر الآخر في المعادلة الرياضية؛ و العنصران في هذه المعادلة لا تحيدان أبداً و بشكل مطلق عن طبيعة العلاقة العكسية بينهما؛ و هذه المعادلة الرياضية و بكل تجلياتها العلمية تحدد طبيعة العلاقة العكسية بين الطائفية و المواطنة، فكلما زادت المساحة البشرية للمواطنة كلما نقصت المساحة البشرية للطائفية، و العكس صحيح. و هكذا تكون العلاقة كذلك بين الوعي الوطني و الإفتقار إلى هذا الوعي الوطني، و هذا الفرد الذي يفتقر إلى الوعي الوطني فإنه إنسان مسلوب الإرادة و قد سلم أمر إدارته إلى قيادة الطائفة، فهو لا يرى في نفسه مواطناً يعيش في جغرافيا الوطن الذي يضم أطيافاً من الأعراق و الأديان و المذاهب، بل يرى نفسه و هويته و قيمته الانسانية في جزئ من الوطن و هو الإطار الضيق الذي حددته القيادة الطائفية، و لا يرى نفسه جزءً منتمياً و ملتزماً بالمصير المشترك مع مجمل الأطياف في الوطن في حياة إقتصادية و سياسية و علاقات إجتماعية مشتركة و متبادلة؛ فيرى في جزئيتها كلاً مطلقاً بينما بقية الأطياف أجزاء خارج حدوده و يضع بينه و بين الأطياف الأخرى حواجز فكرية و نفسية و بالنتيجة يعيش في حالة توجس دائم ممن هم خارج حدود طائفته. هذه الحالة الإنغلاقية لم تأتِ جزافاً و لا صدفة و لا خياراً واعياً -من جند التابعين الخانعين- و لكنها حالة تشكلت بفعل علاقات مصلحية في الحياة الإجتماعية و قد تعرضنا لهذه العلاقة في مقالة سابقة تحت عنوان " الإقطاعية الدينية " ، و هذه المصلحة الإجتماعية كانت الدافع لبناء الصرح الطائفي، و هذا يدفعنا إلى طرح سؤال حيوي و ملح ، و هو ، كيف إستطاعت القوى المتنفذة طبقياً على مفاصل الحياة الإجتماعية للقاعدة البشرية في الطائفة من أن تؤثر على هذه القاعدة في سلب إرادتها و توجيه وعيها خارج فضاء المواطنة و حبسها في حدود الطائفة و كأنها الكل المطلق و الحقيقة كلها؟ و قبل الخوض في هذه المسألة الشائكة و التي نحاول جهدنا الوصول إلى أَمَضِّ مفاصلها ، لنستعرض نموذجين من الوعي المُوَجِّهْ في البناء الطائفي و اللاوعي المُوَجَّهْ في قاعدة البناء الطائفي؛ نموذج الوعي المُوَجِّهْ المتمثل في أصحاب المصالح و هم قادة الطائفة ، نقتبسه من الواقع اللبناني و الذي هو واقع سياسي طائفي بامتياز ؛ بعد أن عصفت بلبنان كوارث سياسية و إجتماعية نتيجة للنهج السياسي الطائفي ، طرح الوطنيون العلمانيون من مختلف الطوائف أفكاراً لتجاوز دولة المحاصصة الطائفية إلى الدولة الوطنية الموحدة و الضامنة لمصالح و حقوق الجميع تحت سقف وطن جامع شامل؛ و حيث أنَّ هذا التوجه الوطني المُوَحِّدْ لا يلبي المصالح الطبقية لسدنة الطائفية ، تصدت له القيادات الطائفية و قد جاء على لسان أحد الرموز الطائفية المتنفذة تصريح مباشر و صريح يؤكد على ضرورة المحافظة على النهج الطائفي بالقول : " تبين لي أنَّ إلغاء الطائفية السياسية في لبنان يحمل مغامرة كبرى قد تهدد مصير لبنان أو على الأقل ستهدد إستقرار لبنان ، تخلق ظروفاً للإستقواء بالخارج من هنا و هناك ، و تدخل القوى الأجنبية من هنا و هناك ... أدعوا إلى سحب هذا الموضوع من التداول ... فالمطلوب هو إصلاح نظام الطائفية السياسية و ليس إلغاء نظام الطائفية السياسية". هذا بيان طائفي صريح و واضح، و البيان يحمل معاني كثيرة و من أبرزها إرتباط الكيانات الطائفية بالقوى الخارجية ، الإقليمية منها و الدولية، و كيف أن المراكز الطائفية في صراعها الطائفي السياسي الداخلي لا تجد سبيلاً إلّا الإستقواء بالخارج من أجل قلب موازين القوى في صالحها، و ليس هناك مكان للوطن الجامع في مفهوم الطائفية السياسية، إضافة إلى أنَّ هذا البيان يكشف وعياً عميقاً و مُتَّقِداً لدى قيادة الطائفية عن معنى تجاوز و إلغاء الطائفية السياسية، و تعي أنَّ الدولة الوطنية سوف تلغي مصالحها ، و هكذا فهي تسعى بكل السبل الممكنة من أجل المحافظة على هذه الطائفية السياسية التي تلغي الدولة الوطنية، و جل ما تنادي به في مواجهة مشروع إلغاء الطائفية السياسية هو إصلاح نظام الطائفية السياسية كمن يدعوا إلى إصلاح بيت العنكبوت. أمّا نموذج اللاوعي المُوَجَّهْ و الذي يمثل القاعدة العريضة من جند الطاعة المطلقة ، هذه القاعدة البشرية المُسْتَغَلَّة التي لا تعي وجودها لذاتها بل تعيش وجودها لمصالح قيادتها التي تستغلها إجتماعياً بذرائع دينية و مذهبية؛ هذا النموذج عَبَّرَ عنه مواطن عادي بسيط طيب في لقاء إذاعي مع الإذاعة البريطانية في برنامج لها حول موضوع " العراق بعد صدام " ، فكان رأي هذا المواطن الطيب : " عراق ما بعد صدام أفضل بكثير من عهد صدام ، لأننا اليوم نستطيع أن نمارس طقوسنا المذهبية بكل حرية"... هذا المواطن الطيب لم يذكر أي شيئ عن التغيير في الحياة الإجتماعية و لا الإقتصادية و لا عن الحريات العامة و لا عن العلاقة العقدية التي يجب أن تربط بين القيادة السياسية و القاعدة الوطنية ، بل إنحصر هَمُّهُ و كل ما تبقى من وعيه المسلوب في حرية الطقوس الدينية. لقد إستطاعت القيادة الطائفية التي تعي وجودها لذاتها و تعي بالنتيجة مصالحها الطبقية بنزعة من الأنا المتعالية أنْ تُجَيِّرَ الدين و المذهب لصالحها كي تتمكن من إستغلال و سلب إرادة الوعي لدى الغالبية العاملة في الطائفة؛ و لكن كيف حصل هذا السلب المتقن للوعي عند جند الطاعة في الطائفة؟ هذا السلب يبدأ من المراحل الأولى من حياة الطفل ، التربية المنزلية و التي هي في بيئتنا بعيدة عن النهج التربوي السليم، و التعليم في المراحل المدرسية الأولى، و هذه مرحلة حساسة و حرجة تتشكل فيها الملكة الفكرية عند الانسان، و خلال هذه المرحلة يمكن تعطيل الملكة الفكرية عند الطفل و تحويله الى خزينة للتلقي دون تفكير ، و مع تحويل الملكة الفكرية إلى خزينة نقل الوصايا و النصوص المحدودة و المحددة تتحول ملكة التفكير إلى فكر يدور حول نفسه و كأنه ثور الساقية يدور على مدار الساعة و يخدم غيره دون وعي، لأن الملكة الفكرية المختطفة قد فقدت الوعي بالذات ، فالذات أصبحت مشروطة في خدمة أولياء النقل و الوصاية، و الفكر يفقد قدرته العملية في النقد و الإختيار الحر، فيصبح مكبلاً و متلقياً من جهة واحدة ترقى عنده إلى درجة القدسية المعصومة من أي زلل. نرى أنَّ هذا هو العنصر الأساس و الجذري في بناء جند الطاعة الطائفية ، طبعاً مع وجود عناصر مكملة و مساعدة مثل وجود مراكز التلقين و الحصر المناطقي و الضغط الجماعي ، و أنَّ من العناصر المساعدة بشكل كبير هو معاملة الدولة لتلك الطائفة بنهج طائفي ، كان ذلك بقصد أو دون قصد. و ما كان بالإمكان تَشَكُّلَ جند الطاعة الطائفية و فقدان الوعي الوطني من دون عملية تربوية و تعليمية قادرة على تعطيل الملكة النقدية في الفكر. و عندما يدور الفكر في ساقية الفئة أو الطائفة فإنه يكون قد عزل نفسه عن المكون الوطني العام الذي يشمل جميع المكونات البشرية في جغرافية الوطن. و هذا يمثل تحدياً مصيرياً أمام إستقرار و إزدهار الدولة و التي عمادها الوعي الوطني في ظل عقد إجتماعي مشترك.
#محمد_كمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دم المرأة بين عارها و شرف الرجل
-
المنظومات الفكرية والالتزام العاطفي بها
-
التصورات حول الأوضاع العربية
-
طنين الإرهاب في فرنسا
-
ماضي التضامن وحاضر التشرذم
-
الجنوب اليمني وعودة الوعي
-
الذكر والأنثى والتفاضل بينهما
-
وعود برلمانية في أكفان زاهية
-
آفاق تكنولوجيا المعلومات
-
الانتخابات بين المترشح و الناخب
-
الانتخابات بين المشاركة والمقاطعة
-
الخطاب الطائفي المعارض
-
توظيف الطائفة في الطائفية
-
التمازج بين العقيدة والتاريخ
-
التناظر بين البيولوجيا و الدولة
-
لاستبداد سَيِّدٌ في نفوسنا
-
من الأسرة إلى الدولة
-
الاستبداد يُوَلِّدُ الإرهاب
-
الجغرافيا العربية باحة لحرب المشاريع
-
وأد الديمقراطية في دارها!!
المزيد.....
-
جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك
...
-
احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي
...
-
هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام
...
-
الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست
...
-
استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ
...
-
-رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب
...
-
بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
-
روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
-
رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
-
هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|