الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4840 - 2015 / 6 / 17 - 02:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"سعيد بن حميد الكاتب" ، عامل الخراج بالرقة لدى العباسيين ، يتأهب للسفر فيودع جاريته الممفضلة "شفيع" ، وأثناء الوداع كان يضحك ليزيل عنها وجع الرحيل الجارف ، وكانت تبكي من ماتعانيه من ألم الفراق الطويل .
أثناء ذلك ، أنشد "سعيد" بيتين من الشعر ، نكاد ننشدهما الآن ونحن نعاني من مانعانيه ، غير أن عصر الجواري لم يعد حاضراً الآن :
(( ودعتها والدمع يقطرُ بيننا .. وكذلك كل مودع بفراق
شُغلت بتنشيف الدموعِ شمالها .. ويمينها مشغولة بعناق . ))
ولكن ، لماذا أشغل وقتكم الثمين بحكايةً قديمة عن فراق قديم ؟ وعن جاريةٍ انشغل شمالها بكفكفة الدموع ، ويمينها بالعناق ؟
إنه التشظي بين موقفين ، وهو فعل المراوحة بين اتجاهٍ وخلافه ، وهو الارتباك بين النقيض ونقيضه ، وهو أيضاً ذلك التزاحم بين لسانين والفم واحد .
هو هكذا ، مشهد دولي غريب ، ربما لم يشهده العالم من قبل ، بحيث يستطيع هواة التنبؤ أن يصنفوه بارتياح ضمن علامات نهاية العالم التي تتحدث عنها الكتب .
سوف أغادر الآن مشهد الجارية الحسناء وعاشقها المغادر ، لنتمعن معاً في مشهدٍ أكبر ينشغل بنفس المعنى وتفاصيله أيضاً ، الشمال مشغولة بتنشيف الدموع ، واليمين بالعناق .
في أقصى الشرق ، ثمة دب روسي عتيد ، خبيرٌ في بيان المتاهات المحيرة ، قوى في ذراعيه ، ضعيف في معدته ، تنشغل شماله بالغرب الذي يتربص به من مطلع الدهر إلى مغيبه ، بينما تنشغل يمينه بحديقته الخلفية الثمينة ، أوكرانيا وما أدراك ما أوكرانيا ، حيث القرم ،ومملكة الغاز الكبيرة ، وقنبلة الأقليات الموقوتة ، وهمزة الوصل أو القطع مع أوروبا المتربصة على الدوام .
روسيا إذن تعانق بيد ، وتمسح الدمع بيد ، هناك ، في سوريا ، حيث معضلة الأسد وخط التماس المتأجج مع التطرف المدجج بالسلاح ، وسؤال التقسيم الذي لا ينتهي .
على أن التشظي ليس حكراً على الروس فقط ، إنه يطال أيضاً خصومهم الألداء ، حيث أمريكا أوباما المترددة المرتبكة ، ولكن ، القوية أيضاً ، إذ أن ضعف شخصية أوباما لم يطغ بعد على قوة الساعد الأميركي الذي أسسته الهياكل المتينة الراسخة تقنياً وإدارياً وسياسياً أيضاً ، إن ارتباك الرئيس في النظم الغربية لا يدمر الدولة ، لأن الرئيس عندهم مجرد موظف عام ينفذ أوامر منظومة كبرى لا تسقط بسقوطه في أغلب الأحيان .
أمريكا تفعل ما تفعله جارية " سعيد الكاتب" ، إنها تفاوض إيران وتبيع لها ملفها النووي مقابل بعض المرح في العراق وسوريا ، وتتابع أحداث سوريا وتتدخل في العراق ، وتلتقط قادة التطرف المهمين بملقط العمليات الخاصة ، أو تقتلهم بقناص الطائرات بدون طيار ، هذا في الشرق ، اما في الغرب ، فهي تناوش الروس في حديقتهم الخلفية ، وتقايضهم بالغاز وبمجاميع الانفصاليين ، بينما تلتفت من جديد بقلق بالغ إلى عدم ثقتها بالاتحاد الأوربي الذي تغازله الصين كلما سنحت لها الظروف .
أورويا ليست بمنأى عن هذه الازدواجية ، إنها تتوجس خيفةً من التطرف ، وتعاني كل مرة جرحاً جديداً يضرب أمنها الداخلي ، وتعيش طيلة الوقت بين نارين ، أما مواطن أوروبي يهاجر إلى الشرق ليتطرف ويموت هناك ، وأما نفس المواطن ، يهاجر ويتطرف لكنه لا يموت ، بل يرجع مدججاً بالكراهية لكل ما هو غربي ، مستعداً لتفجير نفسه في أول مبنى يعج بالناس ليضرب منظومة الأمن القومي في مقتل .
إن أوريا تصنع لنا السم كالعادة ، لكنها أصبحت تتذوقه بين الحين والآخر ، وهذا ما يقلقها الآن .
في الشرق ، ثمة عشرات الجواري يعانقن بيد ويمسحن الدموع بيد ، هناك العراق الذي يتشظى شيعة وسنة وأكراد ، ويركض بين الجبهات ، حيث يتوزع ولاء الشيعة بين شيعة ينتمون الى العراق وآخرون تدفع بهم عقيدتهم إلى أحضان ايران ، وبين سنة ينتهجون الوسطية ويتمسكون بها ، وآخرون يمسكون بالتطرف سلاحاً يفجرون به الجميع ، وبين أكراد يجمعهم الاحساس بالخطر فيدافعون عن أراضيهم ويحاولون أن يكسبوا كل يوم ثقة العالم الخارجي بوحدة صفوفهم عوضاً عن تمزق العرب الذي اعتاد عليه الجميع .
في سوريا يبدو المشهد مخيفاً بالفعل ، لم يعد أحد يحصي أعداد الضحايا الآن ، فقد أصبح الأمر حرباً آلية يخوضها رجال آليون ، وسوقاً يزدحم بالمضاربين من كل وطن ، وفي أثناء ذلك يبدو الجيش السوري لغزاً يجنح نحو الخيال ، وسؤالاً يحتاج إلى إجابة ، كيف لم يتمزق بعد هذا الجيش الذي يتناوشه الرصاص من كل جانب ؟ وأي آلية استطاعت حمايته من عوامل التعرية الجبارة التي تحيط به منذ سنوات خمس عجاف ؟
يحدث هذا وسط غياب مفاجيء للدور السياسي الذي مارسته لفترة شخصيات المعارضة السورية في الخارج ، فجأة أطفأ الجميع أنوار غرفهم وخلدوا إلى النوم العميق تاركين أجساد النازحين للرصاص ، وكرامتهم للمذلة ، وبطونهم للجوع .
في الداخل ثمة فوضى قتال عارمة ، أكثر من 500 فصيل وكتيبة ،تتوزع الولاءات بين اسلاميين ومستقلين ، وبين أعداء الأمس وأصدقاء اليوم ، وبين حواجز ولواءات ، وبين كر وفر ، وبين سقوط مدينة وقصف أحياء .
لا شيء يبدأ أو ينتهي في الجبهة السورية ، سوى التدخل الأجنبي الذي يبدأ كل يوم من جديد .
في مصر وتونس ، ثمة يد يبني الدولة ، ويد أخرى تحاول هدمها ، هناك مشروع استقرار يتأسس ، يقابله مشروع تطرف يريد أن يقيم دولته ، ولا يعترف بغيره ، ولا يفاوض ولا يجادل في الأمر .
في ليبيا ، يتعانق الجميع ، ويبكي الجميع ، ويضحك الجميع أيضاً .
في ليبيا ، ساسة بلا تجربة يخوضون غمار لعبة سياسية ، وقامات قصيرة تناوش مشروعاً سياسياً شاهق الارتفاع .
في ليبيا ، أوروبا تخذل أنصارها ، وتجهل أنها ستدفع بعد حين ثمن هذا الخذلان ، وفي ليبيا أمريكا تختار الحليف الخطأ ، وستدرك بعد حين أنها أسلمت قيادها لرئيس مهزوز يعاني من عقدة اسمها " بلد المنشأ " ، فما أنتجته " كينيا " ، لا يمكن له أن يحكم " أمريكا " ، ولو تحصل على كل ما في العالم من أصوات الناخبين .
في ليبيا ، صراع بين فرقاء ، سيحتم عليهم الأمر الواقع أن يتحدوا في نهاية المطاف ، قبل أن ينطبق عليهم ذلك المثل القديم : أكلتُ يوم أكل الثور الأبيض .
في السودان ، ثمة يد في الجنوب ، حيث تضع اسرائيل أيديها ، ويد أخرى في الشمال ،حيث سوء ادارة كل شيء ، وحيث "عصا البشير" تريد أن تتحول إلى "عصا موسى" ، لكن الأنبياء لا يتبرعون بعصيهم إلى أحد ياسيادة الرئيس المنتخب على الدوام .
في اليمن ، ثمة إيران تتواجد ، تصنع من عجينة " اليمن السعيد " ، وصفة تعاسة فائقة الجودة للجار السعودي اللدود ، وتخلق من الحوثيين أعداء لأنفسهم قبل حتى أن يكونوا أعداءً لغيرهم .
في اليمن لا سعادة في الأمر ، كل ماهناك دمار وأبنية تهدم وتطرف ينام ملء جفنيه بينما يموت المئات في جبهة قتال عبثية لا طائل من وراءها .
هذا هو المشهد ، لا أحد ينجو من التشظي ، ولا أحد يسمو فوق أن يتشتت كل شيء فيه بين حل وآخر ، وبين موقف ونقيضه ، وبين يومٍ ويوم آخر مختلف .
مشهد مريع ، عواصفه مميتة ، ودهاليزه بلا حدود ، ومتاهته بلا بصيص نور . سوى الأمل في رحمة الله.
وكأننا نرى الآن جارية " سعيد الكاتب" القديمة ، وكأننا نسمعه يصف لنا ما حدث في تلك اللحظة المشحونة منذ أيام بني العباس الآفلة ، قائلاً وبلغة عربية متينة السبك :
(( ودعتها والدمع يقطرُ بيننا .. وكذلك كل مودع بقراق
شُغلت بتنشيف الدموعِ شمالها .. ويمينها مشغولة بعناق . ))
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟