|
مقاومة - قصة قصيرة
خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد
(Kalil Chikha)
الحوار المتمدن-العدد: 4815 - 2015 / 5 / 23 - 08:32
المحور:
الادب والفن
ذبل النهار وشحب لونه وبدأت الشمس تودع المدينة واعدة بشروق جديد . وباستطاعتك أن تسمع صوت الأولاد وزعيقهم في الأزقة ومشاجراتهم المستمرة حول الرابح والخاسر في كرة القدم التي صنعوا لها من الشارع ملعباً . ولا تمر سيارة بهذا الملعب إلا بصعوبة بالغة ، أو قد يندفع سائق بسرعة جنونية يجعل من الأولاد غباراً ، يتناثرون مبتعدين عن الخطر ، وقد تسمع شتيمة بذيئة على السيارة وصاحبها من فترة لأخرى . اقتعد مصطبته الملتصقة بالبيت كالعادة وهو يقلب الصحيفة . قرأ عنواناً كتب بقلم عريض في أعلى الصفحة (موافقة المنظمة على انسحاب قواتها من لبنان إلى تونس).وبعد أن انتهى من التصريحات السياسية والغطاء الدولي و الكفالات وغيرها ، (صدت) نفسه عن القراءة . تلبسه الوجوم ولم يعد قادراً على الانتقال لأي مسألة أخرى ، بل بدأت اللماذا والكيف والمتى تهرش داخله . كان صخب لاعبي كرة القدم قد هدأ ، وشرع الليل يقذف بخيوطه السوداء إلى المدينة . يقبع البيت في المخيم ، فهو يعمل في مؤسسة النقليات منذ ثلاث سنوات إلا أنه لم ينقطع يوماً عن المشاركة في نشاطات المنظمة . تزوج منذ سنة مضت . كان أخوه يقطن معهم ، إلا أن نقل وظيفته إلى العاصمة أجبره على تركهم والالتحاق بعمله هناك . عندها قررت الأم أن تبقى بجوار ابنها الأصغر أحمد . دخل البيت ، فسمع قرقعة آتية من المطبخ ، وقف عند الباب، فشاهد زوجته تفرك الصحون ثم ترتبها في رف يقع فوق رأسها . وقع نظره على عناقيد الثوم المتدلية من السقف . وانتبه إلى ستائر نافذة المطبخ التي كانت ترتجف جراء اندفاع نسائم خارجية . ومن دون أي مقدمات ، نبر بصوت غاضب: - هل سمعتم، المنظمة تسحب قواتها إلى تونس .. هذا يعني أن المخيمات ستبقى مكشوفة للإسرائيليين ..هذه لعبة جديدة . وما إن أنهى جملته حتى أطل وجه أمه الهزيل وقد غارت عيناها في الجمجمة بقسوة . عقبت على الحديث : -كنت أعرف أن اسرائيل سترغم المقاومة على الانسحاب. استدار نحو أمه فوجدها ما زالت تناضل مستندة إلى الجدار . توقفت قليلاً تستريح من عناء المسافة ثم أردفت: - منذ سنة 48 ونحن نتشرد ونموت ، فليس هناك مانع أن نساوم وننهزم. التفت وهم بالخروج ، فأحس بضيق في صدره ، قال : - أرجوك يا أمي ، كفي عن هذا الكلام المحبط للهمم . هذا هو ما يريد عدونا أن يسمعه !! ومضى خارجاً من المطبخ . لكن تابعت العجوز وهي تنظر إلى سهام هذه المرة وقد أصبح صوتها يعتريه التعب والوهن ، فبدا كأنه موجات متقطعة : - لماذا الهروب من الحقيقة ، هذا ما حصل لنا .. والله ما زلت أذكر أيام النزوح ، خرجنا كقطيع الغنم .. لم نأخذ معنا سوى خرق بالية يا بنتي . صمتت لهنيهة ، ثم استجمعت قواها ، ومن دون أن تلتفت إلى سهام : - كنت صبية في تلك الأيام ، أعدو حاملة طفلتي التي ماتت على الطريق .. كان الغبار يتطاير وصيحات النساء تشق الفضاء ، وهمهمات الرجال تضفي على الجو رعشة رعب ، وتدافع الناس وصراخ الأطفال .. كيف أنسى ذلك اليوم ، كانت ولادة يوم جديد ، يوم مليء بالتعاسة .. كم مرضنا وتقرقفنا من البرد في رحلتنا الموحشة . توقفت عن الكلام وهي ترفع في يدها اليابسة محرمة تمسح دموعها التي أخذت تشق طريقها في أخاديد عمرها أطول من النزوح . وخيم صمت لبرهة قصيرة ، كسرته سهام متفادية النظر إلى العجوز : ـ هذه ذكريات مؤلمة يا خالتي ، فلنشكر الله على أية حال - الله قدير .. فهو يراقب ويعرف أن يهود الشيطان قد ظلمونا . وتتالت الأيام ، وأحمد يأتي للبيت من عمله .يستقبل شباباً كل يوم . يمكثون ساعات يتحادثون ويتناقشون ، ثم يغادرون من دون أن تعرف وجوههم العجوز . وكان أحمد يجلس في الغرفة لمدة طويلة ينكب على تحرير أوراق ريثما يمزقها أو يخفيها عن العيون . وقرع الباب ذات يوم ، فهرعت سهام تفتحه ، وإذ بثلاثة شباب يقفون بعيداً عن الباب ويحملون حقائب صغيرة ، فسألتهم عن حاجتهم ، فطلبوا زوجها . فتقدم أحمد من الباب وأدخل الشباب إلى الغرفة ثم أخذوا يتهامسون في أمور غير مسموعة . وبعد مضي دقائق خرج أحمد واتجه إلى أمه وزوجته وفي نفسه شيء هام سيدلي به ، فاستقبلته زوجته بتلهف خائفة ، ويداها ترتعشان . نظر إليهما ثم حرك يده اليمنى بارتباك : - قررنا أن نلتحق بالمقاومة .. فالحاجة لنا الآن أكثر من أي وقت مضى ندت عن سهام صرخة تبعها بكاء ونواح : - لا .. لن أدعك تذهب .. لا وأنهالت عليها العجوز تعانقها وقد تحولت العيون إلى خوخات حمر . فقالت العجوز وهي تتوسل إليه : - لا تتركنا يا بني .. أرجوك .. ماذا تبقى لي في هذه الحياة؟؟
#خليل_الشيخة (هاشتاغ)
Kalil_Chikha#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاخوة الاعداء - قصة قصيرة
-
تخيلات عائمة - قصة قصيرة
-
شالوم - قصة قصيرة
-
غابة التخلف -قصة قصيرة
-
حفار القبور
-
الثأر والبندقية - قصة قصيرة
-
الزنزانة
-
مدن غير مرئية
-
بداية مجلة المهجر الثقافي
-
المصنع
-
إصدار جديد - ومضة ضمير
-
بحيرة قطينة-قصة قصيرة
-
جمعيات غير تعاونية - قصة قصيرة
-
رغيف خبز - قصة قصيرة
-
الجذور الأولية للرق والاخلاق
-
ما وراء العنف اللفظي
-
بروز داعش
-
الجذر اللفظي للأكل دون ملح
-
القناص الامريكي والانتفاخ
-
تورتيلا فلات والصعلكة السياسية العربية
المزيد.....
-
الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع
...
-
ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع
...
-
في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
-
-يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا
...
-
“أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن
...
-
“أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على
...
-
افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
-
بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح
...
-
سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا
...
-
جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|