أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - مشكلة الحكم في الإسلام















المزيد.....


مشكلة الحكم في الإسلام


أيمن عامر

الحوار المتمدن-العدد: 4802 - 2015 / 5 / 10 - 14:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لقرون طويلة كان أمر الحكم في تاريخ المسلمين مستقراً معروفاً متفقاً عليه ضمناً دون الحاجة إلى كثير من التنظير. كان النظام يسمى «الخلافة»، وكان الحاكم يسمى «الخليفة» أو «خليفة المسلمين» أو «أمير المؤمنين».
ومع تطاول الزمن ومرور الأيام تغيرت هذه الألقاب قليلاً أو كثيراً وتقلبت بين «السلطان» و«الملك» و«الأمير»، غير أن لقب «خليفة المسلمين» لم يسقط حتى آخر الخلفاء العثمانيين، وبإسقاطه انتهى نظام الخلافة، ومن يومها لم يسمِّ المسلمون خليفة لهم ولم يُجمعوا على حاكم ولا على نظام محدد للحكم.
كانت السلطة تنتقل بالوراثة في أيام الاستقرار وإن لم يخلُ الأمر من بعض المؤامرات بهدف نزع السلطان من شخص ما أو تحويل الشرعية من وريث إلى وريث آخر قد يكون أخاً للحاكم أو ابناً أو قريباً ينتمي في النهاية للأسرة الحاكمة.
وعندما يضعف البيت الحاكم ويؤذن الزمان بزوال دولته يظهر شخص آخر ذو بأس وقوة وأتباع فينزع الحكم لنفسه ولورثته من بعده. وكانت الناس تخضع لأمره دون كبير معارضة، إذ الأمر للقوي المتغلب على أي حال ولا يصح الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح لا شبهة فيه. واحتمال جور الحاكم أو ظلمه خير من فتنة لا تُبقي ولا تذر. ومن ثم أُمر الناس بالسمع والطاعة والصبر إلى أن تتغير الأحوال.
ولم يكن المسلمون بدعاً في ذلك بين الأمم، إذ لم يختلف الأمر بينهم وبين غيرهم من المجتمعات سوى في المظاهر والأسماء، أما الجوهر فواحد أو يكاد يكون واحداً.. ملك على رأس السلطة، تحته الولاة والوزراء، ثم مجموعة من العلماء أو الحكماء أو رجال الدين للمشورة في الأمور العظيمة ذات الشأن، سمِّ الحاكم بعد ذلك ما شئت: السلطان، الخليفة، الأمير، الملك، قيصر، كسرى.. لا بأس.
أما القوانين فتكفلها الشريعة والفقه بمقاييسه وأصوله من قرآن وسنة وإجماع وقياس واستحسان وتقبيح ورعاية المصلحة العامة. ولا بأس إن جدَّ في الأحوال جديد أن تُستنبط له الأحكام المناسبة، ولا بأس كذلك إن شذَّت الأهواء وتعارضت المصالح والمطامح وأطلقت النفوس أعنّة الانتقام أن تُخترع وسائل للعقاب والتعذيب لم تكن معروفة من قبل، ولا بأس كذلك إن لم تقرها الشريعة، ففي المجال متسع، وباب الاجتهاد واسع، والسلطان حاكم بأمره يفعل ما يشاء ما لم يأت بكفر بواح، وليس في وسع أحد تكفيره أصلاً ما دام ينطق بالشهادتين وما دام هو خليفة المسلمين. الحبس ليس له مكان في الشريعة، لكن إذا ما دعت الضرورة إليه فليكن. وتعذيب المعارضين والتمثيل بهم ليس من الشريعة ولكن لا بأس إن دعت شهوة الانتقام إلى ذلك. وخبّرني إذا شئت: أفي شريعة دين أو إنسانية الإعدام بالخازوق؟ والقضاء كان له رجاله وكان يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية، إذ هو يختص بفضِّ المنازعات بين الناس وليس للصراعات السياسية دخل فيها. والمذاهب الأربعة قائمة والمدارس تُخرج القضاة، ولكل حالة أحكامها.
أما أعمال الإدارة والوزارات فهي شأن سياسي صرف تُقتبس فيه نظم الإدارة الساسانية وغيرها مما تدعو إليه الحاجة والظروف.
إذن لم يحتج المسلمون عبر ذلك التاريخ الطويل إلى تنظير كبير في شأن شكل الحكم وأمر الخلافة. لم يتغير العالم من حولهم إلى الدرجة التي تلجئهم إلى التفكير في أمور الحكم، ولم تضطرب أحوالهم أو تضعف إلى الحد الذي يزعجهم ويحوجهم إلى التفكير والتنظير. كانت الأمور مستقرة والحياة قائمة.. وإذا نشط العمل قَلَّ التنظير.
عرَّف المسلمون الأوائل الخلافة بأنها «رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي». ولم تخرج سائر التعريفات كثيراً عن هذا التعريف الذي أورده التفتازاني.
***
في بدايات الدولة الإسلامية كان النبي على رأسها حاكماً ومشرعاً وقائداً وقاضياً إذا لزم الأمر، يستعين بكبار الصحابة ويشاورهم أحياناً، لكن الأمر في النهاية إليه. يأمر فيُطاع، ويحكم فينفذ حكمه، ويقود فيُتبع، ويقول فيُسمع. وذلك أمر بديهي، إذ هو صاحب الدعوة المؤيد بالوحي وما كان لمؤمن بدعوته أن يخالفه: «من يطع الرسول فقد أطاع الله».. «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله».. «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم». والقرآن مليء بالآيات التي تأمر عموم المسلمين بالسمع والطاعة حتى في أخص الأمور الشخصية.
غير أن النبي قد انتقل إلى ربه دون أن يوضح هذه المسألة، مسألة الحكم، وهذا ما فتح باباً كبيراً للفتنة والفُرقة والخلاف والصراع المسلح الذي أُزهقت فيه الأرواح وأُسيلت الدماء وهُضمت الحقوق.
ليس بين أيدينا في القرآن ولا في السنة ما يكفي لبيان أمر الحكم في الإسلام. بل إن ترك هذا الأمر دون بيان لم يُفلح في إقناع المسلمين إلى اليوم بأمر السلطة: هل هي من الدين، أم أن أمرها متروك للسياسة وظروف الاجتماع وأحوال التطور بفعل الزمان؟
مات النبي دون أن يعين من يخلفه، ودون أن يحدد للناس كيف يختارون من يحكمهم ولا كيف يحكمهم. وما أن توفي النبي حتى ذرَّ قرن الفتنة واجتمع الناس في سقيفة بني ساعدة والنبي لم يكفن بعد يتنازعون أمر السلطان، ولو كان القرآن أو السنة قد وضحا الأمر لقلّ شأن الخلاف، غير أن ذلك لم يحدث وتُرك الأمر للاجتهاد بما شابه من نزاع وخلاف، واشتجر المهاجرون والأنصار حتى قالوا منا أمير ومنكم أمير، لولا أن وضع عمر يده في يد أبي بكر مبايعاً فتابعه الناس وقُضي الأمر، وأفهم المهاجرون الأنصار أن هذا الأمر، أمر الحكم، لقريش وللمهاجرين دون غيرهم، وقال أبو بكر إن رسول الله قال ذلك.
وإذا كان النبي لم يستخلف أحداً، فإن أبا بكر قد استخلف عمر، وعمر حدّد ستة أسماء للاختيار من بينهم، أما عثمان فقُتل ولم يُمهل حتى يستخلف، واختلف أمر البيعة على عهد علي، بعضهم بايعه في المسجد ثم تراجع عن بيعته، ورفض معاوية تنصيب علي وتمسح في الثأر، مطالباً علياً بالقصاص من قتلة عثمان. واتسع أمر الخلاف أو الصراع الذي سُمي في الأدبيات الإسلامية «الفتنة»، ولم يلبث علي أن قُتل، قتله عبد الرحمن بن ملجم ضمن خطة لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، بعدما ارتأى الخوارج أنهم سبب الفتنة.
وكلكم تعرفون واقعة التحكيم التي ابتُغي فيها الفصل في الخلاف بين علي ومعاوية، فلجأ معاوية وأنصاره إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح طلباً لتحكيم كلام الله في هذا الخلاف. والمشكلة أن القرآن - كما قلنا - لم يتكلم في شأن السلطة في الإسلام. والنص، كما رُوي عن علي، لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال، وهو حمّال أوجه يمكن لكل من شاء أن يذهب في تأويل كلماته مذاهب شتى. لم يسعف القرآن ولا السنة المسلمين لحسم هذا الخلاف ووضع قواعد واضحة يستضيء بها الفقهاء والمفكرون والمشرعون أمر السلطة السياسية.
وبعد مقتل علي وتنازل الحسن عن الخلافة، صار الأمر لمعاوية وفعلت سياسة الواقع وقوة الغلبة فعلها، فصار الأمر لصاحب الشوكة والقوة، ثم لمن يرثه من أسرته وأهل بيته، حتى عرف تاريخ الإسلام حكم الأسرة الممتدة، بل عُرف زمن الحكم أو الدولة باسم الأسرة الحاكمة أو مؤسسها الأول كالعصر الأموي فالعباسي، أو الفاطمي وحتى الإسماعيليين، انتهاء بأمر المماليك والعثمانيين الذين كان منهم آخر خليفة للمسلمين.
***
قلنا إن أمر الخلافة أو السلطة أو الحكم في الإسلام لم يشغل بال العلماء المسلمين المفكرين أو المنظرين كثيراً، فلم يضعوا في ذلك نظرية ولا تفاصيل ولا مناهج واضحة تبين وسائل منضبطة للحكم أو انتقال السلطة وتوزيع الأمر على فروع شتى من العلوم. كان أمر الخلافة غالباً ما يختص به علم الكلام الذي يبحث في أمور العقيدة، وكانت التشريعات من نصيب الفقه وكذلك أمر القضاء. وقلنا إن طبيعة المجتمعات ونظم الحكم لم تحوج المسلمين إلى الخوض طويلاً في هذا الأمر، كما أن وجود السلطة كأمر واقع واستقرار المجتمعات الإسلامية وانحصار الصراع بين راغبي السلطة والوصول لذلك بقوة السيف جعل أمر التنظير يدور مع السلطان. ومن أسفٍ أننا لا نجد من المفكرين المسلمين الأوائل من حاول أن يبتعد عن أمر السلطة الواقع بالفعل ليستخلص نظريات واضحة في الحكم. وساعد على ذلك تطوع عدد لا بأس به من فقهاء السلطان ورواة الأحاديث لترسيخ الأمر الواقع وشرعنة وجود الحاكم المتسلط بالغلبة والقهر تحت دعاوى أن ظلم الحاكم وجوره خير من الفتنة، وتحت دعاوى أحاديث من مثل «اسمعوا وأطيعوا ولو أُمِّر عليكم عبد أسود كأن رأسه زبيبة».. و«اخضع للحاكم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك». وكان من السهل جداً وقتها التنازل عن الشروط الواجب توافرها في الخليفة، وأولها بالطبع كون الخليفة قرشياً.
إن هناك ما يشبه الإجماع بين أهل السنة على وجوب نصب إمام للمسلمين يخلف النبي في حماية شئون الدين وسياسة أمور الدنيا، ولم يشذ عن ذلك إلا بعض الخوارج الذين قالوا إنه لو استقام أمر الناس فيما بينهم فليس شرطاً تنصيب خليفة أو إمام.
وعلى الناحية الأخرى - أي عند الشيعة - ثمة إجماع على نصب الإمام شريطة أن ينتسب هذا الإمام إلى أهل البيت، لا أن يكون قرشياً فحسب، وهذا الخلاف لا يزال قائماً إلى يوم الناس هذا.
***
ولما أعلن كمال أتاتورك إلغاء «الخلافة الإسلامية» في سنة 1924 ثار الجدل الذي لم ينته إلى اليوم ولا يبدو أنه سينتهي في الأفق المنظور. لقد وجد المسلمون أنفسهم لأول مرة بلا خليفة، أي بلا حاكم ولا سلطان، فوقعوا في الحيرة وانتهبتهم الأسئلة.
لقد تغير وجه الزمان، وهبّت على العالم الإسلامي رياح عاتية من الغرب ذلك الخصم العنيد. وفي ظل استكانة المسلمين واستنامتهم كانت التغيرات العنيفة تُعيد تشكيل أساليب الحكم، بل أساليب الحياة كلها في الغرب. لقد سقطت سلطة الكنيسة نهائياً، وتراجع دور الدين في تنظيم حياة الناس في المجتمع وبُنيت السياسة والاجتماع والقضاء على أسس جديدة تماماً قوامها التفكير الإنساني المستقل القابل للتخطئة والتصحيح، ومن ثم ظهرت نظريات مثل العقد الاجتماعي، وتكلم المفكرون عن «روح القوانين» و«ثروة الأمم».. واندلعت ثورة فكرية علمية تُخضع كل شيء لسلطان العقل والتفكير والبحث والتجربة، بدءاً من علوم الطبيعة والكيمياء إلى نظريات الاجتماع والاقتصاد والحكم أو السياسة.
رُفعت شعارات مختلفة من عينة «أنا أفكر إذن أنا موجود».
وأُخضعت حتى الأفكار الدينية التقليدية لأنوار العقل، فكُتبت كتب من مثل «الدين في مجرد حدود العقل وحده» ووُضع «الأورجانون الجديد». وأُلغي الاحتكار وانطلقت الرأسمالية تحت شعار «دعه يعمل دعه يمر»، ورُفع شعار «الحرية والإخاء والمساواة»، وحلّت الدول القومية الحديثة القائمة على أساس الجغرافيا والانتماء القومي محل الإمبراطوريات القديمة التي كانت قائمة على أسس التوسع أو الانتماء الديني.
أنشئت الجامعات والمعاهد والمدارس لتلقي العلوم والمعارف القائمة على البحث والنظر والتجريب وتدوين النتائج، وليس على استنباط الأفكار من الكتب المقدسة.
وقامت الدولة الحديثة على نفس الأسس، أي التجربة والخطأ والتعددية، تعددية النظر وأساليب التفكير، ومن ثم تعددية المذاهب والأحزاب، وتداول السلطة والرقابة تجنباً للاستبداد واستمرار الخطأ. لم يعد ثم مكان للمثالية الدينية ولا حتى مثالية الشعارات. حتى الحاكم الصالح يفسده البقاء على عرش السلطة دون رقابة ولمدة طويلة، إذ سرعان ما يصم أذنيه عن سماع صوت غير صوت نفسه، فيستبد ويطغى ويتحول إلى نصف إله يسعى في الأرض بالخراب. من ثم كان لابد من الرقابة والتنافس على السلطة وترك حرية الاختيار للشعوب.
***
هبّت هذه الرياح العاتية على العالم الإسلامي، ليس في صورة أفكار فحسب، فما أسهل إنكار الأفكار والتغاضي عنها، وإنما جاءت في صورة قوة مسلحة تجتاح البلدان الإسلامية فترى منها ما لم تكن تعهده من قبل. وكان لابد من الزلزال.
أخذت الطليعة المفكرة في العالم الإسلامي تنظر في أمرها وأمر مجتمعاتها.
وفي سنة 1925 أصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ليقول فيه ما خلاصته «إن رسول الله كان نبياً رسولاً ولم يكن ملكاً ولا سلطاناً، وإن الخلافة اجتهاد بشري في أمر السلطة والحكم وليست من أركان الدين في شيء».. فهاجت الدنيا وماجت، واستنكر الناس هذا الكلام، وقوضي الشيخ وأُخرج من زمرة علماء الأزهر، وأُلفت في الرد عليه عشرات الكتب.
ومن يومها دخلنا في فوضى عنيفة جداً، ويكفيني أن أقول لك إنني عندما أردت أن أقول كلمة في مسألة السلطة في الإسلام أحببت أن أكون على بيّنة من أمري، فراجعت عشرات الكتب في هذا الشأن، والمشكلة أنني لم أستطع أن أخرج منها بكلام واضح يمكن أن يُبنى عليه شيء، حتى إنني خشيت أن أي مزيد من الكتابة في هذا الشأن سيزيد الفوضى لا أكثر. غير أنه لابد مما ليس منه بُد. علينا جميعاً أن نتحمل هذه التبعة ونفكر فيها لعلنا نستطيع الخروج من هذا المأزق.
لن أزعجك معي بما قيل في هذه المسألة بالتفصيل، لكن سنعرض بعض الآراء كنماذج في هذا النقاش.
***
كانت معظم الردود على الشيخ على عبدالرازق، إن لم تكن كلها، ترفض كلامه وتقر بأن أمر الخلافة أو تنصيب الإمام أمر واجب من الناحية الشرعية، ولما لم يجدوا لذلك دليلاً في القرآن لجأوا إلى الأحاديث حتى الضعيف منها، وكانت دعامتهم الكبرى هي الإجماع، وكان أشهر من رد على الشيخ على عبدالرازق الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم».. غير أن الطريف في الأمر أن ثمة فقيهاً قانونياً ودستورياً كبيراً، هو الدكتور عبدالرزاق السنهوري، رفض كلام الشيخ علي، وأيّد أن الخلافة واجب شرعي، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى تفصيل كيفية انتخاب الحاكم وشروطه.. إلخ.
وحاول بعضهم الخروج من متاهة الخلاف وإبداء بعض المرونة فقالوا إن كل مجتمع يفرز شكل الحكم الذي يناسبه، ولقد كانت الخلافة تناسب مجتمع المسلمين في زمانها، وهي تتسع لأشكال الحكم الحديثة والمعاصرة، ومنهم من قال إن الخلافة واجبة من حيث المضمون والمحتوى وليست واجبة من حيث الشكل، ومنهم من قال إن نظام الخلافة مرن جداً ومتسع جداً بحيث يستوعب أساليب الديمقراطية والانتخابات الحديثة. على أنه مازال هناك من يقول إلى يومنا هذا إن الخلافة الإسلامية، وفي شكلها القديم، واجب شرعي يأثم المسلمون بالتخلي عنه، ويزيد أن الحكم الإسلامي لا يقبل الديمقراطية، فلا انتهاء لمدة ولاية الحاكم ولا عزل له إلا بما يكفّره أو يُخرجه عن الملة، ولا مكان للأحزاب السياسية في الحكم الإسلامي الرشيد، وإنما هناك أهل الحل والعقد للمشورة فحسب.
***
ورغم هذه الأصوات المتداخلة، وكلها يزعق بصوت عال قوي أو مبحوح، فإن الغريب أن ثمة إجماعاً بينهم جميعاً على أنه «لا كهنوت في الإسلام»، وأن الإسلام لم يعرف الحكم الديني أو الثيوقراطي، ويزعمون زعماً عريضاً بأن الحكم الإسلامي هو حكم مدني في الأساس، بل إن منهم من يستشهد بحكم النبي في المدينة، ثم يرفع شعاره زاعقاً وصارخاً بأن الحكم الإسلامي حكم مدني وأن الأمة هي مصدر السلطات.
وهنا موضع اللبس ومنشأ الفوضى العنيفة والخلط بين كل الأوراق دون وعي ولا تفكير ولا إجهاد للذهن.. أعني الفوضى والتداخل بين ما هو ديني وما هو مدني.
إن كل أحد من هؤلاء الصارخين بأن الحكم في الإسلام مدني لابد أن يكمل جملته بأن الشريعة هي الحاكمة على الجميع، ويروّج لذلك بأشد الأقوال تناقضاً، أي بأن الشريعة هي التي تضمن الحرية وعدم الطغيان. ونحن هنا نقع في فخ المظاهر والأشكال، فالحكم الديني عند هؤلاء لا معنى له إلا أن يتولى السلطة السياسية رجل دين، ناسين أو متناسين أن الحاكم الإسلامي طوال تاريخ الإسلام كان يجمع في يديه السلطة الزمنية أو السياسية، والسلطة الدينية. في الغرب حكم رجال الدين أمور السياسة، وفي الشرق كان الحكام السياسيون يتولون شئون الدين.
***
وهؤلاء المفكرون (أو هكذا يزعمون) لا يريدون مواجهة الحقيقة ولا يريدون ممارسة نقد عقلاني لا يراوغ ولا يرفع الشعارات.
الحكم الديني ليس له شكل محدد، وليس شرطاً فيه أن يتولى الحكم رجال الدين. إنما الحكم الديني في النهاية هو كل حكم يزعم أنه يستمد أوامره ونواهيه من السماء، ويحاول تطبيق شرائع دينية أو سماوية. ولو جاءنا رجل سياسة حديث يلبس البدلة وربطة العنق ويشرب الخمر وتقابل زوجته الرؤساء عارية الصدر، ثم حكم الناس بأحكام دينية يستمدها من نصوص مقدسة، فهذا حكم ديني وإن صدر من فاسق أو علماني أو كافر.
والحكم المدني هو الحكم القائم على الفصل بين السلطات وتشريع القوانين حسب تغير الظروف والأحوال ومراجعتها كل حين من أجل ترقيتها وملاءمتها للواقع وتحقيق النفع العام بناء على مصالح الناس وأحكام العقل والمنطق. الحكم المدني قائم على استمداد السلطة من الشعب ورضاه وقدرته على رفض الحاكم واختيار غيره بناء على تحقيق المنفعة العامة للناس أو لأكبر عدد ممكن من المواطنين، في الحكم المدني مذاهب سياسية شتى وأفكار لا حصر لها وأحزاب تتنافس من أجل كسب أصوات الناخبين وصولاً إلى السلطة لتنفيذ برامجها السياسية وأفكارها الاقتصادية التي روّجت لها وهي خارج الحكم وقبل الانتخاب.
الحكم المدني معناه ترك الناس أحراراً في سلوكياتهم وحياتهم الشخصية، ما لم يتسببوا في الإضرار بغيرهم.
في الحكم المدني يكون عمل السلطة والحكومة هو الفصل في منازعات المواطنين، وخدمة الشعب ورعاية مصالحه ببناء المدارس ورصف الطرق وتوفير أساسيات الحياة للمواطن بغضّ النظر عن عرقه أو جنسه أو دينه.
في الحكم المدني ليست هناك تشريعات باتّة ولا نهائية لأنها هبطت من السماء أو وردت في كتاب مقدس، ليس هناك أهل ذمة ولا جزية ولا سبي ولا استرقاق ولا ديار كفر وديار إيمان. هناك وطن يجمع كل من يعيش فيه ويلتزم بقوانينه، فلا يفرق النظام بين أحد من المواطنين إلا وفق المواطنة والالتزام بالقانون.
***
إن ثمة إشكالاً عويصاً في فهم مسألة السلطة أو الدولة في الإسلام سببه الأساسي أن ثمة لبساً صعباً في أفهام المسلمين وتصورهم عن وضع النبي ما بين الدعوة والدولة. هل كان النبي مجرد صاحب رسالة يبلغها إلى العرب وإلى الناس كافة، أم كان مُلزماً بتطبيق أوامر وتشريعات إلهية تحتمها رسالته، أم أنه كان رجل سياسة يقيم دولة على أساس شريعة دينية؟ باختصار: هل كان صاحب رسالة ودعوة، أم كان ملكاً صاحب سلطان، أم كان الأمرين معاً؟! وإذا راجعت ما كُتب في هذا الشأن فسترى العجب العُجاب ولن تصل إلى قول يطمئن إليه عقلك وقلبك.
إذا كان النبي صاحب رسالة ودعوة فقط فكيف نصنّف الدولة التي أنشأها، وكيف وأين نصنّف الأعوام التي قضاها في المدينة، ثلاثة عشر عاماً ينظم المجتمع ويسوس الشعب ويضع الأسس وقواعد الحكم ويجيّش الجيوش ويقودها بنفسه أحياناً، أين نضع كل هذا؟!
ولماذا كان حريصاً على إقامة مجتمع من المسلمين فقط أو على الأقل يخضع في حكمه في كل تفاصيل الحياة إلى أسس الشريعة الإسلامية؟
ولماذا نُسب إليه أنه قال: «أخرجوا اليهود من جزيرة العرب، لا يبقى في جزيرة العرب دينان».. أليس هذا ربطاً بين السياسة والدين، ولماذا فُرضت الجزية على غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؟ لماذا رُفضت كل أشكال الحكم غير حكم الله الإسلامي؟ ولماذا نُسب إليه أنه قال لقومه: «اتبعوني وقولوا كلمة تملكون بها كنوز كسرى وقيصر»، ولماذا نُسب إليه أنه قال: «اغزوا تغنموا بنات الأصفر»، أي نساء الروم الجميلات صُفر الشعور خُضر العيون؟!
إذا كان النبي صاحب دعوة فلماذا لم ينشغل بالدعوة ويترك أمر الحكم والسياسة لأصحاب السياسة؟!
هل كانت دعوته كدعوة عيسى الذي ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أم كدعوة موسى وداود وسليمان هدفها إقامة مجتمع على أسس رسالة سماوية وإقامة حكم وملك؟!
هذا هو اللبس الأول، أما اللبس الثاني فهو مسألة «الخليفة»، خليفة من هو، ووارث من هو، وماذا يرث، وفي أي شيء يجري استخلافه إن لم يكن في أمور الحكم والسياسة؟ أيجوز لهذا الخليفة أو الحاكم أياً يكن لقبه أن يتخلى عن الشريعة، أيجرؤ أن يحكم بغير ما شرع الله ورسوله ثم يبقى له لقب «الخليفة»؟! أوَعبثاً قال التفتازاني إن الخلافة «رسالة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي»؟!
***
لم يكن النبي مجرد صاحب دعوة ولا مجرد مُبلغ رسالة عن ربه، لقد كان منشئ مجتمع جديد بعقيدة جديدة وشريعة جديدة. كان حاكماً ورئيساً وملكاً ونبياً أنشأ دولة العرب والمسلمين على أسس عقائدية وتشريعية جديدة مخالفة لما كان سائداً، والخليفة أو حاكم المسلمين مُطالَب بأن يُقتدي به ويقتفي أثره ويحافظ على دولة الإسلام. ودون هذا الفهم لا مخرج لنا من هذه الفوضى.
إن كل دعوة دينية هي دعوة سياسية في الأساس، بالمعنى الواسع للسياسة، ذلك أن الدين منذ عرف البشر الدين هو أيديولوجيا أو فكرة عامة يتشبّع بها المؤمن فتحكم سلوكه في كل تصرف من تصرفات حياته، بل ينبغي أن تحكمه في كل حركة وسكنة، إنه أسلوب حياة شامل لا يترك شيئاً يفلت منه، وإلى أين تذهب السياسة إذن إذا هي لم تلتزم بهذه الأيديولوجيا الدينية، بل إن الدعوة الدينية لأعم وأوسع من ذلك، إذ يمتد سلطانها إلى الوجدان والضمير مما لا سلطان للسياسة ولا للقانون عليه.
صحيح أن التاريخ شهد دعوات أفسحت مجالاً واسعاً للنشاط السياسي، كالبوذية ودعوة المسيح في أصلها، غير أن الغالب على الدعوة الدينية أنها تشتبك مع السياسة وتبتغي السيطرة عليها من أجل فرض الهيمنة على الأفراد المؤمنين بها والتزامهم بسياساتها وتشريعاتها، بل وإخضاع غير المؤمنين بها إلى قوانينها ما داموا يعيشون في ظلها.
إن كل هارب من هذه الأساسيات بالقول إنه لا دخل للدين في السياسة، وإن الهدف الأول والأساسي للدين هو الإشباع الروحي للإنسان سيصطدم بأولئك المصرين على إنشاء مجتمع مسلم ملتزم بشريعة السماء، ملتزم بنظام سياسي خاضع لأوامر الإله، وبين أيديهم من النصوص ما يؤيد كلامهم. ولابد لهذه الأزمة من مخرج، ولابد لهذا الإشكال من حل.



#أيمن_عامر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكهنوت في الإسلام (٣-;-)
- الكهنوت في الإسلام (٢-;-)
- الكهنوت في الإسلام (1)
- هم صنيعتنا
- مكانة الحرية الدينية
- الإسلاميون والتكنولوجيا
- مثلث الرعب: التكفير - القتال - السلطة (الحاكمية)
- محاولات الإصلاح من داخل السياق
- لماذا تتعثر محاولات الإصلاح الديني؟
- من أين جاءت داعش؟


المزيد.....




- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - مشكلة الحكم في الإسلام