أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - الكهنوت في الإسلام (٣-;-)















المزيد.....

الكهنوت في الإسلام (٣-;-)


أيمن عامر

الحوار المتمدن-العدد: 4787 - 2015 / 4 / 25 - 21:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وزَّعت مجلة الأزهر مع عددها الصادر في شهر شوال لسنة 1433 هـ هدية مجانية عبارة عن مقتطف من كتاب «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، عنوان الكتاب كان «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والطريف أن معد الدراسة ومقدمها الدكتور محمد عمارة اختار أن يسبق هذا العنوان بعنوان آخر هو «فقه مقاومة الاستبداد» وإذن فالعنوان يبشر بأن الكتاب سيكون مائدة غنية عن الحرية في الإسلام ومقاومة الاستبداد والقهر.. هذا ما كان متوقعاً، خاصة أن د. عمارة يقول في تقديمه للكتاب: «في الإسلام - وحضارته وتاريخه - كانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التعبير عن (مشروعية) المقاومة للاستبداد والثورة ضد الظلم والفساد والإفساد».. ويقول أيضاً: «ولقد أكد القرآن الكريم على أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الفريضة الجامعة (كتبت الجماعة خطأ) لكل ميادين الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية، وعلى أن وجوبها شامل لكافة المكلفين من الرجال والنساء. إنها فريضة عامة على عموم الأمة، وفريضة خاصة على النخبة والصفوة من العلماء والقادة والحكماء».
القضية واضحة جلية إذن ولا لبس فيها.. المسألة ليست مجرد آية أو آيات يهتدي بها الناس، وإنما هي وبنص كلام عمارة «فريضة»، وهي فريضة جامعة «لكل ميادين الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية»، وهي فريضة واجبة وجوباً شاملاً لكافة المكلفين بها من الرجال والنساء. إنها باختصار «فريضة عامة على عموم الأمة». ثم سرد عمارة من الآيات والأحاديث ما يؤكد هذه الفريضة الجامعة.
ثم يثني عمارة على الغزالي بقوله إنه كان من العلماء الذين جمعوا تراث الأمة في مقاومة الاستبداد وقعَّدوا القواعد الشرعية للإنكار على المستبدين، وإنه - أي الغزالي - اجتهد في كتابه الفذ إحياء علوم الدين في تحويل فقه مقاومة الاستبداد من أحكام فقهية جامدة إلى خُلق يحكم حياة الناس وروح تسري في العقول والقلوب لتحرك الملكات والطاقات لمقاومة منكرات الاستبداد والفساد.
عظيم جداً.. لننظر إذن ماذا قال حجة الإسلام في هذه القضية وما هو تصوره العظيم لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتنفتح لنا آفاق الحريات على آخرها إن كان لها آخر.
ولكن دعوني قبل ذلك أشير إلى المكانة العظيمة التي يتبوأها كتاب إحياء علوم الدين لدى المسلمين، وبحسب ما أورده عمارة نفسه، يقول: «ويُعد كتابه إحياء علوم الدين دائرة معارف موسوعية، بعثت الروح والأخلاق والإخلاص في علوم الدين فأنقذتها من موات الجمود وجفاف التقليد حتى قال عنه الإمام النووي: كاد الإحياء أن يكون قرآناً».. ويضيف شارحاً ومعظماً ومورداً شهادة كبير آخر من كبار علماء الإسلام هو الشيخ محمد عبده فيقول: «أما كتاب الغزالي إحياء علوم الدين الذي نقدم بين يدي صفحات منه جسَّدت طرفاً من ملحمة مقاومة أمتنا للظلم والاستبداد والفساد فيكفي أن نذكِّر بما قاله عنه الإمام محمد عبده: إنه الزاد الفكري الذي لا يجوز لمسلم أن يسافر سفراً طويلاً دون أن يكون رفيقه في السفر.. إننا أمام صفحات من أمجد صفحات تاريخنا الفكري والحضاري نقدمها للعلماء والباحثين والقراء إحياء لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة المقاومة لظلم الولاة واستبداد المستبدين، ذلك أن تقديم هذه الصفحات في واقعنا المعاصر هو واجب نحيي به فريضة كبرى من فرائض الإسلام».
***
لقد أطلت في نقل ما قاله عمارة وبنص كلامه كي لا نترك مجالاً لمتصيد أن يقول إننا نقتطع الكلام من سياقه، ونؤكد أن هذا ما يراه عمارة ومعه سائر المتكلمين عن «الفكرة الإسلامية» أو «الصحوة الإسلامية» أو «الخلافة» أو «الأمة الإسلامية»... إلخ، ويمكننا أن نجمل ما يهمنا في كلام عمارة فيما يلي:
- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة واجبة بأدلة القرآن والسنة.
- هذه الفريضة علامة من علامات عظمة التاريخ الإسلامي وخير دليل على مقاومة الظلم والاستبداد والفساد والإفساد.
- خير من تكلم في ذلك وأوضحه وأجلاه وجدَّد له أخلاق المجتمع بل جعل هذه الفريضة حية كالماء يسقي الشجر هو حجة الإسلام أبوحامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين».
- إذا تمسكت الأمة بهذه الفريضة فستستعيد أمجادها وعظمتها بلا شك في ذلك.
***
والآن فلننظر في كلام الغزالي نفسه.
تحت عنوان «في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته والمذمَّة في إهماله وإضاعته» يقول الغزالي: «ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه والآيات والأخبار والآثار، أما الآيات فقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين»، ثم استشهد بآيات وأحاديث كثيرة وشرح وفصَّل ليؤكد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة واجبة.
ثم تكلم الغزالي عن أركان الأمر بالمعروف وشروطه، فقال:
«اعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة: المحتسب والمحتسب عليه والمحتسب فيه ونفس الاحتساب».
واشترط الغزالي للمحتسب أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونوا مأذونين ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة.
ويوضح فيقول: «حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفاً فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي، وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف، فإن هذه قربة وهو من أهلها».. «نعم: في المنع بالفعل وإبطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تُستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته، فإن للصبي أن يفعل ذلك».
***
الذين يقولون إنه لا كهنوت في الإسلام، وكلهم يقولون ذلك، وعلى رأسهم هنا محمد عمارة، يمتدحون كتاب الغزالي وينشرون فصولاً منه على أنها صفحات مجيدة بيضاء في تاريخ أمجاد الإسلام لا سيما ما تمتع به من حرية وكرامة للجميع، ثم ينتقون من هذه الصفحات قضية في غاية الأهمية والخطورة هي قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو «الحسبة» ويقرون أنها فريضة واجبة بحكم القرآن والسنة والإجماع وكلام الغزالي الذي هو كالقرآن في رأي الإمام النووي، ثم يأتي الغزالي هذا الهرم العظيم صاحب الكتاب الذي لا يجوز لمسلم أن يسافر سفراً طويلاً دون أن يكون معه - على حد قول الإمام محمد عبده - يأتي هذا الغزالي ليقول إن «الحسبة» فريضة واجبة وإن لها شروطاً أربعة، ويشترط في المحتسب أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً، وهذا المحتسب له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بيده، ولو كان صبياً غير مكلف بذلك من وليِّ الأمر، له أن يريق الخمر ويكسر الملاهي، وإذا فعل ذلك نال بها ثواباً. وليس هذا فحسب، بل.. ولم يكن لأحد منعه، فإن هذه قربة له وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات.
لا يحق لمسلم معاصر أن يتعجب إذن إذا ما رأى فرداً أو جماعة تلبس الجلابيب القصيرة وتطلق لحاها أن تمشي في الناس تحطم آلات الموسيقي وتهدم الأفراح والاحتفالات والمسارح ودور السينما ومحلات الخمور!
بل إن هذه السلطة في الأمر بالمعروف تُستفاد بمجرد الإيمان. والمثال الذي ضربه الغزالي هو «قتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته». وإذن فإن قتل فرج فودة وطعن نجيب محفوظ لا بأس به إطلاقاً. ألم يُفتَ بشركهما.. أوليس من الجائز للصبي المراهق أن يمارس حقه بل واجبه في تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
وانظر إلى الفلسفة التي ينطلق منها الغزالي عند وضع شروط أو مواصفات المحتسب يقول: «أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة».
إن الغزالي يجيز ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمسلم ولو كان صبياً، ولو كان فاسقاً، يجيز له أن يريق الخمر ويكسر الملاهي وأن ينزع عن لابس الحرير ثوبه، فهذا جُرم عظيم.. كيف يرى المسلم (صبياً كان أو فاسقاً) رجلاً يلبس الحرير فلا يغضب لحرمات الله التي تُنتهك جهاراً نهاراً ولا يتحرك.. يا للهول!! وإذن فالصبي والفاسق يجوز لهما نزع هذا الثوب الحريري الذي يلبسه الرجل العاصي عدو الله وأن يجعله ممسحة يمسح بها القاذورات. هذا ما يليق بك يا عازف المعازف وأنت يا مغني وأنت يا راقصة... إلخ.
أما غير المسلمين من أهل الكتاب المشركين فلا يجوز لأحد منهم أن يتمتع بعز سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلم الذي أعزه الله بالإسلام.
هذا هو فقه مقاومة الاستبداد الذي يبشرنا به «عمارة».
***
يستمر الغزالي في إبهارنا وإتحافنا بدُرره وجواهره الخالدة.. يقول: «وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب أولها: التعريف، والثاني الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث السب والتعنيف، والرابع المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه، والخامس التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يُمنع عما هو عليه».
ويجيز الغزالي ممارسة الدرجات الأربع الأولى من الحسبة من غير إذن الإمام أو الحاكم أو الدولة في مفهومنا المعاصر. أما المرتبة الخامسة التي تحتاج إلى جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة فقال بحكمته البالغة «ففيه نظر»، أي أنه لم يقطع بضرورة أخذ إذن الحاكم وإنما رأى أن ذلك فيه نظر.
وسائر الكتاب بعد ذلك تفصيل في هذه المراتب الخمس للحسبة وشروطها وأحكامها الفقهية ودقائقها العجيبة وما رُوي في ذلك من حكايات تستدر الدمع أو يُستخرج منها حكم، ثم مناقشات عميقة وطويله لاستبانة الرأي الفقهي في كل مسألة من المسائل ولو كانت أقرب إلى الوهم والاشتغال بها أقرب إلى العبث مما لا فائدة مطلقاً في ذكره أو مناقشته. ولمن أراد أن يرجع للكتاب فهو موجود متوافر بحمد الله، وإن وجدتم فيه ما يستحق البحث والنقاش فأهلاً وسهلاً.
***
ومع أن الغزالي يقول إن المستوى السابع من مستويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جمع الأعوان وحمل السلاح، قد انقسم العلماء بشأن حاجته إلى إذن من ولي الأمر فإنه يميل إلى عدم الحاجة لهذا الإذن، ويقول إنه الأقيس، أي الأقرب من ناحية القياس.
وإذن فالغزالي يبيح لمن يستطيع أن يحمل السلاح لتغيير المنكر دون إذن من الولي، ليس لخلع الولي الظالم مثلاً، وإنما من أجل قشور المحرمات لإراقة الخمور وتحطيم آنيتها وكسر المعازف وتحريم لبس الحرير على الرجال.
وإذن فمعذور، بل ممدوح، هو ذلك الشاب الذي استعذب الالتزام والتمسك بأهداب الدين إن هو وجد في نفسه الطاقة والكفاءة فجمع أمثاله وأقرانه من المراهقين وحملوا السلاح من أجل تطهير البلاد من مظاهر الفساد والفجور!
هذا هو «فقه مقاومة الاستبداد في فهم محمد عمارة» القيِّم على مجلة الأزهر والناشر دُرر الغزالي في الحسبة.
***
إن الإسلاميين - ومعهم أغلب المسلمين ممن يستمعون لقولهم - مؤمنون بأن الإسلام ليس مجرد رسالة إيمانية هدفها تهذيب النفس وإحياء الضمائر، وإنما يقولون إن الإسلام دين ودولة، دعوة وشريعة، مصحف وسيف.. إلى آخر تلك الشعارات. ولهذا هم يصرون على إقامة الخلافة وتنصيب الخليفة الذي يتولى شئون الدنيا ويخلف النبي في حماية الشريعة والذبِّ عن بيضة الإسلام.
ولما كان ذلك غير متاح حالياً فلا أقل من الدعوة إلى إحيائه والتمسك به والاندساس في لُحمة الدولة الحديثة عبر الدستور والقانون وفتح الثغرات من أجل حماية الشرع، بل حماية الدين نفسه، ومن ثم ممارسة الوصاية الدينية في أشد صورها ضراوة إن أمكن ذلك.
ألا يقول الدستور إن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، أولا يقر بأن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع، فلنسعَ إذن لتطبيق الشريعة إلى أن نتمكن من تنصيب الخليفة وتوحيد المسلمين تحت راية واحدة من أجل إقامة دولة الإسلام العادلة.. وإلى أن يحدث ذلك فلنجاهد بألسنتنا وأقلامنا كما يفعل الدكتور عمارة وأمثاله.
***
من هنا كانت دعوات الحسبة التي يرفعها المشايخ وبعض المحامين أمام القضاء ضد كل من يرون أنه يخرج عن الدين ويهز ثوابته ويهين عقائد الإسلام. هذا ما فعلوه مع الشيخ على عبدالرازق عندما كتب كتابه عن الإسلام وأصول الحكم ليقول إن الإسلام لا ينص على شكل معين للحكم وإن الخلافة اجتهاد بشري وإن الرسول لم يكن حاكماً بالمعنى الحديث، فنجحوا في إخراجه من زمرة العلماء.
وهذا ما فعلوه مع الدكتور نصر حامد أبوزيد، فأهاجوا عليه العامة وحُكم عليه بالتفريق بينه وبين زوجته لأنه مرتد خارج عن ملة الإسلام.
وهذا ما حدث عندما أقدم واحد من الغوغاء على قتل فرج فودة، ثم وقف الشيخ محمد الغزالي يبرر للقاتل فعلته ويلتمس له العذر. هل نحن في حاجة إذن إلى محاكم تفتيش، ألا يكفينا ما عندنا من قضاء وقانون ودستور، ألا يكفينا ما عندنا من شيوخ يحامون عن راية الإسلام ويسلطون العامة على كل من يحاول أن يُعمل عقله على غير ما يرون هم وعلى غير ما يقررون أنه صحيح الدين؟
إذا لم يكن هذا هو الكهنوت الديني في أجلى صوره وأوضحها فماذا يكون إذن؟
هل نجد بيننا الآن من يقول إن أفكار سيد قطب وحسن البنا والمودودي ومحمد فرج والإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية فكر متطرف لا علاقة له بالإسلام.
هل حجة الإسلام أبوحامد الغزالي متطرف، هل تراث المسلمين بأجمعه خارج عن تعاليم الدين الحنيف، هل أخطأ محمد عمارة الفهم أم أنه استغل ما نعانيه من جهل مستشر وتقديس أعمى لكل ما ينسب نفسه لله ورسوله ليروِّج هذه الأفكار القاتلة؟!
إن مثل هذه الأفكار والرؤى التي تصر على ربط الدين بالسياسة هي التي تضر بالدين والسياسة معاً، وتضر الدولة والمجتمع بأسره، وهي التي تُخرج الدين عن وصفه رسالة سماوية موجهة للفرد لضبط علاقته بالآخرين وبالله، وتجعله أيديولوجيا متكاملة ومغلقة تسيطر على الفرد وعلى المجتمع في كل حركة وسكنة، وفي شتى مناشط الحياة، مما يمنح سلطة شبه مطلقة وعمياء لرجال الدين على نفوس الناس وتجعلهم تهديداً خطيراً لحرية الفرد وأمن المجتمع وسلامته.
***
أظن أنه لم يعد ثمة موضع للقول إنه «لا كهنوت في الإسلام» وأنه لا معنى للقول إن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، دعوة وشريعة، إلا أنه عين الكهنوت، إلا أن هناك من يناور بالمصطلحات ويظن أنه حينما يغير اللافتات والشعارات يكون قد غيَّر من الواقع المرير والتاريخ الأكثر مرارة.
ليس شرطاً أن يُكتب في الكتب ويُقر في القانون أن لدينا كهنوتاً كي نعترف بذلك، تكفي الشواهد والأحداث والممارسات، بل إن الإصرار على الإنكار وإشاعة الغموض والالتباس واللعب بالمصطلحات هو الأخطر. إنه يدفع إلى التمسك بالكهنوت في يد وإنكاره باليد الأخرى، ممارسة القهر والعنف بيد ورفع شعارات الحرية والعدالة باليد الأخرى.
بل إن هذا الغموض وذلك الالتباس اللذين يشيعهما من يسمون أنفسهم مفكرين إسلاميين عن عمد هما ما يعقِّد الأمر فيكرِّس للكهنوت من ناحية ويصر على إنكاره من ناحية أخرى.. ويخلق حالة من الفوضى التي يسرح في ظلها الغوغاء ويمرحون ممارسين أقسى أنواع الكهنوت ظلماً وظلاماً وعسفاً، وإشاعة أمر هذا الكهنوت - أو السلطة الدينية - لكل من هب ودب كي يمارسها باليد واللسان والسلاح على كل من يستطيع. ولك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يحدث لو استجاب الشباب المتحمسون والعامة لدعوات حجة الإسلام التي تلقَّفها عمارة ليشيعها في الناس فراحوا يجمعون الأعوان والسلاح من أجل محاربة البدع والمنكرات. وإن هي إلا قوة الدولة ورفض الناس، اللذان يمنعان كل متحمس من أن يفعل ذلك، وإن هي إلا لحظات تنتشر فيها هذه الأفكار وتروج وترتخي قبضة الدولة حتى تعم الفوضى وينتشر العنف ومعه الخراب.
***
نقول إن شيوع أمر الكهنوت في تاريخ المسلمين وفي تراثهم دون ضابط ولا رابط لهو أمر خطير يتيح لكل من وجد في نفسه الرغبة والطاقة أن يخرج على الناس شاهراً السلاح مزيلاً ما يراه منكراً دون إذن من السلطان أو الحاكم.
ولقد حدث شبيه بهذا بعد الثورة في بعض مدن الدلتا عندما أخذ بعض المتهوسين يمنعون الحلاقين من حلق لحى الرجال ويحطمون أدوات محلات الكوافير الخاصة بالنساء لولا أن تصدى لهم الناس فردوهم مخذولين مذمومين!.. غير أنهم يتحينون الفرص لممارسة هواياتهم الكريهة.
وفي مقابل شعار «لا كهنوت في الإسلام» الذي يرفعه عامة المسلمين وخاصتهم لخلق برزخ كبير لا يمكن عبوره بين التجربة المسيحية والتجربة الإسلامية وكي يقولوا إن الإسلام هو دين الحرية الذي لا يعرف السلطة أو الوصاية الدينية، يُقر المسلمون جميعاً - خاصتهم وعامتهم كذلك - بأن أمة المسلمين خير أُمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، ويلعنون أهل الكتاب - واليهود خاصة - لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
وهكذا.. في حين أن أهل الكتاب يعرفون الوصاية الدينية والسلطة الكهنوتية التي لا يعرفها الإسلام نراهم هم أنفسهم يُعاب عليهم بأنهم تخلوا عن التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
***
وبما أن الكهنوت الإسلامي يشيع في العامة ويدعمه المفكرون الإسلاميون بالقلم واللسان فإن مواجهته أصعب من مواجهة الكهنوت المؤسسي في المسيحية، فما أن عُرف الخصم هناك في رأس الكنيسة حتى جرت مواجهته بقوة وحسم وعنف ووعي، وهو ما لا يتوافر في حالة الكهنوت الإسلامي المتشعب والممتد من رجالات السلطة والحكام إلى عامة الناس حتى صار كهنوتاً شعبياً متغلغلاً في الأفراد والجماعات، يشل العقل ويغل اليد ويعمي النظر، وهو ما يجعل هذه المواجهة أكثر إلزاماً وإرهاقاً وتشعباً، تحتاج إلى التسلح بالوعي والصبر والحسم وكشف اللبس والمغالطات التي يروِّجها الإسلاميون وكل دعاة الكهنوت، ووضع الدين في مكانه مهذباً للنفس مصلحاً للفرد حاثاً على الخير والعدل والحرية، وترسيخ أفكار الحرية والديمقراطية والمدنية الحديثة.



#أيمن_عامر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكهنوت في الإسلام (٢-;-)
- الكهنوت في الإسلام (1)
- هم صنيعتنا
- مكانة الحرية الدينية
- الإسلاميون والتكنولوجيا
- مثلث الرعب: التكفير - القتال - السلطة (الحاكمية)
- محاولات الإصلاح من داخل السياق
- لماذا تتعثر محاولات الإصلاح الديني؟
- من أين جاءت داعش؟


المزيد.....




- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن عامر - الكهنوت في الإسلام (٣-;-)