حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 19 - 01:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*لقد كانت الثورة السورية في احدى احتمالاتها فرصة لإحداث تغيير و انتقال من نظام استبدادي شمولي ( حداثوي ) الى نظام ديمقراطي علماني سعى لمواطنة متساوية, و لكنّ المؤشرات و في السنة الرابعة للثورة/ الحرب الأهلية السورية لا تبشّر بخير.
*المنطق علم معياري موضوعهُ طرائق التفكير و يُعنى بتمييز الصحيح منها , و هذا أمر نحتاجه نحن السوريين لنطلق أحكام - إن أمكن - معيارية تقوم على قرائن قابلة للتدقيق .. هروبا من حالة الذهول و اللامبالاة التي أصابتنا و بعيدا عن الأحكام المزاجية و الانفعالية القاتلة..
*يفاجئونا هذا الحضور الكبير لخطاب جِّدالي/ سفسطائي – و ليس الجدلي- خطاب رائج يعتمد على تزوير الحقائق و تقديم مُعطيات غير صحيحة , أو أنّه يستخدم المغالطات المنطقية, و المُعطيات في هذه الحالة قد تكون صحيحة و لكن مع حُجَّة مضطربة غير سليمة, هذا النمط من الخطاب الجِّدالي/ السفسطائي ينطلق من النتيجة و يسعى لتدعيمها بالحجج و الأسباب , أي أنَّهُ تفكير مقلوب تبريري, و مِنَ المعلوم أنَّ التبرير المنطقي هو إحدى الآليَّات الدفاعية – المعروفة جيداً في علم النفس - و التي يلجأ اليها الفرد لتبرير السلوك.
*الاعتراض الأوّل: أن الانسان بطبعه كائن غير منطقي ,لا بل و غير عقلاني الى حدّ كبير, و التفكير المنطقي ليس العامل الأهم في سلوك الأفراد و الجماعات, و قد أخذ علم النفس – مع التحليل النفسي- على عاتقه استكشاف هذه الآليات و الاستجابات المتحكّمة في المواقف و السلوك الانساني متجاوزا في ذلك دور (علم المنطق) و بالتالي لا فائدة تذكر من كشف المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي و الثقافي السوري ما دام المنطق بحدّ ذاته لا يلعب سوى دور قليل فيما يجري.
التعقيب:
بالتأكيد إن الانسان ليس روبوت آليا , و لا يُفترض به أن يكون كذلك , و كذلك قد لا يكون التفكير المنطقي و العقلاني هو المُحدّد الأبرز في موقف و سلوك الكينونة الاجتماعية سواء أكانت فردا أو جماعه. و لكن الناس بشكل عام و عبر العصور لديهم القابلية و القدرة أن يكونوا أكثر أو أقل عقلانيّة , و قد ازدادت هذه الامكانية الى حدّ كبير في العصر الحديث مع بزوغ عصر التنوير , و المنطق الارسطي يزوّد مستخدميه بالقدرة على كشف تناقض الحجج و تناقض الفكر مع ذاته (صوريّة البرهان) بما يُكسبهم المزيد من الثقة بالنفس و القدرة على حل مشكلاتهم. إنّ المنطق معيار و قاسم مشترك كامن بين البشر, غير متأثر نسبيا بالأبعاد الأخرى اللغوية و القومية و البيئية و العقائدية الدينية لهم, فتقنيات المنطق الأرسطي في كشف المغالطات بشكل عام مفيدة من ناحية تعزيز البعد العقلاني , و هذا لا يتعارض و لا يُزاحم العلوم النفسية, لا بل إنّ واحدة من أهم النظريات المستخدمة في علم النفس السريري و الارشاد النفسي تستند الى التفكير المنطقي , و ما يُسمَّى بالعلاج النفسي الانفعالي العقلاني rational emotive psychotherapy فوفقا لهذه النظرية إنّ المعتقدات و أساليب التفكير اللاعقلانية هي السبب الكامن وراء الاضطرابات النفسية التي نعيشها ,أي أن هناك تفاعلا بين : التفكير و الانفعال و السلوك
فالإنسان العقلاني عادة ما يكون ناجح و ذو فعالية في محيطه مبدع كفوء في مجال الأبحاث و العلوم و حل المشاكل و إدارة الأزمات, و ينعكس ذلك في شعور من التقدير و الكفاءة و السعادة, على النقيض من التفكير الانفعالي العاطفي الذي هو تفكير متحيّز غير منطقي ذو طبيعة ذاتيّة متطرّفة.
إنّ الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني , ونقد مغالطات الخطاب السياسي و الثقافي , لا يؤتي ثماره عادة في الأشخاص العقائديين و المجتمعات الدينيّة المغلقة, و هو أقل تأثيرا عند المراهقين , و لذلك نجد أن المليشيات العقائدية المتقاتلة – داعش نموذجا- غالبا ما تستميل الأطفال و المراهقين (ما دون سن 18) للقتال في صفوفها و تنفيذ عمليات انتحارية بعد اعداد و برمجة دماغية خاصّة, و هذا ما يبرر ضرورة وجود مقاربات نفسية و ثقافية أخرى لمساعدة هذه الفئات, مقاربات تتكامل و تعزز من تأثير بعضها.
و كذلك الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني و نقد الخطاب السياسي و الثقافي القائم على المغالطات لا يؤتي ثماره عادة عند الأشخاص و المجموعات الحاكمة صاحبة الامتيازات و المستفيدة من السلطة, لوجود مصالح مادية و معنوية تحجبها عن الادراك , و عادة ما تكون هذه الفئات متورّطة باستخدام نفوذها في وسائل الاعلام
في تجهيل المجتمع و تعزيز التفكير اللاعقلاني القائم على المغالطات لاستمرار و استثمار الصراع . و لكن الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني و نقد الخطاب السياسي و الثقافي القائم على المغالطات يسهم في اضعاف تأثير هذا الخطاب لدى المجموعات المُستهدفة و تقوية مناعة الأشخاص و المجتمعات تجاه التضليل .
ثمّ إن هيمنة التفكير الانفعالي غير العقلاني - كما في المجتمع السوري- ما هو إلا صفة مكتسبة بفعل البيئة و الثقافة و التعليم , و ليس بمعطى أوّلي يجب احترامه, باختصار إن تعزيز التفكير العقلاني , و تنمية الحس النقدي تجاه الخطاب السياسي و الثقافي القائم على التدليس و المغالطات, هو خطوة أساسية لتجاوز المجزرة السورية و التأسيس لمستقبل أفضل.
* الاعتراض الثاني أن المنطق الأرسطي علم عقيم تجريدي يبحث في الكليات التي ليس لها وجود في الواقع , و إنّ العلوم بشتّى أنواعها قد تطوّرت و أن كبار العلماء و الباحثين عبر التاريخ لم يكن لديهم معرفة بالمنطق الأرسطي و تقنياته, يقول ابن تيمية: ( إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم , وصار إماما فيه بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق)
«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٩/ ٢٣).
و ينتج عن هذا أنّ التعرّف على القياس المنطقي الأرسطي و كشف المغالطات المنطقية ليست ضروريّة و لا حتّى مفيدة في تفهّم الثورة / الحرب الأهلية السورية و الخطاب السياسي و الثقافي المتعلّق بها.
التعقيب:
بداية ننطلق هنا من تأويل خاص ينظر الى المنطق الأرسطي كمنطق صوري و كتفكير استدلالي يهتم بمُعاينة انسجام الفكر مع نفسه و بالتالي يستطيع تزويد مستخدميه بتقنيات كشف المغالطات المنطقية و عيوب الخطاب, فهو أشبه ما يكون بالمنطق الفطري و ما قد يشير اليه عموم الناس عبر العصور كتفكير سليم common sense , فما نُسمّيه بالمغالطة المنطقية يستطيع الانسان النَّبيه صافي الذهن اكتشاف خطلها , بغض النظر عن معرفته بالمنطق الارسطي. إنَّ التفكير المنطقي /العقلاني هو أحد نماذج التفكير المُمكنة و المُتنوعة , و قد وُجد قبل أرسطو (384 - 322 ق.م ) مع ظهور الانسان الثقافي , و لكنه النموذج الأكثر كفاءة في مجال الأبحاث و العلوم و حل المشاكل و إدارة الأزمات. و أما بالنسبة لموضوع المنطق الأرسطي فيبقى محاولة بشرية جريئة لاكتشاف الحياة و قنونة منطق الأشياء , و حتّى كبار منتقدي المنطق الأرسطي عبر التاريخ كانوا يستخدمون نفس مفاهيم و أدوات هذا المنطق لانتقاده في دلالة بالغة الأهمّية. و إنَّ البحث الذي عرضناه سابقا عن المغالطات المنطقية و التّمثيل عليها بنماذج من الخطاب السياسي و الثقافي المتعلّق بالثورة / الحرب الأهلية السورية, يكفي لدحض الانتقادات الموجّهة للمنطق الأرسطي بكونه منطق نظري مجرّد ضعيف المردود قائم على الكليات العقلية.
&&&
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟