|
سفاحُ الأطفال، صائدُ العصافير
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4766 - 2015 / 4 / 2 - 12:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
صراعٌ محتدم يشتجرُ داخلي؛ كلما نُفِّذت عقوبةُ الإعدام في مجرم سفّاح، يستحق الموت دون شك. لا أستوعب القتلَ، في كل صوره وأشكاله وظروفه وأسبابه. لا أستوعب حتى قتل حيوان وإن كان لإطعام جائع، أو حشرة وإن كانت ضارّة. تلك محنةٌ وجودية وذهنية أعانيها منذ طفولتي ولم أقف بعدُ على حلٍّ لها مع نفسي؛ رغم عديد المجادلات والحوارات حولها بيني وبين مفكرين وأساتذة وأصدقاء. أستصعبُ فكرة "إزهاق الروح" وإن كانت قَصاصًا عدلا وفاقًا. أعلم أن "في القصاص حياةً”. وأعلم أن القتل عقابٌ مستحَقٌ للقاتل، ورادعٌ لأي قاتل محتمَل. أعلم أن في القصاص بالقتل حمايةً للمجتمع لكيلا تشيعَ الفوضى وتعمُّ الهمجية. ورغم كل ما سبق، يرفضُ عقلي الضعيف استيعابَ عقوبة الإعدام. دائمًا ما أقول: “القاتلُ شخصٌ همجيٌّ خرج عن منظومة "الإنسان"، إذْ منح نفسَه حقَّ إزهاق روح، وهو حقٌّ لا يحقُّ إلا للخالق الواحد الأحد رب هذا الكون. الُله تعالى وحده واهبُ الحياة للكائنات، ومن ثَمَّ فله وحده حقُّ استردادها. لكن، نحن، البشر المتحضرين، كيف نقبل أن نتدنى مثلما تدنّى ذاك الهمجيُّ الآثمُ المريضُ؛ ونقتله كما قَتل هو، فنسقط مثلما سقط في بئر الخطيئة والانحطاط، مُتخلّين بهذا عن القيم الرفيعة التي سنّتها الشرائعُ ومنظومات الأخلاقُ التي وضعتها البشريةُ وارتضتها لنفسها منذ ألاف السنين لكي تتحضّر؛ وسطرتها على جدارياتها للتذكرة حتى يغدو الإنسانُ إنسانًا متخلِصًّا من همجيته؟!” مع هذا قبضتُ على نفسي متلبّسةً بالشعور بشيء من الراحة والرضى، حين نُفّذ حكم الإعدام في المجرم "محمود رمضان" الذي ألقى الأطفال من سطح بنايةٍ في الأسكندرية، مدينة النور والحضارة والجمال. إن كنتُ لا أتصور أن يقتل إنسانٌ إنسانًا، فكيف لعقلي أن يتصوّر أن يقتل رجلٌ فحلٌ طفلا صغيرًا ضعيفًا لا حيلة له، ولا حول له ولا قوة؟! عشراتِ المرّات حاولتُ تصوّر الأمرَ وأخفقت! كيف حمل الطفلَ بين ذراعيه، وبدلا من أن يضمّه في صدره ويقبّل جبينه كما نفعل نحن كلما حملنا طفلا، وبدلا من هذا مضى إلى حافة سطح البناية وألقى به من شاهق، ثم وقف ينظر إليه وهو يتهاوى لأسفل صارخًا يتخبّط رأسُه في الجدران حتى همد على الأرض جثّة ساكنة لم يعد بها روح؟! كيف؟! أيُّ قوّة نفسية وأيُّ جبروت وأيُّ قلب ميت؟! عشراتِ المرّات حاولت أن أتقمّص شخصيةَ المجرم الذي قتل المريمتين العام الماضي في حفل عُرس بإحدى كنائس القاهرة. مريم نبيل (12 سنة)، ومريم أشرف (8 سنوات). كانت كل منهما عصفورةً صغيرةا تحمل شمعة العرس للعروس، وترتدي فستانًا أبيض من الدانتيل، سيتحول بعد برهة إلى خرقة ممزقة بالرصاص مضمخة بالدماء بعدما أفرغ رجلٌ وابلا من الرصاص في الجسدين النحيلين! كيف قَدِر على ذلك؟ كيف استطاع أن يرى جسدين هزيلين لزهرتين ضعيفتين يتهاويان دون حراك بعدما كانتا قبل برهة طفلتين جميلتين تضحكان وتحملان الشموع والزهر؟! عشراتِ المرّات حاولت أن أتصور كيف تمكّن يافعان أن يغتصبا الطفلة "زينة" ثم يلقيان بها من حالق وهي في وهنها وضعها وانكسارها ودموعها؟! كيف؟! كيف؟! هل أولئك الأفظاظ من طينة غير طينتنا؟ هل خلقهم الله بتركيبة ذهنية ونفسية وروحية غير بقية البشر؟ كيف أسلموا أنفسهم للشيطان على هذا النحو، ثم يقدرون على مواصلة الحياة؟! أوقفُ ذهني عن العمل برهة حتى لا أستسلم لفكرة رفض القصاص، وأتقمّص قلب أم أطفال الإسكندرية والمريمتين وزينة، لأشعر معهن بأن عدل السماء في الاقتصاص من أولئك السفاحين، صائدي العصافير البريئة.
***
“- ماذا جاء بك إلى هنا يا طفلتي؟ - لا أعرفُ يا عَمَّة. كنتُ في العُرس. أحملُ الشموعَ والزهرَ، وأرفعُ مع رفيقاتي ذيلَ فستانِ العروس. ثم جاء العمُّ الغريبُ. ابتسمتُ، ومددتُ له يدي بإكليلِ وردٍ، وشمعة. فألقى الرجلُ حجرًا. أحجارًا كثيرةً. وسقطتُ. دخلتِ الأحجارُ في قلبي. وغفوتُ. بعد بُرهةٍ، جاءتْ ملائكةٌ تحملُني إلى هنا، ورأيتُ وجهَ العذراءِ يبتسمُ عند السماءْ. قبل أن أصعدَ إلى السماء، ألقيتُ على رأس العمِّ الغريبْ، ما تبقّى في يدي من ورودٍ، بعدما نظّفتُها بطرفِ فستاني من دمائي علِقتْ بها.”
*** * قصيدة "صائد المريمات" | ديوان "الأوغاد لا يسمعون الموسيقى"| فاطمة ناعوت | دار ميريت 2015
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحاجة صيصة وذقن حتشبسوت
-
طلّعى الكمبيالة يا حكومة!
-
أيتها المرأةُ الملعونة، أين عضلاتُ فخذيك؟
-
مصرُ أينما جُلتَ
-
الرئيس.. والأم
-
شكرا ونكتفي بهذا القدر
-
أمي -الملاك-... التي لم تنجبني
-
شارعُنا
-
هل تذكرون لوزة وتختخ؟
-
مفتاحُ الحياة في يدِ مصر
-
لأنها مصرُ، احتشد العالم
-
قطط الشوارع
-
مصرُ على بوابة الأمل
-
لو كان بمصر هندوس!
-
زوجة رجل مهم
-
قُل: داعش، ولا تقل: ISIS
-
ماذا قال السلفُ القديم
-
العالمُ يفقدُ ذاكرتَه
-
العالم في مواجهة داعش
-
دواعشُ بلا سكين
المزيد.....
-
أمريكا تحث رعاياها بالإمارات على تجنب أماكن مرتبطة بالمجتمعا
...
-
جماعة الإخوان تدعو لدولة مدنية وانتخابات.. هل ينفرط عقد الأح
...
-
تحذيرات أمريكية لليهود و-الإسرائيليين- في الإمارات من هجمات
...
-
فيديو منسوب لدعوة شيخ الأزهر إلى مسيرات في مصر.. ما صحته؟
-
-أبو مينا- ينجو من الغرق.. كيف أنقذت مصر مدينة مسيحية نادرة
...
-
إسرائيل: اليهود المتشددون ينددون بـ-حرب- من الحكومة لفرض الخ
...
-
إسرائيل.. اليهود المتشددون يصعدون ضد الخدمة العسكرية
-
المرشد الأعلى الإيراني يعين مسئولين سابقين في مجلس الدفاع ال
...
-
على خلفية رفض تجنيدهم في الجيش الإسرائيلي.. الزعيم الروحي لل
...
-
قوات الاحتلال تعتقل 12 مواطنا من محافظة سلفيت
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|