أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الشعر العراقي في المنفى: المخيلة الطليقة التي فلتت من ذاكرة الأسر















المزيد.....

الشعر العراقي في المنفى: المخيلة الطليقة التي فلتت من ذاكرة الأسر


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1325 - 2005 / 9 / 22 - 11:30
المحور: الادب والفن
    


لم يكن (المنفى) موضوعاً جديداً ومقتصِراً على المشهد الشعري العراقي الراهن حسب، فقد عرفه الشعراء العراقيون منذ زمن بعيد. ويستطيع أي مؤرخ أدبي أن يكشف لنا، على وجه السرعة، قائمة طويلة بأسماء الشعراء العراقيين (المنفيين) من بلاد الرافدين بدءاً من العصر الجاهلي، ومروراً بالعصر الإسلامي الذي تمثلت أبرز تجلياته في حقبة الخلافة الراشدية، وما تلاها من عهود عباسية وأموية وأندلسية، حيث بلغت الحضارة العربية والإسلامية ذروتها قبل أن يبدأ عدّها التنازلي الذي تزامن مع همينة العثمانيين على معظم البلدان العربية مدة أربعة قرون، سيئة الصيت، ثم أعقبتها موجة الاحتلالات الأوروبية التي لم يسلم منها أي قطر عربي، وانتهاءً بالعصر الحديث أو ما أصطلح عليه بـ " فترة الاستقلال السياسي " من الاحتلال الأجنبي والهيمنة الاستعمارية. ولأننا لا ننوي أن نقلّب صفحات التاريخ، ولا نروم أن نقدّم كشفاً بأسماء الشعراء العراقيين المنفيين، والمُقتلعين من جذورهم قسراً، وإنما نود الإشارة من باب التذكير إلى أن المشهد الشعري العراقي خلال القرن العشرين في الأقل شهد (نفياً) قسرياً مروّعاً لمئات الشعراء العراقيين شمل، من دون استثناء، بعض رموز وأقطاب مرحلة الريادة التي تمثلت بالشاعر أحمد الصافي النجفي، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري اللذين عاصرا أسماء شعرية عراقية مهمة لم تغادر ذاكرة القرّاء ومحبي الشعر العراقي والعربي في كل مكان أمثال: جميل صدقي الزهاوي، وعبد المحسن الكاظمي، ومعروف الرصافي، ومحمد سعيد الحبوبي وآخرين لا يسع المجال لذكرهم في هذا المقال القصير. وقد اكتفيت بالإشارة إلى هذين الشاعرين الكبيرين لتعزيز صحة ما أذهب إليه بأن أغلب الأنظمة التي تعاقبت على حكم هذا البلد، قديمها وحديثها، قد ضيّقت الخناق على الأدباء والعلماء والمفكرين، وأجبرتهم على الرحيل القسري إلى بلدان أُخَر توفر لمواطنيها حرية الرأي و (حق الاختلاف). فلقد عاش أحمد الصافي النجفي ثماني سنوات في طهران قبل أن يرتحل إلى الشام ويعيش متنقلاً بين بيروت ودمشق قرابة ست وثلاثين سنة، بينما اضطرّ الجواهري للرحيل إلى براغ والإقامة فيها مدة أربع سنوات في أوائل الستينات من القرن الماضي، ثم قضى ردحاً طويلاً من حياته في براغ أيضاً إلى أن فارقت روحه جسده، وطلب أن يُدفن جثمانه في مقبرة (الغرباء) في دمشق في أثناء الحكم الدكتاتوري البغيض لنظام البعث في العراق والذي استمر قرابة خمس وثلاثين سنة. وبسبب هذه المدة الزمنية الطويلة فقد شعر عدد كبير من الأدباء والمفكرين والفنانين بأنهم (منفيون) داخل بلدهم، وهذا أقسى أنواع النفي الذي يذكرنا بمقولة أبو حيان التوحيدي التي ذهبت مثلاً ومفادها أن " أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه " وهذه الأطروحة الفلسفية البليغة تكشف لنا عن هول الغربة الروحية، والجسدية التي كان يعانيها الإنسان العربي في ظل الظروف السياسية الشاذة التي لا تُقيم وزناً لإنسانية الإنسان، ولا تحترم آراءه وعقائده، وتوجهاته الفكرية. وسواء اغترب الشاعر العراقي أو العربي في وطنه أو خارج حدود الوطن، فإنه سيعاني الحرمان والضياع وانقطاع الآصرة بينه وبين الأهل والخلان. ولنا في مختلف العصور، القديمة منها والحديثة، أمثلة مليئة بالمرارة، فطرفة بن العبد الذي تشرّد من دياره، وهام على وجهه بين القبائل ثم واجه الموت على يد ملك الحيرة بسبب ضيقهم بآرائه، وأفكاره، وقناعاته الشخصية، هو نموذج للمصادرة والتهميش المتعمد، ولكنه خلّد هذه الغربة والنفي القسري بقصيدته، ذائعة الصيت " لخولة أطلال ببرقة ثهمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ". ولعل من المفيد أن نتوقف عند الشنفرى الذي كان "يفلسف الهروب من العذاب، ومن ظلم القبيلة، ويبحث عن سعادته في أرض الله الواسعة بعد أن اتخذ من البيداء ملاذاً ومهرباً من ظلم المجتمع وسلطان القبيلة التي نبذته وحكمت عليه بقوانينها الجائرة. " كما ذهب د. صبيح الجابر في مقالته المعنونة " الجواهري.. الموقف الملتزم، وتداعيات الغربة " وعلى رغم قساوة الحياة في المنفى الاضطراري نجد الشنفرى يقول شعراً رصيناً مرصّعاً بالحكمة والقول المأثور.
(وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القِلى مُتعزَّلُ
لعمرك ما في الأرض ضيقٌ على امرئٍ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ)
وربما تكون قصيدة الشاعر مالك بن الريب التميمي التي كتبها في عهد معاوية سنة 65 هجرية..
من الأمثلة الناصعة التي جسدت مفهومات الغربة، والنفي، والحنين إلى الأهل والديار والأحبة. وقد تشرّد هذا الشاعر المجوّد لأنه هجا الحجاج فهرب خشية من بطشه، ثم تصعلك، وتحول إلى قاطع طريق مستثمراً قوته وجرأته وشجاعته، لكنه سمع، في خاتمة المطاف، نصيحة سعيد بن عثمان وذهب معه للجهاد في سبيل الله لإخماد تمرّد خراسان وحينما عاد لدغته أفعى وعرف أنه ميت لا محالة فكتب هذه القصيدة الشهيرة التي يرثي بها نفسه، ويوصي رفيقيه كيف وأين يدفناه.
(ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً بجنب الغضى أزجي القِلاصَ النواجيا
فليتَ الغضى لم يقطع الرِكبُ عرضَه وليت الغضى ماشى الركابَ لياليا)
إلى أن يقول:
(غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفرةٍ يدَ الدهرِ معروفاً بأن لا تدانيا.)
ومن لم يتعرض من الشعراء والكتاب والمفكرين العرب للنفي القسري مات طعناً بالسيوف والرماح أمثال: الكميت بن زيد، لأنه اصطف إلى جانب بني هاشم فأجهزت السلطة القائمة حينذاك على حياته، وهذا الموقف المتزمت من قبل السلطات ليس غريباً على المشهد الشعري العربي فلنا أمثلة موجعة فيما جرى لصفي الدين الحلي، والحلاج، ومحي الدين بن عربي، وكثيرين غيرهم. في أوائل الستينات من القرن الماضي لفت الجواهري الانتباه إلى الغربة والحنين أو شعر المنفى بمفهومه الأوسع، حين نشر أول مرة قصيدة (دجلة الخير) في صحيفة (المستقبل) العراقية في مطلع شباط 1963، أي قبل الانقلاب الأسود ببضعة أيام يقول فيها:
(حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتينِ
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به لوذَ الحمائم بين الماء والطين.ِ)
ثم يمضي إلى القول:
(يا نازحَ الدارِ ناغِ العودَ ثانيةً وجُسَّ أوتارَه بالرفقِ واللينِ
لعلّ نجوى تداوي حرَّ أفئدةٍ فيها الحزازاتُ تَغلي كالبراكينِ.)
فليس صحيحاً أن الجواهري لم يكتب شعراً عن المنفى والحنين الشخصي لذكريات الطفولة والصبا والشباب، بحجة أنه كرّس جل شعره لهجاء الطغاة والمستبدين الذين تناوبوا على خطف كراسي السلطة في وضح النهار. فالجواهري، كما هو معروف، كتب في الأغراض الشعرية كلها، لكنه لم يذهب في رثاء نفسه بعيداً كما ذهب مالك بن الريب قديماً، والسياب حديثاً. وليس أدل على ذلك إلاّ قوله:
(أرح ركابكَ من أينٍ ومن عثرِ كفاكَ جيلان محمولاً على خطرِ
كفاكَ موحشُ دربٍ رحتَ تقطعُهُ كأنّ مغبرّه ليلٌ بلا سحرِ
ويا أخا الطير في وردٍ وفي صدر في كلّ يوم له عشٌ على شجرِ.)
ملامح النفي القسري للأدباء والفنانين العراقيين:
لم يشهد العراق قبل انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 هجرات جماعية كالتي شهدها العراق منذ مجيء نظام حزب البعث إلى سدة الحكم. فبعد هذا التاريخ تحديداً غادر العراق نخبة من الشعراء العراقيين الأفذاذ أمثال بلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، ومظفر النواب، كما غادر الروائي غائب طعمة فرمان، والفنان التشكيلي محمود صبري، والعالم عبد الجبار عبد الله. إن غياب هذه الأسماء الأدبية والفنية والعلمية عن الساحة العراقية هو دليل دامغ على قمع السلطة لمواطنيها، وغياب الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية. وقد كتب هؤلاء المبدعون الكثير مما أطلق عليه بشعر أو أدب (المنفى) مُجسدين فيه الحنين إلى الوطن، والتوق إلى الأهل والأصدقاء، كما لم تخلُ قصائدهم من مناجاة النفس، ورثائها لتسكين لواعج الغربة، وترويض وطأة الشوق الذي كان يستبد بهم كلما طال الفراق، واشتطّ بهم المزار. ومنذ تلك الحقبة الزمنية بدأنا نقرأ قصائد وقصصاً وروايات أُنجزت في المنفى، غير أن أغلبها كان مستوحى من ذكريات الماضي، وأحداثه التي وقعت داخل الحدود، ومن النادر أن نقرأ نتاجات أدبية تعالج الموضوعات الساخنة والجوهرية لبلدان اللجوء والهجرة. فغائب طعمة فرمان، تمثيلاً لا حصراً، ظل يكتب لبغداد، ومشكلاتها الاجتماعية والسياسية على رغم سنوات المنفى الطوال التي عاشها في موسكو حتى وافاه الأجل في مغتربه. وبالرغم من غياب الحريات، وتضييق الخناق من قبل الأنظمة العراقية، وممارستها بعض أنواع القمع، والترهيب، ومصادرة الحريات الشخصية بقدر أو بآخر، إلا أن مفهوم (النفي) أو (الهجرة القسرية) لم ينتشر بين أوساط المثقفين العراقيين الذين كانوا يبحثون عن هامش أوسع للحرية. فلم يصل الأمر إلى التغييب الجماعي أو الإعدامات العلنية، ولكن ما أن عاد البعثيون إلى الحكم حتى بدأ مسلسل الهجرة الاختيارية و النفي القسري يأخذان طريقهما إلى حيّز الوجود، ومع ذلك فإن انقلاب 17-30 تموز 1968 قد حفّز بعض الأدباء والمفكرين والفنانين لأن يغادروا العراق، لكن هذه الهجرة كانت محدودة، وظلت كذلك طوال ما كان يسمّى (بالجبهة الوطنية) التي ضمّت عدداً من الأحزاب العراقية التي استطاع نظام البعث أن يخدعها، ويكشف تنظيماتها، وخلاياها السرّية، ثم يجهز عليها، ويشرّدها في مختلف بقاع الأرض. وكان عام 1978 هو العام الذي شهد موجات كبيرة من الهروب الجماعي من بطش السلطة، وقمعها المروّع، ولم يقتصر هذا الهروب على مثقفي حزب بعينه، بل شمل مختلف الأحزاب الوطنية التي تشردت، وتناثرت في دول الجوار، وبلدان المنظومة الاشتراكية سابقاً، ثم لجأ الكثير منهم إلى أوروبا الغربية، وأمريكا، وأستراليا وسواها من البلدان المانحة لحق اللجوء السياسي والإنساني. في هذه الحقبة الزمنية تحديداً هرب عدد كبير من مثقفي الحزب الشيوعي العراقي ورموزه الأدبية والفنية والفكرية، ثم تمّ الإجهاز على مثقفي الحركات الإسلامية برمتها، فزُجَّ بالكثير منهم في السجون والمعتقلات بينما نجا بعض منهم بجلده حينما فرّوا إلى إيران وبقية بلدان الجوار العربية. وفي أوائل الثمانينات، وبعد اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية أقدمت السلطات البعثية على تهجير أكثر من (500,000 ) مواطن عراقي بحجة تبعيتهم الإيرانية، وكان بينهم عدد غير قليل من الأدباء والفنانين والمثقفين، لم يتحمل بعضهم قساوة الحياة في المجتمع الإيراني المتزمت في ظل حكم ديني لا يجد ضيراً في التصريح بأنه نظام ديني متشدد لا يقبل بالأطاريح العلمانية التي تنتصر للحياة الحضارية المتمدنة. وما إن بدأت حرب الخليج الثانية أو ما أُطلق عليها بـ (حرب تحرير الكويت) حتى شهد العراق موجة جديدة من الهجرة أكبر من سابقاتها بكثير إثر انتكاس الانتفاضة الشعبانية المباركة بحيث تجمّع في معسكر (رفحاء) عشرات الآلاف من اللاجئين العراقيين، وكان بينهم عدد كبير من المثقفين العراقيين أصدر بعضهم كتباً وروايات ودواوين شعرية عن طبيعة الحياة في هذا المنفى الصحراوي القاسي، ومن بينهم أسماء باتت معروفة الآن في الوسط الثقافي العراقي أمثال: موفق السواد، وطارق حربي، وشعلان شريف، وحميد حداد، وفلاح الصوفي، وصلاح حيثاني، وصادق زورة وآخرين. وهذه الموجة وحدها تحتاج إلى دراسة خاصة متأنية تستنطق عذاباتهم، وآلامهم في سنوات المنفى الصحراوي، وأغلب هؤلاء الأدباء توزعوا في المنافي الأوروبية، وكتب بعضهم عن التجارب المريرة التي عاشوا تفاصيلها تحت خيام مهلهلة في الصحراء السعودية الموحشة. وما أن وضعت الحرب الخليجية الثانية أوزارها حتى أدرك المثقفون العراقيون أن حياتهم تمضي من جحيم إلى آخر، لذلك غادرت العراق موجة كبيرة جداً ليس من المثقفين حسب، وإنما من عامة الناس إلى الحدّ الذي دفع ببعض المؤسسات المعنية بالهجرة للإعلان بأن عدد العراقيين الذين غادروا العراق سواء مخيّرين أو مضطرين قد بلغ قرابة أربعة ملايين عراقي خلال حقبة النظام البعثي، وكان أغلب هؤلاء المهاجرين هم من المثقفين وحملة الشهادات الجامعية. الآن يندر أن تجد بلداً أوروبياً يخلو من مثقف عراقي، بل إن هناك بلداناً نائية مثل نيوزلندا وغيرها تحتضن العشرات من الشعراء والفنانين العراقيين. لابد من الإشارة إلى أغلب نتاجات هؤلاء الكتاب والأدباء المنفيين لا تزال تعتمد في مصادرها ومرجعياتها على أحداث ووقائع عراقية، مع وجود استثناءات محدودة، بل أن هناك أعداداً كبيرة من الشعراء لم يتخلصوا من هواجس الحروب، وكوابيس المطاردات والملاحقات الأمنية، وبالذات ما يسمى بجيلي " الثمانينات والتسعينات " من القرن الماضي الذين عاشوا مآسي حروب متعددة، داخلية وخارجية، كما عاشوا حقبة حصار ظالم، وقمع لا شبيه له في مختلف أصقاع العالم، ولعل أبرز هذه الأسماء عدنان الصائغ، عبد الرزاق الربيعي، محمد تركي النصار، ناصر مؤنس، صلاح حسن، سلام سرحان، حسن النواب، أديب كمال الدين، باسم فرات، حميد قاسم، سعد جاسم، خالد مطلك، عبد الخالق كيطان، طارق حربي، فينوس فائق، نصيف الناصري، حسن الخراساني، نجاة عبد الله، وسام هاشم، حسن النصار، أمل الجبوري، دنيا ميخائيل، ناجي رحيم، محمد الأمين، محسن السراّج، علي رشيد الموسوي، وعشرات الأسماء الأُخَر. هؤلاء جميعاً كانوا يستوحون ثيمات قصائدهم من الداخل، ولم يكتبوا حتى الآن قصائد " منفى " حقيقية، فمنجزهم الشعري لا يختلف بقدر أو بآخر، عن منجز زملائهم في داخل العراق، وربما سيكتبون قصائد تعالج موضوعة المنفى بما فيها من غربة وحنين وشوق متأصل إلى الوطن الذي حملوا في قلوبهم، ثم تناثروا في بقاع الله الواسعة. بينما هناك شعراء عراقيون صادف أن يخرجوا بعد انهيار (الجبهة الوطنية) أو الذين رُحلوا قسراً من ديارهم بسبب تبعيتهم الإيرانية كتبوا قصائد تنطوي على الإحساس بالغربة، ويتجسد فيها الحنين إلى الوطن، وأنجزوا دواوين شعرية متطورة على الصعيدين الفني والفكري بسبب فضاء الحرية الذي وفرته لهم بلدان اللجوء، ولعل أبرز هؤلاء الشعراء: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، صلاح نيازي، أنور الغساني، صلاح فائق، صادق الصائغ، لميعة عباس عمارة، نبيل ياسين، فوزي كريم، شوقي عبد الأمير، عدنان محسن، فاضل السلطاني، مهدي محمد علي، وليد جمعة، عواد ناصر، جليل حيدر، عبد الكريم كاصد، غيلان، كريم عبد، مخلص خليل، كريم ناصر، شاكر لعيبي، هاشم شفيق، خزعل الماجدي، مشرق غانم، كمال سبتي، منعم الفقير، عدنان الزيادي وأسماء أُخَر لا يسع المجال لذكرها الآن. لا شك في أن عدداً معيناً من الشعراء الذين تجذروا في المنافي استطاعوا أن يكتبوا نصوصاً شعرية مختلفة عما يكتبه أقرانهم في الداخل لأسباب عديدة أبرزها تقادم السنوات، ونفاد خزين الذكريات الماضية، ونشوء ذاكرة جديدة تكتظ بوقائع وأحداث وتصورات جديدة لا علاقة لها بالماضي، إضافة إلى أن مصادر المخيال الشعري قد تغيرت بفعل المعطيات والمرجعيات الإلهامية للشاعر، هذا فضلاً عن فضاء الحرية المفتوح الذي يتيح للشاعر أن ينهل من المصادر المعرفية المتاحة كلها ومن دون استثناء، وأن يكتب أي شيء يعنُّ في مخيلته من أن ينتابه أي إحساس بالخوف، بينما ظلّ العراقي في الداخل أسير الخشية من مفردة ما قد تحتمل تأويلاً مغايراً ربما يقود صاحبة إلى أُنشوطة الإعدام، لذلك فقد انحسرت مخيلة الكثير من الشعراء، وبالذات أولئك الذين وقفوا إلى جانب السلطة وآزروها، وكرسوا وجودها طوال خمس وثلاثين سنة، وخسروا جراء هذه الممالأة التحليق في الآفاق المفتوحة، لأن جل اهتمامهم وانشغالهم كان مُنصباً على التغزّل بملامح (القائد) والتغني بخصاله، وتمجيد حروبه العبثية مع الجارة إيران، والدولة الشقيقة الكويت، واعتداءاته المستمرة على أغلب المدن العراقية التي أعلنت تذمرها من سياسته الشمولية الفظة. كما نشأت في ظل الحقبة الدكتاتورية نزعات طائفية مقيتة أوشكت أن تتأصل في الذاكرة الجمعية، لو لم يكن المثقف العراقي الأصيل منتبهاً لخطورة هذا التوجه الشوفيني الذي يهدد بتقسيم البلاد والعباد إلى أطياف متناحرة. لقد خسر العديد من شعراء الداخل إمكانية التأمل العميق، والسياحة في آفاق جديدة غير مُكتشَفة بسبب انغماسهم في موضوعات شاذة خلقتها السلطة مثل تمجيد الحروب، ولعن الظلام، وترسيخ الشوفينية السياسية، والاستغراق في الغيبيات، وتوظيف التراث توظيفاً أعوجاً ومحرّفاً، مما أفضى إلى حرمان الشاعر من التعاطي مع المكونات الأساسية للنص الشعري. وقليلون أولئك الذين نجوا من فك (الأدلجة) المفترس، وكتبوا نصوصاً شعرية مرموقة مثل: محمود البريكان، يوسف الصائغ، رشدي العامل، كاظم الحجاج، طالب عبد العزيز، رعد عبد القادر، خزعل الماجدي، عقيل علي، عبد الزهرة زكي، جلال زنكابادي، حميد قاسم، عبد الرحمن طهمازي، عمر مجبل الدليمي، أمير الحلاج وآخرين، بينما لجأ شعراء آخرون إلى استعمال الأقنعة، واللغة الرمزية شديدة الغرابة كي ينجوا من مقص الرقيب، وعينيه اليقظتين. خلاصة القول إن شعراء المنفى الآن بمختلف أطيافهم ليسوا بحاجة إلى إتباع أسلوب التمويه والتخفي، أو التستر باللغة الرمزية المقنّعة، ولهذا فقد كتبوا نماذج شعرية طليقة، وعميقة في آن معاً، قصائد جملية تنتمي لخالقيها، ومبدعيها، ولا تنتمي إلى سلطة ما أو سلطان محدد، وإنما تنتمي إلى الشعر الحق الذي يبحث عن الحقيقة والجمال، ويسعى إلى ترسيخهما في نصوصه الشعرية الحرة.





#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفنان يوسف العاني عضواً في لجنة التحكيم للدورة السابعة عشر ...
- ملف الأدب المهجري العراقي
- حوار في الأزرق -معرض جديد للفنان ستار كاووش والهولندي مارك ل ...
- مسرحية - فاقد الصلاحية - لرسول الصغير على خشبة المجمع الثقاف ...
- الفنانة التشكيلية رملة الجاسم . . . من التشخيصية إلى التعبير ...
- الروائي العراقي سنان أنطون لـ - الحوار المتمدن -: البنية في ...
- التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - ألف ليلة وليلة -: التشخيص ...
- - يوم الاثنين - شريط روائي قصير للمخرج تامر السعيد، حكاية مف ...
- خطورة البعد الرمزي حينما يرتدي حُلة الوعظ والإرشاد في - فستا ...
- الروائي العراقي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: بوصلة ال ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: بعد وفاة غائب قي ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: وضعت حياتي كلها ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: نحن الكتاب عائلة ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: استقبلت -حب في م ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: أشعر أن الكون كل ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: لا أميّز بين لغة ...
- المخرج رسول الصغير لـ - الحوار المتمدن -: أنا مغرم بالحكايات ...
- - الذاكرة المعتقلة - للمخرج المغربي جيلالي فرحاتي: من يرّد ل ...
- التشكيلي حسام الدين كاكاي لـ - الحوار المتمدن -:البكتوغرافي ...
- المخرج أحمد رشوان في شريطه التسجيلي القصير - العراق، أبداً ل ...


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الشعر العراقي في المنفى: المخيلة الطليقة التي فلتت من ذاكرة الأسر