أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يوسف يوسف المصري - حول هيجلية ماركس (3)















المزيد.....


حول هيجلية ماركس (3)


يوسف يوسف المصري

الحوار المتمدن-العدد: 4727 - 2015 / 2 / 21 - 11:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ولكن هل كان هيجل يروج لمفهوم تأسس على لا تاريخية المعرفة؟
العكس تماما هو الصحيح. فلنعد الى فينومينولوجيا العقل لنرى كيف عرض هيجل "تاريخية المعرفة" وليس لا تاريخيتها.
يقول الفليلسوف في مقدمة الفينومينولوجيا:
"ان مهمة نقل الانسان من موقفه اللاعلمي (العلم هنا يقصد به الفلسفة – اضافتي) الى الموقف العلمي يجب ان تؤخذ في اتجاهها العام. يتعين علينا ان نتصور عملية تشكل الانسان العام (اي الانسان بصفة عامة - اضافتي) اي في تطور العقل الواعي بذاته..فالانسان الذي تكون ماهيته العقل في ارقى صوره يمر بتلك الاشكال السابقة كثلما ينبغي على من يهدف الى الوصول الى علم ارقى ان يمر بمستويات اعدادية من المعرفة التي يتبناها هو نفسه لكي يتسنى له دراسة محتواها. انه يستعيد استذكارهم دون ان يتوقف اهتمامه عند اي منها. ان الفرد الخاص ان كنا نتحدث عن محتواه يجب عليه ان يقطع المراحل التي مر بها العقل العام (ذلك ان العلوم السابقة لم تكن من صنع فرد ولكنها كانت من صنع العقل العام اي مجمل القدرات التأملية للاجيال السابقة – اضافتي) باعتبارها اوضاعا مر بها العقل الا انها نحيت جانبا الآن اي كمراحل من طريق تم شقه وتعبيده...ان الانماط السابقة للوجود اصبحت بالفعل ملكا للعقل العام الذي يشكل ماهية الفرد والذي يبدو له خارجيا عنه ليقدم له طبيعته غير العضوية. ومن هذه الجهة فان التطور الثقافي للعقل اذا نظرنا اليه من زاوية نظر الفرد فانه يتشكل من استيعاب ما هو متاح امامه جاهزا اي في جعل طبيعته غير العضوية في جعلها عضوية لعقله اما اذا نظرنا الى ذلك من زاوية العقل العام كماهية روحية فان الثقافة لا تعني شيئا غير ان تلك الماهية تعطي نفسها وعيها الخاص بذاتها اي استدعاء عمليتها الموروثة وتأملها وانعكاسها الى ذاتها"
"ان العلم يعرض امامنا العملية التحولية لهذا التطور الثقافي بكل تفصيلاتها وضرورتها وفي نفس الوقت فانه يظهره وقد رسخ في العقل كلحظة من لحظات وجوده لتصبح ملكا للعقل. والهدف الذي يتيعن الوصول اليه هو استقراء قدرة العقل على المعرفة. ان فقدان الصبر يطلب المستحيل اي يطلب الوصول الى الهدف بدون الوسائل التي تتيح له الوصول الى الهدف. وينبغي احتمال طول تلك الرحلة لان كل لحظة من لحظاتها مهمة ويتعين التوقف عند كل مرحلة لان كل منها هي مرحلة قائمة بذاتها الا انها لا تكتسب معناها ومحدداتها الا اذا اخذت في كليتها الملموسة او الا اذا ما نظرنا الى هذا الكل في ضؤ الخصائص المميزة والخاصة التي تكسبها اياه تلك المحددات. فليس بسبب ماهية العقل الفردي ولكن بسبب عقل العالم نفسه الذي تحلى بالصبر لعبور تلك المراحل على مدار زمن طويل وان يبذل جهدا شاقا ليشكل تاريخ العالم الذي دمج في كل مرحلة سابقة كل ممحتوياته (في تلك المرحلة – اضافتي) لان كل منها كان قادرا على تقديمها. ولانه ليس هناك سبيل آخر امام هذا العقل الجبار يمكن عبره ان يصبح واعيا بذاته. لهذا السبب فان العقل الفردي لا يمكن ان يتوقع بحكم طبيعة المسألة عبر سبيل اقصر ان يعي محتواه".
قد تكون تلك فقرات طويلة. الا انها عظيمة المعنى الى حد يجبر المرء على تجنب اختصارها في كلمات قليلة.
ان تلك الفقرات توضح منهج الفينومينولجيا بأكمله. ان هدف هذا العرض الفلسفي هو ان يمتلك الفرد تجربة جنسه الانساني. فتعرجات التاريخ الواقعي وتعدد الوقائع والاحداث والتفصيلات اللانهائية التي تتقدم وتتأخر وتشطح يمينا ويسارا انما تمضي في نهاية المطاف وفق مسار معين درسه هيجل على اساس من تطبيق نظامه العلمي على وقائع التاريخ. (سأوضح لاحقا رأيي فيما يقال عن تاريخانية هيجل ومن ثم تاريخانية ماركس في تعليق على كتاب كارل بوبر عن اعداء المجتمع المفتوح).
ويتعين علينا الآن ان نقارن هذه الفقرة الطويلة نسبيا بما قاله ماركس في الجروندريس مثلا او في الايديولوجيا الالمانية. يقول ماركس في هذا الكتاب الاخير " الاخلاق والدين والميتافيزيقا وكل مكونات الايديلويجيا وما يقابلها من اشكال للوعي لا يمكنها ان تحافظ على اي مظهر بالاستقلال. انها ان كانت "مستقلة"- اضافتي - تصبح بلا تطور وبلا تاريخ. ولكن الانسان في تطويره لعلاقاته المادية يغير مع هذه العلاقات وجوده الحقيقي اي تفكيره ونتائج ذلك التفكير".
ان اي باحث جاد يتعين عليه ان ينظر ليس فقط الى ما يتضمنه متن معين. ان عليه ايضا ان يسأل السؤال المزعج التالي : لما كتب الكاتب ذلك على هذا النحو وليس على اي نحو آخر؟ ما الذي كان يفكر فيه خلال كتابة ما كتب؟ بعبارة اخرى من هو المقصود من هيكلة الكتاب على النحو الذي خرج به؟
وفي حالة النص "المروع" الذي يسمى فينومينولوجيا العقل فان الاجابة على تلك الاسئلة توضح ان هيجل اراد ان يطبق نهجه الجدلي على تاريخ الانسان او بالاحرى على تاريخ افكار الانسان وهي "جزء من كل" كما قال. وسوف اعرض في حلقة تالية التقسيم الداخلي للفينومينولوجيا كما افهمه. وفي كل الاحوال فان المقارنة بين "مقدمة في الاقتصاد السياسي – ماركس" مثلا او بين سفر ماركس "رأس المال" وبين فينومينولوجيا العقل ستبين لنا السبب الذي دعا جان هابوليت لان يقول "رأس المال هو نسخة اخرى من فينومينولوجيا العقل".
لم يكن تعليق هابوليت دقيقا في تقديري. فثمة فارق تأسيسي بين منظومة هيجل ونهج ماركس. الا ان "رؤية" هيجل التي طبقها في كتابه تتطابق مع رؤية ماركس في نهج تناوله لتطور المجتمعات الانسانية. فحين يقول ماركس انه قلب النظام الهيجلي ووضعه على قدميه فان ذلك لا يعني مجرد انه بدل من طبيعة المعطيات الفلسفية لنظام هيجل فقلبها. ان ذلك استدعى تطبيقا لهذا "القلب" على المراحل التاريخية المتتابعة للمجتمعات الانسانية.غير ان ماركس تناول المجتمعات في كليتها ايضا وتناول تطورها وفق منطق جدلي ايضا وان اختلف من حيث اساسه عن جدل هيجل.
وسوف يضعنا ذلك امام سؤالين متعاقبين ومترابطين. هل كان هيجل ميتافيزيقيا؟ ثم كيف تسنى له تجاوز كانط وهو ميتافيزيقي ايضا؟.
للاجابة على السؤالين وهما في واقع الامر سؤال واحد عن ميتافيزيقا هيجل يتعين العودة الى ما قلته من قبل عن العقبة التي وضعها كانط في طريق العقل والى ما سأقوله توا عن وضع اللاهوت الديني في اوربا في ذلك الوقت اي في وقت هبوب عاصفة العلوم التجريبية الهوجاء التي قلبت العقول رأسا على عقب.
اشرت من قبل الى الجدار الاصم الذي وضعه كانط بين العقل وبين حقيقة اي موضوع يتناوله هذا العقل (اي الشئ في ذاته). وسوف اعرض هنا المشكلة التي واجهها هيجل في كانط على نحو ربما يبدو متعسفا بعض الشئ في عرض موقف كانط لا لشئ الا لان الهدف هو عرض الخطوط العامة فحسب للعقبة التي خلفتها ميتافيزيقا كانط للفلاسفة من بعده لاسيما فخته وشيلنج وهيجل ثم الهيجليين الشباب.
والعنصر الثاني هو التدهور المروع في علاقة انسان ذلك الوقت بالدين والذي يرجع الى منطق عرض الميتافيزيقا الكهنوتية لما تراه كلمة الخالق. فقد كان اولئك الكهنة – كشيوخ هذه الايام في بلادنا – يحاولون اقناع من يشككون في وجود الخالق بان ما عليهم الا تأمل ما خلقه الخالق للايمان به! اي يتعين على من يشكون ان يبدأوا من افتراض ان الخالق موجود للايمان بانه موجود! او انهم كانوا – اي الكهنة ومن بعدهم الشيوخ – يروجون لقصص من نوع ان اثبات وجود الحالق يأتي من بعض المعجزات المبتذلة من قبيل ان بيضة طازجة لدجاجة وجدت وقد كتب عليها لفظ الجلالة (بالالمانية هناك وبالعربية هنا) او ان طيرا يهز رأسه بانتظام انما يفعل ذلك لانه يسبح باسم الخالق (تكبير) وما الى ذلك من عباطات نسمعها هذه الايام لا تعين المؤمن على الايمان بل تزعزع اي جوهر عقلاني للدين.
وكان هيجل الذي تربي على قيم التنوير قد ارسل بواسطة اسرته لكي يدرس حتى يصبح قسا الا انه نفر نفورا عميقا مما يقوله الكهنة وترك ما يدرس ليتجه الى الفلسفة. ورأى هيجل بعد ذلك الثورة الفرنسية التي احتفل بانتصارها مع اصدقائه من الشباب وهي تأكل نفسها وشاهد من بعيد سنوات المقاصل ثم سنوات الرجوع "ريستوراسيون".
وفيما يتصل بالعنصر المتعلق بكانط فان هذا الفيلسوف الكبير هاجم الميتافيزيقا (في مناخ كانت الاكتشافات العلمية بداية من ثورة كوبرنيكس تزلزل اسسها). وكان نقد كانط مؤسسا على ان الميتافيزيقيين الذين سبقوه قبلوا دون اي اي نقد عقلي موضوعات الميتافيزيقا ومفهوماتها على نحو دوجماتيقي جامد لا يعمل العقل حقا حتى لدى من كانوا "عقلانيين" منهم. وكان نقد كانط الذي ساهم في دحر النسخة المبتذلة من الميتافيزيقا التي سادت مواقف اللاهوتيين في ذلك الوقت يتأسس على انهم بدأوا من افتراضات (يتعين مناقشتها) وذلك لاثباتها من قبيل وجود نظام كوني سابق التجهيز يحدد للانسان مساره ويرسم مسار كل شئ على نحو مسبق. وكان الاصلاحيون اللوثريون الذين قفزوا خطوة واسعة بعيدا عن تخشب الكنيسة الكاثوليكية ينزلقون في ذلك الوقت الى حل مسألة النظام المسبق على نحو دوجماطيقي بصورة تدريجية برغم اقتناعهم بان الله خلق الانسان حرا وترك له ان يختار سلوكه ثم يحاسب عليه ومن ثم فان هذا السلوك لم يكن "مقدرا" على اي نحو مسبق.
وقال كانط في تناوله انه لا يمكن البدء من مسلمات وان الانسان يفهم ما يفهم باستخدام ادوات معينة اهمها عقله وتجربته العملية لذا يتعين البدء من فحص هذه الادوات اذ ان قدرتها هي الشارط لما يمكن ان ينتج عنها من افكار يستخلصها الانسان من تجربته ويحللها في عقله ليصل منها الى استنتاجات يطمئن اليها. من هنا فان دراستنا لعقل الانسان ولنتائج تجاربه العملية في الحياة سيتيح لنا ان نتخذ موقفا نقديا من استنتاجاته. يجب اذن ان نبدأ من قدرات العقل ومن حدوده فالعقل هو المآل النهائي لنتائج اي تجارب وهو الذي يقوم بتحليلها ونظمها واستخلاص الاستنتاجات منها. ذلك ان العقل هو الذي يصل الى هذه المفاهيم الميتافيزيقية. وان كانت ادوات العقل في التحليل والتركيب اي في النقد هي ادوات سليمة فان بامكانه ان يدلل عقليا على موضوعات الميتافيزيقا او ينفيها اي بأمكانه ان يأخذ منها موقفا واعيا ايا كان.
ويعني ذلك انه لا ينبغي ان نفترض مقولات وموضعات ميتافيزيقية على اي نحو مسبق اذ لو بدأ بالقول ان "الله موجود" فان من الضروري ان تسئل "طب وعرفت ازاي؟". هذه ال"وعرفت ازاي؟" هي المسألة في هذا الجانب من فلسفة كانط. فهو يقول "ان الدوجما (اي التفسيرات الجامدة والمسبقة) هي الطريقة التي يتبعها العقل الخالص في الفهم دون اي نقد مسبق لقدراته هو ذاته". ويضع كانط نظامه النقدي كبديل لهذا الدوجما الميتافيزيقية (ليصل هو ذاته الى استنتاجات ميتافيزيقية عقلانية).
اما السبب في ميتافيزيقية كانط العقلانية فانه يرجع في واقع الامر الى انه هو نفسه افترض مجموعة من الافتراضات المسبقة التي لم يتمكن ابدا من ان يبرهن عليها ومن ثم اعادها الى القدرة الانتقالية (ترانسدينتال) للعقل الانساني اي ان هناك مجموعة من المعايير التي تأتي "على البيعة" اي راكبة جاهزة في العقل على نحو فطري. ان العقل "يفرز" هذه المعرفة "منه فيه" فهي متناقلة تشبه "الفكرة الداخلية" التي قال بها ميتافيزيقيو عصره ومن سبقوه ولا ترجع الى التجربة او الى الظروف بل ولا ترجع الى اي تفسير مفهوم. وبديهي ان افتراض تلك المعرفة المنقولة ذاتية التوليد يفترض ضمنا ان هناك خالق صمم العقل على هذا الوضع الذي هو عليه. (اختلف هيجل مع هذا اذ ان الفئات في تقديره تتطور في عقل الانسان تاريخيا. وعلينا ان نلاحظ ان هذا هو نهج الفينومينولوجيا بأكمله. انا رصد للتابع التاريخي لتطور عقل الانسان).
غير ان كانط اختلف في هذا الافتراض المسبق عمن سبقه بقوله ان تلك المعرفة المنتقلة كانت معرفة من حيث الشكل اي انها كانت خالية من المحتوى اي انها قدرة موروثة ذاتيا للعقل تجعل من الفهم ممكنا. والقدرات الخاصة بالعقل تنقسم الى قسمين الاول هو الفهم والثاني هو قدرته على استلام نتائج تماس الحواس مع ما هو خارجي والتعامل معها منطقيا. وهو يقول ان كافة تمثلات الاشياء في العقل تصبح مفهومة بواسطة افتراض العقل للزمان والمكان ومن ثم فانها خاصيتان ذاتيتين لا وجود لهما على نحو موضوعي منفصل عن العقل او انهما "شكل الحدس". وكل الاشياء يتعين عليها حتى تصبح تبديات قابلية لان يتعامل معها العقل يجب ان تظهر في مكان وزمان معينين لم يأتيا من الاشياء ذاتها ولكنهما اتيا من تصور عقلي مسبق ومنفصل عن الاشياء وليس ثمة شئ يمكن للعقل ان يتعامل معه يمكن ان يعد تبديا مقبولا لهذا العقل ولقدرته على الفهم. والزمان والمكان ليسا مفهومين كامنين في طبيعة الاشياء وهما ليسا بالتالي خارجيين عن العقل بل هم من قدراته الذاتية المنتقلة.
ثم يقدم كانط فئات الفهم الضرورية للعقل كي يحكم على الاشياء.
لدينا اذن – طبقا لكانط – خاصتان تميزان العقل. الاولى هي الفئات التي تأتي منتقلة (ترانسندنتاليا ان صح التعبير) ثم المادة الخام التي يتلقاها العقل من تجربته مع العالم الخارجي. ويمكن تلخيص "الحكاية" كما تحدث في تصور كانط ولو على نحو بالغ التبسيط بالقول ان العقل يتلقى المادة الخام التجريبية التي تنقلها اليه حواس الانسان على نحو مبعثر وعشوائي بحكم تعدد تجارب الانسان وملاحظاته. ويحول العقل هذه المادة الخام الى تبديات عبر وضعها ف اطار الزمان والمكان وهما اطاران ذاتيان كما قلت اذ انهما لا يوجدان في الواقع الخارجي. ثم يخضع هذه المادة الخام للفئات التي وضعها اي الكبف والكم والعلاقات (اي المحتوى والمصادفة) والنمط (الوجود من عدمه والضرورة من عدمها والامكانية من عدمها الخ) وهي ايضا فئات لا تأتي من العالم الخارجي الى العقل لانها لا توجد في المادة الخام التي بتلقاها العقل.
العقل اذن يطبق خاصته الذاتية اي اطار التبدي او الفهم وهو الزمان والمكان لكي يحول المادة الخام الى تبديات ثم يعمل فيها الفئات فيرتبها وينظمها ويكسبها منطقا "معقولا". وتأمل هذه الحكاية يجعل العقل هو المسؤول عن "تعيين" الموضوع. ان الموضوع هو موضوع للعقل وقد اكسبع العقل "معناه" او محدداته. فلو لم يكن هناك عقل في هذا العالم فان الشجرة لن تكون الا شيئا. انها لن لن تكون شجرة لانني حين اقول شجرة فانني استدعي فئات معينة افرزها العقل وصورة عقلية مؤطرة في زمان ومكان يمكن للعقل ان يراها باعتبارها شجرة. واذا افترضنا ان العقل يخلو من خواص التمييز او المعرفة التي اشرت اليها فان الشجرة لن تعني له اي شئ.
الموضوعي اذن لا يوجد باعتباره ما نعتبره اياه بمعزل عن العقل الذاتي. ان العقل هو الذي يحدد الموضوعية ويعينها. ذلك ان الموضوعية هنا باتت رهنا في وجودها بقدرة العقل على التمييز او التعرف او تصور وفهم الاشياء. من هنا فان الحدس الزماني والمكاني والفئات المنطقية الكانطية هي الضرورات المسبقة التي لا يمكن بدونها معرفة اي شئ اذ لا يوجد شئ موضوعي يمكن معرفته.
ويعني ذلك انه طبقا لكانط ايضا ان الحقيقة لا تتصل باي شئ خارجي ولكنها تتصل بالتبديات التي نقدمها – اي المادة الخام القابلة للتصور في الزمان والمكان – لفئات العقل. تصبح تلك التبديات اذن هي الموضوع بالنسبة للعقل. الموضوع اذن هو التبديات التي وضعها العقل ومن ثم فان العالم الموضوعي هو تلك التبديات ليس بمعنى انها تتواجد خارج العقل ولكن بمعنى انها عامة ومشتركة بين اي عقل لبالغ راجح. من هنا فان الحقيقة والموضوعية بالنسبة لكانط تصبح ما هو مشترك بين العقول جميعا. اي ان قدرتنا جميعا (تكبير) على ان نؤطر المادة الخام التي يتلقاها العقل عبر الحواس فهي قدرة انسانية مشتركة ليست ذاتية اي لا تتوقف على اختيار اي انسان "على مزاجه" طالما كان عاقلا راشدا.
ان مثالية كانط الذاتية تكمن باختصار في انه يعتقد ان خصائص عقل الانسان على النحو الذي اشرت اليه لا تشكل فحسب المواد الخام التي يتلقاها العقل وانما تصنعها. ان تلك الخواص تجعل الموضوعية ممكنة ولا معنى لتلك الموضوعية طالما انها غير موجودة في عقل الانسان – اي انسان – ان خلت هذه العقول من خواصها الموضحة. ان الاشياء ستصبح بلا "معنى" اي انها لن تتعين على النحو الذي نفهمها به بعقولنا. ان الموضوعي افراز للذاتي.
في هذه النقطة بالذات تأتي المشكلة الكبيرة التي واجهت فلاسفة ذلك الوقت. فمن الوجهة "الرسمية" لنظام كانط فان خواص العقل لا يمكن ان تفهم حقيقة اي شئ يقع خارج العقل لانه لا يوجد شئ خارج العقل او بالاحرى لان ما هو خارجي هو تصور ذهني يرتبط بالمكان والزمان والفئات الكانطية. الا ان كانط يؤكد انه لا يمكن انكار ان هناك اشياء خارج عقولنا ولكن هذه الاشياء لا تعني شيئا فنحن الذين جعلناها تعني لنا نحن شيئا (الشجرة مثلا هي شجرة لاننا نعرفها كذلك ولو لم نكن على سطح الارض لما باتت شجرة وانما كانت ستظل "شيئا" بلا معنى). ولان حواسنا وخصائص عقلنا هي امور تتعلق بنا ولا صلة لها بالاشياء فان قدرة هذه العقول هي آخر المشوار. فهذه العقول تفحص مواضيع جعلنا نحن لها معنى. اما معناها "المطلق" اي كأشياء فانه حقيقة لا يمكن ان يعرفها الا الله. وهذا المعنى المنفصل عنا هو ما يسمى حقيقة الشئ في ذاته وهو حقيقة تقع خارج اطار قدرات العقل اي قد تكون موجودة وقد لا تكون. ولكن السؤال نفسه سؤال غبي في نظر كانط لانها لو وجدت فاننا لن نتمكن اصلا من ادراكها.
ويعني ذلك ان هناك حقيقتين. حقيقة يدركها العقل وحقيقة اخرى لا يمكن ان تتحول الى تبديات وان تخضع للفئات. ثم ان عمومية خواص العقل لا تجعل منها موضوعية. انها نتيجة عمل العقل على موضوع خارجي. فالعقل لا يفكر في امر يمكن اعتباره فراغا او خواءا. انه يفكر فيما يقع خارجه. لماذا يتعين اذن على اي عالم فيزياء ان يفحص مادة معينة تقع في هذا الكون الفسيح ليكتشف "حقيقتها"؟ ان "اجدع" عالم فيزياء سيصل في النهاية الى استخدام كل الفئات وخواص العقل ليكتشف الحقيقة التي تسمح بها تلك الفئات والخواص. وهذه الحقيقة ربما تكون مختلفة عن حقيقة الشئ في ذاته. لكن البحث عن حقيقة الشئ في ذاته هو بحث خارج قدرة العقل الانساني. ان العقل الانساني يبحث وربما يصل الى الحقيقة التي يدركها هو عن الشئ. اما حقيقة هذا الشئ في ذاته فانها ملك لله وحده "فالله وحده هو الذي لا تحده الفئات والتبديات ولا يحتاج الى توسط لفهم الاشياء في ذاتها" حسب قوله.
ويشخص هيجل هذه المشكلة في علم المنطق بقوله "ان هذا العجز المعلن من قبل العقل يؤدي الى فقدان فكرة الحقيقة. فهو عقل محدد فقط بادراك الحقيقة الذاتية او ادراك فينومينولوجيا الاشياء فقط او ظاهرها فقط او الاشياء التي لا تتصل بها طبيعة الاشياء : لقد انحطت المعرفة الى مصاف الاراء".
وسوف نرى معا كيف اسس هيجل في "فينومينولوجيا العقل" نهجا يبرهن على ان بوسع الانسان ان يعرف حقيقة الشئ في ذاته لا ان ان يقف عاجزا اما قصور ذاتي افترضه كانط كان يمكن ان يؤدي الى فقدان فكرة الحقيقة وحصر العلم في اطار لاهوتي يزعم عقلنة المياتفيزيقا ولكنه ينقلها فحسب الى مستوى جديد من العجز عن فهم الكون.
من هنا فان تاريخ تطور الفكرة مدين لهذا الفيلسوف العظيم بانقاذ العقل من تشاؤم كانط وقيوده الذاتية الاختيارية.
ثم يأتي اللاهوت. وسوف اعطي هنا مثلا واحدا – من قبيل الاختصار – على الميتافيزيقا اللاهوتية التي تشبه انحناء شيوخ هذه الايام امام نصوص لا يوجد اي شئ قاطع يبرهن على اصالتها.
كان المرحوم جاليليو قد قال اغضب بابا روما حين قال ان الارض تدور حول الشمس ليبرهن بذلك وبمنظاره العجيب على ان بالامكان قلب معطيات الفلسفة التي تركها ارسطو لتفسير الكون والاعتماد بدلا من ذلك على العلوم التجريبية. وحوكم جاليليو واضطر الى التوقيع على "استتابة" يعلن فيها ان الارض ثابتة والشمس تدور حولها. وكان جاليليو قد اوضح في نظامه الشمسي ان هناك ستة كواكب وان بالامكان اكتشاف المزيد لو تطورت الادوات.
ورد احد علماء الدين (وارهافت) قائلا وايه يعني؟ جبت الديب من ديله يعني؟ نحن نعرف انهم سبعة كواكب واليك البرهان. كتب "العالم" الذي يعرف الحقيقة الكاملة لانه يعرف طبعا كلمة الله فيما لا يعرفها الا من رحمهم الخالق من علمائه:
ثمة سبعة "نوافذ" اي سبعة ثقوب منحها الخالق للحيوان في رأسه. اثنين يمر منهما الهواء الى الرأس ومنه الى البدن واثنين ليضيئا رأسه وواحد ليطعمه ويسقيه واثنين ليسمع بهما ما يحدث حوله. ما هي هذه النوافذ في المخلوق الصغير؟ انها العينان وفتحتا الانف والاذنان والفم. ولهذا فانه في السماء كما في المخلوقات الصغيرة فان هناك سبعة كواكب اذ ان هناك دلائل اخرى منها ان هناك سبعة فلذات واشياء اخرى كثيرة تأتي من الخالق على هيئة سبعات".
معقول ده يا جماعه؟ طلعت حكاية البيضة اخف وطأة على الرأس.
طال الحديث. ولكن يتعين القول باختصار انني ارى في هيجل فيلسوفا ميتافيزيقيا بلا جدال. الا ان تعريف الميتافيزيقا يجب ان يكون اولا تعريفا متفقا عليه. لقد كان هيجل ميتفايزيقيا من نمط خاص سأعرضه في الحلقة المقبلة من هذا العرض الذي سببته ورقة صديق (جازاه رب الكواكب السبعة)
يكفي فقط ان اقول انني ورغم انني مدين لجورج لوكاكس بمعرفة هيجل للمرة الاولى فانني لا اتفق مع محاولته التي تعتمد على تمويه الفارق بين هيجل وماركس. لقد كان لوكاكس يسعى الى اقناع الالمان في وقت بدأ فيه انزلاقهم نحو النازية بان تراثهم الفكري والفلسفي هو تراث تقدمي ولذا فقد وجد لزاما عليه ان يبرز – ربما اكثر من اللزوم – الطابع التقدمي لنظام هيجل الفلسفي. بل ان استاذا كبيرا مثل ديفيد ماكجروجر (كتاب الفكرة الشيوعية في هيجل وماركس) بلغ حدا جعل به ماركس اقل ثورية من هيجل بل جعل من فلسفة ماركس "كانطية جديدة" تعتمد على الفهم فيما يقف هيجل كثوري جدلي حقيقي.
وهي محاولات مستميتة لتشويه هيجل من اليسار ومن اليمين لا يغفر لها مسبباتها مهما كانت نبيلة. فقد كان هيجل هو باختصار هيجل. وكان تأثيره على ماركس بالغ العمق على الرغم من ان ماركس لاسيما حتى عام 1850 ظل متأثرا بموقف فيورباخ من هيجل ولم يقرأ بعض مخطوطات هيجل التي نشرت على اي حال بعد وفاة الفيلسوف المادي الجدلي الكبير.



#يوسف_يوسف_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول هيجلية ماركس (2)
- هل ينبغي الآن رفع شعار اسقاط النظام؟
- داعش وفتاوى العلماء وثرثرات اخرى
- حول هيجلية ماركس (1)
- الحل الارجنتيني
- دور ما يسمى القطاع الخدمي في توليد القيمة المضافة
- حول العمل المنتج والعمل غير المنتج
- العلاقة بين الربح وفائض القيمة
- حول رأس المال التجاري
- ما العمل مع -فرمان- مرسي؟
- مساهمة في مناقشة قضية امكانية التطوير الرأسمالي في مصر
- حول ظاهرة الاسلام السياسي
- رحلة -موت العمل- بين روبنسون كروزو و-ماد ماكس-
- سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟
- الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة
- ملاحظات على مداخلة الدكتور محمد عادل زكي عن القيمة الزائدة
- ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس
- الاخوان والليبراليون
- كلمتين لعمال مصر
- قصة قصيرة..حكاية العجوزان ومرسي


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يوسف يوسف المصري - حول هيجلية ماركس (3)