أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - كيف سقطت المسيحية في ظلمات العصور الوسطى















المزيد.....

كيف سقطت المسيحية في ظلمات العصور الوسطى


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 18 - 23:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



هل الدين المسيحي دين سماوي صرف؟ فريد في نوعه وتعاليمه، مستقل بذاته، نزل معلبا، أو منحوتا في الصخر، لم يتأثر بطبيعة المجتمع والبيئة الحاضنة وأحداث التاريخ؟ هل هو دين جاء عن طريق الإلهام الخالص، لم يتأثر بالفكر السائد وقت نزوله، ولم يتشكل بما كتبه المؤلفون السابقون والمعاصرون؟

وجهة النظر، التي يتبناها معظم الدارسين للمسيحية، خصوصا التقدميين منهم، تقول بأن المسيحية لم تولد فجأة هكذا، مثل ميلاد أثينا من رأس زيوس وهي كاملة النمو والنضج. إنما ولدت المسيحية بسيطة ثم تطورت. لقد تأثرت المسيحية بالقوى الاجتماعية والثقافية السائدة، وبما سبقها من عوامل وتأثيرات بيئية.

هذا الرأي يقول بأن المسيحية، لا يمكن فهمها على حقيقتها بمعزل عن البيئة الحاضنة لها. لقد ولدت المسيحية في بيت يهودي، وتربت وتشكلت في بيت إغريقي. بمعنى آخر، جذورها يهودية الأصل. لكنها نمت وترعرعت في بيئة هيلينستية.

الحضارة الهيلينستية، تختلف عن الحضارة الهيلينية. الحضارة الهيلينية، هي الحضارة الإغريقية التي سادت حتى عهد الإسكندر الأكبر. أما الهيلينستية، فهي الحضارة التي سادت بعد الإسكندر، والناتجة من مزج الحضارة الهيلينية بحضارة الشرق، مصر والشام والعراق والفرس والهند.

السؤال هنا، هل المسيحية دين إستاتيكي جامد، صندق مغلق؟ أم دين ديناميكي متطور، يأخذ ويعطي؟ إذا اعتبرناه دين متطور، فيعني هذا أنه دين إستيعابي، يكون فيه التغيير أساسي، والتعديل ليس مسموحا به فقط، ولكن ضروري ولازم لاستمرار بقائه.

الديانة المسيحية، تتحلى بثلاثة خصال: التوحيد، الأخلاق، والغائية. الغائية تعني أنه لكل علة غاية ربانية. لقد ورثت المسيحية عن اليهودية، المعبد أو الكنيسة، ويوم السبت، والشريعة الموسوية.

هذه الخصال، هي روح الديانة المسيحية كما كان ينشرها المسيح. الموروث عن اليهودية، كان له تأثير غير مباشر في تكوين الديانة المسيحية في صورتها النهائية.

تأثر المسيحية بالهيلينستية، يعني اقتباثها لأفكار وثنية مثل: معجزة الميلاد، تأليه المسيح، الرب المستقل عن الكون، المخلص، معجزة القيامة، العشاء الأخير، طقوس التعميد، معجزة شفاء المرضى، إلخ.

مثل هذه الأفكار، كانت منتشرة بين الديانات القديمة: مثرا-زراديشت، أتيس، وغيرها من الطوائف الدينية (Mysteries). كما أن التعاليم التي كان ينشرها المسيح، قد تغيرت وتحولت إلى طقوس وديانة تتمركز حول طبيعة المسيح نفسه.

نفس الشئ حدث بالنسبة للدين الإسلامي. فالتعاليم النبيلة التي كان يدعوا إليها النبي المكية، قبل الهجرة إلى المدينة، والتي تدعو إلى الرحمة وقبول الآخر وحرية الأديان.

قد تغيرت هي الأخرى، وأستبدلت بتعاليم تدعو إلى قتل المخالف، وتخدم الأغراض السياسية، وتتمركز حول سيرة النبي ونسائه وصحابته. وبات المسلمون يقدسون أحاديثه والتفاسير القديمة الطافحة بالخرافات واللامعقولية، بدون فهم أو مراجعة.

ثم تعقدت الأمور بالنسبة للمسيحية، وتحولت إلى نظام كنسي معقد، يتناول الأسرار التي لها مفعول سحري، وشريعة ربانية رسمية، وطقوس محددة ومعروفة. فمن أين أتى كل هذا؟ الذين يؤمنون بتطور المسيحية، يقولون أنها أمور تم إدخالها وستيعابها بالتدريج من الديانات الوثنية التي كانت رائجة في ذلك الوقت.

في الثلاث مئة سنة الأولى، كانت المسيحية في انتشار مستمر. كان من الممكن أن تكون شيئا آخر يختلف عن صيغتها الحالية، لو تمكن آريوس من جمع أنصار كثيرين حوله في مجمع نيقية، وهي مدينة تقع حاليا في شمال غرب تركيا. وبتنا نشاهد المسيحية اليوم، وهي تؤمن بالتوحيد، بدلا من الثالوث. هكذا ببساطة.

إذا لم يقم قسطنطين الأول بفرض المسيحية، وجعلها الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، فهل يكون بإمكانها التحول إلى نظام كهنوتي سلطوي؟ وإذا لم يعتنق قسطنطين المسيحية، التي كان يعارضها في البداية إلى أن بلغ عمره 32 سنة، فهل يكون للمسيحية الآن نفس الطقوس والصفات اللاهوتية؟

العالم الإغريقي-الروماني، الذي تشكلت فيه المسيحية، كان مليئا بكل أنواع الفلسفات الدينية. لم تتأثر المسيحية بالمناخ الهيلينستي فقط، إنما تأثرت أيضا بالديانات الوثنية، وبالأخص الناحية الصوفية والناحية التنظيمية بها.

هذا الاختراق، بدأ مع بولس الرسول. ويعتبر العامل الأساسي في تحول مسار الكنيسة كنظام. فمن الصعب انتشار تعاليم المسيح اليهودية، بدون الاستعانة بالنماذج الفكرية الوثنية.

العقيدة والشريعة ورمز الأسرار الكنسية، التي سادت في القرون الأربعة الأولى من المسيحية، جاءت متأثرة بثلاث شخصيات أفريقية: تيرتليان الأمازيغي، قيبريانوس القرطاجي، وأوغسطين، من أصل أمازيغي.

رجال الكنيسة الأفارقة هؤلاء، قد ألقوا بالمسيحية في أحضان اللاعقلانية والخرافات والصمت الرهيب والجمود المميت. لكن الحضارة الإغريقية، كان لديها إرث آخر، بجانب الأسطورة، لكي تهبه للدين الوليد.

كان هناك مدرسون، يقومون بتعميد المسيحية بالروح الهيلينية، التي تحث على حرية البحث وإعمال الفكر وتدعو للتنوير. كانت هناك مدارس تثري روح المسيحية بالعقلانية. منها مدرسة الاسكندرية ومدرسة أنطاكية.

بلغت مدينة الإسكندرية درجة من التقدم الحضاري والثقافي ليس لها مثيل في العالم القديم. كانت الإسكندرية زهرة الزهرة. وكان متحفها ومكتبتها الأكبر والأعظم في ذلك الوقت. كانت مركزا للمعرفة وللتعليم لكل من يطلب العلم، بما فيهم من إغريق ويهود.

في العصر الإغريقي- الروماني (جريكو-رومان)، باتت الإسكندرية منافسا لأنطاكية وروما، كمركز للدراسات المسيحية. كانت ملتقى تيارات فكرية مختلفة عظيمة. من ثم، كانت تتعايش الأفكار المختلفة مع بعضها في سلام ووئام وقبول للآخر.

هنا في الإسكندرية، جلس الإغريق واليهود والمصريون، مسيحيون ووثنيون، جنبا إلى جنب ليستمع كل منهم إلى الآخر. هنا تداخلت الفلسفات المختلفة، ومست كل منها الأخرى، بشئ من فكرها وبريقها وأريجها.

هنا في الإسكندرية، كتبت السبعينية، التي تحتوي على: حكمة المسيح، يشوع ابن سيراخ، وكتب أخرى عظيمة، رفضتها الدوائر الفلسطينية المحافظة. شريعة العهد الجديد المقبولة في الإسكندرية، كانت أشمل من مثيلاتها في بلاد الغال، أو في إيطاليا، أو آسيا الصغرى، أو سوريا.

لقد أعطتنا الإسكندرية، فيلو والفكر الإغريقي اليهودي. الذي بنيت على خلفيته مسيحية يوحنا والأفلاطونية المسيحية. في الإسكندرية أيضا، تحولت المسيحية إلى نظام لاهوتي، ومزجت تقاليد الرسل مع الفكر الإغريقي.

مدرسة اللاهوت في الإسكندرية، كانت من كبار المؤسسات التعليمية في منتصف القرن الثاني، عندما كانت تدار بالقديس الفيلسوف بانتاينوس. الدراسة كانت تشمل العلوم الطبيعية، الفلك، الهندسة، الفلسفة، الأخلاق، إلى جانب اللاهوت.

مدرسة اللاهوت، قد تطورت من مدرسة سابقة كانت تعد المؤمنين الجدد بالمسيحية للعمادة. جاء بعد بانتاينوس، تلميذه كليمنت. الذي أصبح هو الآخر كاهنا لكنيسة الإسكندرية.

كليمنت، إغريقي المولد والفكر، تبنى دمج الهيلينية بالمسيحية. لقد كان يقدر قيمة العلوم العلمانية، فأفسح مكانا للعقل إلى جوار الوحي. وقام بتطعيم التصوف بالعقلانية. ثم انتقلت هذه الروح من كليمنت إلى تلميذه وخليفته، أوريجانوس. ابن رشد آخر.

مثل محاولة فيلو، دمج اليهودية بالهيلينية، قامت مدرسة الإسكندرية ، تحت إدارة كليمنت وأوريجانوس، بتطوير المسيحية، عن طريق تطعيمها بعناصر الحضارة الإغريقية. أي حل المعادلة الصعبة للتوفيق بين العلم والإيمان، ومصالحة الإيمان مع العقل.

إلى الآن، لم يفلح أحد في التوفيق بينهما. إذ كيف توفق بين حكاية أمنا الغولة ونظرية فيثاغورث في الهندسة المستوية. وأيهما أقرب إلى قلوب البسطاء من الناس؟

الفلسفة، كما يقول كليمنت، لا يجب أن تكون العدو، بل هي الخادم المطيع للحقيقة المسيحية. محاولت التوافق، كانت في حدود ما جاء به الوحي. وبالرغم من ذلك، كانت أعم وأشمل مما تستطيع أن تتحمله الكنيسة الأرثوذكسية.

نظام كليمنت، كان يعتمد على تعليم الإنجيل مع تعليم الفلسفة. وهي بداية لتحويل التقاليد الكنسية إلى فلسفة دين. لقد حاول توفيق بين الإنجيل وروح العصر. وهذه يدل على ليبرالية الفكر في هذه المدرسة.

إسهامات كليمنت، ذكرها أدولف كارناك، حيث يقول: "هنا توجد الصيغة والمحتوى، للعقيدة المسيحية العلمية، التي لا تتعارض مع الإيمان. هي لا تعضد وتشرح فقط بعض القضايا، لكنها ترفع العقيدة إلى مستو فكري راق. تعلو بها فوق كل سلطة كهنوتية، وكل طاعة عمياء، إلى رحاب أوسع من الثقافة والعقلانية، التي تنبع من محبة الرب."

مزج كليمنت الثقافة الإغريقية بالمسيحية. خلال هذا المزج، وجد كليمنت الحرية التي تتعارض بشدة مع الفكر السلطوي الضيق لكل من: ترتليان، قيبريانوس، وأغسطين. أفكار كليمنت لم تتعارض مع الإنجيل. في الواقع، هي أفكار تؤكد طيبة الرب، ومسؤولية الإنسان الأخلاقية، كأساس لتعاليم المسيحية الحقة.

مدرسة أنطاكية، ليست مدرسة بالمعنى التقليدي، مثل مدرسة الإسكندرية. مدرسة الإسكندرية، كانت لها طلبة ومدرسين ورؤساء متتابعين. كانت مركزا للفكر والتفاسير اللاهوتية، أي أنها كانت مركز فكري وتعليمي عظيم.

أما مدرسة أنطاكية، فكانت مدرسة تفسير. تفسير حرفي، تختلف عن مدرسة الإسكندرية في التفسير المرن، الذي يعتمد على التأويل والاستعارة. ظلت المدرستان متنافستين في تفسير الإنجيل لمدة قرنين من الزمان.

بولس الساموساطي، أحد معلمي المدرسة الأنطاكية الأوائل، كان يتبنى نظرية التوحيد. وكان يؤمن بأن المسيح ما هو إلا إنسان، إنما يوحى إليه من الروح القدس. المؤمنون بالوحدانية، يعتبرون أن ألوهية المسيح، هي نوع من الشرك بالله.

مدرسة أنطاكية، كانت ضد عقيدة الثالوث. نتج عنها الآريوسية والنسطورية. من هنا جاءت معلومات النبي محمد عن المسيحية والمسيح. في أنطاكية، تم أيضا استخدام الأسلوب التاريخي في نقد الإنجيل. مؤسس مدرسة أنطاكية، هو لوسيان الأنطاكي ( 312م). لوسيان وأوريجانس، قاما ببدء تفسير الإنجيل، وتصحيح مخطوطاته.

آريوس، أحد تلاميذ لوسيان، هو الذي ضخم الخلاف بين المدرستين. آريوس، كاهن إحدي كنائس الإسكندرية، كان معروفا بعلمه وشجاعته. النزاع بين آريوس وبابا كنيسة الإسكندرية، الكسندروس الأول، بدأ حوالي عام 320م.

آريوس، يمثل أفكار لوسيان وأوريجانوس، التي تقول بأن المسيح كائن مخلوق، ليست له طبيعة ألوهية خالدة. إلا أنه أعلى مرتبة، فوق كل المخلوقات. لكن الابن، أقل منزلة من الأب الخالق. وهذه هي المكانة الوحيدة التي يمكن أن يوضع فيها، حسب رأي آريوس.

هذا الرأي، بالطبع يغضب الكثيرين، لأنه وضع المسيح في منزلة بين الله والإنسان. مثل أوريجانوس، لم يستطع آريوس اختراق أيديولوجية العصر بعمق، ويأخذ موقفا صريحا، ويقول بأن المسيح، ما هو إلا إنسان. لكن لايزال الخلاف في وجهات النظر، كافيا لاستمرار الجدل ونشر بذور الانشقاق في الفكر.

الإمبراطور الروماني قسطنطين، تم إخباره بطريقة مشوشة عما يحدث من جدل فكري بين رجال الدين. لكنه وجد من صالحه وصالح الإمبراطورية الرومانية، بقاء الكنيسة متحدة تحت لواء واحد. لا تجزئها الهرطقات والبدع المتعارضة.

لذلك، دعا قسطنطين لعقد مجمع مسكوني، لأساقفة الكنيسة في مدينة نيقية، التي تقع في شمال غرب آسيا الصغرى، عام 325م. لم تكن القسطنطينية قد بنيت بعد. لمناقشة خلافات كنيسة الإسكندرية، التي كانت بين آريوس وأتباعه من جهه، وبين البابا وأتباعه من جهة أخرى، حول طبيعة يسوع، وهل هي نفس طبيعة الرب أم هي من طبيعة البشر.

أنصار آريوس وأصحاب فكر التوحيد بالمجمع كانوا أقلية. آريوس تم صفعه على وجهه، عندما وقف ليتكلم. الكثير من أعضاء الوفود والأساقفة، تركوا صالة الاجتماع على الفور، حتى لا يستمعوا لكلام المهرطقين.

قسطنطين، كان يترأس المجمع، لكنه لا يدري عمق الخلاف الفكري والفلسفي بين الأساقفة المختلفين في الرأي. لذلك، حسم الأمر بالطريقة السهلة. طريقة الديموقراطية وأخذ الأصوات. لكن الآراء الفلسفية لا تحسم بهذا الشكل وبمثل هذا الأسلوب. رأي الأغلبية ليس له علاقة بتأكيد الحقائق العلمية. فما هكذا تورد يا سعد الإبل.

النتيجة بالطبع، كانت في صالح فكر الثالوث. المسيح عيسى، هو ابن الرب، الابن الوحيد للآب، مولود منه وغير مخلوق، ... أما آريوس، فقد لُعِن وطرد. لكن المعركة الفكرية ظلت مشتعلة، حتى بعد مجمع نيقية.

أتباع آريوس، ظلوا على العهد والاعتقاد بأن مبدأ الثالوث، هو نوع من الشرك بالله. باقي المسيحيين الأرثوذكس بقيادة أثناسيوس، بابا الإسكندرية، ظلوا يحاربون الهراطقة، والخارجين عن الجمع، حتى اختفوا عمليا من مسرح الأحداث والتاريخ.

شوكة أخرى جاءت في حلق الكنيسة. وهي أفكار الراهب الإنجليزي بيلاجيوس (360-420م)، ودفاعه عن حرية إرادة الإنسان. قضية، هل الإنسان مسير أم مخير، قد ثار حولها جدل عظيم بين المسيحيين في القرن الخامس.

بيلاجيوس كان علامة واسع الاطلاع، ورجل فاضل ذو خلق رفيع. ظهر أول الأمر في روما، عندما كان يحارب الرزيلة ويدعوا إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة التي يحض عليها الدين المسيحي.

مع بداية القرن الخامس الميلادي، تم التضحية بتعاليم السيد المسيح، في سبيل إنشاء نظام كنسي لاهوتي. قاموا بالتضحية بالكمال الإنساني لصالح خطيئة الإنسان الكاملة.

رجال الدين في روما، فهموا الإفراط في الخطيئة، يرجع سببه إلى ضعف الإنسان. بيلاجيوس كان مقتنعا بأن عقيدة خطيئة الإنسان، والخطيئة الأولى، قضت على إرادة الإنسان وأغضبت الرب.

نحن نولد، يقول بيلاجيوس، بدون تعصب للخير أو للشر. صفحة بيضاء. لا يوجد شئ اسمه الخطيئة الأولى. الخطيئة شئ يقترفه الإنسان بمحض إرادته واختياره، وليس شيئا موروثا في طبعه. إذا كانت الخطيئة شئ موروث، فيقع ذنبها على الخالق وليس على المخلوق. أليس كذلك؟

هرطقة بيلاجيوس، تأتي من تأكيده بأن إرادة الإنسان، هي سبب الخطيئة وسبب فعل الشر. وكان يقول: "إذا عزمت، فإنني أقدر". موقف الأرثوذكس، هو أن الإرادة الإلهية، هي التي تعمل على خلاص الإنسان من خطيئته، وليست إرادة الإنسان.

الإنسان في نظر بيلاجيوس، يستطيع أن يعيش بدون خطيئة، إذا هو أراد ذلك. لأن الله قد أعطاه هذه الإرادة. إنكار الخطيئة الأولى، وعدم الإيمان بسقوط الإنسان، جعلت بيلاجيوس يصطدم مع أوغسطين، الذي كان يؤمن بأن الإنسان، قد ورث الخطيئة. طريقة خلاصه الوحيدة، تأتي من الله عن طريق فعل خاص رباني.

فيجيبة بيلاجيوس، بأن الناس ليسوا بالضرورة أشرارا. خلاصهم ومصيرهم، يعتمد على حرية إختيار كل منهم. فيذهب أوغسطين لكي يكتب العديد من الكتب، ضد الهرطقة التي بدأت تنتشر بسرعة. ثم طلب انعقاد مجمعين، نجحا في إقناع البابا بإصدار اللوم لبيلاجيوس، وحرمانه وتحريم بدعته.

مع قدوم القرن الخامس الميلادي، كانت الكنيسة المسيحية قد قررت أي الدروب تسلك. لقد إختارت صيغة الطقوس الشكلية اللاتينية، بدلا من العقلانية الإغريقية.

برفض أفكار أوريجانوس وآريوس وبيلاجيوس، وتبني أفكار ترتليان وقيبريانوس وأغسطين، أدارت المسيحية ظهرها إلى التسامح والحضارة والتفكير العقلاني، واحتضنت الدوجماتية والشريعة والطقوس.

كان يمكن استفادتها من حكمة الإغريق، لكنها صبغت نفسها واستحمت بالمعجزات وخوارق الطبيعة اللاتينية. لو كانت قد تبنت شيئا من الحضارة الجريكو-رومانية الوثنية، لحلت الكثير من مشاكلها الأيديولوجية، ومشاكلها مع العلم الحديث.

رفض المسيحية للحضارة الهيلينية، أدخل العالم المسيحي في غيابات العصور الوسطى، التي استمرت ألف سنة من الظلام والجهل والظلم والبؤس. لم تخرج منها أوروبا، إلا في عصر النهضة، وعودة الانفتاح على الحضارة الهيلينية.

كذلك، رفض المسلمين للحضارة الهيلينية، ومحاربتهم لفكر أفلاطون وأرسطو وفكر المعتزلة، وقفلهم لباب الاجتهاد بالضبة والمفتاح، أدخلهم في عصر الظلمات. الذي استمر أكثر من ألف سنة، ولم يخرجوا منه إلى اليوم.

رفضهم للحضارة الهيلينية التي تمجد العقل وتمسكهم بالقديم البالي الذي لم يعد يواكب العصر، جعل بركة حضارتهم تجف. فتحولت شعوبهم إلى أسماك متوحشة تأكل بعضها البعض.

النتيجة، هي شعوب بدون عقل ولا قلب ولا ضمير، لا تنتمي للجنس البشري بصلة، ولا تستطيع أن تنتج غير مخلوقات مشوهة، مثل مخلوقات فرانكشتين، ومثل أفراد القاعدة وداعش وأخواتها.

الحضارة الإغريقية، تعتمد على العلوم والفلسفة وإعمال العقل والفنون والآداب والموسيقى والجمال والمسرح والشعر. واستيعاب الجديد وانتقاء الجيد من بين الخيارات. والاستفادة من أفضل العناصر المتاحة. أما المسيحية الإفريقية، فتعتمد على الزهد والاعتكاف واحتقار حياة الحضارة والمدنية.

الحضارة الإغريقية لديها الطب والدواء، والمسيحية والإسلام يؤمنان بالشياطين والجن الذي يلبس الإنسان فيمرض، والحسد والنساء الساحرات.

الحضارة الإغريقية تثق في الإنسان وتؤمن بقدراته، التي جعلته يذهب لكي يمشي على سطح القمر ويعود سالما، هي أفيد ألف مرة من عدم الثقة في قدرات الإنسان، ومن الطقوس والأسرار التي تتبعها الكنيسة المسيحية أو الإسلام اليوم.

عندما أدارت الكنيسة ظهرها إلى أوريجانوس، وأدار المسلمون ظهورهم إلى ابن رشد، الذي كان يريد تعميد الدين بالعقلانية. وعندما اختارت الكنيسة أن تتبع أوغسطين، واختار المسلمون أن يتبعوا الغزالي، وقفلوا باب الاجتهاد، أسبلوا على أنفسهم ستارا كثيفا من الظلام والبؤس، ووقعوا فريسة للإيمان بالخرافات. وباتت المسيحية والإسلام اليوم، ينطبق عليهما قول دين إنجي: "الدين ينجح وينتشر، لا لأنه صحيح، ولكن لأنه يناسب عقلية المؤمنين به"



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلامة أوريجانوس – كتاباته وأفكاره
- العلامة أوريجانوس، المغضوب عليه من الكنيسة المصرية
- جبتك يا عبد المعين تعين
- عصر التعقل لتوماس بين 1
- تطوّرَ المرض اللعين، والأزهر لا يفل ولا يلين
- مشايخ ومشايخ
- الميكانيكا الكمية – كيف خلقت المادة من الفراغ؟
- الميكانيكا الكمية – الفراغ الكوني ليس فراغا
- الميكانيكا الكمية – شئ من نظرية النسبية
- الميكانيكا الكمية – أشعة بيتا والنيوترينو
- الميكانيكا الكمية – النواة قطرة سائلة
- الميكانيكا الكمية – قوة ربط النواة وأنفاقها
- الميكانيكا الكمية – الغوص في أعماق الذرة
- الميكانيكا الكمية – الإلكترون سحابة حول النواة
- الميكانيكا الكمية – ألاعيب شيحة والنط من فوق الأسوار
- الميكانيكا الكمية – مبدأ عدم اليقين لهيزنبرج
- الميكانيكا الكمية – الموجة الاحتمالية
- الميكانيكا الكمية – الطبيعة الموجية للمادة
- الميكانيكا الكمية – ما هو الضوء ومن أين يأتي؟
- الميكانيكا الكمية – أول الغيث قطرة


المزيد.....




- الحكومة المصرية تعطي الضوء الأخضر للتصالح في مخالفات البناء. ...
- الداخلية المصرية تصدر بيانا بشأن مقتل رجل أعمال كندي الجنسية ...
- -نتنياهو يعرف أن بقاء حماس يعني هزيمته-
- غروسي يطالب إيران باتخاذ -إجراءات ملموسة- لتسريع المفاوضات ح ...
- تشييع جثمان جندي إسرائيلي قُتل في هجوم بطائرة مسيرة تابعة لح ...
- أمام المحكمة - ممثلة إباحية سابقة تصف -اللقاء- الجنسي مع ترا ...
- واشنطن تستعيد أمريكيين وغربيين من مراكز احتجاز -داعش- بسوريا ...
- واشنطن لا ترى سببا لتغيير جاهزية قواتها النووية بسبب التدريب ...
- بايدن: لا مكان لمعاداة السامية وخطاب الكراهية في الولايات ال ...
- مصادر لـRT: الداخلية المصرية شكلت فريقا أمنيا لفحص ملابسات م ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - كيف سقطت المسيحية في ظلمات العصور الوسطى