أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج















المزيد.....



المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4693 - 2015 / 1 / 16 - 11:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)
يعتبرُ الإسلامُ كلَّ جديد بدعةً, وكلَّ بدعة ضلالةً. والضلالة تؤدي إلى النار. ولهذا يتردد المسلم في التفكير في التجديد و الابتكار أو تغيير ما هو قديم إلى جديد. لأنه يعتقد أن الابتكار والإبداع هو بدعة تقود إلى الضلالة, وسيؤدي به إلى نار جهنم . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة.(57)
المسلم يعيش بحالة انعدام التفكير من الولادة حتى الممات, طالما يقرأ القرأن ويطبق تعاليمه ويستمع لشرح الشيخ الإمام ويقبل ان يُغسل دماغه برضاه وأن لا يستخدم نعمة العقل الذي يميزه عن الحيوان . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة. فكيف يجروء المسلم على الإبداع الفكري والعقلي أو التوجه إلى الاختراع أو ابتداع شئ غير موجود سابقا، لأنه حسب حكم القرآن ان كل جديد سيكون بحكم البدعة التي تعتبر ضلالة، وهذه مخالفة صريحة لحكم القرآن والنتيجة ستؤول به الى نار جهنم وبئس المهاد بسب إبداعه . فافضل طريقة لكسب رضى الله بالنسبة للمسلم وعدم إغضابه ـ التمسك باحكام القرآن والاكتفاء بما لديه من معلومات وعدم استخدام العقل، بل الاكتفاء بالنقل الأعمى الموروث منذ 1400 عام . وعدم الاتجاه للابداع والتحول نحو الضلالة. في القرآن أكثر من 130 آية تهدد الانسان بالعذاب فأيُّ أبداعٍ يُنتظَر من شخص يتملَّكه خوفُ الشواء في النار.(58)

لقد عبَّر نزار قباني عن إغلاق العقل واتباع قول الإمام والشيخ في قصيدة "المؤمن الخروف": من قتلَ الإمام"

يَعرِفُني في حارتي الصغيرُ والكبيرْ.
يَعرِفُني الأطفالُ والأشجارُ والحَمامْ.
وأنبياءُ الله يعرفونني
عليهمُ الصلاةُ و السلامْ.
الصلواتُ الخمسُ لا أقطعها
يا سادتي الكِرامْ.
وخُطبةُ الجمعة لا تفوتني
يا سادتي الكرامْ.
[...]
في ربع قرنٍ وأنا
أمارسُ الركوعَ و السجودْ.
أمارسُ القيامَ و القعودْ.
أمارسُ التشخيص خلف حضرة الإمامْ.
[....]
وهكذا يا سادتي الكِرامْ.
قضيتُ عشرين سَنَةْ.
أعيشُ في حظيرة الأغنامْ.
أُعلَفُ كالأغنامْ.
أنامُ كالأغنامْ.
أبولُ كالأغنامْ.
أدورُ كالحبَّةِ في مَسْبحةِ الإمامْ.
أعيد كالببغاء
كلَّ ما يقولُ حضرةُ الإمامْ
لا عقلَ لي... لا رأسَ... لا أقدامْ...
[...]
قضيتُ عشرين سَنَةْ
مكوَّماً... كرزمةِ القشِّ على السجَّادة الحمراءْ.
أُجلَدُ كلَّ جمعة بخُطبةٍ غرَّاءْ.
أبتلع البيانَ والبديعَ والقصائدَ العصماءْ.
أبتلع الهُراء...
عشرين عاماً
وأنا يا سادتي
أسكنُ في طاحونةٍ
ما طحنَت قطُّ سوى الهواءْ.(59)
تحريرَ الإنسان يتطلَّب تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة
عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ. إن العقل المكبَّل لا يبني إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.(60)
من يضع ثقته وايمانه في الدين فقط لا يحتاج إلى العلم, وهذا هو الغالب في عالمنا العربي- الإسلامي. وفي هذه الحالة يتعثر التقدم ولا يمكنه الاستمرار. وهذا ما جعل المجتمعات العربية تراوح في مكانها منذ قرون وتكون بذلك اقرب الى العصور الوسطى منها الى العصر الحديث. يقول نيتشه: إما ان تلغوا مقدساتكم أو تلغوا أنفسكم.(61)

حضور الثقافة والمثقفين في العالم العربي راهناً ربما نزل إلى مستوى خطير، وذلك على صعيدي الأمية الأبجدية والأمية الثقافية. فمحور الثقافة المطروح في تقرير كارنيجي إذا أريد له أن يصل إلى المجال الحواري المثمر من الضروري أن يوضع مع محور السياسة جنباً إلى جنب، فتكوين مؤسسات جادة لمعالجة الثقافة والأمية- التخلف الثقافي (والديني)، يبرز هنا بمثابته واحدة من النقاط الحاسمة في الإصلاح الثقافي، ومن ثم في المشروع العربي الحضاري. أن النهضة لا يقودها الا العقل وطالما بقى العقل مُغيبا فان النهضة لا معنى لها.(62)

ولعل أكثر ما تحتاجه المجتمعات العربية للوصول إلى منظومة متكاملة يتحول فيها الإبداع إلى مصدر لاقتصاداتها، هو تغيير أساليب التعليم، فرأس المال البشرى في الاقتصاد الحديث، ما هو إلا محصلة تعليم يسهم في بناء عقول متميزة قادرة على الإبداع والابتكار وخلق الثروة، والمنافسة دولياً، وارتفاع جودة التعليم، وفقاً للمعايير الدولية، من شأنه أن يدعم فرص تحقيق التطور الاقتصادي من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الناتج المحلى الإجمالي، وعلى صانع القرار السياسي والاقتصادي العربي أن يدرك أن المؤسسات التعليمية من جامعات ومعامل ومراكز أبحاث، قبل غيرها، هي التي ستحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون المقبلة، وهو ما يفرض نوعية بعض المدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكري والموارد البشرية اللازمة للاقتصاد القائم على المعرفة، لذا فنحن في عالمنا العربي علينا أن نتعلم لنكون مبدعين، ونحن في حاجة للتعليم الذاتي المستمر، وهذا يجعل المعلمين (بشرط تأهيلهم) من الطبقة الإبداعية الجديدة. بحيث يجب أن تكون الأهداف الجديدة للتعليم تطوير الملكات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، والتصرف بمسئولية تجاه الآخرين، والمبادرة والعمل الجماعي، والقدرة على مواصلة التعلم، وأن يتولى تقديم التعليم منظمات أقدر على تحديد احتياجات المتعلمين وذلك في سياق إعادة بناء جذري للمؤسسة التعليمية.(63)

ذلك كله ينبغي ربطه بملف الإصلاح الديني بهدف تحرير الخيارات الحياتية التي تستند إليها مشاريع البحوث والدراسات اللازمة، لنقض المحاور الخطيرة في المشروع الحضاري - الثقافي العربي، من أمثال محاور المرأة وكفاحها من أجل تحررها واستقلالها وإيصالها إلى مستوى المواطن الحر فكراً وعملاً، وذلك في نطاق ذلك المشروع، أما المهم الحاسم هنا فيبرز في المقولة الأكثر أهمية في المجتمعات العربية المتمثلة في المجتمع المدني والدولة المؤسساتية والقضاء الحر واستقلال السلطات، وسيادة القانون.(64)

هوامش الفصل الثاني
(1) العراق في التاريخ، ص235-238.
(2) نزار الحديثي، "العراق عند مجيء الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص7- 9.
(3) العراق في التاريخ، ص251- 252.
(4) نفسه، ص252 – 253.
(5) نفسه، ص 257، ص259.
(6) ناجي التكريتي، "فلسفة الأخلاق"، حضارة العراق، ج8، ص293.
(7) هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، ج1، بغداد 1989، ص29- 30.
(8) فيليب حبيب وآخرون، تاريخ العرب، بيروت 1974، ص130- 132..، هنري فوستر، ص31.
(9) صحيفة الوسط,الفكر الفلسفي والخمول الاجتماعي
http://www.alwasatnews.com/3043/news/read/519198/1.html
(10) نفسه.
(11) (11) نشأة وتطوّر الفلسفة الإسلامية
https://www.google.se/search?q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D9%84%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&ie=utf-8&oe=utf-8&aq=t&rls=org.mozilla:en-US:official&client=firefox-beta&channel=np&source=hp&gfe_rd=cr&ei=oQlJVKWIE4mr8weU9IDoAg#rls=org.mozilla:en-US:official&channel=np&q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&spell=1
(12) نفسه.
(13) نفسه.
(14) نفسه
(15) نفسه.
(16) د. كامل النجار، قراءة نقدية للإسلام.
http://www.il7ad.com/topic/24841-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1
(17) نفسه.
(18) نفسه.
(19) نفسه.
(20) نفسه.
(21) محمد حسين الزبيدي، "المجتمع العراقي في صدر الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص40.
(22) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، بيروت 1979، ص414..، جميل قاسم، "الإسلام والحداثة الفكرية"، الوحدة، العدد 85، الرباط 1991، ص41- 41.
(23) حسين مروة، ص415- 422.
(24) نفسه، ص419..، عبدالعزيز الدوري، "الإسلام وانتشار اللغة العربية"، ندوة القومية العربية والإسلام،ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1981، ص62.
(25) ناجي التكريتي، ص297..، عبدالعزيز الدوري، ص62.
(26) عبدالوهاب الأمين، النظم المقارنة- دراسة مقارنة: الرأسمالية، الاشتراكية، الإسلام، الكويت، 1986، ص321- 322.
(27) عبدالعزيز الدوري، ص62.
(28) العراق في التاريخ، ص354- 355..، نزار الحديثي، ص18- 19.
(29) ميثم الجنابي، "الروح الثقافي الإسلامي"، الثقافة الجديدة، العدد 303، دمشق2001، ص79- 83..، ناجي التكريتي، ص291.
(30) هنري فوستر، ص44.
(31) عبدالعزيز الدوري، ص65-66..، نفسه، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص35.
(32) سليم مطر, الذات الجريحة- إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1997، ص262-263.
(33) حسين مروة، ص427- 248.
(34) نفسه، ص430- 431.
(35) نفسه، ص447- 448.
(36) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها سنة 11-656هـ"، حضارة العراق، ج6، ص11- 12..، فيليب حبيب، ص247.
(37) حسين مروة، ص422- 423، ص435- 436.
(38) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (أو عصر النهضة في الإسلام)، ج1، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي لبنان، (بدون سنة طبع)، ص161.
(39) علي أومليل، الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون- التاريخ الاجتماعي للوطن العربي، بالأصل رسالة دكتوراه، بيروت، ( بدون سنة طبع)، ص16.
(40) حسين مروة، ص436- 438.
(41) نفسه، ص439.
(42) جوزيف مغيزل، "الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والإسلام، ص365- 366.
(43) حسين مروة، ص522.
(44) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها"، حضارة العراق، ج6، ص14.
(45) حسين مروة، ص473.
(46) نفسه، ص474- 475..، جوزيف مغيزل، ص363.
(47) حسين مروة، ص474- 476.
(48) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص236.
(49) هاشم يحيى الملاح، ص19- 20.
(50) فيليب حبيب، ص359.
(51) عبدالعزيز سالم، العصر العباسي الأول، الاسكندرية (بدون سنة طبع)، ص295.
(52) فيليب حبيب، ص374.
(53) جوزيف مغيزل، 363.
(54) بدري محمد فهد، "المجتمع العراقي في العصر العباسي"، حضارة العراق، ج5، ص56.
(55) تقي الدين عارف الدوري، "تأثيرات العراق الحضارية"، حضارة العراق، ج8، ص499- 500..، محمد جاسم المشهداني، "الفكر التاريخي والجغرافي"، حضارة العراق، ج8، ص145- 146..، العراق في التاريخ، ص363.
(56) فيليب حبيب، ص358- 359.
(57) العراق في التاريخ، ص388..، هنري فوستر، ص39- 40.
(58) فيليب حبيب، ص368.
(59) هنري فوستر، ص41- 43.
(60) نفسه، ص44- 45.
(61) آدم ميتز، ج2، ص157- 158.
(62) فيليب حبيب، ص409- 422..، عبدالعزيز سالم، ص296-297..، بدري محمد فهد، ص61.
(63) فيليب حبيب، ص368.
** استمرت عادة نثر النقود في العراق بمناسبة تلك الاحتفالات لغاية العصر الحديث. كذلك استمرت عادة لبس االخفاف الذهب والعباءة المطرزة بالذهب وغيرها بين نساء الذوات من العوائل الثرية. وكان هذا الأمر محل أحاديث معروفة بالنسبة لنساء عائلة كليدار الإمام الكاظم أثناء عمل الباحث في أوقاف الكاظمية للفترة 1960- 1969.
(64) بدري محمد فهد، ص100.































ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)
يعتبرُ الإسلامُ كلَّ جديد بدعةً, وكلَّ بدعة ضلالةً. والضلالة تؤدي إلى النار. ولهذا يتردد المسلم في التفكير في التجديد و الابتكار أو تغيير ما هو قديم إلى جديد. لأنه يعتقد أن الابتكار والإبداع هو بدعة تقود إلى الضلالة, وسيؤدي به إلى نار جهنم . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة.(57)
المسلم يعيش بحالة انعدام التفكير من الولادة حتى الممات, طالما يقرأ القرأن ويطبق تعاليمه ويستمع لشرح الشيخ الإمام ويقبل ان يُغسل دماغه برضاه وأن لا يستخدم نعمة العقل الذي يميزه عن الحيوان . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة. فكيف يجروء المسلم على الإبداع الفكري والعقلي أو التوجه إلى الاختراع أو ابتداع شئ غير موجود سابقا، لأنه حسب حكم القرآن ان كل جديد سيكون بحكم البدعة التي تعتبر ضلالة، وهذه مخالفة صريحة لحكم القرآن والنتيجة ستؤول به الى نار جهنم وبئس المهاد بسب إبداعه . فافضل طريقة لكسب رضى الله بالنسبة للمسلم وعدم إغضابه ـ التمسك باحكام القرآن والاكتفاء بما لديه من معلومات وعدم استخدام العقل، بل الاكتفاء بالنقل الأعمى الموروث منذ 1400 عام . وعدم الاتجاه للابداع والتحول نحو الضلالة. في القرآن أكثر من 130 آية تهدد الانسان بالعذاب فأيُّ أبداعٍ يُنتظَر من شخص يتملَّكه خوفُ الشواء في النار.(58)

لقد عبَّر نزار قباني عن إغلاق العقل واتباع قول الإمام والشيخ في قصيدة "المؤمن الخروف": من قتلَ الإمام"

يَعرِفُني في حارتي الصغيرُ والكبيرْ.
يَعرِفُني الأطفالُ والأشجارُ والحَمامْ.
وأنبياءُ الله يعرفونني
عليهمُ الصلاةُ و السلامْ.
الصلواتُ الخمسُ لا أقطعها
يا سادتي الكِرامْ.
وخُطبةُ الجمعة لا تفوتني
يا سادتي الكرامْ.
[...]
في ربع قرنٍ وأنا
أمارسُ الركوعَ و السجودْ.
أمارسُ القيامَ و القعودْ.
أمارسُ التشخيص خلف حضرة الإمامْ.
[....]
وهكذا يا سادتي الكِرامْ.
قضيتُ عشرين سَنَةْ.
أعيشُ في حظيرة الأغنامْ.
أُعلَفُ كالأغنامْ.
أنامُ كالأغنامْ.
أبولُ كالأغنامْ.
أدورُ كالحبَّةِ في مَسْبحةِ الإمامْ.
أعيد كالببغاء
كلَّ ما يقولُ حضرةُ الإمامْ
لا عقلَ لي... لا رأسَ... لا أقدامْ...
[...]
قضيتُ عشرين سَنَةْ
مكوَّماً... كرزمةِ القشِّ على السجَّادة الحمراءْ.
أُجلَدُ كلَّ جمعة بخُطبةٍ غرَّاءْ.
أبتلع البيانَ والبديعَ والقصائدَ العصماءْ.
أبتلع الهُراء...
عشرين عاماً
وأنا يا سادتي
أسكنُ في طاحونةٍ
ما طحنَت قطُّ سوى الهواءْ.(59)
تحريرَ الإنسان يتطلَّب تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة
عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ. إن العقل المكبَّل لا يبني إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.(60)
من يضع ثقته وايمانه في الدين فقط لا يحتاج إلى العلم, وهذا هو الغالب في عالمنا العربي- الإسلامي. وفي هذه الحالة يتعثر التقدم ولا يمكنه الاستمرار. وهذا ما جعل المجتمعات العربية تراوح في مكانها منذ قرون وتكون بذلك اقرب الى العصور الوسطى منها الى العصر الحديث. يقول نيتشه: إما ان تلغوا مقدساتكم أو تلغوا أنفسكم.(61)

حضور الثقافة والمثقفين في العالم العربي راهناً ربما نزل إلى مستوى خطير، وذلك على صعيدي الأمية الأبجدية والأمية الثقافية. فمحور الثقافة المطروح في تقرير كارنيجي إذا أريد له أن يصل إلى المجال الحواري المثمر من الضروري أن يوضع مع محور السياسة جنباً إلى جنب، فتكوين مؤسسات جادة لمعالجة الثقافة والأمية- التخلف الثقافي (والديني)، يبرز هنا بمثابته واحدة من النقاط الحاسمة في الإصلاح الثقافي، ومن ثم في المشروع العربي الحضاري. أن النهضة لا يقودها الا العقل وطالما بقى العقل مُغيبا فان النهضة لا معنى لها.(62)

ولعل أكثر ما تحتاجه المجتمعات العربية للوصول إلى منظومة متكاملة يتحول فيها الإبداع إلى مصدر لاقتصاداتها، هو تغيير أساليب التعليم، فرأس المال البشرى في الاقتصاد الحديث، ما هو إلا محصلة تعليم يسهم في بناء عقول متميزة قادرة على الإبداع والابتكار وخلق الثروة، والمنافسة دولياً، وارتفاع جودة التعليم، وفقاً للمعايير الدولية، من شأنه أن يدعم فرص تحقيق التطور الاقتصادي من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الناتج المحلى الإجمالي، وعلى صانع القرار السياسي والاقتصادي العربي أن يدرك أن المؤسسات التعليمية من جامعات ومعامل ومراكز أبحاث، قبل غيرها، هي التي ستحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون المقبلة، وهو ما يفرض نوعية بعض المدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكري والموارد البشرية اللازمة للاقتصاد القائم على المعرفة، لذا فنحن في عالمنا العربي علينا أن نتعلم لنكون مبدعين، ونحن في حاجة للتعليم الذاتي المستمر، وهذا يجعل المعلمين (بشرط تأهيلهم) من الطبقة الإبداعية الجديدة. بحيث يجب أن تكون الأهداف الجديدة للتعليم تطوير الملكات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، والتصرف بمسئولية تجاه الآخرين، والمبادرة والعمل الجماعي، والقدرة على مواصلة التعلم، وأن يتولى تقديم التعليم منظمات أقدر على تحديد احتياجات المتعلمين وذلك في سياق إعادة بناء جذري للمؤسسة التعليمية.(63)

ذلك كله ينبغي ربطه بملف الإصلاح الديني بهدف تحرير الخيارات الحياتية التي تستند إليها مشاريع البحوث والدراسات اللازمة، لنقض المحاور الخطيرة في المشروع الحضاري - الثقافي العربي، من أمثال محاور المرأة وكفاحها من أجل تحررها واستقلالها وإيصالها إلى مستوى المواطن الحر فكراً وعملاً، وذلك في نطاق ذلك المشروع، أما المهم الحاسم هنا فيبرز في المقولة الأكثر أهمية في المجتمعات العربية المتمثلة في المجتمع المدني والدولة المؤسساتية والقضاء الحر واستقلال السلطات، وسيادة القانون.(64)

هوامش الفصل الثاني
(1) العراق في التاريخ، ص235-238.
(2) نزار الحديثي، "العراق عند مجيء الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص7- 9.
(3) العراق في التاريخ، ص251- 252.
(4) نفسه، ص252 – 253.
(5) نفسه، ص 257، ص259.
(6) ناجي التكريتي، "فلسفة الأخلاق"، حضارة العراق، ج8، ص293.
(7) هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، ج1، بغداد 1989، ص29- 30.
(8) فيليب حبيب وآخرون، تاريخ العرب، بيروت 1974، ص130- 132..، هنري فوستر، ص31.
(9) صحيفة الوسط,الفكر الفلسفي والخمول الاجتماعي
http://www.alwasatnews.com/3043/news/read/519198/1.html
(10) نفسه.
(11) (11) نشأة وتطوّر الفلسفة الإسلامية
https://www.google.se/search?q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D9%84%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&ie=utf-8&oe=utf-8&aq=t&rls=org.mozilla:en-US:official&client=firefox-beta&channel=np&source=hp&gfe_rd=cr&ei=oQlJVKWIE4mr8weU9IDoAg#rls=org.mozilla:en-US:official&channel=np&q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&spell=1
(12) نفسه.
(13) نفسه.
(14) نفسه
(15) نفسه.
(16) د. كامل النجار، قراءة نقدية للإسلام.
http://www.il7ad.com/topic/24841-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1
(17) نفسه.
(18) نفسه.
(19) نفسه.
(20) نفسه.
(21) محمد حسين الزبيدي، "المجتمع العراقي في صدر الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص40.
(22) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، بيروت 1979، ص414..، جميل قاسم، "الإسلام والحداثة الفكرية"، الوحدة، العدد 85، الرباط 1991، ص41- 41.
(23) حسين مروة، ص415- 422.
(24) نفسه، ص419..، عبدالعزيز الدوري، "الإسلام وانتشار اللغة العربية"، ندوة القومية العربية والإسلام،ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1981، ص62.
(25) ناجي التكريتي، ص297..، عبدالعزيز الدوري، ص62.
(26) عبدالوهاب الأمين، النظم المقارنة- دراسة مقارنة: الرأسمالية، الاشتراكية، الإسلام، الكويت، 1986، ص321- 322.
(27) عبدالعزيز الدوري، ص62.
(28) العراق في التاريخ، ص354- 355..، نزار الحديثي، ص18- 19.
(29) ميثم الجنابي، "الروح الثقافي الإسلامي"، الثقافة الجديدة، العدد 303، دمشق2001، ص79- 83..، ناجي التكريتي، ص291.
(30) هنري فوستر، ص44.
(31) عبدالعزيز الدوري، ص65-66..، نفسه، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص35.
(32) سليم مطر, الذات الجريحة- إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1997، ص262-263.
(33) حسين مروة، ص427- 248.
(34) نفسه، ص430- 431.
(35) نفسه، ص447- 448.
(36) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها سنة 11-656هـ"، حضارة العراق، ج6، ص11- 12..، فيليب حبيب، ص247.
(37) حسين مروة، ص422- 423، ص435- 436.
(38) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (أو عصر النهضة في الإسلام)، ج1، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي لبنان، (بدون سنة طبع)، ص161.
(39) علي أومليل، الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون- التاريخ الاجتماعي للوطن العربي، بالأصل رسالة دكتوراه، بيروت، ( بدون سنة طبع)، ص16.
(40) حسين مروة، ص436- 438.
(41) نفسه، ص439.
(42) جوزيف مغيزل، "الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والإسلام، ص365- 366.
(43) حسين مروة، ص522.
(44) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها"، حضارة العراق، ج6، ص14.
(45) حسين مروة، ص473.
(46) نفسه، ص474- 475..، جوزيف مغيزل، ص363.
(47) حسين مروة، ص474- 476.
(48) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص236.
(49) هاشم يحيى الملاح، ص19- 20.
(50) فيليب حبيب، ص359.
(51) عبدالعزيز سالم، العصر العباسي الأول، الاسكندرية (بدون سنة طبع)، ص295.
(52) فيليب حبيب، ص374.
(53) جوزيف مغيزل، 363.
(54) بدري محمد فهد، "المجتمع العراقي في العصر العباسي"، حضارة العراق، ج5، ص56.
(55) تقي الدين عارف الدوري، "تأثيرات العراق الحضارية"، حضارة العراق، ج8، ص499- 500..، محمد جاسم المشهداني، "الفكر التاريخي والجغرافي"، حضارة العراق، ج8، ص145- 146..، العراق في التاريخ، ص363.
(56) فيليب حبيب، ص358- 359.
(57) العراق في التاريخ، ص388..، هنري فوستر، ص39- 40.
(58) فيليب حبيب، ص368.
(59) هنري فوستر، ص41- 43.
(60) نفسه، ص44- 45.
(61) آدم ميتز، ج2، ص157- 158.
(62) فيليب حبيب، ص409- 422..، عبدالعزيز سالم، ص296-297..، بدري محمد فهد، ص61.
(63) فيليب حبيب، ص368.
** استمرت عادة نثر النقود في العراق بمناسبة تلك الاحتفالات لغاية العصر الحديث. كذلك استمرت عادة لبس االخفاف الذهب والعباءة المطرزة بالذهب وغيرها بين نساء الذوات من العوائل الثرية. وكان هذا الأمر محل أحاديث معروفة بالنسبة لنساء عائلة كليدار الإمام الكاظم أثناء عمل الباحث في أوقاف الكاظمية للفترة 1960- 1969.
(64) بدري محمد فهد، ص100.































ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)

يعتبرُ الإسلامُ كلَّ جديد بدعةً, وكلَّ بدعة ضلالةً. والضلالة تؤدي إلى النار. ولهذا يتردد المسلم في التفكير في التجديد و الابتكار أو تغيير ما هو قديم إلى جديد. لأنه يعتقد أن الابتكار والإبداع هو بدعة تقود إلى الضلالة, وسيؤدي به إلى نار جهنم . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة.(57)
المسلم يعيش بحالة انعدام التفكير من الولادة حتى الممات, طالما يقرأ القرأن ويطبق تعاليمه ويستمع لشرح الشيخ الإمام ويقبل ان يُغسل دماغه برضاه وأن لا يستخدم نعمة العقل الذي يميزه عن الحيوان . فالإسلام يشلُّ نفسيةَ المسلمين فلا تعود قادرةً على التقدم ولا على التجديد ما دامت محكومةً بدستور القرآن وقوانينه الرادعة. فكيف يجروء المسلم على الإبداع الفكري والعقلي أو التوجه إلى الاختراع أو ابتداع شئ غير موجود سابقا، لأنه حسب حكم القرآن ان كل جديد سيكون بحكم البدعة التي تعتبر ضلالة، وهذه مخالفة صريحة لحكم القرآن والنتيجة ستؤول به الى نار جهنم وبئس المهاد بسب إبداعه . فافضل طريقة لكسب رضى الله بالنسبة للمسلم وعدم إغضابه ـ التمسك باحكام القرآن والاكتفاء بما لديه من معلومات وعدم استخدام العقل، بل الاكتفاء بالنقل الأعمى الموروث منذ 1400 عام . وعدم الاتجاه للابداع والتحول نحو الضلالة. في القرآن أكثر من 130 آية تهدد الانسان بالعذاب فأيُّ أبداعٍ يُنتظَر من شخص يتملَّكه خوفُ الشواء في النار.(58)

لقد عبَّر نزار قباني عن إغلاق العقل واتباع قول الإمام والشيخ في قصيدة "المؤمن الخروف": من قتلَ الإمام"

يَعرِفُني في حارتي الصغيرُ والكبيرْ.
يَعرِفُني الأطفالُ والأشجارُ والحَمامْ.
وأنبياءُ الله يعرفونني
عليهمُ الصلاةُ و السلامْ.
الصلواتُ الخمسُ لا أقطعها
يا سادتي الكِرامْ.
وخُطبةُ الجمعة لا تفوتني
يا سادتي الكرامْ.
[...]
في ربع قرنٍ وأنا
أمارسُ الركوعَ و السجودْ.
أمارسُ القيامَ و القعودْ.
أمارسُ التشخيص خلف حضرة الإمامْ.
[....]
وهكذا يا سادتي الكِرامْ.
قضيتُ عشرين سَنَةْ.
أعيشُ في حظيرة الأغنامْ.
أُعلَفُ كالأغنامْ.
أنامُ كالأغنامْ.
أبولُ كالأغنامْ.
أدورُ كالحبَّةِ في مَسْبحةِ الإمامْ.
أعيد كالببغاء
كلَّ ما يقولُ حضرةُ الإمامْ
لا عقلَ لي... لا رأسَ... لا أقدامْ...
[...]
قضيتُ عشرين سَنَةْ
مكوَّماً... كرزمةِ القشِّ على السجَّادة الحمراءْ.
أُجلَدُ كلَّ جمعة بخُطبةٍ غرَّاءْ.
أبتلع البيانَ والبديعَ والقصائدَ العصماءْ.
أبتلع الهُراء...
عشرين عاماً
وأنا يا سادتي
أسكنُ في طاحونةٍ
ما طحنَت قطُّ سوى الهواءْ.(59)
تحريرَ الإنسان يتطلَّب تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة
عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ. إن العقل المكبَّل لا يبني إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.(60)
من يضع ثقته وايمانه في الدين فقط لا يحتاج إلى العلم, وهذا هو الغالب في عالمنا العربي- الإسلامي. وفي هذه الحالة يتعثر التقدم ولا يمكنه الاستمرار. وهذا ما جعل المجتمعات العربية تراوح في مكانها منذ قرون وتكون بذلك اقرب الى العصور الوسطى منها الى العصر الحديث. يقول نيتشه: إما ان تلغوا مقدساتكم أو تلغوا أنفسكم.(61)

حضور الثقافة والمثقفين في العالم العربي راهناً ربما نزل إلى مستوى خطير، وذلك على صعيدي الأمية الأبجدية والأمية الثقافية. فمحور الثقافة المطروح في تقرير كارنيجي إذا أريد له أن يصل إلى المجال الحواري المثمر من الضروري أن يوضع مع محور السياسة جنباً إلى جنب، فتكوين مؤسسات جادة لمعالجة الثقافة والأمية- التخلف الثقافي (والديني)، يبرز هنا بمثابته واحدة من النقاط الحاسمة في الإصلاح الثقافي، ومن ثم في المشروع العربي الحضاري. أن النهضة لا يقودها الا العقل وطالما بقى العقل مُغيبا فان النهضة لا معنى لها.(62)

ولعل أكثر ما تحتاجه المجتمعات العربية للوصول إلى منظومة متكاملة يتحول فيها الإبداع إلى مصدر لاقتصاداتها، هو تغيير أساليب التعليم، فرأس المال البشرى في الاقتصاد الحديث، ما هو إلا محصلة تعليم يسهم في بناء عقول متميزة قادرة على الإبداع والابتكار وخلق الثروة، والمنافسة دولياً، وارتفاع جودة التعليم، وفقاً للمعايير الدولية، من شأنه أن يدعم فرص تحقيق التطور الاقتصادي من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الناتج المحلى الإجمالي، وعلى صانع القرار السياسي والاقتصادي العربي أن يدرك أن المؤسسات التعليمية من جامعات ومعامل ومراكز أبحاث، قبل غيرها، هي التي ستحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون المقبلة، وهو ما يفرض نوعية بعض المدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكري والموارد البشرية اللازمة للاقتصاد القائم على المعرفة، لذا فنحن في عالمنا العربي علينا أن نتعلم لنكون مبدعين، ونحن في حاجة للتعليم الذاتي المستمر، وهذا يجعل المعلمين (بشرط تأهيلهم) من الطبقة الإبداعية الجديدة. بحيث يجب أن تكون الأهداف الجديدة للتعليم تطوير الملكات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، والتصرف بمسئولية تجاه الآخرين، والمبادرة والعمل الجماعي، والقدرة على مواصلة التعلم، وأن يتولى تقديم التعليم منظمات أقدر على تحديد احتياجات المتعلمين وذلك في سياق إعادة بناء جذري للمؤسسة التعليمية.(63)

ذلك كله ينبغي ربطه بملف الإصلاح الديني بهدف تحرير الخيارات الحياتية التي تستند إليها مشاريع البحوث والدراسات اللازمة، لنقض المحاور الخطيرة في المشروع الحضاري - الثقافي العربي، من أمثال محاور المرأة وكفاحها من أجل تحررها واستقلالها وإيصالها إلى مستوى المواطن الحر فكراً وعملاً، وذلك في نطاق ذلك المشروع، أما المهم الحاسم هنا فيبرز في المقولة الأكثر أهمية في المجتمعات العربية المتمثلة في المجتمع المدني والدولة المؤسساتية والقضاء الحر واستقلال السلطات، وسيادة القانون.(64)

هوامش الفصل الثاني
(1) العراق في التاريخ، ص235-238.
(2) نزار الحديثي، "العراق عند مجيء الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص7- 9.
(3) العراق في التاريخ، ص251- 252.
(4) نفسه، ص252 – 253.
(5) نفسه، ص 257، ص259.
(6) ناجي التكريتي، "فلسفة الأخلاق"، حضارة العراق، ج8، ص293.
(7) هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، ج1، بغداد 1989، ص29- 30.
(8) فيليب حبيب وآخرون، تاريخ العرب، بيروت 1974، ص130- 132..، هنري فوستر، ص31.
(9) صحيفة الوسط,الفكر الفلسفي والخمول الاجتماعي
http://www.alwasatnews.com/3043/news/read/519198/1.html
(10) نفسه.
(11) (11) نشأة وتطوّر الفلسفة الإسلامية
https://www.google.se/search?q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D9%84%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&ie=utf-8&oe=utf-8&aq=t&rls=org.mozilla:en-US:official&client=firefox-beta&channel=np&source=hp&gfe_rd=cr&ei=oQlJVKWIE4mr8weU9IDoAg#rls=org.mozilla:en-US:official&channel=np&q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&spell=1
(12) نفسه.
(13) نفسه.
(14) نفسه
(15) نفسه.
(16) د. كامل النجار، قراءة نقدية للإسلام.
http://www.il7ad.com/topic/24841-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1
(17) نفسه.
(18) نفسه.
(19) نفسه.
(20) نفسه.
(21) محمد حسين الزبيدي، "المجتمع العراقي في صدر الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص40.
(22) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، بيروت 1979، ص414..، جميل قاسم، "الإسلام والحداثة الفكرية"، الوحدة، العدد 85، الرباط 1991، ص41- 41.
(23) حسين مروة، ص415- 422.
(24) نفسه، ص419..، عبدالعزيز الدوري، "الإسلام وانتشار اللغة العربية"، ندوة القومية العربية والإسلام،ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1981، ص62.
(25) ناجي التكريتي، ص297..، عبدالعزيز الدوري، ص62.
(26) عبدالوهاب الأمين، النظم المقارنة- دراسة مقارنة: الرأسمالية، الاشتراكية، الإسلام، الكويت، 1986، ص321- 322.
(27) عبدالعزيز الدوري، ص62.
(28) العراق في التاريخ، ص354- 355..، نزار الحديثي، ص18- 19.
(29) ميثم الجنابي، "الروح الثقافي الإسلامي"، الثقافة الجديدة، العدد 303، دمشق2001، ص79- 83..، ناجي التكريتي، ص291.
(30) هنري فوستر، ص44.
(31) عبدالعزيز الدوري، ص65-66..، نفسه، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص35.
(32) سليم مطر, الذات الجريحة- إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1997، ص262-263.
(33) حسين مروة، ص427- 248.
(34) نفسه، ص430- 431.
(35) نفسه، ص447- 448.
(36) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها سنة 11-656هـ"، حضارة العراق، ج6، ص11- 12..، فيليب حبيب، ص247.
(37) حسين مروة، ص422- 423، ص435- 436.
(38) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (أو عصر النهضة في الإسلام)، ج1، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي لبنان، (بدون سنة طبع)، ص161.
(39) علي أومليل، الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون- التاريخ الاجتماعي للوطن العربي، بالأصل رسالة دكتوراه، بيروت، ( بدون سنة طبع)، ص16.
(40) حسين مروة، ص436- 438.
(41) نفسه، ص439.
(42) جوزيف مغيزل، "الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والإسلام، ص365- 366.
(43) حسين مروة، ص522.
(44) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها"، حضارة العراق، ج6، ص14.
(45) حسين مروة، ص473.
(46) نفسه، ص474- 475..، جوزيف مغيزل، ص363.
(47) حسين مروة، ص474- 476.
(48) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص236.
(49) هاشم يحيى الملاح، ص19- 20.
(50) فيليب حبيب، ص359.
(51) عبدالعزيز سالم، العصر العباسي الأول، الاسكندرية (بدون سنة طبع)، ص295.
(52) فيليب حبيب، ص374.
(53) جوزيف مغيزل، 363.
(54) بدري محمد فهد، "المجتمع العراقي في العصر العباسي"، حضارة العراق، ج5، ص56.
(55) تقي الدين عارف الدوري، "تأثيرات العراق الحضارية"، حضارة العراق، ج8، ص499- 500..، محمد جاسم المشهداني، "الفكر التاريخي والجغرافي"، حضارة العراق، ج8، ص145- 146..، العراق في التاريخ، ص363.
(56) فيليب حبيب، ص358- 359.
(57) العراق في التاريخ، ص388..، هنري فوستر، ص39- 40.
(58) فيليب حبيب، ص368.
(59) هنري فوستر، ص41- 43.
(60) نفسه، ص44- 45.
(61) آدم ميتز، ج2، ص157- 158.
(62) فيليب حبيب، ص409- 422..، عبدالعزيز سالم، ص296-297..، بدري محمد فهد، ص61.
(63) فيليب حبيب، ص368.
** استمرت عادة نثر النقود في العراق بمناسبة تلك الاحتفالات لغاية العصر الحديث. كذلك استمرت عادة لبس االخفاف الذهب والعباءة المطرزة بالذهب وغيرها بين نساء الذوات من العوائل الثرية. وكان هذا الأمر محل أحاديث معروفة بالنسبة لنساء عائلة كليدار الإمام الكاظم أثناء عمل الباحث في أوقاف الكاظمية للفترة 1960- 1969.
(64) بدري محمد فهد، ص100.






























المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج

ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)




المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج

ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)


















المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج

ترددت كلمة "الاعتزال" و "المعتزلة" كثيراً في تاريخ الصراع السياسي- الفكري في الإسلام قبل نشوء هذه الجماعة, واستقر اسمها في نهاية القرن الأول للهجرة/ أواخر القرن السابع للميلاد. كما أنها أزدهرت وقضي عليها في العصر العباسي (عهد المتوكل) . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة.. القدرية.. العدلية.. أهل العدل والتوحيد.. المقتصدة.. الوعيدية.(1) والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في البصرة. ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وأرمينيا إضافة إلى بغداد.(2)

والمتفق عليه تاريخياً أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ). إذ أن نشوء الأشعرية أنفسهم جاء من رحم المعتزلة, فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي وانشق عنهم. وكان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت فاسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد اجتمعت فيه مجموعة غريبة من الديانات المختلفة والمذاهب المتباينة، وابتعد معظم الناس عن الإسلام, علاوة على انتشار الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبعد أن أصبح الحديث نشاطاً واضحاً للقصاص والوعاظ في المساجد والطرقات.(3)

والجدير بالذكر، أن حركة العدل والتوحيد، أو المعتزلة، كما ذاع شهرتها، لم تنته بوفاة هذين الرأسين/ المفكرين للحركة (واصل/عمرو)، وذلك يدل على حيوية أفكارهم وسعة انتشارها، ليس في محيطها الصغير (البصرة)، حسب، بل وبلوغها أمصاراً عربية وإسلامية بعيدة، وتعاملها مع قضايا ذات أهمية في المجال الفكري والسياسي.(4)

تلخصت أفكار المعتزلة قبل سنة 80هـ في خمسة أصول: التوحيد.. العدل.. صدق الوعد والوعيد.. المنزلة بين المنزلتين..
االتوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، وقالوا أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته, قادر بذاته.
االعدل: قياس أحكام الله بما يقتضيه العقل والحكمة.
االمنزلة بين المنزلتين: الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه صار من الكافرين.
الوعد والوعيد: إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر: إذا خرج أحدهم من الدنيا من غير توبة عن كبيرة أرتكبها، يخلد في النار، وإذا تاب استحق الثواب والعوض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف.
يضاف إلى ذلك: نفيهم رؤية الله.. قولهم أن القران مخلوق (عمل بشري).. نفيهم علو الله.. نفيهم كرامات الأولياء.(5)
لقد كان صوت: واصل بن عطاء، معبد الجهني، غيلان الدمشقي، وأمثالهم، أول صوت للفكر العربي- الإسلامي يرتفع ليتحدى الفكر الرسمي، وجبرية الفئة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، مجاهراً أن: لا قدر يحكم إرادة الإنسان حكماً جبراً مطلقاً.(6)

من أوائل الذين طوروا فكرة المعتزلة مذهبا ونظرية غيلان الدمشقي- غيلان بن مسلم أو غيلان بن جمعان، وهو مولى لعثمان بن عفان. يعتبر غيلان الأب الحقيقي لحركة التنوير وواحدا من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي. رفض مفهوم الجبرية الذي شجعه الحكم الأموي، أي التسليم بالقضاء والقدر، بما يعنيه من تبرئة الحاكم من ظلمه، وأسس للفكر الديمقراطي ودافع عنه ودفع حياته ثمنا لذلك على يد هشام بن عبدالملك, نتيجه مناداته بأفكاره ضد الجبرية في العهد الأموي الذي ساد خلال الفترة(661-750 للميلاد).(7)

المعتزلة، حركة انبثقت في مرحلة بالغة الأهمية، ومنذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها هذه الحركة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلة ومتفاعلة، نشطة في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي/ أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورها وعلو كعبها في المجالات والميادين التي خاضت غمارها.(8)

من أهم القضايا الفكرية في التاريخ الثقافي الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص الموقف من القضاء والقدر، وعلاقته بأفعال الإنسان وبمسؤوليته عن هذه الأفعال. وقد اتخذت هذه القضية صبغة تاريخية ذات دلالة ملحوظة، إذ سميت بقضية الجبر والاختيار.(9)

شجع الأمويون القول بالجبر، وحاولوا تكريسه في المجتمع إلا أن ذلك عمل على زيادة الاستنكار والتوتر داخل المجتمع. وقد رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم، ويوجه الأذهان نحو تبرير سياستهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره، فالتقليل من مسؤولية الفرد يعني التقليل أيضا من مسؤولية الخليفة، وبالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته.(10)
يضاف إلى ذلك، أن حكام بني أمية كانوا من أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء الحالات التي تخدم أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث النبوية وذلك باعتراف أبا هريرة نفسه بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه البخاري. من هنا شكلت إحدى مهمات المعتزلة رفض الأحاديث والأكتفاء بالنظر العقلي للقرآن وتفسيراته.(11)
وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لـ واصل بن عطاء, وهشام الفوطى (ت217هـ/837م) والشحام (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي (ت318هـ/931م) وأبو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م)./18 ومن أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون.(12)
يعتبر أبو إسحاق إبرهيم بن سيار النّظام، من أهم أعلام المعتزلة ونوابغهم، نبغ في علوم الكلام السياسية العربية الإسلامية، والذي يصفها العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنها فصيل ديمقراطي يساري وتقدمي.(13) من هنا لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّ العالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد).(14)

برزت أفكار المعتزلة وانتشرت بعد انبثاق حركة الترجمة للفلسفة اليونانية التي ابتدأت مع الخليفة الأموي خالد بين يزيد (90 هـ/ 708م)، وجعلت الفلسفة اليونانية في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون ( 786 ـ 833 م ) لاحقاً، والتي شكلت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي, ليرتفع بعلم الكلام- الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد ( قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرآن ، الصفات ) ، العدل والفعل الإلهي (الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح / الملائكة، الجن والشياطين)- إلى مستوى الجدل الفلسفي العام (المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل ...الخ.).(15)

من أبرز ما يشار إليه في هذه الفترة- العهد العباسي- اتساع حركة ترجمة الكتب اليونانية إلى العربيّة، وكان من أوائل الحكام الذين قادوا هذه الحركة: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد، والمأمون.(16)

سلك الفكر الديني منذ العصر الأموي مسلكين أساسيين: من يستند إلى النّص وأقوال أهل العلم (أهل الحديث).. ومن يستند إلى العقل في إثبات الاعتقاد (أهل الرأي). لقد بدأ النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث في وقت مبكر جدا.(17)

إن "نظرية" المعرفة في الإسلام تتحدد بالمصدر الإلهي- الوحي- سواء كانت المعرفة عقدية أم تشريعية. المعرفة ترتبط بالإيمان. وبناء على هذا التحديد لوحظ أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي، بل كان مبغوضاً، وكان يدعو إلى تجنبه. كما أن منع الجدل العقلي بشأن العقائد أحدث شيئاً من الانقطاع في مجرى تاريخ تطور الفكر العربي.(18)

جاء الإسلام بمفاهيم تتعلق بميتافيزيقيا الكون والعالم ويركز الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أفعاله، وإن كان تحديد هذه المسؤولية يبدو متناقضاً من حيث أن هذا التحديد جاء في القرآن حيناً يقول بحرية الإنسان في أفعاله، ويقول حيناً بالجبرية- القضاء والقدر/ إرادة الله.(19)

كان الاجتهاد بالرأي المتنفس الوحيد في أوائل الإسلام في قضايا التشريع. من هنا نشأت، خلال الممارسة العملية لهذا الأصل التشريعي، مدرسة قائمة بذاتها دعيت مدرسة "أهل الرأي". ظهرت منذ أواسط القرن الأول للهجرة، واتسع تأثيرها بين أوساط الفقهاء والقضاة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وقد رافقت هذه المدرسة ظاهرة ملفتة هي أنها كانت أكثر انتشاراً ورسوخاً في العراق حينذاك. ويعلل هذا الرأي بعدة أراء، منها أن أشهر رجالها عبدالله بن مسعود، أبا حنيفة، وجدا في العراق.(20)

قامت مدرسة أهل الحديث رداً على مدرسة أهل الرأي، وشكلت الطرف المناقض لها.. أصحابها ينكرون العمل بالرأي،، يعتمدون نصوص القرآن والحديث، نشأت وتوطدت وانتشرت في الحجاز للأسباب نفسها معكوسة، أي أن أشهر رجالها أمثال الإمام مالك عاشوا في الحجاز وعايشوا النبي حياته.. من هنا تبلور الانقسام في مجال التشريع الإسلامي إلى مدرستين رئيستين: مدرسة الرأي- القدرية، ومدرسة الحديث- الجبرية. على هذا الأساس حدث الانقسام بين المشتغلين بأمور التشريع إلى مجددين ومحافظين.(21)

تطور هذا الانقسام إلى انقسام في المواقف الفكرية من مختلف القضايا التي وضعتها حركة تطور المجتمع العربي- الإسلامي، وهنا انحاز الكثير من أهل الرأي إلى جانب فكرة حرية اختيار الإنسان في أفعاله التي عرف الآخذون بها، في ما بعد، باسم "القدريين". وانحاز أتباع الحديث إلى الجانب المعاكس- إنكار هذه الحرية واثبات كون أفعال الإنسان كلها، خيرها وشرهان من الله، وعرفوا، فيما بعد، باسم "الجبرية" أو "المجبرة".(22)

أكد أهل الرأي على العقل في تصرفات الإنسان كونه يخلق أفعاله ومسؤول عنها، والقرآن جهد بشري وليس سماوياً. والتفسير العقلي/ المنطقي يرى بأنه لا يمكن أن يكون القرآن إلا مخلوقاً، أي عملاً دنيوياً.. ولا يمكن أن يكون خالقه إلا دنيوياً، لأنه مخلوق للدنيا- البشر.. والبشر يتعاملون على أساس نسبي في دنياهم القائمة على النسبية.. أما المطلق فهو للعالم الآخر اللانهائي.. ذلك أن التعامل في الدنيا يقوم على النسبية، أما التعامل المطلق فهو يخص العالم الآخر.

كما أن القول بالقضاء والقدر وأن ما يفعله الإنسان هو مقرر مسبقاً، أي ليس بإرادته.. يعني انتفاء مسئولية الشخص عن أفعاله، إذن لماذا وكيف الحساب: الثواب والعقاب/ الجنة والنار!؟ أليس من الظلم محاسبته عن أفعاله التي لم تصدر عن إرادته؟.. فعندما يفقد الإنسان إرادته/ عقله، ، عندئذ لا يخضع في تصرفاته للقانون الوضعي/ الدنيوي.. إذن كيف يمكن للقانون السماوي وضعه تحت طائلة الحساب!؟

وعلى نفس الأساس، فالقول بالقضاء والقدر يعني غياب الإرادة- إرادة الإنسان.. غياب العقل.. وهنا بيت القصيد.. فهذا يعني طرد العقل/ الإرادة. من هنا جاء انتصار أهل القضاء والقدر بطرد العقل.. ويمكن تسمية الداعين لهذا القول بـ: قتلة العقل- التخلف- ومساواة الإنسان مع الحيوان، وتغييب قدرة الإنسان على الابتكار والاكتشاف.. وهذا ما حدث فعلا للعالم الإسلامي- العربي المستمر، عموماً, حتى الوقت الحاضر..
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي يتطلب اكتشافها من خلال الدراسة والبحث. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله، متحملاً مسؤوليتها, سواء أكانت خيرا أم كانت شراً.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: "لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا". بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به ؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية!؟(23)
وكما سبق الذكر، فقد انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية، وبدأت الفلسفة تجد قبولاً لدى العديد من قراء ومفكري ذاك العصر. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. وخلال هذا العصر، فضّل العباسيون، بعامة، العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية. فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، صار معتزلياً, رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنجزه النبي. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الذي جاء بعده (المتوكل) كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار"، حيث وضع نهاية لوجود المعتزلة.(24)

يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وفق قواعد نظرية مستمدة من مصادرفلسفية متعددة. عبّر هذا الاتجاه المعتزلي عن تحول نوعي في الفكر العربي- الإسلامي باتجاهين: مسألة المعرفة, وترسيخ فكرة حرية الإنسان، بمعنى مسؤوليته عن أفعاله. وكان هذا خرقاً لحصر مصادر المعرفة بالمصدر الآلهي فقط، إذ أضافوا العقل كمصدر آخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة. ومن جهة ثانية أقاموا مفهوم العدالة الآلهية على أساس حرية الإنسان، أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله. من هنا ظهرت مواقف العداء لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه، وتم استخدام الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي. وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين ثلاثة تيارات في عصر النهوض المعتزلي: التيار السلفي، التيار الحنبلي، والتيار الأشعري. وكلها اشتركت في خط عدائي واحد للجوانب التقدمية من أفكار المعتزلة.(25)

قضية الموقف من القضاء والقدر وعلاقته بأفعال الإنسان ومسؤوليته عن هذه الأفعال سميت، كما سبق القول، بـ: الجبر والاختيار. وكان الصراع يدور حول هذا السؤال: هل الإنسان مجبر على أفعاله أم مختار فيها؟ أو هل للإنسان حرية الإرادة والاختيار في ما يفعل من خير أو شر، أم هو خاضع في كل ذلك لإرادة الله المطلقة، أي أن القضاء والقدر: خيره وشره، من الله؟(26)

وصف الباحثون المتأخرون هذه القضية بأنها القضية التي حرّكت الفكر العربي كله في ذلك العصر. وهو وصف ينطبق على الواقع التاريخي انطباقاً كلياً، لأنها منذ ظهرت على الصعيد الفكري في العهود الأولى من حياة الدولة الأموية في المشرق، أصبحت القطب المركزي لكل انقسام فكري، أو مذهبي ديني، أو اجتماعي وسياسي.(27)

الأساس الفكري لدى المعتزلة هو مبدأ الاحتكام إلى العقل.لا يستقيم العدل الإلهي عند المعتزلة إلا بتحديد هذه العلاقة على وجه يتحقق فيه اختيار الإنسان لأفعاله، خيراً كانت أم شراً. وإذا لم يكن مسئولاً كان الثواب باطلاً لأنه جزاف وعبث، وكان العقاب ظلماً. حرية الإنسان هي إحدى القاعدتين الرئيستين لهذا المفهوم المعتزلي للعدل (التمسك بالعقل وحرية الإنسان). حرية الإنسان لدى المعتزلة تقوم على رفض الحتمية القدرية التي تسلب الإنسان حق اختياره فيما يفعل. من هنا لا ينفصل مفهوم العدل الدنيوي عندهم عن قضية حرية الإنسان. وبذلك فقد تقرر عند المعتزلة أن "القدر" خيره وشره من الإنسان، وفقاً لما قرروه من معنى العدل الإلهي، الذي يتضمن مسؤولية الإنسان عن أفعاله خيرها وشرها جميعاً. عليه, فهم على اتفاق بأن قضية حرية الإنسان في أفعاله هي المضمون الجوهري لمفهوم العدل.(28)

أعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي, وهذا ما وفّر للمعتزلة التأكيد على التوحيد والعدل الاجتماعي. من هنا فقد جسّدت الفرقة أهمية كبرى في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.(29)

ولما كان المعتزلة هم أصحاب المذهب العقلي في الإسلام دون غيرهم، فقد وصفهم النقاد، قائلين إن: "النرد أشعري، والشطرنج معتزلي، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على العقل/ إعمال الفكر.(30)

ضرورة ملاحظة أن التناقض بين المعتزلة- العقل وحرية الإنسان- ومسؤولية الإنسان (والحاكم) عن أفعاله، وبين السلفية بأن الله يقرر كل شيء وتبرئة الحاكم من مفاسده، كان سبباً لاصطفاف الحكم مع السلفيين وتصفية المعتزلة.(31)

كان العداء للمعتزلة إذن، عداء لتلك النتائج بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنية تلك الايديولوجية- ايديولوجية الحكم. من هنا امتدت موجة هذا العداء لتشمل حتى العلوم والفلسفة. وما ذاك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام مبادئ المعرفة العقلية، وإن اختلفت طريقة كل منهما في استخدام هذه المبادئ. لكن الذي حدث تاريخياً أن هذه الموجة، رغم عنفها ورغم بلوغها درجة العنف الدموي، لم تستطع أن تخمد الجذوة التي أججها الفكر المعتزلي.(32)

المعتزلة على اختلاف أرائهم في كثير من المسائل اتفقوا على مواجهة هذا التيار بسلاح فكري نظري متقدم يدافعون به عن العقل وعن مبدأ السببية من حيث هو قانون شامل، ومن حيث هو مبدأ عقلاني تستند إليه سائر القوانين الموضوعية في الكون والطبيعة وعالم الإنسان. كما أن النظرة المقارنة هنا تكشف بوضوح عن فضل المعتزلة في كونهم واجهوا تياراً فكرياً أسقط من الكون كله وجود القوانين الموضوعية التي تنظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، كما اسقطوا بذلك إمكان استقلال العقل بالمعرفة، مهما يكن نوع المعرفة.(33)

هذا الجانب أيضاً من جوانب الفكر المعتزلي يقدم عنصراً آخر من العناصر التي تتكون منها النظرة التاريخية العلمية لدور المعتزلة التقدمي في تاريخ الحركات الفكرية لا على الصعيد
العربي- الإسلامي, حسب، بل على صعيد أوسع منه قد يصح القول أنه صعيد الفكر البشري، باعتبار أن المنطقة التي ازدهر فيها نشاط الفكر المعتزلي أصبحت أحد مراكز الفكر العالمي أثناء فترة طويلة من العصور الوسطى. ومن البين أن للمعتزلة دوراً أساسياً في تحضير الظروف الفكرية لإمكان تحول المنطقة إلى مثل هذا المركز التاريخي العظيم.(34)

كان على المعتزلة أن تواجه كل هذه التيارات والمذاهب. وكان عليهم أيضاً أن يقوموا بدور المدافع عن الإسلام ضد الأفكار المعادية ، علاوة على قيامهم بدور المصلح الاجتماعي في مجتمع فاسد كثرت فيه المذاهب المتطرفة والمباديء اللاعقلانية.(35)

ونظرا إلى أن المعتزلة قد رفعوا من قيمة العقل في الإسلام، ولأن الاعتزال كان غالبا على المذهب الحنفي، فقد مال أصحاب أبي حنيفة إلى استخدام الرأي على نطاق واسع في مذهبهم. يقول الصفدي في الغيث المسجم: "إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية [جبرية]، والغالب في الحنابلة حشوية".(36)

والمفارقة أن غالبية أفكار ومعتقدات الحنابلة- الأكثر عداء للمعتزلة- ما هي سوى ردود على مبادىء وأصول المعتزلة. لقد أصيبوا بما يشبه العقدة النفسية تجاه المعتزلة، فأصبح كل شيء معتزلي، أو فيه رائحة الاعتزال، مكروها غير محبب إلى نفوسهم. وكل شيء خالف المعتزلة وأصولهم، هو العقيدة الصحيحة والإسلام الحق.(37)

بدأ العصر الذهبي للمعتزلة بمكوث أحد زعمائهم (أبو داؤود) لمدة تجاوزت 22 عاماً رئيساً للوزراء في عهد الخلفاء العباسيين السابع والثامن والتاسع- المأمون والمعتصم والواثق- كان فيها مذهب الاعتزال يمثل المذهب الرسمي للدولة. ولكن تراجع مستوى أدائهم السياسي وتعددت أخطائهم وبالغوا في تصور ضعف خصومهم، وفتحوا جبهات عديدة ضدهم، كما أنهم لم يحسنوا فن المناورة في العمل السياسي مما أوقعهم في مآزق سياسية وفكرية، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء سياسية، وركوب موجة التطرف, بخاصة ضد اطراف قريبون من زعامات قريش، كانت آرائهم تشكل دعماً للسلطة بتبرئتهم من المسئولية الدينية والاجتماعية في سياق تبني فكرة القضاء والقدر وإخلاء مسئولية الظالم عن مظالمه. وهكذا مضت هذه الحركة المهمة في التاريخ السياسي والفكري العربي الإسلامي إلى الضعف والتلاشي. هذا الفصيل المهم الذي أحدث حقاً ثورة في الفكر والعمل السياسي، في وقت مبكر.(38)

الملاحظ أيضا أن المفكرين ممن قادوا أفكار المعتزلة كانوا من تلك الفئة الاجتماعية المسماة "الموالي"- المرتبة الأدنى اجتماعياً في ذلك العهد، وبعيدون عن القبلية. بينما كان قادة المذاهب الأخرى السلفية من كبار القوم- قريش بالأخص- وقريبون من الخلافة. من هنا يلاحظ أن كافة المراقد (المقدسة) تعود في أغلبها لعناصر القريش من أئمة ورجال دين ينتمون في الغالب إلى المذاهب السلفية، في حين لن نجد شيئاً في الوطن العربي- الأسلامي عن مراقد شيوخ المعتزلة.. رغم أنهم أكثر استحقاقاً بأفكارهم.. وهذا مؤشر أخر على تصفية المعتزلة وأفكارهم وانتصار الأفكار السلفية المتخلفة التي فرضت التخلف على منطقتنا. وهكذا بدأ التراجع الفكري- الحضاري في العالم العربي- الإسلامي منذ انتصار السلفية وتصفية المعتزلة على يد المتوكل العباسي سنة 847م، كما سبق الذكر.(39)

بعد وقت قصير من غياب المعتزلة, حصل واقع مؤسف على نشاطهم الفكري، حيث غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية كاملة، أي تلك الأصول والوثائق التي وضع فيها المعتزلة أفكارهم, وأولها النظرية كما صاغوها بأنفسهم بصورتها المتكاملة في مؤلفاتهم؟ وبذلك انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الأسد أبادي المتوفي في 415 هجرية.(40)

لعل الحركة التقدمية للفكر المعتزلي، كانت هي السبب في ما حدث لتراث هذا الفكر من غياب مفاجئ عن المكتبة العربية في وقت مبكر من تاريخ الحركة العقلية العربية. فقد تألبت حينذاك عدة تيارات فكرية وسياسية محافظة على الفكر المعتزلي بالعداء الصارخ الذي ظهر بأشكال مختلفة، كان أشدها طمس وثائقه ومصادره الأصلية بصورة كلية وشاملة حتى لم يصل منه إلى العصور المتأخرة سوى مصدر واحد هو كتاب"الانتصار" لـ أبي الحسن الخياط، رغم أن مؤرخي الفرق والمذاهب الإسلامية يذكرون الكثير من هذه المصادر غير المعروفة حتى الآن.(41)

ويمكن القول أن هذه المأساة هي مأساة الحضارة العربية الإسلامية، إذ سجلت منذ وقوعها سيطرة الفكر السلفي المحافظ الرجعي وضمان أمن وبقاء سلطة الخلافة- الحاكم بأمر الله على كثرة مفاسده- وبدأت حركة تراجع هذه الحضارة إلى أن بلغت الحضيض، وقلبت حركة تقدم المجتمع العربي- الإسلامي إلى حركة تخلف، لصالح الغرب ممن نقلوا ما وجدوه من تراث المعتزلة إلى بلادهم.(42)

"ومع أنه (المتوكل) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه السلفيون واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي!)، ومنهم من زعم أنهم رأوا له- للمتوكل- رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له." يقول أحمد أمين متحدثا عن المتوكل: "ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله، لرفعه (المحنة). وزعموا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له.(43)

من هنا يتبين التلفيق المزدوج للسلفيين تجاه الحاكم والاقتراب منه طالما يساير مصالحهم.. وطلب الغفران للحاكم من الله، وهو ما يبين أيضاً تناقضهم وجهلهم.. فإذا كان الإنسان/ الحاكم مسيرا من قبل الله لفعل الخير أو الشر، فما حاجته للثواب أو الغفران طالما أن الله هو مصدر الفعل والإنسان مسير وليس مخيراً في مذهبهم!؟ً(44)

وكان أيضا من آثار ونتائج الهجوم الحنبلي على المعتزلة ما لاحظه جولدتسيهر أنه: "كان على النساخ المحترفين ببغداد سنة 277هـ أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا باستنساخ أي كتاب في الفلسفة. وكان هذا القرار يشمل كتب علم الكلام أيضا. كذلك لاحظ جولدتسيهر "ما شعر به الكندي الفيلسوف من قلق وخوف، بعد عودة سلطان السلفيين في عهد المتوكل. والواقع أن مكتبة الكندي قد نهبت في عصر المتوكل، وأصيب هذا الفيلسوف الذي كان متأثرا بالمعتزلة, إلى حد كبير, بنكسة في أوضاعه الخاصة.(45)

منذ انبثاقها وحتى اضمحلالها على مدى أربعة قرون تقريباً، أي من أواسط العهد الأموي إلى أواسط العهد العباسي، كانت فيها حركة المعتزلة حاضرة في وعي وثقافة المجتمع العربي الإسلامي، فاعلين ومتفاعلين، نشطاء في ميدان الفكر والفقه، والسياسة والحكم أيضاً. وبصرف النظر عن حكم أي مؤرخ عربي أو أجنبي على المعتزلة، إلا أنه لا يمكن سوى الإقرار بفاعلية دورهم وعلو كعبهم في المجالات والميادين التي خاضوا غمارها. وقد عبرت حركة المعتزلة (وتلك ملاحظة تستحق التمعن) عن وعي فكري مبكر، حيث أن علماء ومفكري المعتزلة، مثلوا, قياساً إلى الحركات السياسية والفكرية المتواجدة آنذاك على مسرح الحياة السياسية والثقافية, نموذجاً متطوراً.(46)
لقد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم".(47)
كانوا- المعتزلة- يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وكان الجاحظ يسمي أصحابه من المعتزلة بـ: أشراف أهل الحكمة.. علم الكلام وضع أساسه المعتزلة. ويفتخر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بأن المعتزلة كانوا دائما يمثلون الصفوة في المجتمع الإسلامي.(48)
ما قاله الأمير أبو سعيد نشوان في رسالته حور العين أن "المعتزلة كانوا ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض"، بمعنى أن المعتزلة كانوا يعتبرون أنفسهم ليس فقط صفوة المجتمع، ولكن أكثر من ذلك كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة هذه الصفوة في المجتمع الإسلامي. وصدق الدكتور محمد عمارة حين وصفهم بـ"الأرستقراطية الفكرية".(49)

دراسة الفلسفة وفهمها كما يقول أحمد أمين هي "… حظ أقل عدد من الناس." وكانت المعتزلة تمثل هذا العدد القليل من الناس (وخاصة في الفترة ما بين سنة 100 هجرية وسنة 255هـ).
فالحاكم الجشمي يقول في كتابه: شرح العيون, بأن "المعتزلة كثرة بالنسبة لخاصة الناس، ولكنهم قلة بالنسبة للعوام … "السبب في قلة عدد أصحابنا (المعتزلة) من العوام ما أنفق من بني أمية من إظهار الجبر والدعاء إليه لموافقته لطريقتهم. وفشا ذلك في العامة، فظهر الجبر والتشبيه. وإلا فإذا ذكر أهل الفضل والعلم، وجدت الأكثر منهم من أصحابنا."(50)

وبزوال الفكر المعتزلي, غابت فترة الازدهار الفكري الحضاري التي استمرت للفترة 800-1200م عن العالم العربي/ الإسلامي, ودخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية عصر الظلام الفكري، واستمروا يجترون أفكار السلف دون تحديث وتجديد.. وهكذا فهم في سباتهم مستمرون.(51)

الكارثة التي حّلت بأمة العرب والتأخر الذي أصابهم منذ نهايات العصر العباسي والى الآن, ترتبط باعتماد منهج الاستنباط للأحكام والقواعد للحياة من النصوص فقط دون أي جهد مواز لدراسة الطبيعة ومحاولة اكتشاف ومعرفة قوانينها.(52)

ما يحدث عندنا اليوم – حيث التفوه بكلمة يعتبر جريمة – لم يسبق له مثيل في كل مراحل التاريخ العربي. وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرون، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم. لذلك من المستبعد حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم يُسمح بحرية النقد. وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة.(53)

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه. ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق. لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قاموا بالسيطرة الفكرية, وهم علماء الدين, ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.(54)
كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام أبو أحمد الغزالي الذي أطلق على الفارابي وابن سينا - الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث - صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك. وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.(55)
ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية. لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري, وقاد إلى انتكاسات حضاريه خطيرة عبر القرون الماضية. وكما أفرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة, فأن التخلف الحضاري هو الآخر أفرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها نتاجات مقبولة ومطلوبة, فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الإخفاقات والمشاكل.(56)

لقد عبَّر نزار قباني عن إغلاق العقل واتباع قول الإمام والشيخ في قصيدة "المؤمن الخروف": من قتلَ الإمام"

يَعرِفُني في حارتي الصغيرُ والكبيرْ.
يَعرِفُني الأطفالُ والأشجارُ والحَمامْ.
وأنبياءُ الله يعرفونني
عليهمُ الصلاةُ و السلامْ.
الصلواتُ الخمسُ لا أقطعها
يا سادتي الكِرامْ.
وخُطبةُ الجمعة لا تفوتني
يا سادتي الكرامْ.
[...]
في ربع قرنٍ وأنا
أمارسُ الركوعَ و السجودْ.
أمارسُ القيامَ و القعودْ.
أمارسُ التشخيص خلف حضرة الإمامْ.
[....]
وهكذا يا سادتي الكِرامْ.
قضيتُ عشرين سَنَةْ.
أعيشُ في حظيرة الأغنامْ.
أُعلَفُ كالأغنامْ.
أنامُ كالأغنامْ.
أبولُ كالأغنامْ.
أدورُ كالحبَّةِ في مَسْبحةِ الإمامْ.
أعيد كالببغاء
كلَّ ما يقولُ حضرةُ الإمامْ
لا عقلَ لي... لا رأسَ... لا أقدامْ...
[...]
قضيتُ عشرين سَنَةْ
مكوَّماً... كرزمةِ القشِّ على السجَّادة الحمراءْ.
أُجلَدُ كلَّ جمعة بخُطبةٍ غرَّاءْ.
أبتلع البيانَ والبديعَ والقصائدَ العصماءْ.
أبتلع الهُراء...
عشرين عاماً
وأنا يا سادتي
أسكنُ في طاحونةٍ
ما طحنَت قطُّ سوى الهواءْ.(59)
تحريرَ الإنسان يتطلَّب تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة
عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ. إن العقل المكبَّل لا يبني إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.(60)
من يضع ثقته وايمانه في الدين فقط لا يحتاج إلى العلم, وهذا هو الغالب في عالمنا العربي- الإسلامي. وفي هذه الحالة يتعثر التقدم ولا يمكنه الاستمرار. وهذا ما جعل المجتمعات العربية تراوح في مكانها منذ قرون وتكون بذلك اقرب الى العصور الوسطى منها الى العصر الحديث. يقول نيتشه: إما ان تلغوا مقدساتكم أو تلغوا أنفسكم.(61)

حضور الثقافة والمثقفين في العالم العربي راهناً ربما نزل إلى مستوى خطير، وذلك على صعيدي الأمية الأبجدية والأمية الثقافية. فمحور الثقافة المطروح في تقرير كارنيجي إذا أريد له أن يصل إلى المجال الحواري المثمر من الضروري أن يوضع مع محور السياسة جنباً إلى جنب، فتكوين مؤسسات جادة لمعالجة الثقافة والأمية- التخلف الثقافي (والديني)، يبرز هنا بمثابته واحدة من النقاط الحاسمة في الإصلاح الثقافي، ومن ثم في المشروع العربي الحضاري. أن النهضة لا يقودها الا العقل وطالما بقى العقل مُغيبا فان النهضة لا معنى لها.(62)

ولعل أكثر ما تحتاجه المجتمعات العربية للوصول إلى منظومة متكاملة يتحول فيها الإبداع إلى مصدر لاقتصاداتها، هو تغيير أساليب التعليم، فرأس المال البشرى في الاقتصاد الحديث، ما هو إلا محصلة تعليم يسهم في بناء عقول متميزة قادرة على الإبداع والابتكار وخلق الثروة، والمنافسة دولياً، وارتفاع جودة التعليم، وفقاً للمعايير الدولية، من شأنه أن يدعم فرص تحقيق التطور الاقتصادي من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الناتج المحلى الإجمالي، وعلى صانع القرار السياسي والاقتصادي العربي أن يدرك أن المؤسسات التعليمية من جامعات ومعامل ومراكز أبحاث، قبل غيرها، هي التي ستحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون المقبلة، وهو ما يفرض نوعية بعض المدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكري والموارد البشرية اللازمة للاقتصاد القائم على المعرفة، لذا فنحن في عالمنا العربي علينا أن نتعلم لنكون مبدعين، ونحن في حاجة للتعليم الذاتي المستمر، وهذا يجعل المعلمين (بشرط تأهيلهم) من الطبقة الإبداعية الجديدة. بحيث يجب أن تكون الأهداف الجديدة للتعليم تطوير الملكات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، والتصرف بمسئولية تجاه الآخرين، والمبادرة والعمل الجماعي، والقدرة على مواصلة التعلم، وأن يتولى تقديم التعليم منظمات أقدر على تحديد احتياجات المتعلمين وذلك في سياق إعادة بناء جذري للمؤسسة التعليمية.(63)

ذلك كله ينبغي ربطه بملف الإصلاح الديني بهدف تحرير الخيارات الحياتية التي تستند إليها مشاريع البحوث والدراسات اللازمة، لنقض المحاور الخطيرة في المشروع الحضاري - الثقافي العربي، من أمثال محاور المرأة وكفاحها من أجل تحررها واستقلالها وإيصالها إلى مستوى المواطن الحر فكراً وعملاً، وذلك في نطاق ذلك المشروع، أما المهم الحاسم هنا فيبرز في المقولة الأكثر أهمية في المجتمعات العربية المتمثلة في المجتمع المدني والدولة المؤسساتية والقضاء الحر واستقلال السلطات، وسيادة القانون.(64)

هوامش الفصل الثاني
(1) العراق في التاريخ، ص235-238.
(2) نزار الحديثي، "العراق عند مجيء الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص7- 9.
(3) العراق في التاريخ، ص251- 252.
(4) نفسه، ص252 – 253.
(5) نفسه، ص 257، ص259.
(6) ناجي التكريتي، "فلسفة الأخلاق"، حضارة العراق، ج8، ص293.
(7) هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، ج1، بغداد 1989، ص29- 30.
(8) فيليب حبيب وآخرون، تاريخ العرب، بيروت 1974، ص130- 132..، هنري فوستر، ص31.
(9) صحيفة الوسط,الفكر الفلسفي والخمول الاجتماعي
http://www.alwasatnews.com/3043/news/read/519198/1.html
(10) نفسه.
(11) (11) نشأة وتطوّر الفلسفة الإسلامية
https://www.google.se/search?q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D9%84%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&ie=utf-8&oe=utf-8&aq=t&rls=org.mozilla:en-US:official&client=firefox-beta&channel=np&source=hp&gfe_rd=cr&ei=oQlJVKWIE4mr8weU9IDoAg#rls=org.mozilla:en-US:official&channel=np&q=%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9+%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9&spell=1
(12) نفسه.
(13) نفسه.
(14) نفسه
(15) نفسه.
(16) د. كامل النجار، قراءة نقدية للإسلام.
http://www.il7ad.com/topic/24841-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1
(17) نفسه.
(18) نفسه.
(19) نفسه.
(20) نفسه.
(21) محمد حسين الزبيدي، "المجتمع العراقي في صدر الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص40.
(22) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، بيروت 1979، ص414..، جميل قاسم، "الإسلام والحداثة الفكرية"، الوحدة، العدد 85، الرباط 1991، ص41- 41.
(23) حسين مروة، ص415- 422.
(24) نفسه، ص419..، عبدالعزيز الدوري، "الإسلام وانتشار اللغة العربية"، ندوة القومية العربية والإسلام،ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1981، ص62.
(25) ناجي التكريتي، ص297..، عبدالعزيز الدوري، ص62.
(26) عبدالوهاب الأمين، النظم المقارنة- دراسة مقارنة: الرأسمالية، الاشتراكية، الإسلام، الكويت، 1986، ص321- 322.
(27) عبدالعزيز الدوري، ص62.
(28) العراق في التاريخ، ص354- 355..، نزار الحديثي، ص18- 19.
(29) ميثم الجنابي، "الروح الثقافي الإسلامي"، الثقافة الجديدة، العدد 303، دمشق2001، ص79- 83..، ناجي التكريتي، ص291.
(30) هنري فوستر، ص44.
(31) عبدالعزيز الدوري، ص65-66..، نفسه، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص35.
(32) سليم مطر, الذات الجريحة- إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1997، ص262-263.
(33) حسين مروة، ص427- 248.
(34) نفسه، ص430- 431.
(35) نفسه، ص447- 448.
(36) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها سنة 11-656هـ"، حضارة العراق، ج6، ص11- 12..، فيليب حبيب، ص247.
(37) حسين مروة، ص422- 423، ص435- 436.
(38) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (أو عصر النهضة في الإسلام)، ج1، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي لبنان، (بدون سنة طبع)، ص161.
(39) علي أومليل، الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون- التاريخ الاجتماعي للوطن العربي، بالأصل رسالة دكتوراه، بيروت، ( بدون سنة طبع)، ص16.
(40) حسين مروة، ص436- 438.
(41) نفسه، ص439.
(42) جوزيف مغيزل، "الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والإسلام، ص365- 366.
(43) حسين مروة، ص522.
(44) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها"، حضارة العراق، ج6، ص14.
(45) حسين مروة، ص473.
(46) نفسه، ص474- 475..، جوزيف مغيزل، ص363.
(47) حسين مروة، ص474- 476.
(48) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص236.
(49) هاشم يحيى الملاح، ص19- 20.
(50) فيليب حبيب، ص359.
(51) عبدالعزيز سالم، العصر العباسي الأول، الاسكندرية (بدون سنة طبع)، ص295.
(52) فيليب حبيب، ص374.
(53) جوزيف مغيزل، 363.
(54) بدري محمد فهد، "المجتمع العراقي في العصر العباسي"، حضارة العراق، ج5، ص56.
(55) تقي الدين عارف الدوري، "تأثيرات العراق الحضارية"، حضارة العراق، ج8، ص499- 500..، محمد جاسم المشهداني، "الفكر التاريخي والجغرافي"، حضارة العراق، ج8، ص145- 146..، العراق في التاريخ، ص363.
(56) فيليب حبيب، ص358- 359.
(57) العراق في التاريخ، ص388..، هنري فوستر، ص39- 40.
(58) فيليب حبيب، ص368.
(59) هنري فوستر، ص41- 43.
(60) نفسه، ص44- 45.
(61) آدم ميتز، ج2، ص157- 158.
(62) فيليب حبيب، ص409- 422..، عبدالعزيز سالم، ص296-297..، بدري محمد فهد، ص61.
(63) فيليب حبيب، ص368.
** استمرت عادة نثر النقود في العراق بمناسبة تلك الاحتفالات لغاية العصر الحديث. كذلك استمرت عادة لبس االخفاف الذهب والعباءة المطرزة بالذهب وغيرها بين نساء الذوات من العوائل الثرية. وكان هذا الأمر محل أحاديث معروفة بالنسبة لنساء عائلة كليدار الإمام الكاظم أثناء عمل الباحث في أوقاف الكاظمية للفترة 1960- 1969.
(64) بدري محمد فهد، ص100.



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحول الفكري.. من العقل المنفعل إلى العقل الفاعل
- الأحد الدامي في العراق.. 374 قتلى و 78 جرحى
- عشر سنوات على.. بغداد تحترق
- الزعيم القبلي وقائد التمرد العراقي: الثورة سوف تُسقط رئيس ال ...
- أحداث العراق
- الولايات المتحدة مسئولة عن دفع تريليونات الدولارات لضحايا ال ...
- في ليبيا.. السياسيون خائفون من المليشيات القوية
- في عراق المالكي.. مراسل صحفي آخر يتعرض للاعتداء.. الانتخابات ...
- المشردون في العراق يعانون من الإهمال والاستغلال
- طاهر جميل- محقق صحفي ومؤلف كتابين عن العراق الحالي. يناقش كي ...
- إنسان القمامة.. فقراء البصرة يكافحون بنبش قمامة الأثرياء
- ليبيا- فشل مساءلة مليشيات بعد ستة أشهر على قتل متظاهرين محتج ...
- تراجع تأثير اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية. ...
- العراق بدون مسيحييه!
- ظاهرة سفك الدماء من قبل المليشيات مستمرة في ليبيا
- قطر وكأس العالم 2022- العمل الإجباري
- قطر- كأس العالم 2022.. مخاوف بخصوص العمل الإجباري
- الكارثة الدموية التي أصابت ليبيا، العراق، أفغانستان. صارت مك ...
- ليبيا: طرابلس تعلن الإضراب العام احتجاجاً ضد المليشيات
- هل أن إسرائيل ستجر الولايات المتحدة الأمريكية إلى حرب أخرى؟ ...


المزيد.....




- Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
- خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت ...
- رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد ...
- مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
- عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة ...
- وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب ...
- مخاطر تقلبات الضغط الجوي
- -حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف ...
- محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته ...
- -شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا ...


المزيد.....

- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .
- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - المعتزلة: الصراعات الفكرية في العصر الإسلامي- الحصيلة والنتائج