|
محنة إبليس ومكر الله
سامي القسيمي
الحوار المتمدن-العدد: 4671 - 2014 / 12 / 24 - 09:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إبليس هو كبير الشياطين حسب الديانة الإسلامية، وهو جان كان من الجن العابدين لله في الأرض، ومن عبادته لله كرمه بأن رفعه الله في الملأ الأعلى، ورد في القرآن: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). (سورة الكهف، الآية 50)،لكنه عصى الله بامتناعه عن السجود لآدم. كما يطلق اسم "شياطين" على الذين يسلكون سلوك الشيطان من البشر، والشيطان هو عدو الإنسان الدائم إلى يوم القيامة ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (سورة فاطر، الآية 6)، وكان هو السبب في إخراج آدم وحواء من الجنة بعد أن جعلهما يأكلان من الشجرة المحرّمة، ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) (سورة الأعراف، الآية 20) ،وهو من الجن حيث يستطيعون أن يرونا نحن البشر في حين أننا لا نستطيع رؤيتهم ( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) (سورة الأعراف، الآية 27). هنا سنتطرق بأن مفهوم السياق الديني والنقد الديني للآيات إنما تحمل في طياتها الكثير عن ابليس وليس كما فهمه المسلمون الفهم الخاطئ عن ابليس.
ابليس (أصل التسمية)
يعتقد أن أصل كلمة إبليس في اللغة العربية هو من الفعل بَلَسَ (بمعنى طُرِدَ)، عندها يكون معنى إبليس هو "المطرود من رحمة الله".ولكن العديد من اللغويين يجمع على ان معنى الفعل هو "يئس" وبالتالي يكون المعنى "الذي يئس من رحمة الله" ويظن بعض المستشرقين أن أصل الكلمة هو من اللغة الإغريقية لكلمة " . عبر الحلاج محنة إبليس فيقول:- ((لما قيل لإبليس اسجد لآدم ! خاطب الحق : أرفع شرف السجود عن أسري إلا لك حتى اسجد له؟إن كنت أمرتني قد نهتني))
التناقض بين الأمر والإرادة الإلهية
يقول الإمام المقدسي عن هذا التناقض : ( فإني نظرت بعين اليقين دائرة الشقاوة والسعادة: تدور على خط الأمر ومراكز الإرادة،وبينهما تدقيق يدق عن التحقيق،ومضيق يفتقر سالكه إلى رفيق التوفيق.فالآمر يهب والإرادة تنهب،فما وهبه الآمر نهبته الإرادة.الآمر يقول افعل والإرادة تقول لاتفعل). نرى الإمام المقدسي يشدد على عنصر التناقض الذي واجهه إبليس وعلى عجزه عن أن يجد مخرجا لائقا لنفسه مما جعل الإختيار الذي كان عليه ان يقوم به اختيارا مصيريا تتوقف عليه شقاوته الأبة أو سعادته الأبدية ،فهو إما يسمع إلى خالقه وإرادة خالقه ويسعد إلى الأبد أو يخضع لإرادة نفسه ويشقى إلى الأبد،فهو الآن في الميزان ( الآمر يهب والإرادة تنهب) و (الآمر يقول افعل والإرادة تقول لاتفعل). فابليس في محنة من أن يختار، لايوجد من ناصح هنا له ليس لديه إلا أن يتخذ قرارا في ذلك فهو الآن في وحده تامة فأي قرار يتخذه فيعتبر هو مصيره الأبدي .
عناصر المأساة في محنة ابليس
1- دائما المأساة إذا جاءت تأتي بشكل مفاجئ في حين أن قرارك وتصرفك تجاه هذه المأساة تستوجب عليك أن تقرر بين خيارين على الأكثر فقرار قد يكون لصالحك وقد لايكون فإما تعيش شامخا تعيسا وإما ذليلا مطيعا. عندما أمر الله ابراهيم بقتل ابنه اسماعيل فسارع ابراهيم لقتل ابنه دون قرار من داخله ودون أي تراجع وانما بخضوع وخشوع كان سيردي ابنه اسماعيل قتيلا ولكن أتت مشيئة الله في آخر اللحظات . كان ابليسا كما يقول الإمام المقدسي ساكن البال مستقيم الحال صالح الفعال ولكن بينما هو في حضرة الشهود اتى الله بآدم الى الوجود وأمر له بالسجود،فاتقلب كل شيئ بلحظة فاهتز نظام الملأ الأعلى اذ على الجبين الذي لم يسجد إلا للأحـد ان يذل بالسجود لبشر وعلى معلم الملائكة في التوحيد أن يجحد التقديس والتسبيح وعلى النار أن تخضع للصلصال.لكن ابليس رفض السجود فلعن وطرد إلى يوم الدين. فابليس كان في قمة عزه واصبح في حضيض بؤسه وهيبته نفس قصة الملك أوديب عندما كان في ذروة مجده وسلطانه ثم تاه في متاهات اليأس والعذاب والألم فقد أصبح كل منهما مذموما مكروها ومشوها بعد أن هوى إلى أدنى مهاوي الشقاء فأصبح كل من كان عونا لهما عونا عليهما.
2- لابد من أن أتطرق الى مسرحية أنتيغون (سوفوكليس) تعالج مسرحية (انتيجوني) مسألة التمرد على نظام الحكم المستبد من خلال صراع بين (انتيجوني) المرأة التي ترفض قرار الملك (كريون) بعدم دفن أخيها لانه بحسب الملك لا يستحق أن يعامل بكرامة ويدفن لأنه يمثل الشر فيما يسمح بدفن اخيه الاخر الذي قتل معه لانه يمثل الخير. تطرح هذه المسرحية قضية من أهم القضايا في تاريخ الإنسان ألا وهي : أين ينتهي حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟ كان كريون يتوعد كل من تسول اليه نفسه مخالفة النظام بأشد أنواع العقاب وجميع هذه الإجراءات أمور طبيعية في مدينة (ثيبة) عانت من ويلات الحرب والوباء والفوضى ماعانته ثيبة عندما تسلم كريون مقاليد حكمها وكانت النتيجة ذلك الصدام المفجع بين متطلبات السلطة الزمنية وضروراتها متمثلة في شخصية كريون،وبين متطلبات السماء وأوامر الآلهة متمثلة في شخصية انتيجونا وحصد الجميع الموت واليأس والمأساة. عندما يسأل كريون انتيجونا (كيق جرؤت على مخالفة هذا الأمر؟) أجابت :ذلك لم يصدر عن > ولا عن <<العدل>> ...ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم،وماأرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان،من القوانين التي لم تكتب،والتي ليس إلى محــوها من سبيل...ألم يكن من الحق عليّ إذن أن اذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس ؟ وقد كنت أعلم أني ميتة وهــل كان يمكن أن أجهـل ذلك حتى لو لم تنطق به؟لئن كان موتي سابقا لأوانه فما أرى من ذلك إلا خيرا... . إذا نظرنا إلى قصة ابراهيم واسماعيل من هذه الزاوية تبين أنها تحتوي على تناقض شبيه بالتناقض الذي صوره سوفوكليس في مسرحيتة المذكورة،لابد أن ابراهيم عانى الأمرين بالتناقض بين احترامه لمتطلبات الأبوة العاطفية وواجباتها الإخلاقية من جهة وبين ضرورة الإذعان للأمر الإلهي القاضي بذبح اسماعيل من جهة أخرى. فمحنة ابراهيم مشحونة بعناصر المأساة إلى درجة أعظم من مسرحية انتيجونا حيث أن التناقض الأساسي في مسرحية سوفوكليس كان بين السلطة الزمنية وبين أوامر السماء الأزلية.أما ابراهيم فإن طرفي التناقض يعودان في نهاية الأمر إلى مصدر واحد هو الله.عندما خالفت انتيجونا لأوامر السماء خالفت بذلك أوامر السلطات الزمنية بينما حين خضع ابراهيم لأمر ربه ووضع المدية على عنق ولده خالف بذلك القواعـد الأخلاقية المطلقة التي أنزلها الله على عباده عن كيفية معاملة الآباء للأبناء والعكس.بعباره أخرى لما أطاع ابراهيم ربه من الناحية الدينية اضطر لأن يعصيه من الناحية الإخلاقية. لاتختلف محنة ابليس عن محنة كل من انتيجونا وابراهيم فهو إما يسجد لآدم بأمر من الله أو كانت أمامه متطلبات المشيئة الإلهية الداعية للتوحيد والتسبيح ولاتسمح للسجود لأحد سوى الله.فأذعن ابليس لمتطلبات المشيئة وعصى بذلك أمر السجود فطرد ولعن. مأساة ابليس كانت فاجعة ومأساوية وأعظم من محنة ابراهيم لأن ابراهيم محنته بين واجبات الطاعة الدينية وبين واجبات الطاعة الإخلاقية ولكن ابليس كان بين واجبات الطاعة للأوامر الإلهية فحسب بعبارة أخرى ،واجه ابليس الرب وهو يناقض نفسه بصورة مباشرة ومفضوحة فذهب ضحية هذا التناقض وضحية الموقف الذي اختاره ووقفه.فجحود ابليس هنا كان أعظم تقديس للذات الإلهية وأكبر مثل على التمسك بعقيدة التوحيد.فوقع بالإثم عندما جادل ربه ولكن الله هو الذي سمح له بذلك واصغى له عندما قال: <<أنا خير من خلقتني من نار وخلقته من طين>>.وهنا تتجلى شخصية ابليس المأساوية باعتبارها مزيجا من البراءة والإثم،من الجمال والقبح والحق والباطل ومن الخير والشر يتصف بكل هذه الصفات شأنه شأن الأبطال المأساويين الذين عرفناهم من خلال التراجيديات الكبرى في تاريخ الأدب. هذا التوتر المأساوي لايتحمله إلا أشدهم بأسا واصلبهم عودا أي أنه لايتحمله إلا إن كان معدنه من معدن الأبطال.
3- يقسم الدكتور صادق جلال العظمة هذه المأساة إلى نوعين : الأولى مأساة الغربة والثانية مأساة المصير أو القدر فمحنة ابليس تمثل كلا النوعين بحيث ينتج مأساة الغربة بسبب انفصال عن موضع معين كان البطل ابليس يشارك فيه قبلا ولكن يجد نفسه غريبا عنه الآن . ومن أكبر الأمثلة عن مأساة الغربة كتاب <<الغريب>> لكامو الذي أصبح مجرما ومتهما من قبل كل الأشخاص الذين صادفهم في رحلته لحضور جنازة أمه. يصف الخلاج مأساة الغربة لإبليس فيقول : <<أفردني،أوحدني،حيرني طردني لئلا اختلط مع المخلصين،مانعني عن الأغيار لغيرتي،غيرني لحيرتي،حيرني لغربتي،حرمني لصحبتي،قبحني لمدحتي،أحرمني لهجرتي،هجرني لمكاشفتي،كشفني لوصلتي..>> . ابليس كان مسيرا في جميع خطواته وفقا للقدر الذي كتبه الله عليه شأنه شأن كل كائن في ملكه بدليل الحديث القدسي القائل: <<أن أول ماخلق الله القلم فقال له اكتب قال يارب وما اكتب قال مقادير كل شيئ حتى تقوم الساعة من مات على غير هذا فليس مني>> وعبر الحلاج عن هذه الحقيقة الحلاج بانشاده عن ابليس: <<القاه في اليم مكتوفاً وقال له اياك اياك أن تبتل بالماء>>.فكان ابليس خاضعا في أحواله واختياره وطرده ولعنته وتشويهه لأحكام الإرادة الإلهية ولأمر قضائه الذي لايرد،كان مجبورا بحكمته ومقهورا بمشيئته بدليل قوله تعالي : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)(سورة القمر الآية 49). كتب الحلاج الكلمات التالية حول خضوع ابليس لقضائه وقدره: <<قال الحق سبحانه لابليس:الإختيار لي لا لك،فأجاب ابليس:الإختيارات كلها واختياري لك،قد أخترت لي يابديع ،إن منعتني عن سجوده فأنت المنيع وإن أخطأت في المقال فأنت السميع وإن أردت أن أسجد له فأنا المطيع،لا أعرف في العارفين أعرف بك مني،لاتلمني فاللوم مني بعيد،وأجر سيدي فإني وحيد>>. فآدم عصى ربه شأنه في ذلك شأن ابليس ولو شاء ربك لآدم الا يعصي لما عصى ،ولما عاتبه الله على معصيته لم يبد آدم أي رد فعل ايجابي بل قال : << قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ >> (سورة الأعراف آية 23) ،أما البطل المأساوي الذي يصارع مصيره فلا يقول <<إني ظلمت نفسي>> لأنه يعلم حق العلم أن قدره المحتوم هو الذي ظلمه،أما ابليس فإنه استجاب بصورة إيجابية لعتاب ربه فقال: << قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ>> (سورة الحجر الآية 39) فنفى بذلك أن يكون قد ظلم نفسه أو أن يكون مسؤلاً عن مصيره ومآله. فآدم خاف من الإعتراف بهذه الحقيقة لما عاتبه ربه بينما ناقشه ابليس وحاول أن يدافع عن فعله وأن يبرر اختياره بالرغم من علمه أنه لامفر له مما قدره الله عليه مع العلم أن فشله كان محتوما ومتوقعا. من خلال الحوار الذي تم بين ابليس والإلـه تلاحظ أنها أشبه بالمحاكمة حيث أتيحت لإبليس فرصة ليدافع عن نفسه قبل أن يقضي أمراً كان مفعولاً.
4- الكبرياء دائما يلعب دورا مهما في حياة الأبطال المأساويين فحين رفض ابليس السجود فهذا دافع إلى الكبرياء والفخار،قال الحق لإبليس لما طرده من الجنة << قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ >> (الأعراف آية 13). وهناك فرقا بين الكبرياء والعجرفة الدونكيشوتية اللتان لايجلبان لصاحبهما سوى الشفقة والسخرية،أما الكبرياء المأساوية فإنها تفرض علينا موقفا جديا تجاه البطل فيه الكثير من الإعجاب والتقدير لو كان موقفه مخالفا لكافة مبادئنا ومواقفنا الخاصة. لذلك كانت الكبرياء دوماً من أهم الدوافع التي حركت الشخصيات المأساوية من الملك أوديب إلى كارامازوف. يتكون جوهر الكبرياء المأساوية من رفض البطل لأن يبقى سلبيا في وجه مايعتبره تحديا لواجبه ومنزلته وكرامته حتى لو كان يعلم أن هذا التحدي هو جزء من مصيره وأن كبريائه ستنتهي به إلى الدمار واليأس والموت. إذن هكذا أنتهى أوديب وهكذا أنتهت انتيجونا وهكذا انتهى ابليس.أما آدم لم يعرف هذا النوع من الكبرياء على الإطلاق ولو كان مقدرا له أن يكون شخصية مأساوية لما قال : << قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ >> (سورة الأعراف آية 23). نستنتج من ذلك أن كبرياء ابليس لم تكن ناتجة عن عجرفة فارغة ولا عن تطاول على معبوده بل كانت كبرياء مأساوية دفعته لأن يلجأ إلى الله من قضاء الله عليه.حتى بعد طرده ظل يعترف بسلطان الله وقوته ويخاف منه بدليل قوله تعالي :<< كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ >>(سورة الحشر الآية 16).وبدليل جواب ابليس عندما أقسم أمام الله : << قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ >>(سورة ص الآيات 82 و 83).أي أنه بيّن أن لاشيء أعز عنده من عزة ربه حتى بعدما أنزلت عليه اللعنة.
النظرة المأساوية لابليس على المستوى الديني
تتطلب النظرة المأساوية للأشياء أن يتكبد الأبطال خسائر فادحة لايمكن أن تعوض على الإطلاق ويرمز لها بالموت أو اليأس التام ويتطلب من الأبطال أن يتحملوا بلاءاً وعذاباً لم يستحقوهما ولم يريدهما لأنفسهم.أما الدين فلا يقبل بهذا المنطق المأساوي ويقول بأن الخسائر التي يتكبدها الصالحون ستعوض عليهم في يوم ما كما عوض الله النبي أيوب على المصائب التي حلت به وكافأه على صبره الطويل.أما الخسائر التي يتكبدها الأشرار فإنها عقاب عادل استحقوه بسبب آثامهم وأفعالهم الشريرة بدليل << فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ،وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ >> (سورة الزلزلة الآيات 7 و 8 ). وحتى فاجعة الموت بالنسبة للدين لايقبل المأساه إلا بصورة مؤقتة ومرحلية ويتبع من ذلك أنه لابد لمأساة ابليس من أن تكون مأساة مؤقتة ستتلاشى في يوم من الأيام.وهما سؤال مهم لماذا الله أمر ابليس بالسجود لآدم والجواب ليختبره ويمتحنه من توحيد الله وحده لا شريك له كما اختبر أيوب وابراهيم في الأرض من بعده وتجربة ابليس واضحه بقوله : << بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ >> (سورة الحجر الآية 39) و << قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ>> (سورة الأعراف الآية 16) أي أنه سيغوي البشر كما أغواه الله ،وبرهن ابليس عن استعداده لأن يضحي بكل شيئ في سبيل دعواه بمعبود واحد، فهذا إن دل على شيئ فإنه يدل على حب ووفاء ابليس لله رب العالمين وإخلاصه له. فابليس هنا من خلال التجربة الدينية فقد اجتاز اختبار الله بنجاح تام والدليل على ذلك النقاط التالية :-
1- ابراهيم نجح بالامتحان وتفضيله قتل ابنه والتخلي عن الإخلاقيات الأبوية والخضوع للأوامر الإلهية أما ابليس فلقد علق مفعول واجبات الطاعة الجزئية ليذعن للمشيئة الإلهية ويتمسك بواجبه المطلق في التوحيد والتقديس. 2- تحول ذبح اسماعيل من مجرد جريمة نكراء إلى تضحية كبرى ،حوّل تمسك ابليس بواجبه المطلق،جحوده من مجرد عصيان إلى أسمى تقديس توجه به مخلوق إلى الذات الإلهية. 3- جعل الأمر الإلهي من واجبات ابراهيم الأبوية والتزاماته الإنسانية،واجبات إبتلاء لو أذعن لها لفشل في التجربة،كذلك ابليس كانت واجباته الجزئية واجبات ابتلاء بالنسبة للواجب المطلق،لو امتثل لها لفشل بالتجربة. 4- أما ابراهيم لم يسلك سلوك الآباء العاديين فهو نبي فظهرت حقيقته من خلال التجربه وأما ابليس لم يسلك سلوك الملائكة بالنسبة لواجباته الجزئية نحو الله بل سلك سلوك القديسين والصالحين والمقربين فبانت بذلك حقيقته بكل صفائها ونقائها . 5- أصبح من الجلي أن الإبتلاء الإلهي هو مصدر البلاء والعذاب واليأس الذي يمر به الممتحن.كانت رغبة ابراهيم الشديدة في إنقاذ إسماعيل والإحتفاظ به مصدر عذابه وشقائه،ولولا هذه الرغبة العنيفة لما استحقت تجربته كل هذا الإهتمام لأنه يكون قد قدم إلى ربه شيئا لايعز عليه إلا قليلا ولا يشكل فقدانه بلاء عظيما .كذلك الأمر بالنسبة إلى ابليس عندما جربه الله كان يشعر برغبة جامحة لأن يذعن لأمر السجود وعز عليه إلى أقصى الحدود أن يضحي بهذه الرغبة في سبيل تمسكه بحقيقة التوحيد وإلا يكون قد ضحى بشيئ لم يكن يرغب فيه أصلا إلا رغبة طفيفة.كان ابليس وابراهيم يعلمان أن الله يجربهما وأنه يطلب منهما أشق أنواع التضحيات وأغلاها على الإطلاق ولكن ما من تضحية تصعب عليهما في سبيل وجهه تعالي،لذلك رفض ابليس السجود ورفض ابراهيم روابط الأبوة والإنسانية. من خلال كل هذه المحن المأساوية نجد أن مأساة ابليس هي مأساة المآسي لأن محنة ابراهيم عجزت الوصول إلى قمة المأساة بسبب ذلك الكبش المشهور هنا تعذر وجود المأساة الحقيقية في الدين.وأما محنة انتيجونا تليها في الأهمية من حيث أنها تمثل مأساة حقيقية أما محنة ابليس تعبر عن المأساة بأجلى صورها وأقصى دودها وأبعد معانيها.غير أن عندما ندرس الموضوع من التجرية الدينية نضطر من أن نغير هذا التصنيف ونستعيض عنه بتصنيف جديد ينسجم مع منطق الدين وموقفه من المأساة.ولو قدّر لحقيقة ابليس أن تتجلى على المستوى المأساة فحسب لانتهت مشاغلنا عند التصنيف الأول.أما التصنيف الجديد فإنه يضع محنة انتيجونا في أسفل السلم لأن تجربتها فرضت عليها الإختيار بين أمر السلطة الزمنية وبين أمر السماء وكل منهما يعود إلى مصدر غير المصدر الذي يعود إليه الآخر.بينكا نجد أن تجربة ابراهيم كانت اهم مغزى وأقوى مفعولا لأنها خيرته بين أمر الله المباشر وبين الواجبات الأبوية والإلتزامات الإخلاقية والإنسانية التي كان يعتقد ابراهيم أنها مقدسة ومنزلة من عند الله .أي أن اختياره كان بين أمرين نبعا من مصدر واحد هو الله .أما تجربة ابليس فهي تجربة التجارب وأعظمها شأنا واشدها مرارة لأنها اضطرته للإختيار بين متطلبات المشية الربانية من ناحية وبين الأمر الإلهي المباشر من الناحية الأخرى.أي لم يكن على ابليس أن يختار بين الدنيوي والأزلي كما كان على انتيجونا أن تفعل،ولم يكن عليه أن يختار بين الإلهي والإخلاقي كما كان على ابراهيم أن يفعل،بل كان عليه أن يختار بين الإلهي والإلهي أو بين الأزلي والأزلي كان ابتلاؤه لايطاق وبلاؤه لايقاس ويأسه لايوصف. ومن شروط التجربة الناجحة أن يعتقد الممتحن اعتقادا راسخا لايتطرق اليه الشك بأن تجربه ستسفر عن خاتمة مفجعة وكم عندئذ ستكون فرحته عظيمة عندما يكشف أنها أسفرت عن نهاية سيعدة،كما حدث لابراهيم عندما استعاد ولده،ولأيوب لما أعاد الله اليه أمواله وذريته أضعافا مضاعفة.وبما أن الله كافأ أيوب وابراهيم على صبرهما ونجاحهما وتمسكهما بواجبهما المطلق نحوه يجوز لنا أن نستنتج بأنه سيكافئ ابليس ايضا على نجاحه وتضحيته ويعوض عليه ماتكبده من خسارة مفجعة وماعاناه من شقاء وبلاء وغربة.ولكن إذا كان كذلك لماذا لعنه الله إلى يوم الدين ؟! الجواب بسيط: لعنه إلى يوم الدين لأن التجربة بحد ذاتها تتطلب ذلك،فلو اعتقد ابليس مثلا أن اللعنة التي نزلت به كانت مؤقتة فأمل بالعودة إلى الجنة لفقدت تجربته مغزاها ومعناها،ذلك لأن تمسكه بحقيقة التوحيد،بالرغم من يأسه التام من النجاة،هو دليل اجتيازه التجربة بنجاح،تماما كما كان يأس ابراهيم من إنقاذ إسماعيل وتعويضه بالكبش المزعوم . بعبارة أخرى لاتبين اللعنة الأبدية مصير ابليس الحقيقي بقدر ماتشكل جزءا لايتجزأ من امتحانه.أما مصيره الحقيقي فهو أمر يجب أن يظل سرا مكتوما عنه إلى أن يحين موعد إفشائه،تماما كما ظل مصير إسماعيل سرا مكتوما على ابرهيم حتى حان الوقت المناسب لإعلانه.كما أنه لايجوز لابليس أن يظل ملعونا إلى الأبد بعد إجتيازه التجربة بنجاح،لأن بقاءه على هذه الحال يشكل مأساة كبرى وحقيقية في الكون،ومنطق الدين،كما مرّ علينا سلفا لايسمح بذلك على الإطلاق. من كل ماسبق يتضح أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها هنا هي المكر والآيات القرآنية تبين هذا المكر كالتالي : << وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ >> (آل عمران الآية 54) << وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ >> (الأنقال الآية 30) << وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ >> (يونس الآية 21)
فالخاتمة النهائية المتوقعة لإبليس كما قلت أن الله سيكافئه على نجاحه في التجربة التي إبتلاه بها ويعيده إلى الجنة يوم تشرف هذه الدراما الكونية على الإنتهاء ،والدليل على ذلك:
1- تمسك ابليس بحقيقة التوحيد تمسكا لامثيل له ولذلك لايمكن أن ينتهي في جهنم عملا بالحديث القدسي القائل<<قال الله عز وجل إني أنا الله لا إله إلا أنا لي بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أن عذابي>>. 2- نجح ابليس بالتجربة التي إبتلاه الله بها وصبر على البلاء الذي حل به من جرائها وعليه فإن مكافئته النهائية مضمونة بدليل الحديث القدسي القائل : <<قال عز وجل إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب للحفظة إني قيدت عبدي هذا وابتليته فاجروا له ماكنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر>>.ولولا هذه النهاية السعيدة المتوقعة لإبليس لكانت خاتمته مأساة حقيقية ونهاية لايمكن لمنطق الدين أن يقبل بوجودها كما مر معنا في السابق. فمكر الله هنا كما سبق، أي أنه أبدى لهم من أحكامه عند بداية التجربة غير ماأضمر لهم بالنسبة لخاتمتها،فينطبق هذا على ابليس إذ أن مكر الله يتطلب أن يعتقد ابليس إعتقادا جازما بأن خاتمته لن تكون تعيسة ويائسة.نستنتج إذن أن اللعنة التي نزلت بإبليس لم تكن تعبيرا عن نهايته الحقيقية التي شاءها الله له وإنما كانت مكراً الهياً غايته تنفيذ أحكام المشيئة فيه. وأخيراً يقول الدكتور صادق العظم <<يجب علينا ادخال تعديل جذري على نظريتنا التقليدية إلى ابليس وإحداث تغيير جوهري في تصورنا لشخصيته ومكانته ثم يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص وينفذ أحكام مشيئته بكل دقة وعناية.وأخيرا يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيرا بعد أن أعتبرناه زورا وبهتانا مسؤولاً عن جميع القبائح والنقائض>>. ______________________________________________________
المراجع / 1- مسرح سوفوكليس من التراث الأدبي اليوناني الغربي 2- قصة النبي ابراهيم من التراث الديني السامي 3- كير كجورد - قصة ابراهيم - كتاب (الخوف والقشعريرة) 4- أنتيغون (سوفوكليس) http://en.wikipedia.org/wiki/Antigone_(Sophocles) 5- الأحاديث القدسية (الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية) - الشيخ محمد المدني 6- بتصرف - نقد الفكر الديني – صادق جلال العظم 7- ابليس في الإسلام http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%B3_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85 8- القرآن الكريم http://www.holyquran.net/quran/index.html 9-قصة أوديب http://en.wikipedia.org/wiki/Oedipus 10-رواية الغريب – البير كامو
#سامي_القسيمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخطاء علمية في القرآن الكريم
-
محمد الإله الإسلامي
-
مسرحية الإله
-
النقد النصي للقرآن - الحلقة الثانية
-
النقد النصي للقرآن - الحلقة الأولى
-
العلم والدين
-
افتراءات زندانية وزغلولية
-
خرافة الإسراء والمعراج
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تتبنى قصف مستوطنة كرمئيل بالجليل
...
-
منتدى كوالالمبور: طوفان الأقصى شرارة نهضة للأمة الإسلامية
-
فينكلشتاين للمقابلة: معركتي ضد إسرائيل من أجل العدالة ولا عل
...
-
بابا الفاتيكان يجدد مناشدته من أجل السلام.. ويتحدث عن - قربه
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن استهداف مدينة صفد المحتلة ب
...
-
خضرنة النظم عبر خضرنة الدين : القيم البيئية الإسلامية وسياسا
...
-
هيئة العامة للشؤون الإسلامية تفتح باب التسجيل للحج 2025 في ا
...
-
“رفه عن ولادك في الاجازة” نزل تردد قناة طيور الجنة الجديد لم
...
-
السيد الحوثي: وقفة ايران هي وقفة إسلامية مع العرب ضد العدو ا
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة هائلة على الاقمار ا
...
المزيد.....
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
-
جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب
/ جدو جبريل
المزيد.....
|