أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة العاشرة















المزيد.....

العجوز الحلقة العاشرة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4605 - 2014 / 10 / 16 - 11:47
المحور: الادب والفن
    



ابتعدت العجوز عدة خطوات عن حصاد الصور والذكريات، عدة أحوال، عدة قرون لو نَحْسُبُ حساب الأشياء. كل شيء يبتعد، كل شيء يتوقف. كل شيء يغدو كغابة لا يمكن قطعها. طال بها الوقت قرب السياج: اجتاح القحط كل شيء، الذاكرة، والأرض. الجبال جرداء، محترقة. سوداء. غادرها البرابرة إلى الوادي، ورحلت الذئاب. لم تحتمل بعد اليباب. وصل إلى أذنيها غناء، من مكان ما من الأعماق الجافة لنهر الشهوة، كانت العجائز ترتل لحنًا لغنائية:

عيونك أحلى من نبعات الميّ
وخدودك حبات تفاح أحمر ما تقول أيّ
وشفايفك جروح نسمات الليل
أفديها بعينيّ
أوف... يابا!

يا إلهي! كل شيء يبدأ من جديد. منذ لحظة، فقط منذ لحظة، كانت تعتقد أن هذا النصيب من الوقت الفاصل بين اليوم والماضي الهنيء من المتعذر عبوره. كان يكفي بعض غناء مُدَنَّن لإبطاله فورًا. غير مستقرة المشاعر الإنسانية! وفية وخؤونة في آن، خادعة ومخدوعة. لم تكن منيعة، عقبات الزمان.
بكت العجائز زمنًا ضائعًا. وشفايفك جروح نسمات الليل. أفديها بعينيّ! وما لبثن أن تفرقنَ تاركاتٍ إحداهن خلف صخرة. لم تتوقف المرأة عن البكاء، عن الانتحاب، عن صفع وجهها. ضربت نفسها أيضًا وأيضًا، وبكت، وذهبت في نحيب ونواح. بحثت عنها العجوز، ولم تجدها. كانت تسمعها، ولكنها لا تُمَوْضِعُهَا.
- أنت هنا؟ طلبت العجوز لما انتهى بها المقام إلى رؤيتها.
استدارت الأخرى، وهي تمسح دمعها.
- هل تعتقدين أنك قادرة على إغراق كل هذه الصخور بدمعك؟ عادت العجوز تطلب.
لم تجبها الأخرى، عادت تبكي، وتَغُصُّ:
- بدمعي أريد أن أعيد نهر الشهوة إلى ما كان عليه لأرتوي.
لم تكن العجائز على اتفاق معها، لهذا تركنها. أرادت جميلة أن تتركها، هي أيضًا، بصحبة سُخْفِهَا، لكن صوتها الذي تكره استبقاها: كأنها ضفدعة تَنُقُّ. كان الصوت الوحيد المتميز عن غيره، المميز بين باقي الأصوات، المتجرد عن أصوات الأخريات. كان يزعج. مع المغنيات الأخرى، ضاعت جميلة في الجَهُورِيَّة، في الجمالية. ولدمعها الشيء ذاته. لن يَلْطُفَ دمعها إلا بتدخلهن كلهن. وتقول إنها تريد أن تعيد الحياة إلى نهر الشهوة، هذه البلهاء! ووحدها! وبهذه اللآلئ التي ملحها الاحتقار والاشمئزاز! لا تريد أن تفهم أن كل شهوة جافة تجف مرة واحد وإلى الأبد، وأن أجسادنا المرهقة تحت قحط الحاضر لن تجد أبدًا الطريق إلى نهر الماضي.
إلا أن هذه النائحة، لا تلجأ إليها، لا تلجأ إلى جميلة، إلى الماء والضوء، وكل الشهوات الحلوة. كانت تتمنى أن تبعث شهواتها من أعماق الرمل دون عون أحد، دون وسيط. شهواتها المُرَّة.
- وبعدين، تذمرت العجوز، ألم ينتهِ الأمر معكن، أنتن كلكن!
- لا، لم ينتهِ بعدُ، احتجت الأخرى.
- جف هذا النهر إلى الأبد، وكل دموع العالم لا تستطيع ملئه.
الدم ربما، لا الدمع... ستتركها. ستتركها تبكي شهواتِها المُرَّةَ شهوةً أخيرةً في إغراقها والإنهاء عليها، نهائيًا. ستكون الخاسرة، حتمًا. مما وراء الجبال ستأتي العاصفة التي تملأ الأنهار بالماء والقلوب بالآمال. فجأة، بدا على الأخرى أنها فهمت فعلتها التي لا تُفعل، وفي آخر المطاف فعلت شيخوختها المخالفة للصواب بصواب:
- وحفيدك، ما هي أخباره؟
- جيدة.
- جيدة؟
- هو في بلد بنى فيه ألف مدينة. إنه ثمن المطر، ثمن مطري، لأجل نهري، لا مطر إلا لي.
بصواب، ولكن ليس بلا نهاية.
- ليس إلا لك! ألقت الأخرى بنبرة معادية. حقًا لقد أصبحت أنانية قذرة! كيف تجرؤين؟ واحدة بائسة مثلك!
وأعطتها ظهرها. كل واحد لنفسه، نعم، حتى ولو تعلق الأمر بطوباوية "حقيقية". فلتعد إلى نحيبها لتروي "مُحالها"، مُحالي سيبقى سليمًا، فلتبك حتى العمى! اجتاح العجوز حقدٌ مفاجئٌ عليها لا على صوتها، نقيقها كان محتملاً حتى تلك اللحظة، فمها، رأسها، أفكارها أو أقوالها. جدت في اعتبارها ضفدعة، لتنجح في الاقتراب منها لمخاطبتها من جديد. الأخرى، ذات دموع الملح، صارت بعيدة. تعثرت لما نادتها عجوز العجائز. كانت في شعرها المشعث ورقة خضراء. أخذتها العجوز، أدارتها بين أصابعها، وتأملتها بانتباه. كانت تعرف من أين جاءت، تلك الورقة الخضراء، فلم يكن هناك ما هو أخضر إلا في أرض الحاكم. اختطفتها الناحبة من يدها، ومزقتها. ألقتها على الأرض، وبغضبٍ داستها. أمسكت العجوز من يديها، وهزتها هز شجرة الخوخ:
- أيتها الشجرة العجوز العفنة!
أرادت الشجرة العجوز العفنة أن تقول ما قالت العجوز ذات دموع الملح عنها، أن تعترف. لو كانت عفنة، عفنها بالمقابل كل هذه العجائز. أرادت قول ما يقعد على قلبها، لكن الأخرى عادت إلى البكاء. دفعتها، وشتمتها:
- أيتها العجوز الغبية! أيتها القذرة! أيتها الخرية!
وابتعدت بخطوة متخلخلة. اسمعي! (كان يكفي قول "اسمعي" لتقف، الجبانة.) توقفت، وقابلتها. مالت العجوز على الأرض. لم تكن تميل على جذورها. كانت الحجارة تعيقها، الحجر السُّمَّاقي أحدها، وحجر الكُحْل، وحجر القمر. هناك تلك الورقة الخضراء الممزقة، تناولت قطعة منها، وفركتها. مدتها، ولم تقل شيئًا. شعرت في يدها قطعة من سيف، من سيفها، شيئًا كجناح نسر مكسور. وفي الأخير قالت إن هذه الورقة الخضراء من حديقة الحاكم، هذا الجلاد الذي ضحت المرأة ذات دموع الملح بحياتها من أجله لما كانت شابة، وتداوم على التضحية في الوقت الحاضر لما صارت شيخة! عديمة الذمة! مدت المرأة لها لسانها، وأعطتها ظهرها، وهي تنطنط ذاهبة كضفدعة سمينة. رفعت ثوبها الطويل الأسود لتسرع أكثر ما تسرع. عندما اختفت تمامًا، طأطأت العجوز، وبرقة التقطت قطع الورقة الخضراء المبعثرة، وحاولت إعادة تكوينها. ارتعشت. كل حياتها مع سيف كانت تختلج. وعلى حين غِرة، سقط عليها صوت طالبًا إذا ما كانت تحفر، فأحست بالقلق يختطفها. ظنت أن سيفًا عاد، فهي لم تره منذ الحريق الكبير. ومع ذلك، لم يكن الصوت صوت زوجها، كان صوتًا حادًا لامرأة تمضي من هناك، فسارعت إلى طمر الورقة الخضراء بالتراب.
- إذا ما كنت أحفر؟ سألت العجوز واقفةً.
- نعم! هل تحفرين؟
حدقت كل واحدة منهما في الأخرى، كمن تلتقط الواحدة الأخرى في حالة التلبس، وأخذت المرأة تحك عنقها بفظاظة. آه!... نفخت. كانت الحرارة ساحقة، واجتاح وجهَهَا المتغضنَ بشكلٍ مهينٍ حزنٌ غامضٌ، وجهها الشاذ الممتلئ بالعُقَد.
- سنموت عما قريب! همهمت.
- لم أكن أحفر، كان ذلك مجرد...
لم تكن تحفر، لكن الموت كان يجول، وكانت تحس بِنَفَسِهِ قرب عنقها. سيموت الكل عما قريب، وماذا بعدُ؟! لقد فقدنا كل شيء. بدت قوية، متعجرفة، فتقدمت الأخرى، وزرعت أظافرها، مخالب الصقر أظافرها، في كتفها، وعنفتها:
- تريدين لنا الموت، أيتها اللعينة!
ودت العجوز لو تقطع لها ذلك الوجه الدَّرنيّ بشكل شاذ، تلك العقدة الغوردية التي قطعها الاسكندر الكبير بسيفه، لو تنتزع أظافر الشيطان أظافرها. رغبت في وضع حد لفُضول كل تلك العجائز الكريهة، ولها أيضًا سيكون المصير ذاته. هي أيضًا سيكون لها نُعاسٌ هادئٌ في الأخير، ولكن قبل كل شيء، يجب على هذه العجائز أن يذهبن دون رجعة. حضورهن لا يرضي سوى الموت الذي يغمض عينيه، والذي لا يفعل شيئًا. في نهاية المطاف، يعبد الموت الشباب، لهذا يحرد على كل هذه الأجساد المدعوكة. صعدت فيها شهوة الانتقام. يجب مضايقة الموت. بقول آخر، يجب إرسال كل هذه الدمامة إليه. وراحت تحفر هذه المرة، كما لو كانت تحفر لدفن أحدهم. قبور. تريد أن تحفر القبور لكل هذه النذلات المُعَمِّرَات.
قرفصت المرأة ذات مخالب الصقر.
- يا أختي، إني أخاف الشيطان! قالت بصوت متأمل.
- شيطان الموت؟
هو بالأحرى من يخاف منكن، من يكرهكن، من يهرب منكن. نظرت إليها بدهشة: ها هي عجوز تخشى الموت! عجوز تريد العيش! وعجوز تريد مواصلة العيش عليها أن تكون ظاهرة غير مألوفة! نظرت إليها، تفرست فيها، وهي تتمنى اكتشاف سرها. ولكن لا سر هناك، نحن فقط نعتاد ألمنا، نتعلق ببؤسنا. لم يعد الماضي السعيد حلم اليوم. مَسَّاكَ الله بالخير، أيها الموت!
- في شبابي، كانوا يدعونني "بالشيطانة"، لكثرة ما كنت أحب اللعب. كنت كثيرة الحركة، أثير سَخَطَ الجميع. كنت الشيطانة، ولا بأس في ذلك! ومع ذلك، فالشيطان الذي أخاف منه، يريد اللعب بحياتي. ضخم هو هذا الشيطان، دميم، شرير! هو ضخم، هو دميم، هو شرير، كما لم تر عين، وبقرون: كأنه ثور! وهو أسود.
- أسود أم أبيض؟
- أسود. كله سواد. ثور أسود بقرون سوداء!
- أيتها الحمقاء! هذا وصف لا يليق بملاك السماء!
- رأيته وأراه كل ليلة قبل نومي.
- وتستطيعين النوم في الوقت الحاضر ككل من يستطيع النوم!
- فظيعٌ هو شيطان الموت هذا، يهددني كل ليلة، ويقترب مني خطوة، ويبتسم لي.
- يجب القول يبتعد، يهرب.
- ألا تصدقينني؟
- لماذا أصدقك وأنت تَخْرَفِين؟!
- أَخْرَفُ، أنا؟!
- نعم تَخْرَفِين، تتلفظين بحماقات، تهذين!
- لا تصدقينني إذا شئت، ولكن خذي حذرك! الشيطان شغله على وشك، متى انتهى من إحدانا بدأ بالأخرى، حتى ذلك الحفيد المنتظر لن يكون باستطاعته أن يفعل شيئًا.
وابتعدت بعجلة.
هذا هو ما يخيفك، قالت العجوز لنفسها، ما يخيفك الموت لا الشيطان. أنت لا تريدين الموت، أنت يا من حياتها تغيظ الحياة، وموتها يثير الموت! لِمَ لم ترشي الشيطان بالعبادة كما رشوت الله؟ ارتقت إلى عهد بعيد، وهي ترسم ابتسامة على شفتيها أو شيئًا يشبه الابتسامة، شبح ابتسامة: أنا، شيطاني ملاك جميل، ملاك مشع سيجيء بحثًا عني بسعادة كل الأرضيين. سَيُقَبِّلُنِي من فمي على الرغم من كل بشاعتي، من كل برودي، من كل تشوهي!
أخذت تحلم باللحظة التي يقترب فيها منها: الموت لي هو الحرية، الخلاص. هو حتمًا موت آخر غير ذلك الذي تخاف منه تلك المجنونة، موت رحيم لامرأة وادعة لم تكن الحياة معها رحيمة، واستطاعت الإبحار عكس الريح.


يتبع الحلقة الحادية عشرة



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز الحلقة التاسعة
- العجوز الحلقة الثامنة
- العجوز الحلقة السابعة
- العجوز الحلقة السادسة
- العجوز الحلقة الخامسة
- العجوز الحلقة الرابعة
- العجوز الحلقة الثالثة
- العجوز الحلقة الثانية
- العجوز الحلقة الأولى
- العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية
- العجوز مقدمة الطبعة الفرنسية
- موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
- موسى وجولييت الفصل الرابع والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الخامس والثلاثون والأخير
- موسى وجولييت الفصل الثاني والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثالث والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الحادي والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثامن والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل التاسع والعِشرون


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة العاشرة