أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - السيف والندى: تأملات سياسية















المزيد.....

السيف والندى: تأملات سياسية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1293 - 2005 / 8 / 21 - 11:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


السياسي الذي يحل العنف والقوة محل التفاوض سيء بما فيه الكفاية. غير أن هناك صنفا من السياسيين أسوأ: أولئك الذين يعتقدون أن العنف والسياسة ينتميان إلى عالمين منفصلين تماما. وفقا لهؤلاء لا عنف في السياسة ولا سياسة في العنف، أو تنتهي السياسة حين يطل العنف وينتهي العنف حين تهل السياسة. غير أن هذا التصور أكثر تبسيطا من ان يفيد لبناء مفهوم عقلاني، إن للسياسة أو للعنف. صحيح ان السياسي الجيد لا يشهر سيفه في كل وقت، لكنه كذلك لا يتخلى عنه أبدا. وكلما ازدادت القوة ووسائل القسر في حوزة السياسي قوة، ألحت الحاجة إلى قواعد وضوابط ودساتير لتقييده ومنع سيلان القوة عنفا غير منضبط، او إرهابا.
ليس هناك سياسة في العصر الحديث، وربما القديم، ليست سياسة قوة، حتى لو أن السياسة لا تتشكل كمستوى أصيل من مستويات التفاعل الإنساني إلا إذا نالت استقلالها عن القوة. لكن ثمة نموذجان لسياسة القوة: نموذج يلغي السياسة ويحل محلها العنف السائل او السيف المشهر أو الإرهاب، ونموذج يقيد القوة ويغمد السيف دون أن يتخلى عن مراكمة القوة. ليس ثمة نموذج ثالث في عصرنا هذا، نموذج من النوع الذي قد تمكن تسميته سياسة الندى. الندى ليس سياسة.
ليس غرضنا هنا التنديد بالسياسة العنفية، او سياسة القوة السائلة. فقد اضحت "المنفعة الحدية" لكل نقدة إضافية لسياسة القوة ضئيلة جدا لفرط ما تكررت في العقد أو العقدين الأخيرين تحت يافطة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ونقد الاستبداد أو هجائه. الغرض، بالأحرى، اعتراض مزدوج على كل من سياسة القوة السائلة وللمقاربة الحقوقية أو الأخلاقية للسياسة، المقاربة التي تتصور السياسة حوارا هادئا ومتحضرا بين أطراف حسني النية، يعتمدون الإقناع والبراهين حكما يفصل بينهم. وتقديرنا أن هذين التصوريين غير العقلانيين للسياسة يشكلان كلا واحدا يستدعي احدهما الآخر.

المثال السوري
المقاربة الحقوقية شائعة في الأوساط السياسية السورية، المعارضة والمستقلة، خلال السنوات الخمس المنصرمة من القرن الحادي والعشرين. ويلتقي في انتشار هذه المقاربة عاملان. الأول هو الضعف الشديد للمعارضين والمستقلين السوريين بعد عقيدن من سياسة استئصال بالغة القسوة مورست تجاههم؛ العامل الثاني رد فعل على تلك السياسات التي وقعوا ضحيتها والتي طبّعت العنف وحكّمت القوة في حياة السوريين. بعبارة اخرى، أفسحت سياسة القوة العارية او السائلة المجال لا لمفهوم السياسة العقلاني المستند إلى موازين القوى بل لمفهوم لا سياسي للسياسة، مفهوم ثقافي، حواري في منهجه العملي وحقوقي في مطالبته وتحليله النظري. تبنّي هذا المفهوم اللاسياسي هو أعلى مراحل الخروج من السياسة الذي عمل من أجله النظام؛ اعلى المراحل لأنه يسجل نجاح النظام في دفع معارضيه إلى استبطان و"تذويت" ما أراد تحقيقه بالقسر.
ولعله بسبب هيمنة المقاربة الحقوقية، تصدر المثقفون مرحلة الانفراج النسبي التي شهدتها سوريا في مستهل القرن، وسميت "ربيع دمشق". الحقوقوية سياسة الضعيف، والضعف اضطرار مؤسف لدى السياسي لكنه قيمة محايدة أو ربما فضيلة عند المثقف.
يتميز مفهوم المثقفين للسياسة بانه يتوسل الاختلاف وليس التناقض، والحوار وليس الصراع، والحق وليس القوة، والإقناع وليس المواجهة، وأنه تاليا حميد وغير خطر. وبهذه الصفة يمكن التسامح معه من وجهة نظر نظام القوة في طور بداية انحلاله، ويمكن الارتضاء به من وجهة نظر المعارضة في طورها التبشيري. إنه محطة يلتقى فيها مؤقتا أناس تتجه قطاراتهم في اتجاهات متعارضة.
على أن هيمنة المفهوم الحواري أو الحقوقي للسياسة لا ترتد إلى أرجحية وزن المثقفين في تلك المرحلة؛ إن هيمنة هذا المفهوم وأرجحية وزن المثقفين يعودان إلى شيء مختلف عنهما معا: قطع الرأس السياسي للمجتمع السوري بالسيف المشهر للسلطة القوة السائلة او العنف المحض.
وبينما قد يكون المفهوم الحواري (أو الحقوقي دوما) للسياسة في غياب موازين قوى متوازنة أشبه بخضوع للأقوى من وجهة نظر السياسي، فإن هذا الذي يفهم السياسة كموازين قوى لا يملك من القوة، خلال بضع السنوات الأخيرة، ما يدفع أحدا إلى قياس وزنه. ولا ريب أنه لذلك لم تجد عودة الأحزاب إلى النشاط العام والعلني ما يوازيها في تحول مفهوم السياسة بعيدا عن الثقافة. فمفهومنا للسياسة يعكس قوتنا أكثر من تفضيلاتنا. وضعف الأحزاب هو الذي دفعها إلى أحضان مقاربة حقوقية واخلاقية و"إجماع وطنية" للسياسة. فالحقوقوية هي سياسة الضعيف كما قلنا. وإذا كانت ديمقراطية المعارضة السورية قليلة الإقناع لا تزال، فليس لقلة إخلاص المعارضين، بل لأن ديمقراطيتنا مصنوعة من الضعف، وفيها تاليا من الاضطرار أكثر من الاختيار الحر الناضج.
نريد أن تناقضات سياسة المعارضة السورية في السنوات الأخيرة، بما فيها تناقضات فهمها للنظام وللسياسة، تعود اساسا إلى تناقض موقعها المعارض (لنظام مدمن على العنف) مع وضعها الضعيف. والكلمة الأخيرة في تفسير الضعف هذا لا تزال تحيل إلى القمع الحكومي المفرط الذي يستهدف أدنى أشكال الاستقلال الاجتماعي.

المثال العربي
غير أن التفكير في مفهوم السياسة يتعدى حال المعارضين والمثقفين السوريين. ونقد الحقوقوية والحواروية كسياسة يتصل باوضاع العرب المعاصرين ومواقعهم حيال السيادات العليا في العالم، كما بأوضاع ومواقع المعارضين العرب حيال نظم السلطة في بلدانهم.
فإذا كانت الحقوقوية خاطئة في كل مكان، فإنها خاطئة وخطرة معا في المكان المسمى "الشرق الأوسط"، الذي صنع بالقوة لا بالحوار ولا بالسياسة، واستقر بالقوة لا بالقانون، ويحكم طغاة شعوبه بالقوة، ويغيره صناعه الأصليون اليوم بالقوة. وإذا كان التغيير الداخلي في الدول العربية يفشل، وإذا كانت المفاوضات بين اطراف عربية وكل من الأميركيين والإسرائيليين لا تؤدي إلى نتيجة، فلأن موازين القوى مختلة إلى درجة لا تستطيع مفاهيم الحقوق والعدالة ان تعدل من تاثيرها. لا يجدي هنا الإقناع بالمنطق ولا الحجج الأخلاقية، ولا بالطبع منهج التسول الذي اقترحه أحد السياسيين العرب قبل سنوات. الحوار عظيم، لكن بين متساوين، والتفاوض جميل، لكن بين متعادلين. فـ"لا عدل إلا إن تعادلت القوى / وتصادم الإرهاب بالإرهاب"، كما يقول أبو القاسم الشابي. أما النصح الأميركي والغربي للعرب بالعمل على إيجاد حلول سياسية وتفاوضية لمشكلات الاحتلال الإسرائيلي فهو بمثابة ترويض لهم على التسليم بالأمر الواقع، لا أكثر ولا أقل. هذا ليس تزيينا لسياسة القوة في أعين الضعفاء. فالضعيف الذي يصر على ممارسة سياسة القوة لن يجد غير طريق الإرهاب. أي يلعب لعبة خصومه وفي ملعبهم. وستكون النتيجة هي الهزيمة طبعا. الغرض أن ما لا ينال بالقوة لا ينال بالتفاوض. فالتفاوض لا ينتمي إلى عالم مختلف عن عالم القوة. والقدرة على التفاوض وإحراز نتائج عبر التفاوض تتناسب طردا، وليس عكسا، مع ما نحوز من قوة. هذا خلافا لما يتوهمه متسكعون ودروايش ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية.
نعم، القوة ليست عضلات فقط، وليست سلاحوية فظة، ولا هي إرهاب لا يفكر ولا يعقل. لكن لا قوة بلا عضلات وسلاح وقدرة على الترهيب. المتسكع الليبرالوي هو الوجه الآخر للإرهابي.

السيف المغمد
لنلخص: السياسة ليست حربا، والسياسي الذي يضع السيف دوما موضع الندى يلحق الضرر ببلاده على نمط يمكن تمثيله بصدام حسين. لكن السياسة ليست حوارا محضا، والسياسي الذي يضع الندى موضع السيف يسرع إلى خراب بلاده أيضا ويخفق في قيادتها. هذا النموذج لا يوجد في عالم اليوم، إلا في طور متقدم من دورة حياة أنظمة السيف المشهر إن جاز التعبير، طور الانحلال. فهو مرحلة متقدمة من تطورها اكثر مما هو نظام مستقل قائم بذاته. فحين تبلغ هذه الأنظمة طور الهرم، وهي تبلغه حتما لأنها تعتمد في سعيها وراء الخلود ومحاربة الزمن على القوة وحدها، تغدو أنظمة عاجزة عن القمع. بعبارة أخرى، ليس نظام الندى، في عصرنا السينيكي هذا، خيارا متماسكا بل محض عجز عن حمل السيف.
سياسة السيف، مغمدا أم مشهرا، سياسة القوة بكل أشكالها، السياسة بكل أشكالها، هي أم الجيوش وأم الحرب وأم الأسر والسجن، كذلك أم الوطنيات والعقائد والشهداء. سياسة بلا شهداء وأبطال هي سياسة بلا سيف، مغمدا كان أم مشهرا. هي نهاية السياسة (والحرب). هل هذا ممكن؟ إنه طوبى. والطوبى التي تتحول إلى سياسة تدمر وتقتل، تعطي عكس ما تعد. قد يبدو أن الشيء العقلاني في عصرنا هو إصلاح السياسة: إغماد السيوف كوسط أرسطي بين إشهارها والتخلي عنها. لكن مفارقة الزمن الراهن ان الأقوى لا يشعر بالحاجة إلى إغماد سيفه والأضعف لا يملك سيفا لإغماده. لهذا لا لغيره السياسة اليوم في محنة.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في تضاعيف المسألة الإرهابية
- الإسلاميون ومبدأ الشرعية المتساوية
- علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟
- علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
- حقائق وزير الحقيقة البعثي
- الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
- البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
- استعصاء
- وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
- هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
- كلام على هيبة الدولة
- بين السلطة والإخوان: لا بديل عن التفاوض
- مخرج عقلاني من وضع مقلق
- حزب الشعب الديمقراطي السوري وتحدي بناء الذات
- المـوت الضـروري لـسـميـر قصيـر
- شعارات حرب في شوارع المدينة!
- ديمقراطية وتنمية في الشرق الأوسط!
- ماذا يريد -الإخوان المستلمون-؟
- هيمنة بوجوه متعددة، لكن بلا روح
- أزمة أحزاب وإيديولوجيات أم أزمة حضارة؟


المزيد.....




- فرنسا: الجمعية الوطنية تصادق على قانون يمنع التمييز على أساس ...
- مقتل 45 شخصا على الأقل في سقوط حافلة من على جسر في جنوب إفري ...
- جنرال أمريكي يوضح سبب عدم تزويد إسرائيل بكل الأسلحة التي طلب ...
- شاهد: إفطار مجاني للصائمين في طهران خلال شهر رمضان
- لافروف عن سيناريو -بوليتيكو- لعزل روسيا.. -ليحلموا.. ليس في ...
- روسيا تصنع غواصات نووية من جيل جديد
- الدفاع الأمريكية تكشف عن محادثات أولية بشأن تمويل -قوة لحفظ ...
- الجزائر تعلن إجلاء 45 طفلا فلسطينيا و6 جزائريين جرحى عبر مطا ...
- لافروف: الغرب يحاول إقناعنا بعدم ضلوع أوكرانيا في هجوم -كروك ...
- Vivo تكشف عن أحد أفضل الهواتف القابلة للطي (فيديو)


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - السيف والندى: تأملات سياسية