أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامى-الفصل السابع عشر















المزيد.....


الشبيط...الشوك الدامى-الفصل السابع عشر


أنور مكسيموس

الحوار المتمدن-العدد: 4564 - 2014 / 9 / 4 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


الفصل السابع عشر

اشتد قلق السيدة فريدة جدا, بعد ما عرفته من أم نحمده و أيضا بعد هذا الحلم المخيف والقذر فى نفس الوقت. وكان كل همها هو أن تنقل كل شئ لعبد الرحمن بك دون ابطاء. فهو صاحب سلطة وصولجان فى كل البلدة, ويعرف ما هو التصرف الصحيح, لو استمع لها بهدوءه المعتاد.
لم تشأ أن تطلب بلال عن طريق أحد الخدم, وانما طلبت من أم نحمده أن يأتى اليها, بعد أن يقوم بتوصيل البك الى المكتب. حتى تعطى أم نحمده الفرصه, كى تعلم بلال بما عرفته السيدة فريدة.
وقد حضر كما طلبت, وجلس على الباب, فدعته للدخول, وجلس فى احدى الزوايا يحتضن عصاه الخيزران, وهو مطأطئ برأسه نحو الأرض حتى تكاد تلامسها.
نظرت اليه فترة من الوقت ليست بقصيرة, تستجمع نفسها من أين تبدأ!.
- بلال!...ما قصة هذا الولد؟!...أكيد أم نحمده أخبرتك بما أعرف وقد فصلت فى حديثها معى...لكن!...أريد معرفة المزيد...بالتأكيد هناك أشياء لم تعرفها أم نحمده...أريدك أن تخبرنى بها...أريد عبد الرحمن بك يعرف كل شئ, وأنت أكثر العارفين بمن هو عبد الرحمن بك...
- نعم ياسيدتى!...بطلبك هذا قد أزلت من على صدرى حجرا ثقيلا....ثقيلا جدا, وهو ما يؤرقنى منذ فترة طويلة!...
- لماذا لم تنبه عبد الرحمن بك أول ما عرفت ولو بالتلميحات؟...منذ متى وانت تعرف حقيقة هذا الولد؟...
- منذ أن حضرت زهية, جارة سيدة أم هذا الولد...
- ألم تعرف شئ قبل ذلك؟. ألم تشك فى أحد منهم؟...ألا تعرفون طباع بعضكم البعض؟...ألا تعرفون خسة وانحطاط بعضا من أبناء بلدتكم, لن أقول كلهم, كيف تردون الجميل؟!...
- لقد خدعت يا هانم!...
- كيف وأنت منهم؟!...
- لقد تعلمت من هذا الموضوع درسا لن أنساه....أنه كلما دنت المخلوقات من الأرض, تصبح اكثر مكرا وخبثا, وشراسة...تصبح قادرة على خداع من هو أعلى قامة منها. عندما نكون فى وضع أفضل من الآخرين نظن أنفسنا محصنين ضد من هم أقل منا, بل نحن القادرون على اكرامهم أو محاسبتهم ...لا نظن أحدا قادر على أذيتنا!...أو الكذب علينا أو خداعنا!...هؤلاء يسكنون أفقر أحياء البلدة, أما أنا أسكن فى مكان أفضل منهم قليلا, ولهذا لا أعرفهم جيدا!...
- صمتت برهة تفكر ثم سألته: وأنت أيضا خدعتنا؟!...كنت تعرف كل شئ, لكنك احتفظت بكل ما تعرف لنفسك....تأتى وتذهب دون أن يبدو عليك أى شئ مريب...ألم تخدعنا؟!...
- لا ياسيدتى...والله أعلم...أنا لم استطع النوم منذ أن عرفت بهذا الموضوع....كل يوم وكل ليلة أفكر كيف يتم حل هذه المشكلة دون أن يمس ذلك الهانم الصغيرة أو سيادتك, او سيدى وتاج رأسى وولى نعمتى عبد الرحمن بك....كلكم أصحاب فضل على وعلى بيتى... ولا يمكن أن أخون المكان, الذى يفيض خيرا علينا جميعا!...
- لكنك خنت هذا البيت وهذا المكان, ألا تعلم أنك قد تخسر كل شئ فى غمضة عين...
هنا بدأ يتوسل ويترجى أن تعطيه الفرصة كى يجد حلا بعيدا عن البك الممفتش وبيته, ويعدها أنه سوف يجد حلا, بالرغم من علاقة همام بالمطاريد.
قالت له السيدة فريدة: فكر وآتينى بحل!...ولا تخشى شيئا. البك يستطيع الأمر بجمع كل مطاريد الجبل دفعة واحدة.
كانت السيدة فريدة قد وضعت نصب عينيها ما أوصت به زوجة بلال, بأن تترك الموضوع لبلال لمعرفته بطبائع أهل تلك البلدة ليحل تلك المشكلة....لكنها!... فى ذات الوقت كانت قد اتصلت بأخيها شكرى وكيل النيابة فى القاهرة كى يحضر لانها تريده فى أمر هام.
لقد اقلقته كثيرا وحاول أن يعرف منها أى شئ, لكنها اردفت أنها تتوق له كثير, وتريد أن تأخذ رأيه فى أمر هام, ولولا أن عبد الرحمن بك يحتاجها فى ذلك الوقت وبشدة, لذهبت هى اليه.
كانت تفكر أيضا أن بلال لم يعرف بما بما فعله الصبى وجرأته على ابنتها. وقد حدث ما حدث ولا تستطيع أن تمحوه, حتى لو تم طرده هو وأبيه.
فقد علمت ان تلك الشيطانة أمه قد بدأت بنشر شائعات حب الفتاه وتعلقها بولدها, وسوف تستمر أكثر فأكثر. لكن!...الشئ الذى لم تعرفه فريدة هانم, أن هؤلاء القوم كسروا حاجز الرهبة, والخوف, والحذر, ولم تلاحظ تلك النظرات الوقحة والجريئة عليها وعلى ابنتها...حتى نظراتهم الساخرة والمستهزأة لعبد الرحمن بك!...
كان بلال أيضا, فى غم وهم شديد وسرح هو الآخر فى أموره, وذلك عندما صمتت السيدة فريد وسرحت فى أمور شتى.
كان يفكر فى مصيبته مع حجاج, والمطاريد وعبد الرحمن بك, واستمراره فى عمله, وكلما وصل لحل رفضه, لعواقبه الخطرة أو المهينة!...
أيقظته السيدة فريدة من شروده, عندما أمرته بلهجة حازمة: اذهب الآن الى البك, ولا تخبره بشئ, سوف أخبره أنا, وسوف أقول له أننى من أمرت بذلك.
رفع يديه و هو ممسك بعصاه عدة مرات تحية للسيدة فريدة وهو يدعو لها حتى غاب عن عينيها.
عادت مرة أخرى للشرود, فيما حدث وكيف ستنقل ذلك لعبد الرحمن بك.
أمالت رأسها من التعب والتفكير, لتغفو قليلا. لترى ابنتها وقد أمسكت هى بيدها بقوة, وهى فى خوف شديد أن تترك يدها, واذا بها لا تجد ابنتها, ولا تعرف كيف ومتى أفلتت من يدها...كانت تجرى فى كل مكان, خشية أن تبتعد ابنتها عنها...لكن!...دون جدوى. ظلت تصرخ وهى تنادى عليها لكن دون جدوى. وفجأة استيقظت وهى تصرخ وتبكى...
مسحت دموعها, وعجبت لهذا الحلم!: هل يمكن أن تضيع منها ابنتها؟!...هل يمكن أن يحدث هذا بطريقة ما, وسهمت وهى تتذكر أحلامها, ورفعت وجهها الى أعلى تخاطب ربها وترجوه أن يحفظ لها ابنتها.
وفجأة فكرت أن ترسل سوسن مع خالها الى القاهرة, عندما يأتى, حتى ينتهى حل هذا المشكل العضال.
نعم نعم سوف أدعها تذهب مع خالها, فهذا أفضل, ولو اننى سوف اشتاق لها كثير....لا يهم, فهذا أفضل...سلامتها أهم من كل شئ.
أحست براحة شديدة لهذه الفكرة. سوف تنسى سوسن كل شئ مع بنات خالها, وهم أقران فى السن. سوف تمرح معهم, وان أدى الأمر سوف تنقلها للقاهرة فى مدارس بنات خالها. وسوف يتبقى لها الحل الأكيد الذى سوف تتفرغ له, وهو هذا الولد الذى تجرأ على ابنتها؟!....
ابتسمت عندما هل عليها عبد الرحمن بك, وقد تعجب لهذا التغيير المفاجئ الذى طرأ عليها. كانت منذ قليل, متوعكة وعابسة ومفتورة الهمة والقوة...
على أى حال سره ذلك أيما سرور, وسعد أن روحها وصحتها قد عادت اليها.
- قال عبد الرحمن بك: لقد ردت لى روحى عندما رأيتك تتعافين, لقد قلقت عليك كثيرا, حتى أننى أنهيت عملى سريعا, كى آتى وأطمئن عليك...
- دعت له بطول العمر والصحة والبقاء وقالت له: سوف يأتى شكرى هنا بعد غد...
- رد سريعا: شكرى!...أخوك...الآن فهمت سر فرحك ومرحك...سوف تسعد سوسن به كثيرأ!...
- أجابت: نعم... فهى تحب خالها كثيرأ...وسوف أتركها تذهب معه الى القاهرة, لتمرح مع بنات خالها.
- قال لها مترددا: ولو أننى أحب أن أراها كل يوم لكن!...ما دامت هذه رغبتك ورغبتها فلا مانع...لكن من الذى سوف يأتى بها, قبل بدأ الدراسة؟.
- لا تهتم بذلك فقد أذهب أنا عدة أيام وأعود بها. لا تشغل بالك بهذا الأمر!...
- على أى حال, موسم جنى القصب, ومصنع السكر سوف يأخذ من وقتى الكثير...
قام عبد الرحمن بك ليستريح قليلا, وقامت فريدة هانم معه, وأغلقت الباب, بطريقة ملفته للنظر لكنه لم يعلق.
- قالت له وهى تضحك: أتى عريس لسوسن؟...كان لضحكتها المفتعلة أثره المهدئ فى تهدأة دهشة واستغراب عبد الرحمن بك.
- شئ غريب أنك تقولين هذا, وكأنه شئ يفرح, هل تذكرين سن ابنتك؟!...
- هنا الشئ الغريب!...هل تعلم من يريد الزواج بها؟!...
لم يجبها فى انتظار ما سوف يسفر عنه هذا الحديث الغريب, ولم يطل انتظاره عندما أكملت: حجاج!؟...
- سألها مستفسرا عن هذا الاسم الغريب عليه فى مجتمعهم: حجاج؟!...حجاج من؟!...
- قالت وهى تضحك وتتعجب: ابن الكلاف الذى يعمل عامل نظافة للزرائب؟!...هل رأيت؟!...
اتسعت حدقتا عينا عبد الرحمن بك, واعتدل فى جلسته, وكأنه يستمع الى هذيان؟!...
- ماذا؟!...من؟!...ماذا تقولين؟!...هل تهذين يافريدة؟!...
- صدقنى أنا لا أهذى!...هذه هى الحقيقة؟...
- وضعت يدها على فمه, عندما رأت أنه يريد أحد الخدم, وهى ترجوه وتقول له: الخدم لا يعلمون شئ حتى الآن....
- كيف عرفت؟...هل تجرأ أحدهم وأتى هنا وفاتحك فى موضوع كهذا؟!....
- ليس هكذا!...
- هل تخمنين؟...هل رأيت أو سمعت أو نقل أحدهم اليك هذا الهذيان؟!...
- ليس هكذا!...
هنا بدأ يستشيط غضبا, لهذه المراوغة, لكنه بجهد حاول أن يضبط ثورته, حتى يصل الى نهاية ما تريد قوله. وهى فى ذات الوقت ترجوه, فى خوف شديد, أن يصل الى الخدم شئ من ذلك.
- قال لها: تكلمى يا فريدة أرجوك...هذا الموضوع ليس بهذه الخفة أو دعابة...أنت لا تعرفين هؤلاء القوم ان تجرأوا, وكسروا حاجز الخوف والرهبة!....
- أنا أعلم أنك تستطيع أن تفعل أى شئ تريد فعله, ولا يستطيع أحد, أى كان هذا, أن يتجرأ أو يكسر حاجز الخوف...حتى وأن فعل فأنت تقدر أن تعيد الفئران الى جحورها....
لكن!...لنترك الأمور لأهل بلدتهم, فهم أدرى بهم, وبكيفية التعامل معهم...وعندما يكسرهم من هو أقل منك بكثير, سوف يعلمون أكثر من ذى قبل من هو عبد الرحمن بك...
كان ينظر اليها وهى تتحدث ويحاول ربط المواضيع, ببعضها, ولكنه حتى هذه اللحظة يوجد شئ لم تبح به, فتركها تتحدث وهو يتابعها...
لم تقل شيئا محددا حتى الآن, وتريد حل المشكلة عن طريق واحد من جهتهم...فما الذى حدث تحديدا؟!...ثم زيارة أخيها المفاجأة, وطلبها سفر سوسن معه....هى حتى الآن لم تفصح عما فى داخلها خوفا منه...
بدأ يتدرج معها شيئا فشيئا حتى يزيل عنها القلق والخوف وسألها:
- ما الذى تخفينه يا فريدة؟!...ان لم تقولى لى ما حدث, فقد يذهب تفكيرى الى ما هو أبعد...
- فطنت الى فحوى حديثه, فأسرعت للنفى, وبشدة وهى تؤكد له, أن سوسن لا تفارقها لحظة, الا عند ذهابها للنوم....
بدأ يهدأ قليلا وقال: حسنا!... ما هى المشكلة بالضبط؟....
عادت لتتدرج معه فى الحديث مرة أخرى, وسألته:
- هل تذكر ذلك الرجل العجوز, الذى يأتى الى ناحية الفيلا, وهو يقول مواويل وحكايات؟.
- نعم أذكره, ماذا عنه؟!...تتحدثين كثيرا دون أن أستطيع الوصول الى شئ محدد.
- هذا الرجل أرسلته أم هذا الولد, ظننا منها أنها بهذه المواويل والحكايات, توجه نظر سوسن أو تميل فكرها, شئ من هذا القبيل....لا سوسن ولا نحن نفهم شيئا مما يقول...وهى الآن تشيع فى البلدة أن سوسن تحبه وتتعلق به....
- ما هذا الهذيان وهذه التخاريف, التى تصدعين بها رأسى؟!...هل يصل تفكير وطموح هؤلاء الى هذا الحد!...أنا أعلم أنهم قد يسرقون, ويتفننون فى ذلك...يروغون من الأعمال المكلفين بها...يفعلون أشياء مثل هذه, ولكننى أستطيع اكتشافها ومعالجتها...لكن أن يصل طموحهم وتخطيطهم الى هذا الحد, فهذا غير معقول؟!...
- وأكثر من هذا الحد, لاننا نراهم وهم يعملون وينفذون ما نطلبه منهم, ولكننا لا نرى ما بداخل رؤوسهم, وخيالاتهم المريضة....
- على أى حال سوف أتأكد من هذا الكلب الذى معى....
- من؟...بلال؟...لقد أمرته ألا يحدثك فى شئ, حتى أخبرك بنفسى!...أم نحمده نقلت لبلال كل ما عرفت عن هذه الشيطانة, وكانت كثيرا تطلب منى طرد هذا الولد وأبيه, ولكننى لم أهتم...ظننتها غيرة أو شئ من هذا القبيل...وقد تطاول هذا الولد عليها ذات مرة, حكيت لك عن ذلك من قبل, لكننى لم أنتبه!...
- قلت لى منذ لحظات أن أهل بلدتهم أدرى بطبائعهم...من هو الذى ترشحينه لحل هذه المشكلة؟!...
- أجابته بلا تردد: بلال...فهو خادمك المطيع...وزوجته, صدقنى مخلصة وأمينة وتخاف على أبنتنا أكثر من بناتها...
- هز رأسه وأردف: ثم بعد؟!...هل يعرف شيئا عن هذا الموضوع؟
- أخبرتك للتو, بأن أم نحمده نقلت له كل ما تعرفه, عن هذه المرأة.
- نعم نعم قلت لى ذلك...لكننى حتى الآن الموضوع بسيط ويمكن معالجته...يمكن فصل الاثنين من العمل, وحتى ارسالهم الى السجن, لو أدى الأمر لذلك...لكن هناك شئ أو أشياء لم تخبرينى بها, هذا يقينى...
انتظرت السيدة فريدة قليلا تفكر, وعبد الرحمن بك يتابعها, حتى رأت ان الوضع غير مخوف كثيرا للمخاطرة وابلاغه بما حدث بالضبط.
فتحت فمها وبدأت بتأنى تحكى ما حدث, وهى تطالع تعبيرات وجهه الغاضبة, وثورة على وشك أن تفصح عن نفسها فى فمه وعينيه. لكنه كبح جماح غضبه, حتى لا يحملها فوق طاقتها, وتظن أنها الملومة, وانها قد قصرت فى رعاية ومتابعة أبنتها...لكنه أكد عليها وهو يعيد السؤال: قبل سوسن؟!...قبلها؟!...وماذا فعلت؟!...
- ذعرت وارتجفت ولم تدرى ماذا تفعل!...لولا أننى ناديت عليها عدة مرات...فأتت الى مسرعة, فى حالة سيئة للغاية, حتى انها لم تفطن للرائحة الكريهه التى انتقلت اليها من هذا القذر, لجلوسه الى جوارها...
- هل جلست هى الى جواره أم تجرأ هو للجلوس الى جوارها؟!...
- لا أدرى وليس هذا هو المهم....لقد استغرقت وقتا طويلا حتى الفجر لاهدئ خوفها وذعرها من المفاجأة...
- لهذا كنت متوعكة ومريضة, وغير قادرة...
- نعم ولا زلت, لكننى هدأت قليلا, بعد ما كلمت شكرى أخى, والآن أنا مطمئنة لاننى أستطعت أن أنقل لك ما حدث, وأحمد الله أنك تمالكت أعصابك...
- اتركينى الآن...أريد أن أكون بمفردى....اتركينى!....
.....................
خلا عبد الرحن بك الى نفسه, فى تفكير عميق, والغضب والتجهم الشديد لا يخفيان على أحد, لو رآه. وبدأ يسترجع بعض الأحداث والمشاهد. عمال الفيلا يضحكون عليه ويستغفلونه والكل يعرف, الا هو وأهل بيته...
عازف الربابة, الذى أشفق عليه ومنحه نقودا لم يكن يحلم بها....بلال كان يعرف لماذا يأتى هذا العجوز, ومن يدفعه للحضور الى هذا المكان, الذى لم يجرؤ أحد من قبل, أن يأتى اليه ويزعجه...عمال الفيلا وهم ينظرون اليه بعد أن يعبر ويتغامزون ويضحكون...كان يظن أنهم فيما بينهم يضحكون فلماذا لا يتركهم فى بهجة فيما بين بعضهم البعض...الآن يعرف!...
قرر عبد الرحمن بك الصمت المطلق, حتى يرى ماذا يفعل, وبشدته المعهوده عنه, وحزمه وعزمه على انجاز ما ينوى انجازه...
نادى على احدى الخادمات, فحضرت وسألها: هل حضر بلال؟.
- أجابت الخادمه: انه لم يغادر ياسيدى.
كانت السيدة فريدة قد استدعت بلال اليها وأفهمته, أنها أبلغت عبد الرحمن بك, وأنه سوف يسأله, وعليه أن يجيبه بأمانة عن كل ما يعرف وألا يخبئ عنه أى شئ...فهو فى أشد حالات الغضب والثورة.
وبينما هو فى غضبه الشديد ومحاولة التركيز فيما يجب عليه عمله, لاستعادة هيبته, اذا بصوت عازف الربابة يبدو له من بعيد. لم تكن هذه الآشياء تسترعى انتباهه من قبل الا عندما تصل لحد الضوضاء, لكنه سمعه هذه المرة قبل أى أحد فى الفيلا.
قام ونادى على الخادمة فحضرت للحظتها وقال لها: آتينى ببلال!...
حضر بلال مسرعا وطأطئ برأسه نحو الأرض دون أن يفتح فمه.
بادره عبد الرحمن بك آمرا: أريد هذا الرجل ولا تدعه يرحل!.
- أمرك يا سيدى البك. كان من المعتاد أن يقول له ياسعادة البك, لكنه فى هذه المرة, أراد أن يؤكد تبعيته ورضاه التام عن هذه التبعية...
- أردف عبد الرحمن بك قائلا: لا تأخذ معك أحد من الخدم!.
- حاضر ياسيدى البك.
أنطلق فى سرعة, وهو يقول ويكرر, لكل من يسمعه من الخدم, لا أحد يأتى ورائى!...
نزل عبد الرحمن بك, وخرج من الفيلا, ورأى بلال وهو يمسك عازف الربابة, وهو يهدئ من روع الصبى خلفه. ظن الرجل أنه شئ عادى وربما أعطاه بضعة قروش كمثل سابق.
عندما وصل ووقف أمام عبد الرحمن بك, وهو يدعى العجز والعته, ويستطلع ما يمكن أن يسفر عنه هذا اللقاء, وبينما هو فى حاله من التمثيل ونظره الى الأرض, اذا بعبد الرحمن بك يهوى عليه بصفعة بيده الثقيلة جدا, غطت كل وجهه وأذنه, وهو يقول: عجوز وكلب ولئيم...فى لمح البصر كان الصبى قد أطلق ساقيه للريح, حتى اذا ابتعد بما يكفى, وقف مشدوها فى خوف ورعب, ينتظر جده أن يلحق به.
سقط الرجل على الأرض, لكنه قاوم وهو يقوم ليجرى فيقع مرة تلو الأخرى. أراد بلال اللحاق به, وامساكه والعودة به لعبد الرحمن بك, فنهره ألا يفعل: اتركه!....
كان عبد الرحمن بك يعلم أن هذا الرجل حتى لو كان شابا, لن ينجو.
قال لبلال فى لهجة حاده آمرة: اذهب وأحضر الركوبة وانتظرنى!....
....................
ظل الرجل يجرى ويقع, يستند تارة على يده وتارة أخرى على الربابة فى يده الأخرى. حتى لحق بالصبى, فتحامل عليه, وعندما أحس ببعد المسافة بينه وبين الفيلا, بدأ يسير ببطئ, وخطواته تثقل رويدا رويدا, حتى اذا ما وصلوا الى العشة التى فى أطراف البلدة, كان جسده قد ثقل جدا, حتى انه سقط من يد الصبى الى الأرض.
لم يكن بالعشة أى شئ, سوى حصيرة متهالكة, وبعض الأقمشة القديمة, التى يلبسونها حينا ويضعونها على الحصيرة عند النوم.
طلب العجوز من الصبى أن يسقيه, فملأ "كوز" من صفيح السلمون القديم, وأعطاه ليشرب, فأمسكه بيد مرتعشة, وروى ظمأه, وسكت قليلا.
أحس بثقل وصداع شديدين فى رأسه, وبدأت الرؤية تختلط عليه, ولم يعد يسمع الا بجهد جهيد. أحس بدنو أجله لا محاله. لم يفكر فى شئ آخر سوى الصبى وما سيواجهه. كان ينوى الاستقرار فى بلدة أخرى لا يعرفه فيها أحد. فكان يوفر بعض النقود, ليشترى منزلا, ويزوج الصبى بفتاه تخدمه هو وحفيده.
أشار الى الصبى بيد مرتعشة, أن يرفع الحصيرة ويحفر ويخرج زلعة صغيرة ليس لها من وصف "زلعة" سوى الجزئ الأسفل المتبقى منها.
أخرج الولد الزلعة ووضعها أمام جده, فأمره بأن يحضر حزام من القماش المتين العريض كان قد صنعه بيده, فأتاه بالحزام....
أمره أن يخرج ما "بالزلعة" من نقود, فأخرجها الصبى, وكانت عبارة عن بعض الجنيهات الورقية, وبعض النقود الفضية من فئات مختلفة.
لقد كان العجوز يجمع ما يجمع من ملاليم واقل من ذلك, ثم يذهب خارج البلدة ليجمعها الى نقود ذات فئة أعلى, ثم يجمعها مرة أخرى, ويبدلها حتى يصل بتجميعها الى أنصاف الجنيهات, والجنيهات الكاملة...
وضع النقود فى الحزام, يساعده فى ذلك حفيده, ثم ساعد الولد على ربط الحزام على وسطه قائلا له بكلمات بطيئة متكسرة: هذه النقود لك...ولا تظهرها أمام أحد...على الاطلاق...وتظاهر بالفقر...والعوز...ولا تجعل أحد...يراها أبدا...وان احتجت نقودا...فعليك الاختباء...فى أى مكان....وأخرج فضية صغيرة...لا تفكها فى المكان الذى أنت موجود فيه....لا تدع أحد يراك....وان ذهبت لتفك فضية...شاور على أحد البيوت كأنك تعمل عند أحد هؤلاء...وقل للبائع: سيدى يطلب...أو ستى تريد...شاور على بيت بعيد جدا...
قل لى الآن ماذا ستفعل: أعاد عليه الصبى ما قال, وهو يعدل عليه, وينبهه مرة تلو المرة يعيد عليه ما قاله له, حتى حفظ الصبى تماما ما أراد جده أن يعلمه...كان يردد: لو أننى أعرف بلحظة كهذه, كنت علمتك الكثير من قبل...
بعد أن نصحه بكل شئ, ونبهه الى كل ما يلزم ودعا له بالحفظ والسلامة, وقد بدأت البرودة تسرى فى جسده قال للولد: الآن...تذهب!...الى محطة القطار...تركب القطار "النازل الى مصر"!...
أى القطار الذاهب الى القاهرة, واوصاه ماذا يعطى محصل القطار أو المفتش, وعندما ينزل يلتصق بأى جامع أو مسجد, أو مزار, وان يبتعد عن الفتيات وكل جنس الحريم جتى يكبر, ويعرف الدنيا وما فيها!...
طلب من الصبى أن يتلو عليه المرة تلو الأخرى ما قاله له حتى ذهابه الى القاهرة, والصبى يعيد دون تردد أو تذمر...
وحانت لحظة الرحيل فطلب منه أن يرتدى, جلبابيه الآخرين, القديمين, فوق الجلباب الذى يرتديه,وفتح ذراعيه له ليضمه اليه عدة مرات, وكان الصبى يرتمى فى حضنه, لعدم قدرة الجد على رفع ذراعيه...
الآن...اذهب!...لتلحق بقطار...الفجر...اذهب!...لأنهم...لو وجدوك هنا قد يقتلوك...اذهب واهرب, وأهرب بعيدا...ته فى "مصر" لن يعرفك أحد...اذهب!...
تردد الصبى عدة مرات, وجده يكرر عليه ما قاله, وهو يرهبه ويخوفه من مصير مجهول, حتى انطلق الصبى, واختفى فى الظلام, آخذا طريقة نحو محطة القطار...
ولم يسمع أحد عنه شيئا بعد ذلك. أين ذهب وكيف اختفى, ظل حديثا لفترة, وانتهى.
أما جده, فبعد أن اطمأن على الصبى, استسلم لضعفه ووهنة, والموت الزاحف نحوه. وما هو الا وقت قليل حتى قضى نحبه.
ولان الآقدار شاءت له, أن يموت مكرما, فقد خرجت حملة فى الصباح الباكر لتمشيط المنطقة, والبحث عن المطاريد, ومعهم الكلاب البوليسية, التى اشتمت رائحة الميت, ودلت قوات البحث عن جثته, فاستدعت النيابة, التى عاينت, وبحثت ولما لم تجد قريب له فى البلدة, أمرت بأحد شيوخ البلدة بأن يصلى عليه ويدفن فى مقابر الصدقة.
كان تقرير النيابة مختصرا, حتى لا تكون قضية تحتاج الى مزيد من البحث والتقصى, وخصوصا أن أحدا من البلدة لم يتقدم ليدلى بأى بيانات عنه, أو عن حفيده الذى اختفى...رجل قارب التسعين من عمره...عابر سبيل...لا يعرفه أحد...وفاة بأزمة قلبية لكبر السن...لا توجد شبهة جنائية فى الحادث...
وفعلا كانت قناعة أهل البلده, بموته لكبر سنه, ولم يكن أحد يعرف سر موته سوى بلال ابو سنه!؟...



#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشبيط...الشوك الدامى - الفصل السادس عشر
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل الخامس عشر
- نظرية جديدة فى نشوء الحضارات وانهيارها- جزء أول
- العرافة وسيناريوهات السياسة الدولية
- جوائز نوبل للسلام
- مصر والأزمة السورية
- أمثلة عن جائزة نوبل تكشف عن وجهها القبيح وانها جائزة مسيسة و ...
- أقليات الشرق الأوسط والتراث الحضارى
- الشعوب تستحق حكامها
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل الرابع عشر
- الجرح والملح
- السياسة العالمية بين العمالة والغباء
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل الثانى عشر
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل الحادي عشر
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل التاسع
- الشبيط...الشوك الدامي- الفصل السابع والثامن.
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل الخامس والسادس
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل الرابع
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل الثالث
- الشبيط...الشوك الدامي-الفصل الثاني


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامى-الفصل السابع عشر