أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - كلّنا عكا














المزيد.....

كلّنا عكا


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 4528 - 2014 / 7 / 30 - 18:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




أفقت في ساعة متأخرة لأجد بقايا صبح خالٍ من الندى والأحلام، لا أثر فيه لعصافير قريبة. في الحقيقة لا أتذكر متى كانت آخر مرّة سمعت فيها دوري يغوي صديقته على شرفة شباكي، ولا متى آنستني سنونوة كالتي كانت تستأمن سقف بيت جدّي وتأخذه مأوى لأحلامها ومستقبل بيضها.

حولي صمت صباح عادي ليوم الأحد. في الجو رطوبة ثقيلة ودرجات حرارة تموزية، فعندنا "في تموز بتغلي الميّه في الكوز". أستقل سيّارتي  قاصدًا عكّا، خائفًا من زحام أسواقها الذي قد يحوّل زيارتها إلى رحلة عذاب وندم.

مع تشغيل المحرك استأنفت فيروز غناءها من شريط الأمس: "يا راعي القصب مبحوح/ جاي عبالي شروقي" أعلنت، وعلى بحّة نايها، بسرعة شهقة، نقلتني إلى مدينة "اليود البحري والبهارات"، إلى عكا، المدينة التي تعيش بين موت وموت، وتصمد لأنها خيمة الفقراء وميناء حب البسطاء. فيروز تعرف أنني ذاهب إلى سوقها، أحسّها تبكي بصمت وبصلاة.

في شبابنا كانت عكا "ألمدينة"، وكنا نطير إليها، قرويّين يمارسون عادات المراهقة الحضارية، السرّية أحيانا والعلنية. على شواطئها تكاثرت أحلامنا وفي مينائها اصطدنا الدهشة ورائحة الحب. طيبة أهلها تنسيك القسوة التي عاشوها وبسماتهم تمحو علامات القمع الذي مارسته عليهم مؤسسات الدولة، التي ما زالت تحاول إجبارهم على الرحيل عنها، لتتحوّل إلى مدينة ناصعة اليهودية والبياض.

نحن نعرف لماذا نحب عكا ومن يحبّها مثلنا، ولكنني.. أفكّر.. هل كانت فيروز ستغني لمجدها، وهو  يسحّ، متثاقلًا، من أسوارها وجدران خاناتها؟ وهل ستسهر عند جذع فنارها ليوشوش لها الموج عن حكايا الملح وبحارة أتوها وتاهوا، وهي ما زالت، على شرفتها، تنتظرهم في فقاقيع الزبد؟. فيروز تبكي ولا تُبكي؛ "نازل من صوبن مرسال" هكذا تمضي  وتخبرني: "ومن عيني نزلوا دموعي". 

أمشي بمحاذاة جامع الجزار ولا يمشي معي  في الشارع أحد. يمسك صاحب دكان "سوفينير" بيده خرقةً، ويقضي وقتًا بتقليب البضاعة وماسحًا عنها الغبار. بجواره يجلس شاب في ثلاثينياته يمدّ رجله اليسرى على طولها ويضع كوع يده اليمنى على حافة الكرسي وعلى كفّه المقبوض للأعلى يريح خدّه. يحدّق بي من تحت نظارته التي وقفت على أرنبته، بعدما ساعدها على الانزلاق خيط من عرق تصبب حتى بدا من بعيد كأنه بقايا بكاء، قميصه مفتوح على تي- شيرت أبيض، في وسطه تبرز بالأحمر شطرة من تركة "المحمود" وهو يعلن: "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا". 

في صحن الجامع شمس والصمت. أمامه تذكّرت ما حكته لنا "سعاد" عن عكا التي كانت تنتفض ضدّ احتلالين: واحد إنجليزي رابض وثان صهيوني زاحف. "كانت جموع العكّاويين تدخل باحة الجزار، تجتمع وتهتف ضد الغاصبين"، هكذا على ما أتذكر، حدثتنا ذات يوم، "كنتُ صغيرةً، يا ولدي، وطلبوا منّي أن ألقي قصيدةَ "المعلم ناصر"، الذي ذاع صيت أشعاره في ذلك الوقت. كتب ابن الرامة هذه القصيدة، عندما هدد الانجليز المعلمين بالفصل من وظائفهم  إذا لم يحلقوا ذقونهم التي أطلقوها احتجاجًا وتضامنًا مع الثوار. وضعوني على طاولة وبحماس ألقيت: "وقفت أمام مرآتي أناجيها/ أأحلق يا مليحة أم أجازفْ؟". ثم رفعتني الجموع على الأكتاف وجابت المظاهرة شوارع عكا القديمة إلى أن انتهت في الميناء"، هكذا روت لنا سعاد عن مدينتها التي كانت.  

من ساحة "اللومان" دخلت إلى السوق وفيه مشيت وحيدًا. بدا أصحاب الدكاكين كالناجين من سفينة غرقت. وجوههم حزينة. من أمام بسطة فواكه مررت كمنبّه أيقظ من كان يبيع النعاس، فصحا صاحبها وصرخ: "المانغا بعشرة، سكّر يا دكتور والله سكّر". كانت المانغا كقمر تموز وأزكى من العسل. بعده سمعت صاحب مسمكة ينادي، بملل، على "سرغوسه" الطازج ولا يكمل نداءه فيسكت.

أكملت سيري، إلى أن سحبني "أبو ألبير" من ذراعي بعذوبة، وأقعدني على كرسي في وجه دكّانه واستقدم، بعفوية آسرة، من جاره العطّار، فنجانين من القهوة الطازجة. عنده سمعت عن أوجاع عكا وعن قصص ضياعها، عن حاله وحال جيرانه من صغار التجار والحرفيين الذين يكدحون من أجل لقمة عيش كريمة ولا يحلمون إلّا بما يتيحه الرمل: سفر على ظهر فرس بيضاء أو انتظار لعرائس البحر.

"سليلة كنعان" كانت في ذلك الصباح مدينة من نسيان وخيبة. لا أسماء لشوارعها التي استوطنها الضنك وصرخ العتب في جنباتها: أين أغنياء العرب؟ أين منهم المستثمرون الغيورون عليها وعلى مصيرها؟ "قاهرة نابليون" ذبحتها الخناجر في مزادات الأقارب المخادعة. وعروس "فينيقيا" أفاقت عارية؛ بلا أشرعة ولا يواطر ولا قبطان.

سرت في اتجاه الميناء وعرّجت على "سعيد". في يوم عادي، كانت تلتقي على موائد حمصه، خلائق، وعلى "حين لقمة "يجتمعون، هناك، عند "حافة الصحن"، لقاءات بالرغم من كونها عرضية، تبقى أحسن من قطيعة وأسلم من العداوة. اليوم، وجدت سعيدًا يعاني كصحبه، ومثلهم يرطن: من هو المستفيد من إعادة الموت إلى عكا؟  

في  الميناء تذكّرت ما روته سعاد على لسان مرآة المعلم التي أجابته حين سألها عن حليقة ذقنه: "... فإنَّ الجبنَ في أهلِ المعارفْ". ولم أتذكّر صدر هذا البيت. 

وصلت الميناء في ساعة الظهيرة. أمامي مركب صيّادين هرم. عليه ثلاثة رجال، واحد منهم يلقي برأسه على ذراعه التي في الهواء. صدورهم مغطاة بآثار شمس. من وسطهم علا صوت صباح فخري وهو يدعو ربّه العالي ويشهده على حاله ويتساءل: "شلون أنام الليل وانت على بالي". فجأةً، رفع أحدهم مسجلًا أثريًا إلى الأعلى وأغمض الثلاثة أعينهم وغابوا.  

وقفت برهةً أمام " كلّنا- عكا"، هكذا كان اسم  المركب. بحارة " كلّنا-عكا" ناموا على فرشة من يود بحري وتوابل، وكانت أيديهم تقشط جلد السماء، أو هكذا شبّه لي.  

كان السوق هادئًا عند عودتي وخاليًا. "أصبر من صيّاد" كتب أحدهم على باب حانوته، وعلى الحيطان لاحظت تعاليم الجوع منثورة حروفها في كل زقاق وزنقة وخلاصتها أكّدت: عندما يُذَلّ قومٌ ويجوع البشر لا تعجبوا، يا عرب، وتتأسوا على تهويد الحجر.



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا بعد غزة ؟
- أضرّ من بلبلة
- خبز وكرامة وقيادة
- إنخطاف يوم مات جورج
- بالحنين وحده لن تستقلَّ فلسطين
- فيليتسيا لانجر أكثر من محامية
- لن يهزم المحتلُّ أسرانا ! ولكن..
- اختلال ! ماذا يعني احتلال؟
- في الرملة سيفرحون بنجاح حمدي
- أهلًا حزيران
- عندما يصبح أولمرت خائنًا
- توفيق زيّاد البعيد القريب
- الشعب لا يريد- دفع الثمن-
- التغيير والاصلاح في المحكمة العليا
- أحبوا بعضكم بعضًا - كانت الوصية -
- محامون تحت نارين
- في القدس، ألهوية الزرقاء إن حكت
- حين نتقاتل على السماء نخسر البلد
- أعدلٌ وناصرة عليا؟
- تاريخ أخرس


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - كلّنا عكا