أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكيم العبادي - مفاهيم ( 26 ) ... كيف نشأ الجدل















المزيد.....


مفاهيم ( 26 ) ... كيف نشأ الجدل


حكيم العبادي

الحوار المتمدن-العدد: 4479 - 2014 / 6 / 11 - 22:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كيف تعذب عاقلا ً ؟؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أجمل وأطرف وأذكى و أكثر وسائل التعذيب إيلاما ً ما قرأته عن ملوك الفرس القدماء ... فقد كانوا يسجنون الفيلسوف الذي يغضبون منه ، ويرغبون بمعاقبته ، مع أحد الحمقى أو الجهال في زنزانة واحدة !!!!!!!!! .
لقد كانوا يُنزلون العقل من فردوسه المقدس الجميل الأعلى ، ليمتهنوه في جحيم الجهل والحمق والإنحطاط !!! .
سرقت أميركا هذا النمط المؤلم من التعذيب من أعدائها الفرس ... وعاقبت أصحاب الوعي في المجتمعات العربية نفس العقوبة حين أدخلت الديمقراطية وجعلت الغلبة لقطعان المتخلفين ، و جعلتهم يفرضون رعاتهم من اللصوص والدجالين وكهنة الطوائف حكاما ً علينا !!!! .

دعونا نتسلى قليلا ...
ــــــــــــــــــــــ
في كتابه المدهش ( ليالي أتيكا ) ، الذي يتحدث في كل شيء ؛ التاريخ ، والفلسفة ، والرياضيات ، والفيزياء ، وعلم الاثار والأدب .. يحكي لنا الكاتب والنحوي اللاتيني اوليوس جيليوس ( aulus gellius ) قصة ً طريفة حصلت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ؛ القرن الذي فاقت فيه علوم اثينا وفلسفتها وفنونها حدود الخيال ... و الكتاب غير مترجم للعربية طبعا ً !!! .
إشتهرت هذه القصة فلسفيا ً ، وقانونيا ً ، وعلميا ً ، وتأريخيا ً ، بإسم : ( معضلة ايثلوس المتعاكسة ) أو ( مفارقة بروتاغوراس ) أو ( مفارقة المحكمة ) ... وهي من أهم دروس الفلسفة والمنطق على مر التأريخ ، ولا زالت تدرس في جميع كليات الفلسفة والقانون المحترمة في العالم ، ولا غرابة في ذلك لأنها القصة التي نشأ منها مفهوم الجدل ... ولا أدري هل هناك من درسها أو فكر بتدريسها في العالم العربي الجميل أم لا !!! .
قرأت هذه القصة أول مرة في كتاب المطالعة للغة الإنجليزية للصف الثالث متوسط ، أو الرابع إعدادي في العراق ، ولم تكن حينها ضمن الدروس المطلوبة للدراسة خلال السنة الدراسية !!! ، لكنني كنت أقرأ جميع المواد ، المطلوبة وغير المطلوبة لغرض الفائدة والمتعة ، وقد بحثت عن مصدرها - بإمكانات ذلك الزمن المتواضعة - دون أن أعثر عليه ، حتى إستطعت بصعوبة بالغة ان أجدها في كتاب أمريكي إسمه ( المحامي ، مختصر لخمسة آلاف سنة من تأريخ المحاماة ) ، وهو كتاب ضخم ورائع بشكل مذهل للكاتب الامريكي أر. بلين أندروس ، ومنه عرفت أن مصدرها هو كتاب ( ليالي أتيكا ) ... ثم بمساعدة العم ( كوكل ) علمت أن الكاتب أوجين نورثروب قد ذكرها أيضاً في كتابه (معضلات في الرياضيات ) .
يعتقد البعض ان السفسطائيين قوم من قليلي الحجة وكثيري اللغو ، أو يفهمون معنى السفسطة هكذا ، والحقيقة ليست كذلك أبدا ً، فالسفسطائيين من كبار الفلاسفة الذين لهم في جميع مناحي العقل والمنطق والعلوم الشيء الكثير ، ولهم آراء جميلة لم يسبقهم إليها أحد ، لكنهم ولسوء حظهم ممن خاصمهم أفلاطون الأقوى في حينه !!! ، ولسبب أخلاقي بحت لا علاقة له بالفكر أبدا ً ، وسنتعرف عليه لاحقا ً .
السوفسطائيون فلاسفة ومعلمون شعبيون ظهروا في القرن الخامس قبل الميلاد ، قبل زمن سقراط ... كانوا يجوبون المدن يعلمون الناس ، ويعطون دروسهم نظير المال للموسرين والنبلاء و حتى لعامة الناس ممن يستطيعون الدفع ... و كان هذا مستهجنا ً في اليونان في تلك الحقبة ، حيث كان التعليم يمارس لدوافع أخلاقيةً نبيلة ، وكان الفلاسفة يتعففون من بيع علومهم نظير المال ، وكانت الدعوات للأخلاق ولسمو الفن والعلوم في أوجها ، مما دفع أفلاطون ( صاحب الجمهورية ) أن يشن عليهم هجومه الأخلاقي العنيف وينتقدهم إنتقادا ً شديدا ً بسبب ذلك .
قصتنا اليوم حصلت مع زعيم السوفسطائيين وأكبر فلاسفتهم ( بروتاغوراس ) والتلميذ الفقير ( ايثلوس ) ... وسأرويها لكم بأسلوبي الذي تتصرف بالقصة والحوار تصرفا ً كبيراً كالعادة :
ايثلوس مخاطبا ً بروتاغوراس ( الجالس أمام تلاميذه في إحدى ساحات أثينا ) - بروتاغوراس ، أيها المعلم العظيم والإغريقي الحر ، جئتك طالبا ً منك أن تعلمني فني الخطابة والقانون لأصبح محاميا ً لامعا ً .
بروتاغوراس – لكنك فقير يا إيثلوس وليس بوسعك ان تدفع ثمن تعليمك .
إيثلوس – قل لي كم يرضيك ثمنا ً لتعليمي يا بروتاغوراس ؟؟؟ .
بروتاغوراس - ليس أقل من 100 قطعة ذهبية ... هل تستطيع دفعها يا ايثلوس ؟؟؟ .
إيثلوس - ولكن هذا كثير يا بروتاغوراس !!! .
بروتاغوراس ( بإمتعاض ليتخلص من إلحاحه ) – ليس أقل من ذلك يا إيثلوس ... أنت تعلم إنني أعلم الملوك والنبلاء والقواد والفلاسفة وعلية القوم !!! ... أنا لا أعلم أمثالك ... إبحث عن غيري .
إيثلوس – حسنا ً سأدفع ... ولكن ليس الآن !!! .
بروتاغوراس ( ضاحكا ً ) – هههههه ... ومتى إذن ؟؟؟؟ .
إيثلوس – حين تكمل تعليمي وأصبح محاميا ً ناجحا ً سأدفع لك ... أعطيك كلمتي يا بروتاغوراس ، و أقسم لك بشرفي كمواطن أثيني شريف بأنني سوف أدفع لك حينها !!! .
بروتاغوراس - إيثلوس ... أيها المتذاكي ... وكيف لنا أن نعرف انك صرت محاميا ً ناجحا ً ؟؟؟ ... أيها الناس إسمعوا ما يقوله هذا الذكي النصاب ؟؟؟؟ .
إيثلوس – حسنا ً يا بروتاغوراس ... صدقني أنا لا أقصد خداعك ... أنت أستاذ الجميع هنا ... ولست غبيا ً لأحاول النيل منك ، أو تحديك ، لكنني أعني ما اقول تماما ً ... لنضع شرطا ً يحفظ لكلٍ منا حقه .
بروتاغوراس - وما هو هذا الشرط ؟؟؟ .
إيثلوس – إذا ربحت قضيتي الاولى - كمحامي - يا بروتاغوراس ، سيعني هذا أنني أصبحت محاميا ً ناجحا ً ، وستستحق حبنها ثمن اتعابك .... أما إذا لم أنجح ، وخسرت القضية الأولى ، فهذا يعني فشلك في تعليمي وسوف لن أعطيك شيئا ً !!! .
بروتاغوراس ( ينظر مليا ً في عيني الشاب ايثلوس ، ثم يبتسم طويلا ً بثقة وغرور ، يخالطهما بعض اللين لمساعدة هذا الشاب الذكي و الفقير والطموح ) – حسنا ً يا إيثلوس سأوافق ... وسنكتب عقدا ً بذلك فيما بعد ... خذ مكانك في حلقة الدرس ، وإجتهد ان تكون كما أريد .
ينضم الشاب الفقير ايثلوس للكثيرين ممن احاطوا ببروتاغوراس على شكل نصف دائرة بعدة صفوف ، ويتابع بروتاغوراس الكبير دروسه .
بعد عدة سنوات يلتقي بروتاغوراس بايثلوس في أحدى أسواق أثينا .
بروتاغوراس – ايثلوس : أيها التلميذ العاق ، لماذا لا تدفع ما عليك من دين ؟؟؟ .
ايثلوس – لكنني لم أربح قضيتي الأولى أيها المعلم ، ولهذا لم يتحقق ما بيننا من شرط .
بروتاغوراس – وكيف تربح قضيتك الأولى وأنت لا تبحث عن زبائن ، ولا تمارس المحاماة ، وتنشغل طيلة الوقت بتعلم الموسيقى ومتابعة دروسها !!! .
ايثلوس – سيدي الجليل : هذا لا يغير شيئا ً من شروط العقد الذي بيننا !!! ... العقد يقول أنني سأدفع لك حين أربح قضيتي الاولى ، وأنا لم اربحها بعد !!! .
بروتاغوراس – أنت تماطل و تتلاعب يا ايثلوس ... قلت لك سابقأ ً أنك نصاب ٌ كبير ولا زلت عند رأيي ، وسارفع عليك قضية في المحكمة للمطالبة بحقي .
ايثلوس – حسنا ً يا بروتاغوراس ، وسأدافع بنفسي عن نفسي أمام القاضي .
بروتاغوراس ( ضاحكا ً بلهجة المنتصر ) – إذن ، سنلتقي في المحكمة يا ايثلوس !!! .
ايثلوس ( ببرود ) – ليكن يا بروتاغوراس .
في المحكمة المزدحمة بمئات من فلاسفة ، وزعماء ، وعلماء ، وفضوليي أثينا :
بروتاغوراس – سيدي القاضي : تعاقدت مع هذا الشاب على أن يدفع لي 100 قطعة ذهبية ثمن تعليمه المحاماة فيما لو ربح قضيته الأولى كمحامي ، وهو هنا للدفاع عن نفسه ، وهذا يعني - قانونا ً - أن هذه القضية ستكون قضيته الأولى !!! ... فإذا حَكمتَ لي فعليه ان يدفع تنفيذا ً لقرار المحكمة ، فهي السلطة الأعلى ... و إذا حَكمتَ له فسيربح قضيته الأولى ، وعليه ان يدفع كما ينص العقد الذي بيننا !!! .
ايثلوس – سيدي القاضي : لا أنكر انها ستكون قضيتي الأولى كمحامي ، ولهذا ؛ فلو جاء الحكم لصالحي فسوف لن ادفع تنفيذا ً لقرار المحكمة ، فهي السلطة الاعلى ... أما إذا كان الحكم لصالحه ، فهذا يعني أنني سأخسر قضيتي الاولى وبهذا سيبطل العقد الذي بيننا !!!!!!! .
يفكر القاضي طويلا ً ... ثم يرفع الجلسة ... وسنعود لاحقا ً للنطق بالحكم .
تبدو هذه القضية للوهلة الأولى وكأنها مفارقة من النوع البسيط ، لكنها في حقيقة الأمر تحمل سيناريو معقدا ً جدا ً لمن يفكر فيها بعمق ويفهم في المنطق والقانون !!! ... فقد دخلت القضية بإحتمالاتها الكثيرة في سلسلة معقدة من التناقضات التي جعلت منها عشرات القضايا في واحدة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
ايثلوس لم يمارس المحاماة ولم يكسب قضيته الأولى فهل يجوز إستدعاءه للمحكمة وهو لم يخل بالشرط عمليا ً ؟؟؟ .
يستطيع ايثلوس وفق قوانين أثينا السائدة في وقته ، وحتى في قوانين الكثير من الدول التي تحترم الإنسان حاليا ً ، أن يقاضي بروتاغوراس ويطالبه بتعويض كونه إنتهك كرامته وحريته و أساء لسمعته بإجباره على حضور المحكمة دون سبب موجب ( قبل الإخلال بالشرط طبعا ً ) .
إدعى بروتاغوراس وجود شرط غير مكتوب وهو أن يمارس ايثلوس المحاماة بعد إنهائه التعليم ... وبهذا فقد دخلت المحكمة في باب الشروط غير المكتوبة ... فإذا أثبت بروتاغوراس الشرط ، سيحق له بمقتضاه ان يشتكي على ايثلوس ... لكن ايثلوس ليس طرفا ً سهلا ً ويستطيع ان يحتج ببطلان الشروط غير المكتوبة !!! .
هل تستطيع المحكمة ان تفرض محاميا ً مستقلا ً للدفاع عن ايثلوس وبهذا ستجعل من القضية أسهل في أحد جوانبها على الأقل ؟؟؟ ... لكنها ستفقد أهميتها بإعتبارها مفارقة من طراز رائع !!! .
هل يسهل حصول هذه المفارقة في محاكم العصر الحديث ؟؟؟ ... أم أنها مجرد قضية تطرح للتسلية وتعليم المنطق ؟؟؟ ... والجواب هو حصولها تماما ً في قضية في ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الامريكية كما سنرى .
من ينظر في القضية بعمق - خصوصا ً أصحاب المنطق المتميز ممن يفهم في الفلسفة - قد يعتقد ان سبب حصول المشكلة هو الإحتكام إلى نوعين من المرجعيات ... قوانين المحكمة من جهة والشرط كإتفاق شخصي من جهة ثانية ... لكن هذا ليس صحيحا ً دائما ً كما سنرى في قضية الدكتور جونز ، والتي سأحكيها لكم :
أتهم الدكتور في . جونز في أواسط القرن الماضي بإجراء ست حالات من الإجهاض غير القانوني لست نساء في ولاية أوهايو الامريكية . إعترفت المريضة جاكلين هاريس بخضوعها لإحدى هذه العمليات ، وكانت هي شاهدة الإثبات الوحيدة في القضية .
تكمن المشكلة في هذه القضية بكون المريضة جاكلين هاريس و بقبولها إجراء هذه العملية التي يجرمها القانون ، تعتبر متواطئة في الجريمة قانونا ً ... و حسب قوانين ولاية أوهايو لا يجوز قبول شهادة المتواطيء في عمل إجرامي ، حين تكون هذه الشهادة ضد المتهم الرئيسي في القضية ، دون تثبت .
هنا بدأت المفارقة ... فإذا قبلت الشهادة ، وأعتبر الطبيب مذنبا ً ، ستصبح الشاهدة متواطئة ، وحينها ستسقط شهادتها ضد المتهم ، ويسقط بالتالي قرار إعتباره مذنبا ً !!! .
أي أن قرار تجريم الطبيب يحمل في تفاصيله قرار براءته !!! .
إن سبب حصول المفارقة ؛ كما بينا في مقال سابق ، هو وجود خلل خفي في الفرضية الأصلية ينبغي تعديله ، أو غموض يكتنف تفسيرها ينبغي توضيحه ... وبدون هذا لا يمكن حل المفارقة أبدا ً ... وتتحول إلى نوع من الجدل العقيم الذي يضيع الوقت ويسبب الفرقة لا غير .
سنتعرف لاحقا ً على الطريقة التي تم حل كلا القضيتين بها .

كيفما تكونون يولى عليكم ... أم كيفما يولى عليكم تكونون ؟؟؟ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا السؤال ، والجدل الذي يدور حوله ، هو الذي جعلنا نبدأ بقصة بروتاغوراس ومفارقته .
تُرى ؛ هل صحيح أن ( الناس على أديان ملوكهم ) كما يقال ؟؟؟... وهل تَصلـُح الأمم بصلاح حكامها ؟؟؟ ... أم أن أخلاق الناس هي ما يفرض نوع الحاكم ، والحاكم إنما يحكم بعرف المجتمع وبأخلاق الناس الذين نشأ فيهم ، ولا يمكن لحاكم صالح أن ينجح في حكم أمة ٍ من الفاسدين ؟؟؟ .
لقد إختلف الناس منذ تشكلت المجتمعات في هذه المفارقة ، وكثر الجدال فيها ... وسبب حصول هذه المفارقة إنما يكمن في وجود سر صغير يؤدي إلى خلل كبير في الفرضية ... فهذا السؤال ، ورغم انه يبدو للبسطاء من الناس وكأنه يتحدث عن موضوع واحد ، لكنه يتحدث في الحقيقة عن مفهومين مختلفين لا واحدا ً ، حتى وإن كان ظاهر الفكرة واحداً !!! .
ومن دون الإنتباه لهذا السر ، وإزالة الخلل في الفرضية ، سيستمر الجدال طويلا ً دون نتيجة ، شأنه شأن جميع القضايا التي يتجادل فيها العرب !!! .
دعونا نتقرب للسؤال بسؤال ٍ آخر :
هل نجح حاكمٌ واحدٌ في التاريخ بأن يحول بالأخلاق وحدها ، أو بالعدل وحده ، أو بالله وحده ، أمة ً متخلفةً لأمةٍ واعية محترمة مستقيمة ؟؟؟ .
سيقول قائلكم لا بد لله من جنة ونار!!! ، ولا بد له من قطع الأيادي وجلد الظهور ، ولا بد من السوط مع العدل ، فالعدل بلا سوط سيكون سيفا ً من خشب !!! .
وأعود فأسأل هل يجوز أن يحمل الحاكم سوطا ً لتأديب رعيته ؟؟؟ ... وهل تليق السياط بظهور بني الإنسان ؟؟؟ .
مرة أخرى قد نختلف في هذا فيقول قائل ٌ : نعم يجوز ، وقد يستشهد لك هذا الشخص بنماذج كثيرة من التأريخ قيل أنها صنعت مجتمعا ً آمنا ً بسياطها !!! ... وقد يعارض آخر بقوة ، ويقول لك : هذا غير جائز أبدا ً !!! .
والحقيقة أن السر في هذه المفارقة هو أن السوط لا يستخدم في حكم بني آدم أبداً ... فحيثما توفر العقل ، على السوط أن يتنحى ... وأيما حاكم إستطاع أن يصلح أمة بالسوط فهو في واقع الأمر قد أخضعها وأخافها ولم يصلحها !!! ... وأمة كهذه هي أقرب للبهائم منها للبشر !!! ... فالفضائل لا يمكن فرضها بالوعيد ، وقطع الايادي ، والسجون ، والجلد ، وقطع الرقاب ، والتخويف بالجحيم !!! .
الفضائل تتحقق حين تنجح بإقامة مجتمع متوازن ، مكتف ٍ ، واع ٍ ، حر ، ومتساو .
وهكذا نرى أن الإخضاع يختلف عن الحكم ... وأصل الجدل في هذه المفارقة هو بين هذين المفهومين ، لا بين من يؤثر في من ، الحاكم أو المحكوم !!! .
وما يؤلمني ان أكثر نقاشات الناس وإختلافاتهم وجدلهم هو من هذا النوع !!!!!!!!!!!!!! .
هذه المفارقة تتحدث في حقيقة الأمر عن نوعين من البشر لا عن نوعٍ واحد ... نوع من البهائم الذي لا بد من السوط لإخضاعه ... و نوع من أصحاب الوعي ، والتمييز ، والإدراك ، والعقول ممن لا غنى لهم عن حاكم واع ٍ ، مدركٍ ، إنسان ، يشبههم ليستطيع سياستهم ... أو هي على الأقل تتحدث عن نوعين من الازمنة إذا تحدثنا عن نفس الامة !!! .. أو ربما نوعين من العلاقات !!! ... لكنها أبدا ً لاتتحدث عن نفس المفهوم .
فالحاكم المستبد والظالم والقوي ربما يستطيع ترويض شعبه بالنار والحديد ، لكنه لا يخلق نمطا ًصحيحا ً من أنماط الحكم ، ولا يصنع مجتمعا ً إنسانيا ً .

قطط الصحراء وفشل المدينة في تغيير طباعها :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد أحد الملوك أن يبتكر طريقة ً يبهر بها ضيوفه ، فأمر بتدريب ستة ً من القطط لتحمل بأيديها شموعا ً وتحف بالضيف الداخل للبلاط ثلاثة ً من كل جهة !!! .
نجحت فكرة الملك الطريفة ، وإنبهر بها الضيوف وإستحسنوها ، وهلل الجميع لذكاء الملك ولروحه المرحة ، وجرت عنها أحاديث كثيرة في سهرات القوم ، وقد بلغ من إنبهار الملك فيها أنه رآها ملائمة ً لإصلاح الناس وتعليمهم مفاهيما ً جديدة مهما كانت المفاهيم التي نشأوا عليها ، ومهما كانت البيئة التي يعيشون فيها !!! .
إعترض مستشار الملك الحكيم على هذا الرأي ، وقال إن الطباع تغلب التطبع ، وعلى الذين يرغبون بتغييرها أن يبدأوا بتغيير دوافعها وأسبابها !!! ... فلم يوافقه الملك .
شعر الحكيم أن مليكه غير راض ٍ عن رأيه فإستأذن قائلا ً : سأثبت غدا ً لسيدي المبجل زيف ما يراه ، فهلا أذن لي بالذهاب والحضور غدا ً ؟؟؟ .
أذعن الملك لما يريده العجوز الحكيم وأذن له بالذهاب .
في اليوم التالي جاء الحكيم للبلاط كعادته وهو يحمل كيسا ً صغيرا ً في يده ، فإستقبلته القطط وسارت تحمل شموعها بين يديه ... حتى إذا توسط قاعة العرش وهو في طريقه نحو الملك ، توقف و فتح كيسه الصغير ، فخرجت منه فأرة صغيرة أخذت تجري في رحاب القاعة الفسيحة ... حينها ألقت القطط شموعها بسرعة وركضت خلف الفأرة لتصطادها !!! .
تبسم الملك وأدرك ما يريد أن يقوله حكيمه الذكي .
أقول لأصحاب فكرة : ( كيفما يولى عليكم تكونون ) : لقد شاهدنا منذ ستينات القرن الماضي في العراق كيف كانت غالبية القطط تردد النشيد الأممي ، ثم رأيناها بين ليلة ً وضحاها ترتدي بدلات الحرس القومي ، ثم تغيرت بعد 9 شهور لتصبح أعضاءا ً في الإتحاد الإشتراكي العربي ولتطارد جرذانا ً كانت قططا ً قبل أيام ، وهي نفسها القطط التي صفقت لصدام في السبعينات ...أما الآن فقد تنافست لا في حمل الشموع ، وإنما في لف العمائم وإطلاق اللحى و تفخيخ السيارات و تصدير فتاوى الموت !!! .
هو المجتمع الواعي أولا وأخيرا أيها السادة من يصنع الحاكم الصالح ... ومن يختاره من بين ظهرانيه ليسهر في رعايته ... ومن الضروري ان يكون هذا الوعي الجمعي مراقبا ً و محاسبا ً صارما ً لسلطة الحاكم ( بعد إختياره حاكما ً ) ، وقراراته وسياساته وحتى سلوكه العام ( لا الخاص ) .

جلادٌ أم ضحية ؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لهذه المفارقة صورة ٌ أخرى : هل الشعب العربي ضحية حكامه ، أم ان الحكام العرب هم ضحية هذه الشعوب ؟؟؟ .
هل الشعب العربي الطيب ، المؤمن ، المخلص ، المطيع ، المسالم ، الواعي ، النزيه ، الجميل ، ضحية ً لحكامه المفسدين القساة ؟؟؟ ... أم ان الشعب هو سبب الخراب ، خصوصا ً بعد أن أصبح ينتخب حكامه بنفسه ، لكنه ، بمحض إرادته لا ينتخب منهم إلا المفسدون ؟؟؟ .
ولحل هذه المفارقة علينا إزالة غموضها أولا ً كالعادة !!! ... إذ لا يمكن حلها أبدا ً بشكلها هذا !!! .
نحن هنا في حالة ثالثة لم يتضمنها السؤال ...الحالة التي يكون فيها الجلاد هو الضحية !!! ... هكذا وببساطة !!! .
قد يتسائل البعض كيف يمكن أن يحصل ذلك ؟؟؟ ... وهل يمكن للجلاد أن يكون ضحية ً لنفسه ؟؟؟ .
والجواب نعم !!! ... ويحصل ذلك في حالة فقدان الوعي فقط ... فالطفل لا يعرف الحذر لإنعدام الوعي لديه ، ولهذا فقد يودي بنفسه إلى التهلكة بسبب قلة وعية ... فقد يغرق ، وقد يسقط من سطح الدار ، وقد يجرح نفسه ، وقد يحرق المنزل ، وقد يقتل غيره ... والمجنون قد يفعل هذا أيضا ً .. والأحمق قد يضر نفسه بحماقته ... وفي جميع هذه الحالات تكون الضحية الأولى هي الجلاد نفسه !!! ... وقد يتجاوز الأذى ، في هذه الحالة ، ذات الجلاد إلى غيره !!! .
العربي كذلك ... فهو ضحية قلة وعيه .. خصوصا وهو يمارس الديمقراطية التي لم يألف ، ولا يفقه ، و لا تلائم ، بل تتعارض تماما ً مع قيم الصحراء التي يطفح بها عقله الصغير !!! .
لقد تحول إلى براقش آدمية ... براقش التي لم تجني على نفسها فقط ، وإنما جنت على اصحاب الوعي في المجتمع العربي الذين سيدفعون ثمنا ً باهضا ً لحمقها .
وحيث أن حماية الأطفال تقتضي أن نبعد عنهم مصادر الخطر حتى يمتلكوا وعيا ً يضمن لهم السلامة ... كذلك تقتضي حماية العربي الأحمق من نفسه أن نقوم بتقريب الوعي إليه !!! ... ومن دون هذا التقريب للوعي ، ستكون الديمقراطية وبالا ً وخرابا ً ما بعده خراب !!! .
وبهذا المفهوم فقد كان الحاكم المستبد على مر التاريخ العربي رحيما بالشعب العربي مرتين ... مرةً بحمايته من رجال الدين ... ومرة ً بحمايته من نفسه لكي لا يمارس غباءه في إختيار الأسوء !!! ... كما أنه كان رحيما ً و حاميا لرجال الدين من ورطة السقوط في فخ الحكم الذي لا يفقهون فيه ... والذي كان سيعريهم ويفضح دجلهم ونفاقهم ولصوصيتهم كما حصل الآن ... هذه الرحمة لم تكن مقصودة بالتأكيد !!! .
إن ما يحصل في البلاد العربية الآن ، يعيد للحاكم العربي المستبد الكثير من الاعتبار للأسف !!! .
نعود لمحكمتينا لنستمع إلى الحكم في القضيتين :
بعد أن إستمع القاضي لمرافعة الخصمين بروتاغوراس وتلميذه ايثيلوس قرر تأجيل القضية 99 عاما ً !!!!!!!!! .
أما هيئة المحلفين في قضية الدكتور جونز فقد قررت : ( يعتبر الدكتور جونز مذنبا ً إذا كان بريئاً ) !!!!!!!!!!!!!!!! .

ملاحظة :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قد يعتقد البعض ان العبارة التي جاءت في قرار هيئة المحلفين في قضية دكتور جونز غير صحيحة بسبب صعوبة فهمها ... لكنها صحيحة تماما ً ولا تحوي اي خطأ طباعي ، غير أنها تحوي غموضا ً فلسفيا ً رائعا ً كقضيتها تماما ً ... بل استطيع إعتبارها مفارقة ً من طراز رائع هي الاخرى ... وهذا القرار يمنحنا فكرة عميقة جدا ً عن مستوى ثقافة هيئة المحلفين ، وفهمهم للفلسفة ، لا بمبادئها البسيطة ، بل بأعقد معمياتها ... وسأوضح يوما ً في مقالات مفاهيم ما معنى هيئة المحلفين وكيف يتم إختيارهم .

الدكتور حكيم العبادي
https://www.facebook.com/hakim.alabadi?ref=tn_tnmn



#حكيم_العبادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا نقرأ ... ( 7 ) ... نتائج الإنتخابت العراقية ... المنتصر ...
- مفاهيم ( 25 ) .... المفارقة .... paradox
- مفاهيم ( 24 ) ... الوصايا الواجبة ، قبل إنتخابات العرب المست ...
- مفاهيم (23 ) ... العراق المختطف وقانون الغاب
- مفاهيم ...(22 ) ... بين الفرد والمفهوم
- مفاهيم ... ( 21 ) أخطاء بخمس نجوم
- مفاهيم (20) ... خدمة علي بن ابي طالب الجهادية
- أنسي الحاج ... ماذا صنعت بنا ؟؟؟ أين َ أخذت الوردة ؟؟؟ (*)
- مفاهيم ( 19 ) النائب العراقي ... تذكر الجهاد ، ونسي الغنائم
- مفاهيم (18) كُن مثل قطرة ماء حين لا تستطيع أن تكون نقيا ً مث ...
- هكذا نقرأ ... ( 6 ) .. جنيف (2) ... العجي الما يعيش ، يبين م ...
- مفاهيم ... (17) ..... الحفر في الوعي العربي نصير شمة مثلا ً ...
- مفاهيم ... ( 10 ) ماذا يجري في العراق ... ( الجزء الثالث ) ا ...
- هكذا نقرأ ... ( 5 ) إبتكار الشطرنج .... مقال إعتراضي
- مفاهيم (17 ) ... المال والبنون زينة الحياة الدنيا .... 7.202 ...
- مفاهيم ( 16 )... فن التعليق
- سحر النص الفيروزي ... ( 44 ) يا ريت ... إنت وانا في البيت عم ...
- مفاهيم ... ( 15 ) SAPIOSEXAL العجز الجنسي الوحيد الذي يعاني ...
- مفاهيم ... ( 14 ) ... فيروز وحديث البلد ... مباخر ٌ أم مباو. ...
- مفاهيم ... ( 13 ) ... وديع الصافي في رحاب الله هل لبنان قطعة ...


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكيم العبادي - مفاهيم ( 26 ) ... كيف نشأ الجدل