أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - فيصل القاسم - يا زمان الوصل!















المزيد.....

يا زمان الوصل!


فيصل القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1259 - 2005 / 7 / 18 - 07:13
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تمتاز اللغة العربية عن غيرها من اللغات بأنها مفعمة بالمفردات والتعابير التي تصف حالة الشوق والحنين والصبا و"الـُبعاد" والشجن والهجران والفراق والوصل واللقاء. وتكاد لاتوجد لغة تضاهي لغتنا الجميلة في التعبير عن العواطف الإنسانية الجياشة تجاه ذوي القربى والوطن. وقد برع شعراء المهجر والأدباء العرب بشكل عام في توظيف تلك المفردات الفريدة في شعرهم العذب وانتاجهم الأدبي الإنساني وجعلونا نردد تعابيرهم وأبياتهم الجميلة التي تقطر تشوقاً للقاء الأحباء والعودة إلى الأوطان. وكم تغنى مطربونا ومطرباتنا بالشوق والحنين إلى الأهل والأحبة عشاقاً كانوا أو خلاناً أو أقرباء. ولعل أجمل الأغنيات التي صدح بها صوت أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي وغيرهم هي تلك التي تخاطب الأحبة البعيدين عن عيوننا في ديار المهجر أو الغربة خلف البحار والمحيطات والحدود..

من منا لا يتأثر بأغنية فيروز التي تنادي "حبايبنا خلف الجبل البعيد"؟ ألا تقشعر أبداننا عندما نسمع فيروز وهي تهتف لجدتها: "ستي.. ستي يا ستي أشتقت لك يا ستي". ألم يصدح صوت صباح أيضاً في أغنيتها الشهيرة: "ألو بيروت من فضلك يا عيني، اعطيني بيروت عجـّل بالخط شويا"؟ ألا نتأثر جميعاً بالصوت الجبلي العظيم وديع الصافي وهو يطلب من "الطير الطاير" أن يسلم له على الأهل وأن يطمئن على "الزرع في موطنا وعن حال السهل"؟ ألا نذرف الدموع ونحن نستمع إلى المطرب العراقي سعدون جابر صاحب البحة الشجية وهو يناشد "الطيور الطايرة" أن تمر بديار "هلي" وأن تسلم عليهم سلاماً دامعاً؟ ألم يبرع فريد الأطرش في أغنيته الشهيرة" أحبابنا يا عين ماهم معانا" التي أعادت وردة الجزائرية إنشادها بإحساس لا يقل عذوبة ورقة؟ ألم تعاتب ميادة الحناوي الأحباب في أغنية "فاتت سنة حتى الجواب منهم ما وصل شي"، يا ترى "مستكترين فينا المراسيل"؟ ومن منا لا يتذكر أبيات الشاعر المهجري رشيد أيوب وهو يقول: "يا ثلج قد هيجت أشجاني..ذكرتني أهلي وأوطاني.. بالله قل عني لجيراني.. ما زال يرعى حرمة العهد"؟ ألا تدمع مقلتنا عندما نستمع إلى بيت محمود درويش الشهير "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي"؟


لكن وا أسفاه، فقد أصبحت هذه الثقافة الغنائية والأدبية الحنينية الجميلة في حياتنا العربية من مخلفات الماضي وحسبها أن تجد مكاناً لنفسها في كتب الأدب والتراث والإذاعات التي تبث أغاني أيام زمان. لقد أصبح حالنا أشبه بحال شعراء المهجر لكن بطريقة أخرى، فكما أن الشعراء كانوا يعبرون عن توقهم للقاء الأهل والأحباب فقد بتنا نحن إلى تلك الأيام الخوالي عندما كان للشوق والحنين إلى الأهل والأوطان معنى وقيمة عظيمة. تباً لك أيتها العولمة التي حرمتيننا من أجمل ما في ثقافتنا العربية ألا وهي مشاعر الشوق والحنين. لم يعد هناك معنى لـ"البُعاد" والفراق والهجران واللقاء ولم الشمل بعدما حولت العولمة هذا العالم إلى قرية صغيرة وألغت الحدود والمسافات وسهلت الوصل والاتصال بين الناس
.

لم ولن أنسى المرة الأولى التي تحدثت فيها مع والدي عبر الهاتف من قريتنا في سوريا إلى بيروت. لقد ذهبنا جميعاً إلى مركز البريد والهاتف القابع في زاوية دكان صغير لصاحبه أبي وديع، فتجمهرت عائلتنا حوله وهو يحرك "مناويل" الهاتف اليدوي كما لو كان يطحن القهوة وهو يصرخ بأعلى صوته "ألو يا بيروت ألو.. ألو". لم أصدق وقتها أنني سأسمع صوت والدي العامل في لبنان عبر ذلك الجهاز الأسود العجيب المعلق على حائط ذلك الدكان العتيق. لكننا بقدرة قادر سمعناه وسمعنا
.

آه كم كنا نسعد عندما نفتح رسالة قادمة من عمتي المهاجرة في فنزويلا أو من خالي في ليبيا! آه كم كنت أستمتع بالرسائل التي كانت تصلني من الأهل وأنا أدرس في بريطانيا! آه كم كنت أتلهف لوصولها كي أقرأها مرات ومرات! لقد كان أجمل وقت من أوقات اليوم، تلك اللحظات التي أتوجه فيها إلى الركن المخصص للرسائل في الجامعة، فكنت أرنو من بعيد إلى ما يسمونه بعش الحمام الذي يضعون فيه الرسائل الخاصة بكل طالب لعلني ألمح ظرفاً صغيراً قادماً من ربوع الأهل والأصدقاء والأحبة. آه كم كنت أفرح بتلك "المكاتيب" الواصلة بالبريد الجوي فرحة الأطفال بألعاب وثياب العيد! آه كم كنت أرقب ساعي البريد كل صباح من خلال فتحة الباب المخصصة لرمي الرسائل. آه كم كان قلبي يخفق بسرعة البرق انتظاراً لذلك الظرف المـُزين باللونين الأزرق والأحمر! آه كم كنت أطير من الفرح عندما "يعلــّق" معي خط التليفون من بريطانيا إلى قرية "الثعلة" البعيدة! آه وألف آه! آه كم كنت استمتع بشريط الكاسيت المرسل من الأهل حيث كان كل واحد منهم يسجل سلامه بالصوت. آه كم كنت أبكي عندما استمع إلى الأغنية "السويدائية" (نسبة إلى مدينة السويداء السورية) "يا ديرتي..يا ديرتي وداعاً يا حبيبتي لوما الشقا يا زنبقه ماتطول عنك غيبتي"!


لقد ولىّ زمان الوصل بعدما قضت وسائل الاتصال الحديثة من فضائيات وهواتف متحركة وانترنت وبريد الكتروني وتوابعه على تلك الثقافة الوصلية والإنسانية الجميلة. لا أتذكر أنني كتبت رسالة للأهل والأصدقاء منذ عشر سنين. وبدورهم فقد الأهل والأحبة اهتمامهم بإرسال الرسائل. وحتى المكاتيب التي تصلني من المشاهدين لم تعد تثير في نفسي تلك اللهفة القديمة
.

لقد انكسرت حدة الشوق والحنين لأحبائنا وأهلنا في المهجر أو الأوطان وانطفأت جذوة التلاقي بعدما قربت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة المسافات وألغت الآهات. لم نعد نتشوق ونحن لوصول رسالة بعد أن أصبح ساعي البريد الاكتروني يوصل رسائلنا إلى أبعد بقاع الأرض خلال ثوان معدودة. لم نعد نفرح بالرسائل الواردة إلينا عبر الانترنت فهي بلا طعم ولا رائحة ومنزوعة العواطف والأشواق وملغومة بالفيروسات القبيحة التي قد تدمر الكومبيوتر وما حمل. ومما زاد الطين بلة أن الانترنت وفرت خدمة الاتصال بالصوت والصورة مما جعل الناس تتحدث وترى بعضها البعض عن بعد فتخسر متعة اللقاء والوصال عندما تحين العودة إلى الديار بعد طول غياب. أعرف أناساً يتصلون مع أبنائهم في أمريكا وأوروبا لساعات وساعات عبر المسنجر حتى أنهم يدعون الكاميرا تصور كل زوايا المنزل على طريقة تلفزيون الواقع. لا بل إن الولد في أمريكا يعرف ماذا ستطبخ أمه اليوم في أي بلد عربي وهو يراها عبر الانترنت تقطع البصل والبطاطا في المطبخ وتقول له:"تعال تغدا معنا يا حبيبي!".


ولا أبالغ إذا قلت إن البعض قد مل حتى من الاتصال والحديث إلى الأهل عبر الانترنت بالرغم من أنهم يعيشون بعيداً عنهم ألوف الأميال خلف البحار والمحيطات. وأعرف أناساً لايفتحون الماسنجر كثيراً خشية أن يدخل على الخط صديق أو قريب يريد المحادثة أو الدردشة من خلف الحدود. وكم يخبرنا الماسنجر بدخول صديق أو قريب على الخط فنتجاهله أو نكتب ملاحظة تقول إنني بعيد عن الكومبيوتر ولا استطيع التحدث معكم الآن. آه كم تغير العالم وغير معه حتى عواطفنا ومشاعرنا، وأنا على يقين بأن شعراء المهجر من أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وغيرهم سيتقلبون في قبورهم لو علموا أن العولمة قضت على أدبهم وجعلته هباء منثوراً.


لم يعد هناك محل من الإعراب للمثل القائل: "إن البُعد يزيد القلب ولوعاًً". لقد جعلتنا وسائل الاتصال الحديثة نزداد تحجراً والقلوب أقل إنسانية وشوقاً وهياماً للقاء البعيدين عن أبصارنا. لم يعد "الهوى من النوى" كما يقول المثل العربي. لقد غدا "البُعد جفاء" فعلاً كما يقول العرب مع عولمة الاتصالات. صحيح أن استخدام الانترنت ووسائط التواصل الحديثة مازال محدوداً في العالم العربي إلا أن المستقبل للانترنت وما توفره من خدمات تواصلية تاريخية كما يقول صاحب أكبر امبراطورية برامج كومبيوتر في العالم بيل غيتس. قولوا عني متخلف! سقى الله زمان الوصل البدائي!



#فيصل_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تحتاج المرأة العربية إلى تحرير؟
- فتش عن إسرائيل!
- اضغطوا بالمقلوب كي يتحقق المطلوب!
- نكاية بأمريكا سنبقى متخلفين!
- أنسنة الإعلام العربي
- السلام الدائم شعارٌ يصلح لأبواب المقابر
- السلاميون العرب الجدد:مغفلون أم يستغفلون؟
- باي باي مناشير
- إعلام تدجيني Counter-Revolutionary
- الروتين تنكيل منظم بالشعوب العربية
- عندما يصبح -الشعب- خطراً على الديموقراطية والعالم
- تنازل أكثر تحكم أطول!
- كم أنتِ ناكرة للجميل أيتها الصهيونية!
- الانطفاش الإعلاماواتي الحنكليشي
- الحرس القديم .... يادادا
- الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
- تدويل العرب!
- بلادي وإن جارت علي لئيمة!
- فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
- الصفر الوطني والصفر الاستعماري


المزيد.....




- بعيدا عن الكاميرا.. بايدن يتحدث عن السعودية والدول العربية و ...
- دراسة تحذر من خطر صحي ينجم عن تناول الإيبوبروفين بكثرة
- منعطفٌ إلى الأبد
- خبير عسكري: لندن وواشنطن تجندان إرهاببين عبر قناة -صوت خراسا ...
- -متحرش بالنساء-.. شاهدات عيان يكشفن معلومات جديدة عن أحد إره ...
- تتشاركان برأسين وقلبين.. زواج أشهر توأم ملتصق في العالم (صور ...
- حريق ضخم يلتهم مبنى شاهقا في البرازيل (فيديو)
- الدفاعات الروسية تسقط 15 صاروخا أوكرانيا استهدفت بيلغورود
- اغتيال زعيم يكره القهوة برصاصة صدئة!
- زاخاروفا: صمت مجلس أوروبا على هجوم -كروكوس- الإرهابي وصمة عا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - فيصل القاسم - يا زمان الوصل!