أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - وحش بغداد














المزيد.....

وحش بغداد


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 4409 - 2014 / 3 / 30 - 14:14
المحور: الادب والفن
    


عندما نقلب الصفحة الاخيرة من رواية احمد السعداوي المبدعة “فرانكنشتاين في بغداد” (منشورات دار الجمل, بغداد ـ بيروت). نظل نقلب الأفكار في رأسنا ونسأل من هو وحش بغداد حقاً, ومن الذي صنعه, وما هي مكوناته, وكيف طال به العمر كيف يفتك من الابرياء ما يفتك حتى هذه اللحظة؟ تأخذنا الإجابات المريحة إلى تعميم المجرم لتشير إلى ان الوحش هو الغزو الخارجي, او هو الطائفية, او هو السياسة ومصالحها واربابها. في الاجابات المريحة هذه وما شابهها ثمة فرضية كسولة تحاول اختزال المعقد وتسطيحه وتقسيم بشاعة التوحش على إثنين: مجرم وبريء. بيد ان مرارة الواقع الرمادي تهزأ بهذه التسطيح وبسذاجة تصنيف الابيض والاسود المانوي والاختزالي. احمد السعداوي يقلع هذه الثنائيات الحادة, مجرم وبريء, ابيض واسود, خير وشر, من مواقعها المزعومة, يجرها ويلقي بها في أتون الواقع العراقي المرير, فتسيح على بعضها البعض: لا تعود البراءة برئية تماما, ولا يعود الإجرام مطبقا بالكامل, وينحل الخير والشر كل منها على الآخر.
الشخصية الرئيسة والغامضة والمجهولة والمخيفة والخائفة في الرواية هي “الشسمة” (الذي لا اسم له), وهو كائن خرافي غامض اشبه بمخلوق فرانكنشتاين في القصة المشهورة, نتاج اعضاء جسدية مقطعة يلملمها هادي العتاق تاجر الاثاث القديم الذي يعيش في الخربة اليهودية في حي البتاوين في بغداد. هادي العتاك يجمع الارجل والايدي المتناثرة من جراء العمليات الارهابية والتفجيرات واطلاق النار العشوائي هنا وهناك, ثم يخيطها معاً, فينطلق وحش بغداد المخلوق من اعضاء الابرياء واجسادهم. يحمل “الشسمة” نفسه مهمة ومسؤولية تبدو واضحة وتتلبس لبوساً بريئا رغم دموية تطبيقها, لكن ما تلبث ان تظهر بكونها غامضة ومجرمة هي الاخرى ايضاً. يريد “الشسمة”, المتجمع من اطراف الابرياء المغدورين, ان يثأثر لكل الابرياء الذي يتكون جسده من اعضائهم, فيطارد قتلهم وغادريهم ومفجريهم. وحالما ينجح في الإطاحة بمجرم ما وينتقم لبريء معين, فإن قطعة الجسد التي تنتمي إلى ذلك البريء وصارت جزءا من جسد الوحش تتحلل وتختفي لأن ثأرها قد تحصل. مع ازدياد نجاحات “الشسمة” في الاقتصاص من القتلة السابقين يفقد اذرعه وسيقانه لأن اطراف الأبرياء, لكن مهمة الانتقام لم تنته بعد. يضطر “الشسمة” ان يقوم بالقتل حتى يعوض الاطراف التي يفقدها وحتى يتمكن من متابعة مهمته والانتقام من كل القائمة التي وضعها نصب عينيه. يقتل ابرياء جدد ليستخدم اطرافها في جسده كي ينتقم لمقتل الابرياء القدامى من قاتليهم.
في الصورة الخلفية التي يتحرك فيها “الشسمة” يقلب احمد السعداوي امام ناظرينا فصولا بغدادية تمور بالحياة والتناقضات والاسى. هناك فصول بغداد الجميلة والمتعايشة, بغداد الزمن الجميل, بمسلميها ومسيحييها ويهودها, بشيعتهم وسنتهم, بعربهم واكرادهم, كلهم يتنفسون الازقة القديمة لحي البتاويين والحارات العتيقة لناس بسطاء قفزوا فوق تصنيفات المذاهب والاديان, وعاشوا كبشر. وهناك فصول بغداد البشعة, بغداد الوحش والوحوش, ترتفع بين احيائها جدران الخرسانة والمتاريس والحواجز كي تفصل بين المناطق بحسب المذهب والانتماء. وعلى هوامشها تنمو الكراهيات والصدمات وينحل العيش المشترك كما ينحل اللحم عن جسد الوحش. وهناك فصول الطائفيات القاتلة وبشاعتها إذ تحيل العراق وشعبه إلى سجن كبير, في عمارة يقطن كل طابق منها طائفة او مجموعة سياسية بقناعات مخلتفة. في رمزية بالغة وبليغة يشير السعداوي إلى مجموعات ثلاث من المجانين تسكن ثلاثة طوابق في عمارة واحدة, كأنما هم سجانون لبعضهم البعض لا يتشاركون الجوار والعيش والخطر الواحد. وهناك فصول الاحتلال الامريكي وقبله صدام حسين والسجال ومسوغات الحرب واين كنا واين صرنا, وهل نحن في المسار الصحيح للمستقبل, وكل الأسئلة ثقيلة الوطأة التي تدور حول ذاتها في صحراء نضبت فيها الاجوبة. بغداد الجميلة صارت بغداد الوحش, خائفة ومخيفة, متعبة ومُتعبة, كل شيء فيها غامض إلا الموت صار هو المؤكد الوحيد. الوحش, "الشسمة", مخلوق فرانكنشتاين, هو صانع قراراتها والمُتحكم في مصيرها.
شخوص بغداد الذي يعيشون في دائرة الوحش هم نتاج التوحش الذي انتجه: شخوص متعبة, باهتة, معلقة بين آمال اقتناص الفرص التي جاءت بها الظروف الجديدة وبين إدعاءات البراءة, والحنين إلى زمن فات, والشك بكل زمن محيط: ام دانيال (العجوز المسيحية التي غاب ابنها في الحرب العراقية الايرانية ولم يعد وبقيت تنتظره, تتزوج ابنتاها ماتيلدا وهيلدا وتهاجران الى استراليا, وتبقى العجوز في أيلولة قريبة من الجنون وهي تنتظر ابنها الذي غاب من ثلاثين عاماً كي يعود. العميد سرور, رئيس قسم المتابعة والتدقيق, يمارس توحشه الخاص به عبر الكرسي الذي يجلس عليه, يبالغ في الولاء للحكام الجدد كي يمحو من ذاكرتهم ان ماضيه كان مع غيرهم. كبير المنجمين, يعمل لدى العميد سرور للكشف عن العمليات الارهابية قبل ان تحدث, ويخلط الامور عليه وعلينا كقراء, وتصبح الدولة رهينة رعونة المنجمين وخلافاتهم. علي باهر السعداوي, صاحب مجلة الحقيقة, متنفذ, ومتفائل, وحيوي, وغامض في علاقاته, وينتهي نهايات غير معروفه, مثل اشياء كثيرة ضربها داء التوحش. محمود, صحفي في منتصف العشرينات يهاجر من بلدته العمارة الى بغداد ويعمل مع السعداوي, يسكر بالنجاحات السريعة, ثم يرتقي إلى قمة غادرة حيث تنتظرة هاوية لا منجى منها.
فرانكنشتاين احمد السعدواي هو كائن الموت الخرافي الذي تخلق بأيدي العراقيين وطوائفهم, وايدي جماعات التفجير والارهاب, وايدي الامريكيين والغرب, وايدي العرب وإيران, لكن كل طرف من هؤلاء يتهم الآخر بكونه الوحش ويحيل عليه مسؤولية الدم والموت, وبواسطته يبرىء كل منهم نفسه من المسؤلية. يعيش (الشسمة) بينهم وينام في غرفهم, ويكون شبيها بهم وبمن يحبون. ثم يطاردونه. إنه الكائن البشع الاسطوري الذي يتشاركون في كراهيته, لكنهم لا يجرأون على الاعتراف بأنهم جميعا تشاركوا ايضا في صناعته وتخليقه ورعايته.



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهند وديموقراطية موسيقارها العظيم بسم الله خان
- أردوغان: غطرسة السلطان تطيح به!
- عقاب مصر للشعب الفلسطيني
- سحب السفراء من قطر ... يعزز الدور الإيراني
- هاشم الشعباني: شاعر عربستان وشهيدها
- عنفنا الدموي لم يقطع رأس نعامتنا!
- الرواية العربية: “الفصاحة الجديدة”
- الإعلام العربي: بين الإنجاز وفقدان البوصلة (١ من £ ...
- الرواية العربية: بين الإبداع وكسر التابوهات
- تونس: عبقرية التوافق وروح خير الدين باشا
- المثقف العربي: تناسل المآزق, وأفول التأثير
- فلسطينيو سورية: مآس مزدوجة وخذلان عربي ودولي فاضح
- ساقان اصطناعيتان فلسطينيتان تتسلقان كليمنجارو
- ما هو تاريخ الحاضر؟
- هل الدم والحرب طريق العقلانية؟
- لماذا تغيب فلسطين عن الأجندة الإيرانية مع الغرب؟
- مكارثية العقل الأيديولوجي والكتابة الهوجاء
- لم يصل -نجم- امستردام ... تجازوها
- أنتهاك ثوابت الدين بمتغيرات السياسة
- ضد المكارثية العربية إزاء «الإخوان» أو غيرهم


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - وحش بغداد