أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - درب إلى -المنفى-















المزيد.....

درب إلى -المنفى-


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 4358 - 2014 / 2 / 7 - 12:22
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


لم يكن في بالي وأنا على الطريق الطويل بين غوطة دمشق الشرقية والرقة صيف 2013 أن هذه الرحلة ستكون بداية الخروج من سورية. كنت اخترت التواري في دمشق منذ وقت مبكر من بداية الثورة، تجنبا للوقع في قبضة النظام مع البقاء في البلد.
في بداية عام 2013 قررت مغادرة دمشق التي عشت فيها متواريا منذ أواخر آذار 2011 إلى مناطق الشمال السوري التي كانت خرجت من سيطرة النظام الأسدي. كان غرضي أن أخرج من وضع خانق في العاصمة التي تخترقها مئات الحواجز الأمنية ويتهددني الاعتقال فيها، وأن أعيش في "مناطق محررة" كانت منظورات العيش فيها تبدو مبشرة آنذاك، ويمكن للمرء أن يتعلم الكثير فيها ويساعد فيما يستطيع.
لم تكن الرقة، المدينة التي أنحدر منها، قد خرجت من قبضة النظام وقتذاك، لكن كانت محررة منذ نحو شهر حين تمكنت من مغادرة دمشق في بدايات شهر نيسان.
استفدت من مساعدة ناشطيْن في التهريب إلى الغوطة الشرقية، أحدهما اليوم معتقل عن النظام ومصيره مجهول، والآخر اعتقل وخرج بعد حين. ثم لم يكن الخروج من الغوطة ميسورا وقت وصولي إليها. اقتضى الأمر نحو 100 يوم هناك قبل أن يتأمن خروجي بين مجموعة من مقاتلي "الجيش الحر" والجنود المنشقين، وصديق شاب مصور.
خلال إقامتي في الغوطة كانت تتوالى الأخبار عن تدهور الوضع في الرقة وتصاعد سيطرة "داعش" (تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام")، وما ينال الناشطين السياسيين والمثقفين المنخرطين في الثورة والشبان الإعلاميين من تضييق ومحاصرة. كان أخي أحمد، وهو عضو في المجلس المحلي في مدينة تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة، قد اعتقل قبيل خروجي من الغوطة بأيام قليلة، فيما كان جهدا من "داعش" لتحطيم أية أطر عمل عام مستقلة عنها، وفقا لنهج أسدي مجرب. وبعده بأيام، وفيما كنت في المراحل الأولى من رحلتي من الغوطة إلى الرقة، وفيما يبدو عقابا على نشاطه السياسي، اختطف أخي فراس وصديقه إبراهيم الغازي من الشارع في الرقة، ولا يزالان مغيبان عند "داعش" ومجهولا المصير.
وبعد وصولي إلى المدينة في 29 تموز بيوم واحد اعتقل من قبل التشكيل المتطرف نفسه الأب باولو دالوليلو الإيطالي الأصل والسوري الهوى والولاء، والمنحاز بكليته إلى الثورة. هذا أملى علي العيش متواريا من جديد في المدينة التي نشأت فيها، لكن هذه المرة تفاديا لشر تشكيل عسكري ديني يشابه النظام الأسدي في العمل على السيطرة على المجتمع وأجساد الناس والموارد العامة، وضرب كل الأنشطة المستقلة، والحكم بالخوف والإرهاب، وإن اختلف العنوان الإيديولوجي.
كنت تركت زوجتي سميرة الخليل في الغوطة. كانت سميرة، وهي معتقلة سياسية سابقة بين 1987 و1991، قد انضمت إليّ في الغوطة في النصف الثاني من أيار بعد أن صارت ملاحقة من جديد من قبل أجهزة النظام قبل ذلك بأسابيع. كان تقديرنا المشترك أن خروجي أنا أصعب، وأنه يمكن تأمينها هي دونما مشقة كبيرة. كان يسعد قلب سميرة أنها تقوم بواجبها في العيش في المنطقة المعرضة لقصف يومي من قبل قوات النظام ومساعدة الناس بقدر المستطاع هناك. كانت تعيش مع رزان زيتونة، المحامية والكاتبة والثائرة المعروفة جيدا، في بيت واحد، وتعملان معا في مساعدة النساء المحليات على إنتاج ما يعود عليهن بما يعين أسرهن في العيش.
كان الوضع العام يتدهور في الرقة سريعا، ويجد الناشطون الأقدم والأكثر تمسكا بقيم الثورة المحركة أنفسهم في وضع صعب. ومن لم يعودوا إلى مراقبة أنفسهم على نحو ما كانوا يفعلون أيام النظام كانوا معرضين للاعتقال والقتل. كانت صورة الوضع في المدينة وحولها تثير القلق في كل مكان. من الغوطة كانت سميرة تلح علي كل يوم للخروج من الرقة، ومن سورية. كانت تخاف أن أقع في الأيدي الفاشية للدواعش، وكانت لا تزال تفترض أن مسألة خروجها هي من الغوطة مسألة وقت وجهد قليل. كان الأمر مقلقا لي أيضا، وأكثر من اليقين بأني لن أخرج حيا لو حدث ووقعت في أيدي أولئك القتلة، كان مجرد الاعتقال او الاختطاف على يد قوة وحشية غامضة، لا عنوان لها، أمرا مروعا.
حتى بعد وصلي إلى الرقة في أواخر تموز 2013، كنت أفكر في البقاء فيها إلى حين يفرج عن أخي فراس. كان أحمد قد أفرج عنه بعد وصولي المدينة بأيام، وكان الأمل أن يفرج عن فراس خلال أسابيع. كانت تجربة "داعش" كلها جديدة في المدينة وفي سورية كلها، لا يتجاز عمرها أربعة شهور آنذاك، ولم تكن أرست لنفسها تقاليد في الإجرام على النحو الذي بات معلوما اليوم بعد أقل من عام واحد على تشكلها. وإلى أن يُفرَج عن فراس، كنت أفكر، ربما أتجول في بعض مناطق الشمال السوري، الرقة وحلب وإدلب، أراقب الوضع وأحاول فهم كيف تسير الأمور.
لكن دون أوراق، ودون علاقات مع جهات عسكرية أو سياسية أو دينية مسموعة الكلمة، وفي ظل حالة البارانويا العامة في المناطق المحررة (وهي حالة موجهة بصورة مفهومة ضد الغرباء العزل)، ستكون مباشرة هذه الخطة أمرا غير مأمون العواقب.
مضى أكثر من شهرين ولم يفرج عن فراس. كانت شروط عمل عام مثمر في الرقة محدودة. كنت ألتقي بعدد قليل من الأصدقاء، أبرزهم الدكتور اسماعيل الحامض الذي اختطفته "داعش" في مطلع تشرين الثاني بعد مغادرتي سورية بثلاثة أسابيع. الدكتور الحامض في نحو الخمسين من العمر، وهو زوج وأب لأربعة بنات أكبرهن في العشرين، وولد واحد عمره 11 عاما. كان اسماعيل الذي كان ترك عملا مجزيا في السعودية ليساعد شعبه الثائر، يعد العدة الآن للخروج من البلد إلى منفى مجهول. وقبله بأيام كانت القوة الفاشية نفسها اعتقلت زياد الحمصي، صديقي الشاب المصور الذي ترافقنا معا من الغوطة إلى الرقة قبل أن يكمل هو إلى تركيا، وتعتقله "داعش" وهو يمر بالرقة مجددا، عائدا إلى الغوطة. لو لم أكن غادرت سورية في 11 أكتوبر 2013 لكان عليّ حتماً مغادرتها بعد اختطاف صديقيّ. في الرقة، وقبلها في الغوطة تولد لدي شعور أن الثورة السورية تواجه معضلة بالغة الصعوبة. غير نظام فاشي مثابر على قتل محكوميه طوال أكثر من عامين حينها، هنا قوى وتشكيلات متطرفة، مهتمة بفرض سيطرتها في مناطق تواجدها بدرجة تفوق مواجهتها للنظام، أو حتى دون مواجهة للنظام. "داعش" هي الأسوأ والأكثر وحشية، لا يفوقها في الوحشية والفاشية غير النظام ذاته، لكن مجموعات إسلامية متشددة مثل "جبهة النصرة" و"أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، ليست بعيدة كثيرا عن النموذج ذاته. كان الانكشاف التام الذي عانت منها بيئات سورية متنوعة قد أطلق عملية تجذر سياسي وتصلب نفسي، صبت في مصلحة هذه القوى، وأضعفت المجموعات والأفراد الأكثر انفتاحا فكريا وسياسيا، والأوفى للقيم المحركة للثورة. هذه العملية التي طبعت عام 2013 منذ بدايته، أو منذ ربيعه على الأقل وحتى نهايته، مناسبة جدا للنظام، لأننا هنا حيال تشكيلات تشبهه، طائفية مثله، وعنيفة مثله، ومثله أيضا لا تستطيع زعم كونها بديلا، ولأنه يبرر بوجودها نفسه في الداخل (حماية الأقليات) وفي الخارج (الحرب ضد الإرهاب).
كان من سوء الحظ أنه وقت خروجي من سورية، وبفارق يوم أو يومين، حوصرت الغوطة الشرقية تماما، وأغلق الطريقان اللذان كانا يربطانها بدمشق. انعكس هذا في ارتفاع فوري هائل في أسعار المواد الغذائية والمحروقات في المنطقة، وصار كابوسا بالنسبة لي أن تنقطع سميرة ورزان من وقود مولدة الكهرباء التي تتيح لهما الاتصال بالإنترنت، وتمكنني من الاتصال اليومي بسميرة. لكن سيحصل الأسوأ بإطلاق، وفقا لقانون سوري عريق ينص على أنه هناك دوما ما هو أسوأ من أسوأ التوقعات: اختطفت سميرة ورزان، ومعهما وائل حمادة زوج رزان، وناظم حمادي المحامي والشاعر، من مكتب "مركز توثيق الانتهاكات" الذي افتتحته رزان في دوما في أيار 2013. اختطف الأربعة ليلة 9/12/2013 من قبل ملثّمين. ولم يعرف شيء عن مصيرهم حتى اليوم. أشتبه شخصيا بمسؤولية تشكيل عسكري ديني نافذ في المنطقة، هو "جيش الإسلام" بقيادة زهران علوش، عن الجريمة. الرجل طموح وضيق التفكير ومتواضع الإدراك، ويبدو أنه يعد نفسه لدور كبير في سورية يريدها أن تشبهه.
طوال أكثر من عامين ونصف أردنا، سميرة وأنا، أن نتجنب المنفى والسجن معا. بعد أكثر من ثلاثين شهرا على بداية الثورة صرت أنا في المنفى، وبعد 33 شهرا صارت هي سجينة. أكثر من أن خطتنا الأصلية أحبطت، جاءنا التهديد من قوى استفادت من الثورة ضد الفاشية الأسدية لتظهر، هذا قبل أن تغدر بالثورة وتنقلب ضدها حتى قبل تحقيق هدفها الأولي المتمثل في "إسقاط النظام" الأسدي.
في مقالة كتبتها حين كنت في دوما ("صورة، علمان، وراية: مقاربة اجتماعية رمزية لتفاعل وصراع أربع سوريات") سميتُ هؤلاء بـ"الأسلاميين"، لأنهم بعد انتزاع المنطقة من قوات النظام في خريف 2012 احتفظوا بالشعارات الأسدية المكتوبة على الجدران، ولكن وضعوا كلمة "الأسلام" بدل الأسد، فحصلنا مثلا على: الأسلام للأبد! بدل الأسد للأبد! والأسلام أو نحرق البلد! بدل الأسد أو نحرق البلد! "الأسلام" ليس غير برنامج سياسي لسلطة أمثال زهران علوش. إنهم أسديون إسلاميون.
أكثر أيضا من أن يكون تمزقنا بين المنفى والسجن محنة شخصية أو عائلية، تصيب معتقليْن سياسيين سابقين في سجون النظام، ومشاركيْن في الثورة منذ أيامها الأولى، هو نموذج لمحنة سورية عامة، أصابت ألوف الناشطين والمثقفين، ووزعتهم بين المقابر وسجون الأسديين وسجون "الأسلاميين" والمنافي.
ولأن محنتنا السورية اليوم شخصية، ولأن المحنة الشخصية عامة، لا أرى من وسيلة لمواجهة التمزق الشخصي بغير ربطه بقضيتنا العامة، قضية التحرر والعدالة للسوريين. في محنتنا المشتركة، سميرة وأنا، وأخي فراس، أشغل الوضع الأقل سوءا، الوضع الذي يمكنني من متابعة قضيتهما وإدارجها في القضية العامة. هذا ما أعتزم المثابرة عليه: التحرر السوري الذي يمر عبر مواجهة صعبة مع الأسديين و"الأسلاميين".




#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفكرة الجمهورية والثورة السورية
- في مسارات الثورة السورية ومصائرها على أعتاب عامين ونصف من ان ...
- سميرة
- سميرة ورزان... وحال الثورة السورية
- تبدّل موقع الإسلاميين في الحقل السياسي السوري
- خطة متأخرة للتحول الديموقراطي
- منظورات ضيقة في التفاعل السوري التركي
- ثلاثة خطابات في شأن الصراع السوري
- ثورة في العالم، ثورة العالم
- تركيا في مخيلة السوريين: ملجأ، معبر، أم مقام؟
- المسلمون غير المسلمين والحرية الدينية
- انهيار الإطار الوطني للصراع السوري
- في وداع سورية... مؤقتا
- دفاع عن الحياة قبل الخبز والحرية
- مع أعداء مثل أعدائنا، كان يلزم أصدقاء ليسوا مثل أصدقائنا
- حوار حول سورية ، أميركا، روسيا
- كيف الحال في سورية؟
- أصل القصة في سورية
- الحجي
- أبو أيهم الدرزي


المزيد.....




- لمعالجة قضية -الصور الإباحية المزيفة-.. مجلس رقابة -ميتا- يُ ...
- رابطة مكافحة التشهير: الحوادث المعادية للسامية بأمريكا وصلت ...
- كاد يستقر في رأسه.. شاهد كيف أنقذ رجل غريب طفلًا من قرص طائر ...
- باتروشيف: التحقيق كشف أن منفذي اعتداء -كروكوس- كانوا على ارت ...
- إيران أغلقت منشآتها النووية يوم الهجوم على إسرائيل
- الجيش الروسي يعلن عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف القوات الأوكر ...
- دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي س ...
- إيران... إسرائيل تهاجم -دبلوماسياً- وواشنطن تستعد لفرض عقوبا ...
- -لا علاقة لها بتطورات المنطقة-.. تركيا تجري مناورات جوية مع ...
- رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية تمنح بوتين بطاقة -الر ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - درب إلى -المنفى-