|
جنة وعفريت مسروق
أحمد الشريف
الحوار المتمدن-العدد: 4332 - 2014 / 1 / 11 - 01:05
المحور:
الادب والفن
جنة وعفريت مسروق
ما زلت أكره الاستيقاظ فى الصباح . الرعشة التي كانت تصاحب قيامي ، وارتجافات البدن والخوف من يوم جديد ، تلاحقني . المدرسة تلك اللعنة المكتوبة على الأطفال تجبرني أن أقوم مبكرا من بين أخوتي الصغار بعد أن نكون قضينا الليل مع الجدة ، تحكي حكايتها المليئة بالسحر والجان والوفاء والغدر والحب والجاه والمال والنساء .. كان الضباب يهدئ من روعى ، أراه بين بيوت القرية ومزارعها . لحظة أقترابي من البحر أشهاده بكثافة يلف الأرض نازلا من السماء . قطرات من الماء الندى تتجمع فوق النباتات وأغصان الأشجار ، ألمسها فتقع على الأرض وتبتل يدي . امتزاج اللون الأبيض المشرب بالرمادى الخفيف مع اخضرار الحقول يعيد السلام إلى . أقوم مفزوعا صارخا بآه طويلة عندما كانت أمى تناديني " معاد المدرسة " . أشعر بدقات قلبى تتسارع ، أحس باختناق وأن جدران الغرفة ستنطبق على ضلوعي .. هديل الحمام كان السبب . ليلتها صعدت مع أمى للسطح ؛ لنطعم الحمام الكبير ونسقى الزغاليل . ولسبب لا أتذكره تركتني وسط الحمام ونزلت ، شعرت بدائرة محكمه حولى ، عيون الحمام تنظر إلى والدائرة تضيق تحركت فاقترب الحمام أكثر وبدأ ينقرنى فى ساقي ويطير حول وجهى ويهدل بصوت غريب ، صرخت وجريت فاصطدمت بقفص من الجريد ، سقط على الأرض وحبس صوتى ولم يخرج . - بسم الله الرحمن الرحيم . ماله ؟ - وقع على الأرض والحمام كان واقف على ضهره ورأسه ومغطى جسمه كله . فى الصباح أمرت جدتى بحملى لمكان الحمام وبغتة طست وجهى بالماء البارد وهى تقرأ آيات من القرأن . استرد عافيتى عندما تأتى خالتى راضية ورضوى لزيارتنا ، وهما جاراتان لهما بيت كبير بحديقة مزروعة بالزيتزن والياسمين . ألتصق بهما فتداعبانني وتسألني رضوى ، أكبرهما : - بتحبنى زي إيه ؟ - زى العنب . تقول أمى : يبقى بيموت فيكي مبيحبش غيره . - أيه رأيك لو تجوزنى أنا وخالتك راضية . أفتح ذراعى وتتسع عيناى بفرح ودهشة : - ياه وكمان خالتو راضية . - شوفى يا رضوى فرحان إزاى! يضحكان فيهتز جسماهما وتميل رضوى تجاه أمى وتهمس لها : - سرتى بتوجعنى قوى . وتنظر لى نظره جانبيه ، فتعلق أمى : - يوه يا رضوى دا صغير . ترفع فستانها وقميص نومها حتى ثدييها الممتلئتين ، أرى بطنها البيضاء الجميلة ، طيات طيات من اللحم ، فى منتصف بطنها سرتها العميقة المستديرة بداخلها عتمة وددت لو أدخلها ، احمرار خفيف حولها ، تتحسسه وهى تشكو . ثم يسمع صوت أبى فتغطى نفسها وتعتدل فى جلستها . - ابنك يا عم عايز يجوزنا . - الواد ده مش راضى يكبر . وها أنا كبرت وأرهما فى الشارع ولا يعرفاننى ، انبهر بجمالهما ، لم يتغير ولم تخذلنى فى تقديره حاسة صفولتى . يبادلانني النظر والابتسام ويشعران بالدهشة وأيضا من هذا الوقح الذى ينظر فى وجوه النساء هكذا . يفصل بين الحقول الواسعة والمدرسة بحر كبير يضخ مياهه فى الطاحونة . صوت هدير المياه يخيفنى ، سيأتي يوم تسحب فيه المياه المدرسة إلى مكان بعيد وتنفتح الأرض ونغرق .. تنتهى الحصة الأخيرة فينتهى عذابي . أصطحب سيد بكرى ذا الجسم القصير النحيل ونسير فى طريق طويل إلى بيته وسط المقابر . حكاياه تبدأ من غرف النوم خياله الدسم يعرى مدرسة الحساب الحلوة الشرسة ، يجعلها أمامي ضعيفة تتأوه وتشكو من صلابة وقوة الرجل الذى فوقها . قال لى أنه يملك كتاب أطلس ، به أعلام العالم وعواصم وغابات وصحراوات بعيدة . قال إن به الدنيا كلها وفى آخر الكتاب صورة للجنة . تشككت فى كلامه ؛ فالجنة سندخلها عندما نموت والأهم بالنسبة لى ، أنها لا تعنى شيئا بدون خالتى رضوى وراضية . فى إحدى المرات أشار على قبر جديد وأخبرني أن اللصوص يأتون فى الليل ومعهم مسروقاتهم ونساء جميلات يضاجعونهن بسرعة وعنف قبل أن يبزغ الفجر ، وأنهم يسمعون فى عمق الليل أصواتا مبحوحة تستغيث وتشهق شهقات موت ولكن من يجرؤ على الاقتراب من مقبرة اللصوص . خوفى من مدرسة الحساب ؛ دفعني لأخذ درس خصوصيا عندها . فى يوم ذهبت مبكرا ، دفعت الباب ودخلت لغرفة الدرس ، لم يكن هناك أحد . فتحت الباب الفاصل بين الغرفة والصالة ، فرأيتها على الأرض وفوقها رجل وهما فى عناق شديد ، تصيح وتتوجع وتحاول أن تنفصل عنه ، يجذبها من مؤخرتها ، فتستكين وتئن بخفوت ثم تتأوه عاليا . لماذا لا تبتعد عنه أو تستغيث بالجيران مادام يؤلمها ؟ شيء ما جعلنى أقف مكاني ، أشعر بشيء لذيذ مثير وسرى . ها هى تبدأ من جديد فى الصياح والتوجع والأنين الذى سيصل على ما يبدو حتى آخر الدنيا . غاب سيد بكرى من المدرسة فذهبت لرؤيته ، كان يصرخ فى كلبه ، لأنه ينبح على كلب أصغر منه ، تبناه بعد أن وجده تائها بين المقابر . صوته عالى غاضب أسمعه من أول المقابر . - مش أخوك ده ، مش أخوك ده ، بتنبح عليه ليه ، بتنبح عليه ليه ؟ رأيت عبد الحفيظ جمعه يقود موتوسيكله الجديد متجها لبيته ، بدون تردد ألقيت بنفسى فى طريقه ، تفادانى بصعوبة . شكا لأمي وأبى ، كررت نفس الأمر . عندما أراه قادما ، أرمى بنفسى أما الموتوسيكل . أتفق الجميع على أن عفريتا تلبسنى .. أخذتني جدتى لزيارة الشيخ المبروك وسط المقابر . كان يوم جمعه ولا أحد فى الضريح غير امرأة عجوز ، رحبت بجدتى وقربتنى من مقام الشيخ وهى تتلو بعض الأدعية وتمسد بيدها على الضريح المغطى بالستان الأخضر تركونى .. لشأنى وغرقوا فى حكاياتهم . أخذت بعض حصوات وقذفتها نحو الضريح ، بعد أخر حصوة ، شعرت بالهدوء والطمأنينة تعود إلى نفسى . غرقت فى زهور شجرة دقن الباشا ، التى تحيط كلية بغرفة القبر . الآن وبعد عشرين سنة تنتابنى الرغبة ذاتها ولكن هذه المرة سأرمى بنفسى تحت اللوريات الكبيرة والسيارات الضخمة والجرارات ذات العجلات الهائلة ودوما أتخيل جسمي ملتصقا بالإسفلت ، كالضفادع والفئران المدهوسة . أسير فى الظلام وبجواري المباني القديمة ، غالبا ما أشعر بخد وأنا فى دكاكين العطارة ، حيث الأشياء القديمة والنباتات البرية الجافة .. كنت طفلا يحسد الجرذان وهى تختبئ فى جحورها والدجاج فى أخناقه ، حتى العنكبوت خلف الأبواب والأماكن الخفية أما الآن ، فأزداد عشقي للأماكن المظلمة والشوارع والأزقة الضيقة والأديرة البعيدة فى الصحراء .. لماذا أعيش كمطارد أو كحيوان يقضى معظم حياته فى بيات شتوى ؟ ، لماذا لا أخرج للشمس وللناس ؟ ، سأضع طفولتي فى صرة وألقى بها بعيدا ؛ فالوقت لا يتسع ، وها هو الطريق يقصر وتغيم نجومى الصغيرة وينفتح ممر طويل مظلم ينبغى أن أسير فيه واصطاد بقع الضوء القليلة التى ربما تبرق فى منحنياته .
[email protected]
#أحمد_الشريف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عواطف مبتورة وشهوات ممتدة
-
قصص عن واقع مفكك
-
ياسر محمد إبراهيم يكتب عن - مسك الليل
-
بيلانسى
-
مسك الليل أم مسك البداية
-
قصص مسك الليل , طيف رجل , ظل امرأة
-
يا وجعك يا توفيق
-
غريزة الجسد والموت فى قصص أحمد الشريف
-
استعادة الزمن االفردوسي
-
مسك الليل لأحمد الشريف - علاء الديب
-
سرة امرأة
-
و -كأنّه نهار-
-
عزمى عبدالوهاب يحاور الكاتب المصري احمد الشريف
المزيد.....
-
6 أفلام ممتعة لمشاهدة عائلية فى عيد الأضحى
-
فنانة مصرية مشهورة تؤدي مناسك الحج على كرسي متحرك
-
قصة الحملات البريطانية ضد القواسم في الخليج
-
أفراح وأتراح رحلة الحج المصرية بالقرن الـ19 كما دونها الرحال
...
-
بسام كوسا يبوح لـRT بما يحزنه في سوريا اليوم ويرد على من خون
...
-
السعودية تعلن ترجمة خطبة عرفة لـ20 لغة عالمية والوصول لـ621
...
-
ما نصيب الإعلام الأمازيغي من دسترة اللغة الأمازيغية في المغر
...
-
أمسية ثقافية عن العلاّمة حسين علي محفوظ
-
ثبتها الآن.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على نايل سات واستمت
...
-
عروض لأفلام سوفيتية وروسية في بوينس آيرس
المزيد.....
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
المزيد.....
|