|
يا وجعك يا توفيق
أحمد الشريف
الحوار المتمدن-العدد: 4327 - 2014 / 1 / 6 - 00:37
المحور:
الادب والفن
عم توفيق مات أمس . يا وجعك يا توفيق . يقولها سريعا عندما يطلب منه عمل شيء ثم يكررها ببطء بعد انتهاء المهمة <وفى كلتا الحالتين يكون صوته عاليا مرحا . بعد صلاة الفجر جنح بنا القارب فى المنطقة التى يتجنبها الصيادون لكثرة كتل الطين ونباتات الحلفا والبوص . أنغرز بقوة فى الطين ، لا يمكن أن يتحرك إلا إذا ربط بحبل قوى وشد من أعلى الصخرة . كنا ننتظر . تنبه أحدنا إلى قرب بيت عم توفيق من البحيرة . لم يطل انتظارنا ، ظهر من بعيد ، رأى ما نحن فيه خلع هدومه وتوغل فى مياه البحيرة الباردة متجها صوبنا ، طوحنا الحبل له ، فعاد صاعدا الصخرة الكبيرة وشرع فى شد المركب بقوة . " أجمد يا وله يا وجعك يا توفيق " . تكاتفنا مع قوته دفع المركب للخروج من بركة الطين . بعد اطمئنانه على خروجنا ، جلس بهدوء ، " هات سيجارة يا وله " الشيخ عارف آت من الحقول البعيدة ، لمحنا ، ورأى عم توفيق عاريا فى هذا البرد المميت . " والله يا أبن الكلب لو وقعت لتنزف زى النسوان " . يرد عليه بضحكته المجلجلة ، تملأنا بالسرور والحب للناس وللدنيا .. أراه فى الصباح الباكر واقفا كالطود ، فاتحا ذراعيه ، يتمنى احتضان الحقول ومياه الجداول والسماء وكل نبتة وإنسان على وجه الأرض . فى طقسه هذا ، يعطى ظهره للعابرين ، تلك اللحظات من التأمل والغبطة بالطبيعة هى زاده اليومي لاستقبال أيام الدنيا .. هناك أيام سوداء مرت عليه ، وقتها ، كان يرفع بصره للسماء ، فيرى الظلام وقد طغى على الدنيا . حدث هذا عند وفاة زوجته . رايته وهو الرجل القوى الذي لا يكف عن الضحك ومشاكسة طوب الأرض ، يضع رأسه فى حجر أمه العجوز ويبكى بتشنج . يا الله ! هذا الطفل الكبير من انتزع منه حبيبته ؟ - ليه عم توفيق بيبكى يا به ؟ - خالتك غالية ماتت لن أرى هذه المرأة الجميلة مرة أخرى ، كانت تملا جيوبي بكل ما أحبه ، لم أر امرأة فى رقتها وروحها الحلوة ، ابتسامتها السماوية ، لا تقاوم ، كنت ألتصق بها مثل قط صغير . - والله يا غالية أنا بغير عليكى من الواد ده . ترجوه أن يتركني معها قليلا . - مونسنى يا توفيق بدل القعدة لوحدى . هى لم تنجب وهو لم يتجوز عليها . فى تلك الليلة خرج وحيدا متجها ناحية البحيرة ، رمى شبكته بلا مبالاة ، وغرق فى حزنه ثم انحدرت دموعه . " يا وجعك يا توفيق حتى المرة الوحيدة اللي خطفت قلبك ماتت " . طالت جلسته حتى الصباح . رجع للبيت وأفرغ رزقه من السمك فى طشت كبير ، تعجبت العجوز ؛ فهو لم يصطد كل هذا من قبل . فى طريقه ، التقى بعبد الحفيظ جمعه وعبد الحفيظ عندما يتشاجر مع أحد فى فيلكسيا يذهب إليه فى الليل وهو رابط رأسه بقطعة قماش وفى يده نبوت . سأل عم توفيق عن رأيه فى الموتوسيكل المضاد للألغام ، اخترعه ليجنب أهل القرية الدوس فى الجلة . لم يرد . سأله عن رأيه فى سيمافوره الإلكتروني ، محملا إياه مسئولية وضعه مكان سيمافور المحطة القديم . أخيرا فاض كيله واحتد : - يجب أن تبدى رأيك فى إختراعى جهاز مضاد لتلوث بيئة القرية من دخان الكوانين . تنهد عم توفيق وأشار له على رقبته التى أصبحت أرفع مما ينبغي . فى يوم السوق وهو يوم عمله سائقا لجلب نساء القرى المجاورة يعود إليه حبوره ويصيح بنشوة : " يا وجعك يا توفيق " يقولها وهو يطبطب على أرداف النساء ، يستجبن لمداعباته ولو فعلها غيره لأصبح الدم للركب . يوم وداعه الدنيا تعطلت السيارات على الطريق ، أمتنع زملاؤه عن العمل ، قال أحدهم : " الجنازة لم تخرج بعد ، لا من البيت ولا من الشارع ولا من البلد ولا من قلوبنا " وبكى بمرارة . كان يفتح ذراعيه وهو يستقبلني أنا وأبى ونحن نعبر الجسر إلى حقله ، يتلقفني فى حضنه فأشعر بخدر لذيذ وهو يربت على بيديه الخشنتين ، أشم فيهما رائحة الطين مختلطة بمياه الأرض والحشائش الخضراء وبقايا الفاكهة المعطوبة ، يقذف بها فى مياه الترعة فتسير مع التيار حتى بحر الطاحونة . - ابن الكلب ده عشيق مراتى يضحك أبى ويجذب بعض أشواك الأرض العالقة بجوربى . عندما كبرت قلت له مداعبا إن هناك بلدا بعيدا ، يعشق فيه الرجال النساء وتعشق نساؤه الرجال . خطف يدي ووضها على فمى: " أبوس أيدك سلفنى فلوس التذكرة " . فى مرضه الأخير صرخ فى الدكتور : " إيه كل حاجه ممنوع ممنوع ، ممنوع تاكل لحمه ، ممنوع تعمل مجهود ، ممنوع تدخن ، ممنوع تسكر ، ممنوع تسهر ، ممنوع تفكر ، ممنوع تصطاد ، ممنوع تضحك ، نسيت تقول ممنوع تعيش " . قبل وفاته بايام طلب أن يدخلوه الى غرفة قصية فى البت ويتركوه لوحده ، دخلت عليه فوجدته ممسكا بعود قش، يرسم به خطوطا على الأرض وهو يبصق قطع دموية صغيرة من كبده المهترىء . نافذة الغرفة مفتوحة ، يرى عبرها مياه البحيرة . لمحت شيئا أبيض يتحرك ، تصورت أنه حمامة ، لم تكن . مرت بجواره فرفعها بيده ، نورس ! نورس؟ أفلته من يده وألقى له بفتات خبز .. النورس لا يأكل إلا السمك يا عم توفيق .. اعتاد هنا على أكل الخبز .. من أين جئت به ؟ .. شخص رمى به من النافذة ، وربما جاء من نفسه ، منذ متى .. لا أدرى .. كان متضايقا من أسئلتي الغبية وعصبيا بدرجة كبيرة ، فشعرت أنني أسأل وأجيب . - يا عم توفيق اطلع من المكان ده وارجع لسريرك . - اطلع أنت بره . كنت أجرى فى شوارع فيلكسيا ، لأحضر له الدواء من أقرب أجزخانة ، أدرك أن لا جدوى من تجديد العلاج ؛ كان يومه الأخير . انقطع التيار الكهربائي . أبطأت الخطو ، اقتحمتنى رائحة زهور الياسمين ، رائحتها تتكاثف فى الليل ... امتلأ المكان بالناس ، ركعت بجوار سريره ، أخذني فى حضنه وربت على ، حملوني بعيدا . قبل احتضاره تمتم بكلمات خافتة ، " أنا حبيتكم كلكم " . تركت البيت لأقرب مكان أستطيع أن انفجر فيه . كان نورس عم توفيق يطير من النافذة ويحلق على مياه البحيرة واختفى .
#أحمد_الشريف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غريزة الجسد والموت فى قصص أحمد الشريف
-
استعادة الزمن االفردوسي
-
مسك الليل لأحمد الشريف - علاء الديب
-
سرة امرأة
-
و -كأنّه نهار-
-
عزمى عبدالوهاب يحاور الكاتب المصري احمد الشريف
المزيد.....
-
فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي
...
-
سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
-
وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي
...
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق
...
-
رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة
...
-
الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
-
صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
-
بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء
...
-
-كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|