محمد النعاس
الحوار المتمدن-العدد: 4306 - 2013 / 12 / 15 - 20:46
المحور:
الادب والفن
كنتُ ممدداً على الأريكة مُرهقاً بمشاغل الدنيا تدور في عقلي أفكار متناقضة ، يتخلل عيني شبحي السهاد و الكسل في الآن نفسه ، كل ما أستطيع صنعه الآن هو تحريك أصابع قدمي ببطء تام ، الأرض تحتي تلتهمُ الأوراق في عشوائية ، أحدق في السقف الرطِب من فوقي لأكسر الدقائق في اللاشيء ، كان عليْ أن أصنع شيئاً ... أن أنهض صافعاً حالتي بقوة ، هذه الحياة مليئة بالتناقضات ... الرغبة في المقاومة و السيران بروية مع الموجة ، الشهوة و الكبت ، الترفع و السقوط ... كان علي أن أصنع شيئاً ، أن أفرغ مثانتي مثلاً ، أن أغير وضعية جلوسي كأقصى طاقة يمكن أن أصنعها ، لكن لا شيء ... لا شيء يمكنه أن ينتزعني من هذه الأريكة البنفسجية الناعمة .
هذا ما كنتُ أفكر فيه ، و هذا ما كنت أقوله لنفسي عندما لمحتُ إحدى فردتيْ حذائي الجلدي في وضعِ مقلوب تتحداني أن أنهض لتسويتها ، أنا داخلي ألعنُ الجنّي الذي صنع بي ذلك و الذي قلب الحذاء في غفلةٍ منّي ، إذاً علي أن أنهض لتسوية الحذاء لكن جاذبية الأرض لي تضاعفت مئات المرات ، ثم انتابتني رعشة خفيفة ... كم من الملائكة قد تحنق علي و تلعنني مساءً صباحاً ؟ ، لماذا أتحدى الله بهذا الصنيع ... و الذي إن لم يبدو مدعاةً للمروق فهو مدعاة للكسل ، و هل سيسكن الشيطان غرفتي بسبب الحذاء المقلوب ثم يسكن روحي ؟ ، ارتعدت من مجرد التفكير في الأمر ... كان علي أن أنهض ، و لكن قوة تقول لي ، لا تقلب الحذاء .. الحذاء لا يستحق أن تترك من أجله الأرض ، التبول يستحق .. لكن الحذاء لا يستحق .
تحول نظري من السقف الرطِب المتقشر إلى الحذاء الجلدي الأسود ، وجدتني مرتبكاً أكثر من ذي قبل ... القدسية كلها تتحداني أن أدافع عنها ، و صوتُ في داخلي يقول ... فلتدافع القدسية عن نفسها و لتذهب القطة السوداء إلى الجحيم هي و الجن الذي يسكنها ، تأففتُ من هذا الموقف الصعب ، مسحتُ بعضاً من حبيبات العرق التي علقت برأسي ، أحسستُ أنّ شعوراً معيناً يضغطُ على رأسي ، يدقُ مسماراً حاداً فيه .. أنّ عروقي تتجمد ، تنكمش ، تتضخم و تنفجر ، و بدا الحذاء أكثر إنارةً من غيره من الأغراض ، أكثر إنارةً من الأوراق المتساقطة ، من السجادة الفارسية المُزركشة ، من ضوءِ المصباح ، من كتاب الله ، أكثر قدسيةً ... كان يجذبني ، يسخر في وجهي تارةً و يأمرني بالنهوض مرةً أخرى ، و شيء في عقلي يقول لا تفعل ... و ماذا أصنع ؟ . و في لحظة ما صارت الأريكة أيضاً أكثر نعومة و أكثر إراحة و جذباً لجسدي المُنهَمَك .
أقول ، إن كنت في مكاني ستجن ، سيخترق عقلك جمجمتك المفلطحة ، الصغير ، أو حتى الفرعونية المدببة و سيرحل عنك واضعاً إياك في ذهولك ، سترتعد فرائصك طيلة ما تبقى من حياتك ، و لكني كنت رابط الجأش ، أو كما أقول ... كنت كسولاً جداً ، و منهمَكاً جداً حتى أنه لا أستطيع أن أخرج لساني متذوقاً طعم الهواء الرطب ، أقول .. كنت ستجن ، بالتأكيد ، ستجن ... و ستهرع باكياً إلى الحذاء و العرق يتقاطر منك كأمطار كانون ، و ستنخلع دون إرادتك الأزرار الثلاثة العُليا لسترتك و لربما تبولت في سروالك لأنك خالفت الحذاء و قررت أن تعانده ، ستقبل الحذاء ... نعم ستقبله ، بكامل عواطفك ، بكل ما تملك شفتاك من طاقة للتقبيل ... و لكن رجل في موقفي لا ، و لن يصنع ... ثم أن الشيء الذي في رأسي ينهاني ، و الحذاء يزداد إشعاعاً و قدسيةً حتى أنّ كتاب الله يبدو مخبوءا أمامه و لا معنى له ، لكني لا أستطيع ... و صورة الجحيم في رأسي تشتعل ، و تراودني فكرة البكاء التي أقاومها بشدة ... و بدأت ألهث أنفاسي و كأن الغرفة بدأت تستنزف الهواء و تبعده عنها بصورة غريبة ، الطبيعة كلها ضدي ... و كنتُ سأنهض ، و لكن الأوراق تحتي كانت تمثل مساميراً و أشواكاً و ربما أسناناً حادة مستعدة للفتك بقدمي إن تحركتا لنصرة الحذاء .
كنتُ ألعن ، أشتم ، أسبُّ الجني الذي صنع بي ما صنع و هرب ، و لربما شتمتُ نفسي ، و الأريكة التي احتضنتني و جعلتني أقاوم الواجب المفترض علي صنعه بإعادة الحذاء إلى وضعه الطبيعي ، كان الحذاء يزداد تعالياً ، و كأنه يمدُ بنفسه في وجه السماء متحدياً إياها فعجبت لشيء يطأ الوحل و العطن كل هذه الجرأة على السماء ، كنت أتمتم في نفسي أن هذا الحذاء قد جُنّ و أني نفسي سوف أجن إذا لم أضع لهذا الأمر حداً يوقف توتري ... و شعور بالتبول يقرص مثانتي ، و لكن الأريكة ازدادت دفئاً ، و كان علي الآن أن ألب لنصرة مثانتي و الحذاء بطريقة غير مباشرة كأن أتعثر به بطريقة تجعله يرجع لوضعيته الطبيعية و لكن لازال ذلك الصوت يقول لا تنهض ، بل لقد غير توجهه العقائدي و بدل أفكاره عندما قال لي ، حتى التبول لا يستحق أن تترك الأريكة لأجله ، لا تصنع شيئاً ... إما أن تكون ملك نفسك و تصنع بها ما تشاء دون أي ضغط خارجي أو لا تكون ، و حياة الكسل بإرادتك .. خير من حياة العمل بإرادة غيرك ، قلت في نفسي ... هذا كفر ، هذا إلحاد ، هذا جنون يجب أن أخرج من هذا المأزق بأي طريقة ، و لكن الصوت أدركني قائلاً ... هذه حرية ، و الحذاء يوحي بإشعاعه قائلاً ... أنا قدسية ، و أنا إنسان ... لدي عقل ، أريد أن أحتفظ به ... ماذا أصنع ؟ .
الآن ظهر طرف ثالث في القضية ، شفرة حلاقة تلمع بجيبي كنتُ سأزيح بها الشعر على وجهي ما أن أنهض ، و بدت لي الشفرة الحل المثالي للمشكلة ، و ليقول الناس من بعدي قد جبُنت أو غادرت القضية دون أحدِ الحليّن المثاليين ، و للوهلة الأولى تجسد ملك الموت على شكلِ الشفرة رحيماً رؤوفاً عطوفاً ... و خلقتُ حلاً أخر لي ، و كان من المستلزم أن أبحث عن مخرج دون أن أخدش القدسية التي لفت الحذاء أو أن أفرط براحتي من أجل أن أقلبه ، و للوهلة الثانية أصبحت أضحيّة ، قربان سيصبح طقساً دينياً من بعدي يقدم للأحذية حتى تعتق الناس من مسئولية قلبها ، و لكن للوهلة الثالثة صار الأمر صعباً ... فبعد الفرج ، قُفل الباب في وجهي من جديد ، استحضرتُ وجه والدتي و هي تنهرني من أن أدع فردة الحذاء المقلوبة كما هي مرفقةً ذلك بحكايات عن لعنة الجن و غضب الله الذي يعتبر ذلك إهانةً له ... هكذا قالت ، و هكذا فهمت .. كنتُ أحياناً أجاري أوامر أمي بأن أترك الحذاء فتقرصني على خدّي مؤنبةً إياي ، تمردت ... و كانت أفضل طريقة لتمردي أن أخترع حلاً أوسط و هو أن لا أرتدي الحذاء البتة ، و أصبحت أمشي في الشارع حافياً ... لكنّ أبي غرق في غضبه ، و أنبّني من قدميْ ضرباً مبرحاً ... و صار قرص أمّي دغدغةً أمام ما صنعه بي ... و لكن الآن ، الآن ... أمي ليست هنا ، أبي ليس هنا ... و لا يوجد إلا أنا و الحذاء و الأريكة المُريحة و شفرة الحلاقة ... و ليكن ما يكون ... سألطخ الحذاء و الأريكة بدمي ساخراً ! .
#محمد_النعاس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟