أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - منبع الأخلاق: هل نستمدّ أخلاقنا من عند الله؟















المزيد.....



منبع الأخلاق: هل نستمدّ أخلاقنا من عند الله؟


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 4274 - 2013 / 11 / 13 - 20:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


منبع الأخلاق
هل نستمدّ أخلاقنا من عند الله؟
العلم يقول: كلا...
البروفسور فيكتور ستينغر
ترجمة إبراهيم جركس
●-;- ما الحق؟
لطالما زعمت جميع أديان العالم، وبشكل خاص الديانة المسيحية، بأنّها الحَكَم الأقصى للسلوك الإنساني. وكثيراً ما تصرّ على أنّها تمتلك الحق لوضع الحدود بين الخير والشر، الخطأ والصواب، الجيّد والسيئ لأنّها خطّاً مباشراً يصلها إلى المكان الذي يتحدّد فيه الخير والشر: عقل الله.
وحتى المجتمعات العَلمانية تساهم في تعزيز هذا الزعم. فكلّما واجهتهم مسألة أخلاقية في السياسة، كموضوع الخلايا الجذعية أو الموت الرحيم، فإنّهم يستدعون رجال الدين لتقديم مشوراتهم وحكمتهم. من جهةٍ أخرى، نادراً ما يتمّ أخذ رأي الملحدين، المفكّرين الأحرار، والإنسانيين وكثيراً ما يتمّ إقصائهم.
إنّ خضوع أي مجتمع للدين في المسائل الأخلاقية يقوم على أساس الافتراض الشائع أنّ هناك مصدراً إلهياً مطلقاً للخير موجود في مكان ما. طبعاً كل هذا يعتمد على تعريف مفهوم الخير. إلا أنّ هناك إشكالية منطقية في ربط الخير بالأمر الإلهي. في محاورة "أوطيفرون" لأفلاطون، يلتقي سقراط بالشاب أوطيفرون يستعرض عليه معضلة. إذ يتمّ استدعاؤه لمحاكمة والده بجريمة القتل غير المتعمّد ويُطْلَبُ منه أن يقرّر بين ضميره ودعم والده أو كحاكمته وإعدامه بأمر من الآلهة.
يختار أوطيفرون محاكمة والده، بحجّة أنّه ينبغي عليه اتباع أوامر الآلهة. بأيّة حال، يخبره سقراط أنّه من الخطأ طاعة الآلهة إذا كنت تظنّ أنّ هناك خيراً أو مصلحةً أسمى.
والمؤمن يواجه معضلة مماثلة. هل يريدنا الله أن نقوم بأعمال معيّنة لأنّها صالحة وخيّرة بذاتها أو أنّها صالحة وخيّرة لأنّ الله يريد ذلك؟
لنفترض أنّ الله ظهر أمامك وطلب منك قتل ولدك، كما في قصّة إبراهيم في التوراة. هل ستطيع الله، كما فعل إبراهيم، أم أنّك ستبحث عن مصلحة أسمى بالغريزة؟
سيقول المؤمن أنّ الله لن يطلب منك شيئاً ليس ما لم يكن خيراً بالمطلق. لكنه بذلك يعترف صراحةً أنّ الله لا يحدّد ماهية الخير، وأنّ الخير موجود بشكل مستقل عن الله. فإذا كان الله وحده هو من يحدّد ما الخير وما هو الصالح، عندها بإمكانه أن يقرّر بأنّ قتل الابن هو عمل صالح.
إنّ إله العهد القديم غالباً ما يطالب بارتكاب مثل هذه الفظاعات باسمه. دعونا نلقي نظرة على بعض الأمثلة التي نادراً ما يتمّ التطرّق إليها في أيّام الآحاد.
بعد أن تمّكن جيش موسى من أسر الكثير من الأسرى في إحدى المعارك، نراه يخبر جنده الذين قاموا بقتل وذبح كل ذكر بالغ باسم الرب: ((فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا. 18لكِنْ جَمِيعُ الأَطْفَالِ مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَمْ يَعْرِفْنَ مُضَاجَعَةَ ذَكَرٍ أَبْقُوهُنَّ لَكُمْ حَيَّاتٍ)) [العدد 31: 17-18]
في مكانٍ آخر يأمر موسى بقتل ثلاثة آلاف رجل ضرباً بالسيف بأمرٍ من الله: ((27فَقَالَ لَهُمْ [موسى]: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ، وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ».)) [خروج 32: 27]
أعلم أنّ أغلب المسيحيين سيبرّرون هذه الحوادث ويقولون عنها أنّها مفارقة تاريخية حَدَثَت في وقتها وقد أُلْغِيَت مع مجيء المسيح. إلا أنّ المسيح في العهد الجديد يعيد تأكيد شريعة الأنبياء السابقين وترسيخها:
((لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ)) [متّى 5: 17]
كثيراً ما نرى المسيحيين وهم يتفاخرون بقيمهم "العائلية" ورغبتهم بنشر السلام والمحبّة في العالم. لا أشكّ بأنّ أغلبهم مخلصون لعائلاتهم وأنّهم أعضاء فاعلون في المجتمع. لكنّهم ينسون أو يتناسون قول يسوع:
((لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. 35فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. 36وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. 37مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي)) [متّى 10: 34_37]
من أين جاءت فكرة أنّ يسوع كان "أمير السلام"؟
إنّ تاريخ المسيحية مرتبط بالعنف الذي مارسته الكنيسة والذّي أقرّته بأنّه أمر إلهي و"خير". هذا الأمر الإلهي غير مقتصر على الكتاب المقدّس لكنّه متوفّر باستمرار لطبقة الكُهّان بشكل خاص. البابا أوربان الثاني (توفي سنة 1099) كان قد طمأن الملوك القروسطيين الصليبيين بأنّ قتل الكفّار والهراطقة لم يكن خطيئة. وهذا لم ينطبق فقط على المسلمين في الأرض المقدّسة. لقد تمّ قمع الديانة الكاثارية جنوبي فرنسا _التي كانت قائمة على أساس فكرة الآلهة الثنائية التي ظهرت باكراً في الديانتين الزرادشتية والمانوية [1]_ بوحشية في الحملة الصليبية ضدّها خلال القرن الثالث عشر. وعندما سقطت مدينة الكاثاريين المحاصرة "بيزييه" عام 1209، يقال أنّ الجنود قد سألوا مستشارهم البابوي حول كيفية تمييز المؤمنين عن الكافرين من بين الأسرى. فأشار عليهم: ((اقتلوهم جميعاً. فالله يعرفهم)). وبذلك تمّ قتل حوالي ألفي شخص _العديد منهم تمّ أولاً فقء عينيهم، جدع أنوفهم وبتر أطرافهم، وجرّهم خلف الأحصنة، أو التصويب عليهم بالسهام [2].
إذا كان حلّنا لمعضلة أوطيفرون يتمثّل في تحديد كل ما يقول الله أنّه "خير" كخير، حيث أنّ كلمة الله محدّدة كما جاءت في الكتب المقدّسة، عندئذٍ سيكون الجنود اليهود والمسيحيون مُلْزَمون أخلاقياً بقتل كل مدني أو جندي عدو _باستثناء الفتيات العذراوات، فهم لديهم التزام أخلاقي آخر يتمثّل في اغتصابهنّ والتمتّع بِهِن.
إذا كان المطلوب منهم أن يأخذوا الكتاب المقدّس على محمل الجدّ وبشكل حرفي كمرشد أخلاقي لهم، عندئذٍ سيكون لليهود والمسيحيين التزامات أخلاقية أخرى. على سبيل المثال، إنّهم ملزمون بقتل أي فرد من العائلة يحاول حرفهم عن ديانتهم ودفعهم لتغييرها إلى دين آخر:
((«وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرًّا أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ، أَوْ صَاحِبُكَ الَّذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلاً: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلاَ آبَاؤُكَ 7مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَكَ، الْقَرِيبِينَ مِنْكَ أَوِ الْبَعِيدِينَ عَنْكَ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا، 8فَلاَ تَرْضَ مِنْهُ وَلاَ تَسْمَعْ لَهُ وَلاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَرِقَّ لَهُ وَلاَ تَسْتُرْهُ، 9بَلْ قَتْلاً تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَلَيْهِ أَوَّلاً لِقَتْلِهِ، ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيرًا. 10تَرْجُمُهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ، لأَنَّهُ الْتَمَسَ أَنْ يُطَوِّحَكَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. 11فَيَسْمَعُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَيَخَافُونَ، وَلاَ يَعُودُونَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ الشِّرِّيرِ فِي وَسَطِكَ.)) [التثنية 13: 6-11]
كما أنّهم ملزمون أخلاقياً يقتل أي شخص يعمل في يوم السبت:
((وَأَمَّا الْيَوْمُ الْسَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتُ عُطْلَةٍ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ. كُلُّ مَنْ صَنَعَ عَمَلاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ يُقْتَلُ قَتْلاً)) [خروج 31: 15]
تصوّروا الخراب والدمار اللذان سيحلاّن بالعالم إذا سيطر مسيحيو أمريكا على ما كل ما لديهم من ترسانة أسلحة نصف أوتوماتيكية ليقتلوا بها كل من سوّلت له نفسه بالعمل يوم الأحد.
يقترح بعض رجال الدين أنّ الرب لديه أساليب وأسباب غامضة ليصدر مثل هذه الأوامر الفظيعة لا نستطيع فهمها واستيعابها نحن البشر العاديون. هل هذا يعني أن ننفّذ هذه الأوامر بغضّ النظر عمّا يمليه علينا ضميرنا؟ حتى وإن ظهر الله أمامي وهدّدني بعذابه الأبدي إذا لم أقتل إبني، فلن أقدم على ذلك. وأتصوّر أنّ باقي الآباء والأمّهات سيفعلون نفس الشيء.
من الواضح أنّ بعض اليهود والمسيحيين المعاصرين يأخذون هذه المقاطع الكتابية على محمل الجدّ وبالمعنى الحرفي. لكن هذا من شأنه جعلهم معلّقين بين قرنيّ معضلة أوطيفرون. فإذا لم يكن الله هو من يحدّد ما هو الخير والصواب، فمن يفعل إذن؟
طبعاً القرآن كتاب دموي مثله كمثل العهد القديم. ويمكن قراءة الكثير من الآيات والإشارات للأهوال الفظيعة التي تنتظر الكفّار والمشركين. بطبيعة الحال، الله نفسه هو من ينفّذ تلك العقوبة بيديه:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء 4: 56]
أمّا أولئك الذين يحاربون الإسلام فيجب معاملتهم بقسوة وغلظة، لكن يمكن استتابتهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة 5: 33-34]
طبعاً، كل دين يوجد فيه عدّة متطرّفين يتّبعون حرفياً ما يعتبرونه أنّه أمر الله ومشيئته:
_ يغال أمير، الذي اغتال رئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق رابين عام 1995، كان يهودياً متطرّفاً، وقد قال معلناً في المحكمة قائلاً: ((كل ما فعلته، فعلته في سبيل الله)) [3]
_ بول هيل، الذي قتل الطبيب جون بريتون في فلوريدا عام 1994 لأنّه يمارس الإجهاض، وقد صرّح قبل إعدامه عام 2003 قائلاً: ((يشرّفني جداً أنّهم سيقتلونني بفضل ما قمت به. بصراحة، أنا متأكّد تماماً بأني سأنال مكافأة عظيمة في السماء لطاعتي لأمر الله)) [4]
_ في 23شباط/فبراير عام 1998، أعلن أسامة بن لادن: ((نحن _بمشيئة الله_ ندعو كلّ مسلم يؤمن بالله وينتظر مكافأة في الآخرة أن يطيع أمر الله بقتل الأمريكان وسلب أموالهم حيثما ثقفهم)) [5]
لكن، ولحسن الحظ، إنّهم يشكّلون الاستثناء، وليس القاعدة. علاوةً على ذلك، سيكون من الصعب أن نطلب من هؤلاء المتطرّفين إشارات من كتبهم المقدّسة وجدوا فيها أوامر إلهية يأمرهم فيها الله لارتكاب أعمالهم الوحشية.
كيف إذن بإمكان المؤمن تقرير ما الصواب والخطأ؟ فنادراً ما نجد أحدهم يمضي بعيداً جداً بادّعائه بأنّه يسمع صوت الله ويأخذ أوامره منه مباشرةً. بالإضافة إلى أنّهم يعتمدون على رجالات دياناتهم: حاخامات، كهنة، قساوسة، وأئمّة ليحدّدوا لهم أين الصواب وأين الخطأ. في أغلب الحالات، يقيم هؤلاء المستشارون أحكامهم بالرجوع إلى كتبهم المقدّسة وتعاليم مؤسّسي دياناتهم وزعمائهم الدينيين. لكنّ هؤلاء المؤسّسين والزعماء أيضاً يختارون ويحكمون بناءً على شيء معيّن _مصالحهم ومشاعرهم الداخلية الخاصّة. وكما سنرى لاحقاً، ليس لديهم أي سبب منطقي مقنع للقول بأنّ تلك المشاعر والأحاسيس الداخلية الخاصّة من لُدُن الله.

●-;- مُثُل نبيلة
طبعاً إنّ الكتب المقدّسة الثلاث _اليهودية، المسيحية، والإسلامية_ تحتوي العديد من المقاطع والآيات التي تعلّمنا مُثُلاً وتعاليم نبيلة تبنّاها البشر واتّخذوها أنماطاً ومعايير أخلاقية للسلوك، وكانت مناسبة لتسجيلها على شكل شرائع وقوانين. لكن ومن دون استثناء، تطوّرت هذه المبادئ بشكل مستقلّ عند ثقافات أخرى ويشير التاريخ إلى أنّها جرى اكتسابها بشكل طبيعي بدلاً من تعلّمها عن طريق دين. صحيح أنّ الديانات تبشّر بوصايا وتعاليم أخلاقية. كل ما في الأمر أنّها لا تمتلك أي أساس لزعمها بتأليف هذه الوصايا وابتكارها.
على الأرجح أنّ المبدأ الأخلاقي الأساسي الذي يمكن العيش وفقه حياةً أخلاقية هو "القاعدة الذهبية":
عامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك.
في مجتمعنا الغربي ذو الأغلبية المسيحية، أغلب الناس يفترضون أنّ هذا المبدأ كان من أحد التعاليم الأساسية التي بشّر بها يسوع في موعظة الجبل. ولسبب ما، فإنّ مبشّريهم _العارفين أفضل من غيرهم_ قد عملوا جاهدين على تخليدهم هذا الزور. في الحقيقة، يسوع نفسه لم يزعم لنفسه ذلك. هذا ما قاله بالضبط، حسب الإنجيل: ((12فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ)) [متّى 7: 12]
طبعاً إنّ عبارة ((بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَمَا تُحِبُّ نَفْسِكَ)) التي ترد في سفر اللاويين 19: 18 كانت معروفة بألف عام أو أكثر قبل المسيح.
علاوةٌ على ذلك، إنّ القاعدة الذهبية ليست ملكية حصرية مقتصرة على قبيلة صحراوية صغيرة ذات اعتداد عال بالنفس. هنا نورد بعض المراجع الأخرى التي ذكرت القاعدة الذهبية:
_ يقول كونفوشيوس في "مذهب اللئيم 13" الذي كُتِبَ حوالي عام 500 ق.م ((لا تعامل الآخرين كما تكره أن يعاملوك))
_ يقول إيسوقراط (375 ق.م): ((لا تفعل للآخرين ما سيغضبك إذا هم فعلوه لك))
_ جاء في المهابهارتا الهندوسي الذي كُتِبَ حوالي عام 150 ق.م: ((هذه خلاصة طريق الحق: عامل الآخرين كا تريد أن يعاملوك)) [6]
يحثّ يسوع أتباعه في موعظته على الجبل: ((لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا)) [متّى 5: 39]
وأيضاً: ((سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ)) [متّى 5: 34-44]
مرةً أخرى، تعتبر هذه التعاليم بشكلٍ عام على أنّها تعاليم مسيحية أصيلة. لكن هناك تعالين مماثلة موجودة في مكان آخر[7]:
_أعامل أولئك الجيّدين بشكلٍ جيد. وأعامل السيئين بشكلٍ جيد. وبهذا يتمّ تحقيق الخير. أنا صادق مع أولئك الصادقين. كما أنّي صادقٌ مع غير الصادقين. ولهذا تتحقّق النزاهة. [التاو، تاو تي تشينغ، 49]
_ تغلّب على الغاضب بالحب. تغلّب على الشرير بالخير. تغلّب على البخيل بالعطاء. تغلّب على الكذّاب بالصدق والحقيقة. [البوذية، دامّابادا 223]
_ الكائن السامي لا يردّ الشر بالشر، وهذا مبدأ علينا ملاحظته، فزينة العقلاء الأتقياء هي سلوكهم. لا يجب أن يؤذي الإنسان الشرير أو الصالح أو حتى المجرمين الذين يستحقّون الموت. الروح النبيلة ستتعامل بلطف وشفقة حتى مع أولئك الذين يجدون متعة في جرح الآخرين أو أصحاب الأفعال الغليظة والوحشية عندما يرتكبونها بالفعل _فمن ذاك الذي لا يخطئ؟. [الهندوسية، رامايانا، يودا كاندا 115]
لا يوجد مفهوم أخلاقي معتبر واحد أصيل في العهد الجديد. في بداية القرن العشرين كتب الكاهن والمؤرّخ جوزيف مكّابي قائلاً:
((التعاليم المنسوبة للمسيح هي... موجودة أصلاً في العهد القديم... كما أنّها كانت مألوفة ضمن المدارس اليهودية، ولجميع أولئك الفريسيين، قبل المسيح بزمنٍ طويل، كما أنّها كانت معروفة في جميع الحضارات: البابلية، المصرية، والفارسية، الإغريقية، والهندوسية)) [8]
وكما هو حال الكتاب المقدّس، فالقرآن يحتوي الكثير من التعاليم التي سيصنّفها أغلبنا على أنّها حميدة. إنّها تقول للمسلمين أن يعاملوا أهلهم بشكل حسن، وألا يسرقوا مال الأيتام، أن يحذروا الربا، أن يساعدوا المحتاجين، وألا يقتلوا أولادهم إلا إذا كانت في ذلك ضرورة.
لكنّ هذه التعاليم ليست مبادئ أخلاقية أصيلة. إذ أنّنا نجد في الكتابات والتعاليم الأخرى للديانات التوحيدية الكبرى تكرار للمُثُل الشائعة التي ظهرت أثناء عملية التطور التدريجية للمجتمعات البشرية، كلّما أصبحت أكثر تحضّراً، وطوّرت عمليات تفكير عقلانية، واكتشفت كيف تعيش مع بعضها البعض بتناغم أكبر. يشير الدليل إلى مصدر آخر غير الوحي الإلهي المزعوم في هذه الكتب المقدّسة.

●-;- رصد السلوك الأخلاقي
نادراً ما يتمّ إعمال المنظور العلمي ضمن نقاشات حول الأخلاق. بأيّة حال، إنّ سلوك الإنسان في السياقين الشخصي والاجتماعي يشكّل ظاهرة قابلة للرصد والملاحظة. هذه الملاحظات يمكن استخدامها كبيانات تجريبية ضمن دراسة علمية للقيم والمبادئ الأخلاقية. دعونا نلقي نظرة على بعض الحقائق حول السلوك الإنساني الذي بإمكاننا جميعاً ملاحظته بالنظر حولنا ببساطة.
غالبية الكائنات البشرية تتصرّف بأخلاقية أكثر أو أقل من خلال مجموعة من المعايير المقبولة بشكل عام. في حين أنّنا نعيش في مجتمع القانون، إلا أنّ أغلب ما نقوم به غير محدّد بقانون بل يؤدّى بشكل طوعي. على سبيل المثال، لدينا الكثير من الفرص للغشّ والسرقة في مواقف تكون فيها نسبة إمكانية الإمساك بنا شبه معدومة، إلا أنّ أغلبنا لا يفعل ذلك. في حين أنّ القاعدة الذهبية لا تطاع بشكل حرفي، لكننا لا نسعى لإلحاق الأذى بالآخرين بشكلٍ عام. طبعاً غالباً ما نكون متعاطفين عندما نرى شخصاً أو حيواناً يمرّ بمحنة وسرعان ما نبذل جهدنا لمساعدته. نحن نتوقّف في حالات وقوع حوادث السيارات ونهبّ للمساعدة. نحن نتّصل بالشرطة عندما نشاهد جريمة. نحن نهتمّ بأولادنا، أهالينا العجزة، وغيرنا من الأشخاص الأقل حظاً منا. نحن نقوم بأعمال فيها الكثير من الخطر والمجازفة بشكل طوعي، كما في حالة الخدمة العسكرية والمدنية، وذلك لحماية المجتمع.
في حين أنّ غالبية الناس سينسبون سلوكهم الأخلاقي لتعاليم أديانهم، إلا أنّه لا يوجد دليل واحد يشير إلى أنّ الأشخاص الذين لا يتبعون أو يعتنقون أي دين يتصرّفون بشكل مختلف. بل يبدو أنّهم يطبّقون نفس المجموعة من المبادئ الأخلاقية.
طبعاً إنّ هذه المجموعة الشائعة من المبادئ الأخلاقية ليست مساوية لكامل المجموعة من المبادئ. فليس هناك اتفاق بين الجميع على كل مسألة أخلاقية. هذه الاختلافات يمكن لمحها حتى ضمن مجتمعات دينية محدّدة، حيث يتمّ الرجوع إلى الكتابات المقدّسة لتبرير أعمالاً متناقضة.
مثال على ذلك، التأويلات المتناقضة والمتعارضة للوصايا ضدّ القتل التي نجدها ضمن المجتمع المسيحي. فالكاثوليك والبروتستانت المحافظين يؤوّلون هذه الوصايا بمنع الإجهاض، الموت الرحيم، وأبحاث الخلايا الجذعية من بين أعمال كثيرة أخرى. بأيّة حال، هناك العديد من الأشخاص ضمن هذه الجماعات من المؤمنين لا يرون تحريماً للعقوبة القصوى، بل إنّهم يشيرون إلى المبدأ التوراتي "العين بالعين". المسيحيون الليبراليون، من جهةٍ أخرى، قد يؤوّلون هذه الوصايا كتحريم للعقوبة القصوى، في حين أنّهم لا يرون مانعاً لإجراء عمليات الإجهاض، الموت الرحيم، وأبحاث الخلايا الجذعية.
يقول الفيلسوف تيودور شايك، كلا معسكريّ الخلاف حول مسألة الإجهاض يريان أّنّ القتل عمل غير أخلاقي. أمّا ما يختلفان حوله فهو في طبيعة الجنين _حول ما إذا كان الجنين من نوع الكيانات التي يمكن قتلها. بمعنى آخر، غالبية الخلافات الأخلاقية ليست حول ما هو الخطأ وما الصواب، بل حول جانب آخر من الواقع [9].
الكتاب المقدّس لا يوضّح لنا بالضبط ما يمكن قتله وما لا يمكن قتله. إنّه لا يحرّم ولا يحلّل قتل الجنين أو الخلايا الجذعية. لكنّه يحلّل قتل الأعداء بالتأكيد، أولئك الذين لا يؤمنون بيهوه.

●-;- المجتمع الصالح
طوال قرون عديدة، كان الأوروبيون (كغيرهم من الشعوب الأخرى) محكومين من قبل حكّام مستبدّين وطغاة عاشوا حياةً رغيدة في حين أنّ السواد الأعظم من الشعب كان يرزح تحت فقرٍ مدقع وتحت رحمة رغبات الحاكم ونزواته في كافة مجالات حياتهم. بغضّ النظر عن قسوته أو وحشيته أو عدم كفاءته، كان الحاكم يزعم لنفسه حقاً إلهياً مقتصراً على الملوك وحدهم. فما السبب وراء اعتلائه للعرش لولا أنّ الله لا يريده أن يكون هناك؟ بنفس الشكل، ولقرون طويلة كان الإسلام مشهوراً بالحكّام الطغاة ذوي السلطات المطلقة.
للإسلام والمسيحية تاريخ طويل من الطغيان والاستبداد ولم يظهرا ميلاً كبيراً نحو الحريات الشخصية العدالة. وقد تضاءل تأثيرهما بعد التنوير وحلول سلطة العقل.
إحدى الأساطير الشائعة في أمريكا المعاصرة هي أنّ الأمّة الأمريكية قد جرى تأسيسها على "المبادئ المسيحية". والحال أنّنا لا نجد ولا أيّة إشارة إلى الله في الدستور الأمريكي. وكلمة "الخالق" في إعلان الاستقلال ليست إشارة إلى الإله المسيحي بل الإله الربوبي للتنوير وتوماس جيفرسون. غالبية الرؤساء الأوائل لم يكونوا مسيحيين مخلصين أو حقيقيين وكانوا يقيمون التزاماتهم في الحرية، الديمقراطية، والعدالة على أساس فلسفة التنوير، وليس المصادر الكتابية.
لا يوجد في الكتاب المقدّس أيّة مبادئ تمّت إقامة أنظمة ديمقراطية وعدلية حديثة على أساسها. والرق خير مثال على ذلك. فالكتاب المقدّس لا يغفر الرق والعبودية ويتسمح معها فحسب، بل إنه يشجّع عليها:
((إِذَا اشْتَرَيْتَ عَبْدًا عِبْرَانِيًّا، فَسِتَّ سِنِينَ يَخْدِمُ، وَفِي السَّابِعَةِ يَخْرُجُ حُرًّا مَجَّانًا)) [خروج 21: 2]
((إِنْ أَعْطَاهُ سَيِّدُهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ، فَالْمَرْأَةُ وَأَوْلاَدُهَا يَكُونُونَ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ يَخْرُجُ وَحْدَهُ)) [خروج 21: 4]
توفّرت ليسوع فرص كثيرة للتبرّؤ من العبودية وإنكارها، لكنّه لم يفعل ذلك. ويؤكّد القدّيس بولس ذلك:
((وَالْعَبِيدَ أَنْ يَخْضَعُوا لِسَادَتِهِمْ، وَيُرْضُوهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ مُنَاقِضِينَ)) [تيطس 2: 9]
خلال القرن التاسع عشر، كان يتمّ اللجوء للكتاب المقدّس بشكل واسع لتبرير الرّقّ في الولايات المتحدة. ريتشارد فورمان (توفي سنة 1825) _زعيم معمداني ومالك عبيد_ وضع أسس الحجج الكتابية التي تدعم العبودية والرق وتبرّرهما حتى الحرب الأهلية. وعندما كان يشغل منصب رئيس المؤتمر المعمداني الحكومي، كتب فورمان خطاباً وجّهه إلى حاكم ولاية جنوب كاليفورنيا يقول فيها: ((إنّ الحقّ بامتلاك العبيد موجود في الكتاب المقدّس بالنصيحة والمثال)) [10] جامعة غرينفيل بجنوبي كاليفورنيا تأسّست عام 1826 وسُمّيت تيمّناً به، ويمكن رؤية كتاباته ضمن أرشيفها.
يقول جيفرسون ديفيز، رئيس الائتلاف، زاعماً أنّه يلتزم بما جاء في الكتاب المقدّس: (([الرّقّ] قائم على شريعة الرب... وهو محلّل في الكتاب المقدّس، بكلا العهدين، من التكوين إلى الرؤيا)) [11]
كان بابوات الكنيسة الكاثوليكية وكرادلتها يملكون عبيداً حتى نهاية عام 1800. وكان اليسوعيون في مستعمرة ماريلاند والراهبات في أوروبا وأمريكا اللاتينية يملكون عبيداً أيضاً. الكنيسة لم تستنكر الرّقّ والعبودية حتى عام 1888، بعد أن أبطلت جميع أرجاء الأمة المسيحية هذه العادة[12]. يشير الباحث الكاثوليكي المشهور جون نونان الابن أنّ الكنيسة قد أنكرت تقليدياً أنّها قد حرّفت أو غيّرت أياً من تعاليم يسوع والرسل [13]. يستعرض لنا الباحث وبإسهاب من خلال مثال العبودية وغيرها من الأمثلة الأخرى كيف أنّ تعاليم الكنيسة قد تغيّرت مع الزمن.
والآن، سيقول المؤمنون أنّ الحملة لإلغاء العبودية في الولايات المتحدة وكل مكان كان يقودها مسيحيون، لكن من الواضح أنّ هؤلاء المناصرين لإلغاء العبودية لم يكونوا يسترشدون بكلام الكتاب المقدّس حرفياً بل بتأويلهم الخاص له وإحساسهم الداخلي بالصالح العام والخير الأسمى _وهذا دليل إضافي على أنّ القيم لم تأت من عند الله.
أخيراً دعونا نذكر وباختصار الاضطهاد التاريخي للمرأة وقمعها. يقول الرسول بولس: ((أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ)) [أفسس 5: 22-23]
لقد بدأت المجتمعات الغربية أخيراً بإدراك اللامعقولية والإجحاف في معاملة المرأة على أنّها كائن أدنى مرتبة، وهذا يقدّم دليلاً واضحاً آخر على كيفية تطوّر الشعور بالصواب والخطأ لدى الأمم باستقلال عن التعاليم الدينية.

●-;- مصدر داخلي
غالبية اللاهوتيين سيعترفون علانية أنّه لا يمكن أخذ أي تصريح في الكتاب المقدّس أو القرآن على محمل الجدّ أو بمعناه الحرفي، حيث أنّ هناك العديد من المقاطع والآيات المجازية. إنّهم يصرّون على أنّ هناك الكثير من التعاليم الإيجابية والصالحة ضمن هذه الكتب المقدّسة، وأنا أوافقهم الرأي. وأقرّ هنا بأني قمت باختيار بعض الآيات السلبية والشريرة. لكنّني لم أختلق شيئاً من عنديّاتي. إنّها _وغيرها من الآيات التي تصبّ في نفس الإناء_ موجودة بالأبيض والأسود لتقرأها بنفسك. وقد حاولت اختيار بعض الإشارات الواضحة التي تشير إلى وجود حالة عدم التزام عالمية واسعة بما يفترض أنّه كلام الله نفسه، حتى بين أتقى الناس وأكثرهم إيماناً وتديّناً.
طبعاً بإمكان المؤمنين الخروج بمختلف التفاسير لأي شيء في الكتاب المقدّس والتي تناقض وجهة نظرهم الخاصّة حول ماهية الإله الرحيم. إنّهم يرسمون يسوع المسيح على صورتهم الخاصّة.
في كلّ مرّة يقوم فيها رجل دين بإعادة تفسير أو تأويل كلام موسى، أو عيسى، أو محمد، فإنّه يعيد تعزيز الفكرة التي أناقشها هنا: نحن البشر نحدّد ما الخير حسب معايير موجودة خارج الكتب المقدّسة.
لا جدال أنّ الغالبية الساحقة من اليهود، المسيحيين، المسلمين، وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى لا يتبعون بشكل حرفي كل ما ورد في كتبهم المقدّسة، بل إنّما يقرّرون بأنفسهم ما الصالح وما الطّالح، وحسب معاييرهم الخاصة. بات من الصعب رؤية أي يهود أو مسيحيين، باستثناء الكثير من المسلمين، وهم يرتكبون أعمال عنف اليوم في سبيل المقدّس وباسم الله. وباستثناء بعض المتطرّفين طبعاً، فإنّ أغلب رجالات الدين في يومنا هذا لا يشجّعون أتباعهم على ارتكاب مثل هذه الأعمال. بأيّة حال، مع أنّهم قد يعترضون على كلامي هذا، فأنا أرى أنّ رجال الدين هؤلاء وأتباعهم يعتمدون على حسّهم الأخلاقي الداخلي الخاص بالصواب والذي يتعالى ويتجاوز التعاليم الحرفية لكتبهم المقدّسة. وكحقيقة تجريبية عامّة، فنحن نلاحظ أنّ هناك عدد ضئيل من المؤمنين في أيّ دين يشعرون أنّهم مُلزَمون بإطاعة تعاليم كتبهم المقدّسة بشكل حرفي. لكنّ المجتمع كفيل بكبح ومعاقبة كل من تسوّل نفسه القيام بذلك.
الغالبية العظمى من المؤمنين يقرّرون لأنفسهم ما الأخلاقي من غير الأخلاقي. وعندما يقوم ملحد أو إنساني بنفس الشيء، فإنّهم يتّهمونه بـ"النسبية الأخلاقية" أو "بالنزعة الذاتية" حيث كل شيء "مقبول". إلا أنّه ليس جميع المتطرّفين لكن أغلبهم، هؤلاء الذين ينبغي سجنهم وإبعادهم عن المجتمع، يسترشدون بما يملي عليهم ضميرهم الخاص_ تماماً كما يفعل غير المؤمنون.
"النسبية الأخلاقية" تعني تقرير ما الصواب وما الخطأ حسب كل موقف وظرف على حدة. والحال أنّ أغلب الملحدين لا يغيّرون فكرتهم عن الخير والشر حسب رغباتهم ومزاجهم _كما يفعل أغلب المؤمنين. تعني "النزعة الذاتية" إلى أنّ كل فرد يتبنّى مجموعة مختلفة من الأخلاق والمبادئ الأخلاقية. لا يمكننا تصنيف لا المؤمنين ولا الملحدين على أنّهم ذوي نزعة ذاتية. فالفكرة الأساسية وراء الخير والشر التي نملكها جميعنا عالمية ومشتركة أغلبها.
يكتب عالم الإناسة البروفسور سولومون آش أنّ: ((الدليل الأنثروبولوجي لا يدلّ على النزعة الذاتية بأي شكل من الأشكال. فنحن لم نرى مجتمعات تعتبر فيها الشجاعة سمة سيئة والجبن سمة مشرّفة وخيّرة، حيث يعتبر الكرم رذيلة والبخل فضيلة)) [14]. لا أتصوّر أي إنسان عقلاني اليوم يعتقد أنّ قتل الأسرى في الحرب واغتصاب الفتيات القاصرات والعذارى عملاً أخلاقياً.
أغلب المؤمنين لا يقتصر فكرهم على استنكار ورفض الفظاعات والأعمال الوحشية التي ارتكبها الله وأغلب الشخصيات المشهورة في الكتاب المقدّس فقط، بل إنّهم يتجاهلون حتى التعاليم الحميدة أيضاً. على سبيل المثال، بالكاد تستطيع إيجاد مسيحي ملتزم بأمر يسوع بالصلاة سراً:
((وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.)) [متّى 6: 5-6]
في عصيان واضح وصريح لأوامر المسيح نرى أغلب المسيحيين في كل مكان يقيمون استعراضات هائلة لتقواهم من خلال صلواتهم في الكنائس بشكل علني وصاخب، في المناسبات السياسية، وحول سارية العَلَم في كل مدرسة. ونراهم يعترضون بغضب عندما تصدر المحاكم قوانين وتشريعات ضدّ الصلاة في المدارس العامة. كيف يمكن للمسيحيين تبرير ذلك أخلاقياً، إلا من خلال شعورهم الداخلي الخاص بأنّ الصلاة في العلن أمر حَسَن ومحمود بغضّ النظر عن تعاليم يسوع؟
كم عدد المسيحيين من أيّ مذهب كانوا ملتزمون بأمر ربهم: ((أحبّوا أعدائكم)) عندما يتعلّق الأمر بهتلر أو أسامة بن لادن؟ وهل عليهم ذلك؟
باختصار، تشير الحقائق التجريبية إلى أنّ أغلب البشر هم كائنات أخلاقية، كائنات يتعارض إحساسها الداخلي بالصواب والخطأ مع الكثير من تعاليم الديانات التوحيدية الكبرى. ويمكننا بسهولة أن نتوصّل إلى نتيجة بأنّ ذلك الإحساس لم يتولّد عن مصدر ديني.

●-;- الأخلاق التجريبية
إذا كانت الأخلاق والقيم الإنسانية ليست ذات مصدر إلهي، إذن من أين تنبع؟ وهناك الكثير من الكتابات والأعمال التي تشير إلى الأصل الطبيعي (بيولوجي، ثقافي، تطوّري) المحتمل للأخلاق والقيم والمبادئ الأخلاقية [15]. استطاع داروين رؤية المنفعة التطوّرية للتعاون والإيثار وقد أسهب مفكرون معاصرون في الحديث عن هذه الملاحظات، مظهرين بشكل تفصيلي كيف أنّ شعورنا الأخلاقي قد ظهر بطريقة طبيعية أثناء تطوّر الإنسانية المعاصرة.
يمكننا حتى رؤية علامات على السلوك الأخلاقي _أو أخلاقاً بدائية_ بين الحيوانات. فالخفافيش مصّاصة الدماء تتشارك طعامها. القرود والقردة العليا تطَمئِن أفراد عائلتها المكتئبين وتعمل معاً من أجل الطعام. الدلافين تدفع الأفراد المرضى في مجموعتها بمنقارها إلى السطح لتتنفّس. الحيتان تضع نفسها في وجه الخطر لتساعد الأفراد المصابة أو المجروحة في مجموعتها. تبذل الدلافين جهدها لإنقاذ الأفراد المجروحة في عائلتها.
في هذه الأمثلة نلمح بدايات الأخلاق التي تطوّرت إلى مراحل متقدّمة عند البشر عن طريق التطوّر البيولوجي والثقافي[16]. يبدو من المرجّح أنّنا قد اكتسبنا إحساسنا بالخطأ والصواب من هذا المكان. لقد تعلّمنا درسنا وحفظناه.
*********************
[1] جان ماركل، مونتسكيو ولغز الكاثاريين
Markale, Jean. Montségur and the Mystery of the Cathars. Translated by Jon Graham (Rochester, VT: Inner Traditions, 2003).
[2] للإطلاع أكثر على هذه القصة وغيرها من القصص الفظيعة في سبيل الدين، راجع كتاب جيمس هاوت، أهوال مقدّسة: تاريخ مصوّر للجنون والإجرام الدينيين
Haught, James A. Holy Horrors: An Illustrated History of Religious Murder and Madness (Amherst, NY: Prometheus Books, 1990).
[3] تقرير للـسي إن إن، 27 آذار/مارس 1996 على العنوان
http://www.cnn.com/WORLD/9603/amir_verdict/ (accessed December 9, 2004).
[4] أسوشياتيد برس 2 أيلول/سبتمبر 2003 على العنوان
http://www.fadp.org/news/TampaBayOnline-20030903.htm (accessed December 9, 2004).
[5] اتحاد العلماء الأمريكيين على الشبكة العنكبوتية على العنوان
http://www.fas.org/irp/world/para/docs/980223-fatwa.htm (accessed December 9, 2004).
[6] لتصريحات تاريخية أخرى حول القاعدة الذهبية أنظر: مايكل شيرمر، علم الخير والشر: لماذا يغشّ الناس، يثرثرون، يهتمّون، يتشاركون، ويتبعون القاعدة الذهبية، صـ 23
Shermer, Michael, The Science of Good & Evil: Why People Cheat, Gossip, Care, Share, and Follow the Golden Rule (New York: Times Books, 2004), p. 23
[7] مع الشكر الجزيل لإليانور بينينغز لتقديمها لهذه الاقتباسات.
[8] جوزيف مكّابي، أصل الأخلاق في الإنجيل، صـ 209
McCabe, Joseph. The Sources of Morality of the Gospels (London: Watts and Co., 1914), p. 209.
[9] ثيودور شايك الابن: "هل الأخلاق مسألة ذوق؟ لماذا يعتقد المفكرون الأخلاقيون المحترفون أنّ الأخلاق ذاتية بحتة". مجلّة سؤال حرّ، العدد الرابع، 1998؛ 32-34
Schick, Theodore Jr., "Is Morality a Matter of Taste? Why Professional Ethicists Think that Morality is Not Purely Subjective," Free Inquiry 18, No. 4 (1998): 32-34.
[10] ريتشارد فورمان.
http://alpha.furman.edu/~benson/docs/rcd-fmn1.htm (accessed December 1, 2004).
[11] جيفرسون ديفيز، "في خطاب تنصيبه كرئيس مؤقّت للاتحاد".
Davis, Jefferson. " Inaugural Address as Provisional President of the Confederacy. " Montgomery, AL, Feb. 18 1861. Confederate States of America Congressional Journal 1 (1861): 64-66.
[12] جون نونان الابن، الكنيسة التي يمكنها ولا يمكنها التغيير: تطوّر التعاليم الأخلاقية الكاثوليكية، 2005
Noonan, John T. Jr, A Church that Can and Cannot Change:The Development of Catholic Moral Teaching (Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 2005).
[13] المصدر السابق
[14] سولومون آش، علم النفس الاجتماعي، صـ 378-379
Asch, Solomon, Social Psychology, (Englewood Cliffs: Prentice-Hall, 1952), pp. 378-79.
[15] لآخر مرجع وغير من المراجع الأخرى أنظر: مايكل شيرمر، علم الخير والشر: لماذا يغشّ الناس، يثرثرون، يهتمّون، يتشاركون، ويتبعون القاعدة الذهبية.
[16] دي وال، صالح بالفطرة: أصل الصواب والخطأ عند الإنسان وغير من الحيوانات.
De Wall, Good Natured: The Origins of Right and Wrong in Humans and Other Animals (Cambridge, MS: Harvard University Press, 1996).



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل عثر العلم على الله؟
- رد على ردود مقال ((قضية علمية ضدّ الله))
- قضية ضدّ وجود الله
- نهاية الدين
- كتاب ((كيف وُجِدَت الآلهة)) كاملاً
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [6]
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [5]
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [4]
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [3]
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [2]
- كتاب ((كيف وجدت الآلهة)) [1]
- سورة الأنفال: مثال صارخ عن الشر الإلهي عند محمد والمسلمين
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (8)
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (7)
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (6)
- الإسلام قارورة محكمة الإغلاق [1]... الدكتورة وفاء سلطان
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (5)
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (4)
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (3)
- محمد: سيرة ذاتية_سيكولوجية (2)


المزيد.....




- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...
- الأحزاب الدينية تهدد بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو بسبب قانون ...
- 45 ألف فلسطيني يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى ...
- استعدادا لذبحها أمام الأقصى.. ما هي قصة ظهور البقرة الحمراء ...
- -ارجعوا إلى المسيحية-! بعد تراكم الغرامات.. ترامب يدعو أنصار ...
- 45 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - منبع الأخلاق: هل نستمدّ أخلاقنا من عند الله؟