|
صبري موسى ..و - فساد الأزمنة -
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4265 - 2013 / 11 / 4 - 12:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من لم يقرأ صبري موسى ويستمتع بتلك الأنشودة العذبة من أناشيد الإبداع العربي ، فقد فاته الكثير، وعليه أن يعوض هذا الذي غاب عنه بأن يطالع ما خطه قلم هذا الكاتب الرقيق والمثقف صاحب الرؤية العميقة دون صخب، والذي قدم للمكتبة العربية عدداً من الأعمال الأدبية ذات النفس المتفرد، تأتي فى ذروتها واحدة من أجمل الروايات العربية وهى" فساد الأمكنة " التي اقتحمت مبكراً مسارين جديدين على مستوى الشكل والمضمون، وكانت دون أدنى شك وبالإجماع بللورة فنية لا تزال تشع بهاءها على أفق يتجاوز الخريطة الإبداعية العربية، فعلى مستوى الشكل ارتادت " فساد الأمكنة " عالم الواقعية السحرية قبل أن تبلغنا إبداعات أدباء أمريكا اللاتينية، ووضعت تحت أعين القارئ عالما غريباً ومدهشا ، لم يتم البناء عليه واستثماره بأقلام أخرى إلا فى النادر ، وعلى مستوى الموضوع أنقذت الرواية نفسها - إذا جاز التعبير - من الوقوع فى أسر المعتاد والسائد، سواء بالكتابة عن المدينة أو القرية، ورحلت إلى الصحراء، وبالذات المنطقة المجهولة جنوب الصحراء الشرقية لتقدم لنا عملا فاتنا بكل معنى الكلمة ، ولا يزال هذا العمل وسيظل قادرا على جذب القراء وإمتاعهم بالقدرة ذاتها على الهام الكتاب الشباب عرفت صبري موسى أواخر السبعينيات عندما دعوته للحضور إلى ندوة كنت أديرها فى شبرا ليتحدث إلى أعضائها عن تجربته الأدبية ، ويومها فوجئت به يحدثني بفرح غامر عن روايتي القصيرة "السقف" التي قرأها مطبوعة بالماستر ..وافق على الحضور ، لكن عدة رحلات صحفية خارج مصر شغلته عن الوفاء ، ولم تسنح الفرصة بعد ذلك إذ توقفت الندوة أوائل سبتمبر 1981 لأسباب سياسية، لكن علاقتنا أخذت فى التصاعد وترسخت فى مجلس إدارة اتحاد الكتاب، حتى أصبحت لا أستطيع تحمل غيابه عنى طويلا وكان معي ومع غيري عطوفاً ونبيلاً وصادقاً ومتعففاً وليس كبعض الكتاب الذين لا يتوقفون عن الكلام عن أنفسهم ، فقد لاحظت تجنبه الدائم لمثل هذا اللون من النرجسية المفرطة ، وصبري عموما قليل الكلام بلسانه ، كثيره بعينيه وإحساسه
إنني لا أستطيع أن أحب كاتبا أعجبني قلمه وصدمتني شخصيته .. ربما أكون مخطئا، لكنني أفضل ألا أرتبط جدا فى علاقات مشتبكة مع كاتب يفتقد القيم مهما كان موهوبا، وصبري من القلائل الذين تعثر لديهم على الكاتب المبدع والإنسان الخلوق. قرأت للكاتب الكبير صبري موسى من الروايات قبل " فساد الأمكنة " حادث النصف متر " ، وبعدها " السيد من حقل السبانخ " وقرأت له من المجموعات القصصية (وجها لظهر. حكايات صبري موسى. مشروع قتل جارة. السيدة التي والرجل الذي) وقرأت له على حلقات في " صباح الخير " الرحلات التي قام بها إلى البحيرات والى الصحراء وباريس واليونان ، وقد جمعها من بعد فى كتب . ولم تغب عن عيني ولا عن غيري فيما أظن تلك الطبقات السردية التي تمضى فى سلاسة مع تنوع أساليب الطرح معتمدا لغة بسيطة وعميقة ودالة خالية من البلاغة الاستعراضية والتقليدية ، حتى ليمكنني القول إن كتابات صبري مثله ، هادئة فى السطح، موارة في الأعماق ، وتحمل الكثير من الخصوبة والتجديد دون ضجة ، إذ ليس من بين سماته الشخصية محاولة لفت الأنظار على أى نحو ، ويمكن القول انه من الفريق الذي يقول كلمته ويمضي.
ولا تعد كتابته للسيناريو والحوار للأفلام التي ظهرت على مدى عشرين عاما من قبيل "السبوبة" وأكل العيش، ولكنها أولا تنطلق من الاختيار الحر والإعجاب السابق بنصوصها وثانيا لأن ما قدمه فيها من تقطيع سينمائي وبناء درامي وأحداث وحوار ينبثق من رؤية مثقف كبير وإنسان مصري يحس بإحساس المجتمع والناس حسب الفترة التاريخية لكل عمل، وقد استمتعت كما استمتع غيرى بأفلام مثل البوسطجى والشيماء وقنديل أم هاشم وقاهر الظلام وغيرها، ولقد ظللت فترة طويلة أشاهد فيلم الشيماء وهو من أفضل الأفلام الدينية فى اعتقادي وأدهش كيف أخرجه المخرج الراحل حسام الدين مصطفى وهو مخرج قدير له اجتهاداته ، لكن ليس لدرجة اخراج هذا الفيلم الديني الذي يتمتع بشعبية بين الجماهير لا يتمتع بها فيلم آخر، مع كامل الاحترام لكل الجهود المبذولة فى هذا السياق. كان صبري ولا يزال فى كل الأحوال ذلك الفنان المرهف الذي تربى فى فيض من مشاعر الحب والإحساس بالجمال إبان فترة الطفولة والصبا فى دمياط حيث ولد فى 19 مارس عام 1932، واكتملت التربية نحو الوجدان الراقي فى كلية الفنون التطبيقية ، وتأكد ذلك مع عمله مدرسا للرسم، إلى أن اكتشف فى نفسه حب الكتابة كنتيجة طبيعية لميله الدائم للقراءة .
انتقل للعمل فى جريدة الجمهورية ثم راق له أن يرحل إلى مؤسسة روز اليوسف التي كان قد تعرف إلى عدد من أبنائها وإدراكه أنها الأنسب لمواهبه مع توفر أفق الحرية، وقد بقى الفنان فى الأعماق لا يفتأ يشارك فى كل إبداع أدبي وصحفي وفني فى الرؤية والنسيج واللغة وروح النص، وقد حرص الحرص كله ألا تأكله الصحافة رغم عمله فيها منذ عام 1952، فقد كان متنبها إلى سوسها الذي يمكن أن ينخر فى عروق الموهبة. لم أكن فى العنوان أقصد أن أسب الزمان، لأنه مثل المكان يتلقى عبث البشر وغواياتهم ، لكني أشير إلى مساحة الفضاء العريض من النسيان التي يتعرض له صبري موسى ، وان كان قد لقي التقدير من الداخل والخارج وترجمت أعماله إلى عدة لغات، لكنه يستحق أن نحتفي بعيد ميلاده وأن نؤنس وحدته، ويستحق أن تقام له الحلقات الدراسية فى هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب والمجلس الأعلى للثقافة وأن تطبع كتبه وأن تطل عليه عيون الأجيال الجديدة من عشاق الأدب، فرغم المرض الذي يترصده منذ سنوات وتوقفه عن الكتابة، فان أعماله لم تفقد وهجها، وما زالت تفوح بعطرها وتعلن عن حضورها الآسر .. متعه الله بالصحة وأبقاه بيننا كاتباً وإنساناً ومصباحا مضيئا بنور الإبداع الذي لا يعرف الشحوب.
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حِصانها وحِصاني
-
لم تصنع نفسك .. لكنك تستطيع
-
زحف النمل
-
يمامة خضراء بكعب محني
-
مئوية جارودي .. المناضل الفريد
-
أجمل رجل قبيح في العالم
-
هل الأديان خطيرة ؟2
-
الساعة تدق السبعين
-
هل الأديان خطيرة ؟1
-
استرخاء
-
لا تغيير بلا ثقافة
-
المثقفون والسلطة
-
حَدثني عن البنات
-
الكتابة من الوضع راقدا
-
نزهة في حدائق الألم
-
خطأ السيسي الفادح
-
مصر في قبضة الشياطين
-
جمهورية -رابعة -
-
لا تصالح
-
العلاقات الشائكة بين أمريكا والعرب ( 2 )
المزيد.....
-
الناس يرتدون قمصان النوم في كل مكان ما عدا السرير!
-
ترامب عن ملفات جيفري إبستين: لا أريد إصابة أشخاص غير مذنبين
...
-
أنقاض رومانية اعتُقد أنّها لكنيسة قديمة.. لكنّ الأدلّة تروي
...
-
فيديو لمطاردة جنونية لرجل يقود شاحنة قمامة في شوارع مدينة أم
...
-
ترامب يقيل مفوضة مكتب إحصاءات العمل بعد تراجع توقعات نمو الو
...
-
مأساة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة: فيضانات مفاجئة تودي
...
-
ما هي اتفاقية خور عبد الله التي تلقي بظلالها على العلاقات ال
...
-
من يقف وراء التخريب في شبكة السكك الحديدية الألمانية؟
-
كابوس يلاحق المسلمين في بريطانيا.. ما الذي يجري؟
-
حاكم إقليم دارفور يحذر من خطر تقسيم السودان
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|