أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد السخيري - في الخلفية السياسية للفلسفة :نقدالنزعة الإنسانية عند لوي ألتوسير















المزيد.....



في الخلفية السياسية للفلسفة :نقدالنزعة الإنسانية عند لوي ألتوسير


عبد المجيد السخيري

الحوار المتمدن-العدد: 4223 - 2013 / 9 / 22 - 03:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"إن عبادة الإنسان المجرد الذي يشكل مركز الدين الفيورباخي الجديد،يجب استبدالها بالضرورة بعلم البشر العيانيين وتطورهم التاريخي ."
ف.إنجلز.(1)

"إن" الطبيعة الإنسانية"بوصفها "مركب العلاقات الإجتماعية"هي الإجابة الأكثر إقناعا ،لكونها تتضمن فكرة الصيرورة:فالإنسان يصير،يتحول باستمرار مع تحول العلاقات الإجتماعية ."
أ.غرامشي.(2)

تقديم عام :
يعد "لوي ألتوسير" واحد من كبار الفلاسفة والمفكرين الذين بصم حضورهم الفكري حقل الصراعات الإيديولوجية والفلسفية والسياسية للقرن العشرين، بقوة التدخل المثير للجدل إلى حد جعلت منه ظاهرة ثقافية فريدة وجديرة بالمتابعة وإعادة القراءة في ضوء تحول وتجدد رهانات الصراع الفكري المفتوح على تغيرات الحياة المعاصرة. بل نستطيع أن نضيف، أن المشروع النظري – الفلسفي الذي تقدم به هذا المفكر الكبير في مضمار "إعادة قراءة ماركس"، يحفظ له راهنية استثنائية في صيرورة الفكر العالمي المعاصر عموما، والفكر الماركسي على وجه الخصوص، وذلك على الأقل من جهة استناد روح ذلك المشروع على إعادة الاعتبار للمفاهيم العلمية التي فكر بها ماركس الحقول الإقتصادية والسياسية والإيديولوجية لعصر الرأسمالية الأول، وانشغاله العميق بإبراز الجوهر العقلاني والدياليكتيكي لمشروع هذا الأخير النظري والسياسي، ودعوته الصريحة وقتاله الشجاع من أجل تشذيب الماركسية من كل الرواسب الإيديولوجية العقيمة التي تعلقت بها من جراء سيادة تأويلات دخيلة على روحها العلمي، على امتداد عقود طويلة من الزمن. وهو ما كان من نتائجه تحنيط الماركسية في قوالب عقائدية جاهزة ومغلقة أجهزت على الروح الخلاقة التي تؤمن لها القدرة على التفتح على جديد الحياة المتغيرة ونقد ما يتكلس منها بفعل السيرورات الجديدة للفكر والعلوم والتجارب الإنسانية. لقد تنبه "ألتوسير" بذكاء إلى المخاطر التي كانت تحدق بالتجربة الماركسية في حقلي الفكر والسياسة معا، من جراء تكالب ثلاث نزعات على نخر جسدها بتأويلات فاسدة تفضي إلى ذات المأزق: ارتداد الماركسية إلى مسلك عقائدي وتبريري يتعارض وروحها النقدية والتحررية، وفلسفة مكتملة تتنافى وروحها الجدلية المتصلة بالبراكسيس والتاريخ. وهذه النزعات هي: النزعة الإنسانية، النزعة التاريخية والنزعة الإقتصادية. إن كل مشروع "ألتوسير" يصب في نقد هذه النزعات وكشف تهافتها وفسادها النظريين.ونعتقد أن ثمة رهانين تداخلا في منازلة هده النزعات نتبينهما بوضوح في مجمل أعمال "ألتوسير" هما: رهان الفاسفة الموصول بتاريخه النظري في التقليد الألماني حيث يظهر "ماركس" كواضع للأسس الجدرية لنقد الإشكالية الإنسانوية، وهو النقد الذي سيتواصل داخل نفس التقليد مع فلاسفة آخرين مع تعديل ملموس لمضامينه (نيتشه، هيدغر..). ورهان السياسة المتصل بالجدل الإيديولوجي حول القيمة العملية للنزعة الإنسانية في مجرى الصراعات الطبقية التي حبل بها عصرنا..
2- الجدل حول النزعة الإنسانية: رهانات الفلسفة والسياسية.
ربما يجوز اعتبار أطروحة "هيدغر" حول النزعة الإنسانية أبرز عمل فلسفي قوي يستأنف في التقليد الألماني نقد الإشكالية الفلسفية للإنسانوية Humanisme. وقد أسس لذلك من خلال دعوته إلى تجاوز وتقويض الإشكالية الفلسفية للذاتية الغربية وتفكيك جميع التصورات الميتافيزيقية التي






حفل بها تاريخ الفكر الغربي حول الإنسان والوجود، وذلك منذ كتابه "الكينونة والزمان" (1927). وهذا التأسيس سيتكرس بوضوح أكثر في دراسة له حملت عنوان "رسالة في النزعة الإنسانية" ( 1946)، حيث دعا إلى المواجهة المعلنة للنزعة الإنسانية باعتبارها نزعة ميتا فيزيقية (3). هذه الأطروحة ستجد لها صدى في التقليد البنيوي الفرنسي (لاكان، ستراوس، فوكو..) الذي كان واقعا تحت تأثير الفلسفة النيتشوية، ليأخذ معها نقد النزعة الإنسانية طابعا راديكاليا عميقا وموسعا طال أهم المفاهيم القاعدية للإنسانوية (الذات، العقل، التاريخ…الخ). وقد بلغ العداء لكل ما هو إنسانوي درجة من الغلو والتطرف بات معه الحديث عن دور الإنسان في التاريخ والتقدم مجرد اجترار لخرافة ميتا فيزيقية منحدرة من القرن التاسع عشر…
في سياق هذا التصعيد العدائي للنزعة الإنسانية برزت محاولة "ألتوسير" لإعادة قراءة الماركسية في خطوط التماس مع الفلسفة البنيوية المناهضة للإنسانوية، وهي محاولة، كما سنرى ذلك، تميزت بخصوصية نظرية مكنتها من تجاوز الرهانات التقليدية للجدل الفلسفي حول مفهوم الإنسان، والانفتاح على أبعاد جديدة بقيت حتئذ مغفلة في جل الأطروحات المناهضة للنزعة الإنسانية.

أ‌- رهـان الفلسفـة:
ينطلق نقد النزعة الإنسانية كموقف فلسفي مراهن من اعتبار الإشكالية الإنسانوية حصيلة نظرية لخطابات فضفاضة عن الإنسان تخلو من أي مضمون تحليلي علمي، خطابات مشحونة بالمضامين العاطفية والانفعالية التي تتراوح بين الشفقة والإدانة والاحتجاج الأخلاقي…" (4)، وهي بالتالي لا تغادر أرضية الفكر الأخلاقي والميتافيزيقي الذي يؤسطر الإنسان ويحيل إلى نماذج مثالية بعيدة عن الواقع الحقيقي للإنسان. وعليه فإن النزعة الإنسانية هي نزعة فلسفية مثالية أخلاقية مجردة تقوم على تصور "ما هوي" للإنسان يعجز عن استيعاب تقدم العلوم وما تطرحه إنجازاتها من ضرورة مراجعة أسس الخطاب الفلسفي حول الإنسان. ومن ثم يكون الرهان الفلسفي للخطاب المناهض للنزعة الإنسانية هو البحث في شروط وإمكانيات بناء تصور بديل للإنسان يحاكي النموذج الذي تطرحه العلوم المعاصرة دون اعتبار للنتائج الأخلاقية والعملية التي يمكن ان تترتب عن ذلك. وبالنسبة لألتوسير فإن العودة إلى النزعة الإنسانية، علاوة إلى كونها محاولة يائسة للإلتفاف عن النتائج الحاسمة التي حققتها العلوم في مجال دراسة الإنسان، فهي لا تعدو أن تكون في النهاية حيلة سخيفة للتستر على "فراغ نظري" عجز أصحابه عن استبداله بمعرفة علمية تسمي الأشياء بأسمائها (مفاهيم اقتصادية وسياسية)، خاصة عندما يتعلق الأمر بفهم دور الإنسان في التاريخ والتغيير.

ب‌- رهـان السياسـة:
لم يكن الجدل حول النزعة الإنسانية مجرد جدل قائم برهانات فلسفية محضة. بل كان في أهم محطاته احتداما، خصوصا في السياق الفرنسي، جدلا مسندا بمعارك إيديولوجية طاحنة و رهانات سياسية مكشوفة. والحال أن أطروحة "ألتوسير" تميزت في هذا الصدد عن نظيراتها لدى أعلام التقليد البنيوي، بكشفها الصريح عن الرهانات السياسية التي توجد خلف كل نقاش حول النزعة الإنسانية. فقد عمل ألتوسير من خلال هجومه على إنسانوية بعض رفاقه الماركسيين، على تعرية المضامين السياسية والإيديولوجية التي تستبطنها مفاهيم النزعة الإنسانية السائدة، معتبرا التستر وراء هذه الأخيرة غرضه الأساسي هو طمس حقيقة الصراع الطبقي. ذلك لأن هذه النزعة عندما تزعم أن الإنسان/ الذات هو صانع التاريخ، وان هذا الأخير هو تحقيق "لماهية الإنسان"، فإنها تكون بذلك قد كشفت عن نزعة إرجائية لقضية الصراع الطبقي الراهن، فضلا عن تحريفها لقضية نظرية سياسية واضحة وهي: " أن التاريخ ليس له ذات، بل محرك هو الصراع الطبقي" ) 5 (. والواقع أن هذه الروح الإرجائية لقضية الصراع الطبقي وتأجيل المواجهة إلى غد قد يأتي أو لا يأتي هو ما تحتاجه إيديولوجيا البرجوازية الصغيرة لتبرير تخاذلها ونزوعها للتوفيق بين الإشتراكية والقيم الليبرالية. إن النزعة الإنسانية تتعارض بالتالي مع الروح العلمي للماركسية لأنها مفهوم إيديولوجي مثالي تتزود به البرجوازية لطمس الصراع الطبقي ودور الجماهير فيه… وبهذا الموقف الذي يستحضر الخلفية السياسية في نقد النزعة الإنسانية تكون أطروحة "ألتوسير" قد تخطت السقف المحدود للنقد الهيدغري والبنيوي الموسوم بطابع فلسفي مجرد، وبالتالي يكون من غير المعقول "الخلط بدون أي شرط و لا أي تحفظ بين النزعة الإنسانية كما يقول بذلك التقليد الفلسفي الهيدغري، وبينها وبين إيديولوجية البرجوازية كما يفعل ذلك ألتوسير" (6).

3- الماركسيـة والإشكاليـة الإنسانويـة:
لا حاجة للتذكير هنا أن الجدل الذي دار حول أزمة النزعة الإنسانية في الفكر الغربي والذي دشنته الأطروحة الهيدغرية وواصلته أعمال البنيوية الفرنسية طيلة سنوات الستينات والسبعينات، كان له امتداد واضح في النقاشات الذي دارت بين الماركسيين بخصوص الموقف النظري من الإشكالية الإنسانوبة في أعمال ماركس. فقد أثار الجدل حول هذه الإشكالية نقاشات ومواجهات نظرية حادة تتمخض عنها انقسام الماركسيين إلى اتجاهين تجاذبا حقل التأويل والتأويل المضاد لما يفترض أن يكون الموقف الأصلي للماركسية من النزعة الإنسانية ,فيما بلغ التعارض بينهما من العمق ما جعله يتعدى كونه مجرد خلاف فلسفي. وقد تحددت المشكلة في المنطلق في "العلاقات التي توجد داخل الفلسفة الماركسية بين محتواها الإنسانوي وطابعها العلمي أي أيضا بين الأعمال الفلسفية الإنسانوية لمرحلة الشباب وبين الأعمال العلمية لمرحلة النضج"(7).
الإتجاه الأول,و هو السائد، كان يعتبر الماركسية فلسفة إنسانوية تروم التحقيق التدريجي " للإنسان الكلي" (الكائن الأعلى) عبر سيرورة التاريخ، وقد استند هذا الإتجاه على الأعمال الفلسفية لمرحلة الشباب، متجاهلا التحولات النظرية التي عرفها فكر ماركس، متصورا هذا الأخير مكتملا في لحظة بدايته. ويعد روجي غارودي أحد أبرز ممثلي هذا الإتجاه في الماركسية الفرنسية. فقد كرس هذا الأخير كل جهوده الفلسفية للدفاع عن استمرارية الإشكالية الإنسانوية في فكر ماركس معتبرا "مخطوطات 1844" نقطة انطلاق فكر ماركس، " ومرحلة حاسمة في تكوين النظرية الماركسية"(7)؛في المقابل،برز إلى الواجهة اتجاه آخر بزعامة لوي ألتوسير، مستندا إلى أطروحة فلسفية جذرية، تقول أن الماركسية تتحدد في المقام الأخير بوصفها علما يتعارض مع كل الرواسب الفلسفية للحظة الإنسانوية التي هيمنت على فكر ماركس في مرحلة الشباب. وقد رفع هذا الإتجاه الثورة النظرية "لأطروحات فيورباخ" و" الإيديولوجيا الألمانية "إلى مقام الحدث النظري الكبير الذي دشن قطيعة واضحة مع كل نزعة إنسانية نظرية حملتها الأعمال السابقة لهذه المرحلة، وإشكاليتها الفلسفية. ويجدر التذكير في هذا السياق، أن اجتهادات هذا الإتجاه بالرغم مما اعتراها من مظاهر الغلو، كان لها فضل كبير في إنعاش الروح الفلسفي للماركسية في زمن كانت فيه هذه الأخيرة مهددة بالموت النظري بسبب توقف الاجتهاد الفلسفي وهيمنة الجانب الإيديولوجي على نشاطها الثقافي. من جهتها ساهمت أعمال ألتوسير الفلسفية في دفع النقاش حول النزعة الإنسانية إلى مداه الأقصى، مرغمة الإتجاه الإنسانوي داخل الماركسية على المنازلة بكل ما ملك من أسلحة وثقل سياسي إيديولوجي. وهي المنازلة التي دشنت ما يمكن ان نسميه "بحرب النصوص"، حيث راح كل اتجاه من الإتجاهين المتنافسين يخوض غمار تأويل نصوص ماركس ويعيد قراءتها بما يفي حاجته إلى الشرعية النظرية والبقاء داخل دائرة الإنتساب الفلسفي للماركسية الأصلية (السائدة او المفترضة) ويعد عمل ألتوسير المشهور قراءة الرأسمال lire le capital ، واحد من الشواهد التاريخية على "حرب النصوص" المشار إليها، إلى جانب أعمال مفكرين وفلاسفة آخرين أثمرتها هذه "الحرب المقدسة" لسنوات الستين (9).
وسنحاول فيما يلي إبراز الأطروحات الأساسية التي استند إليها هذين الإتجاهين في تأويل الوضع النظري لمفهوم الإنسان في فكر ماركس ابتداء من المخطوطات الفلسفية الإقتصادية 1844، وانتهاء بالأعمال المتأخرة الموسومة بالنضج حسب التقسيم الذي تكرس في هذه المرحلة لفكر ماركس.
4- المخطوطـات الفلسفيـة الإقتصاديـة (1844) والإشكاليـة الإنسانويـة:
يذهب ألتوسير ومن خلال الإتجاه المناهض للنزعة الإنسانية إلى اعتبار المخطوطات الفلسفية الإقتصادية (1844) خلاصة لفترة تطور فكر ماركس توصف بالفلسفية التأملية والإنسانوية، كان لا يزال ماركس يفكر داخلها تحت التأثير المباشر للتقليد الفيورباخي-الهيغيلي، وأسيرا لإشكاليته النظرية. ومن ثم فإن "المخطوطات" لم تحسم مع المفهوم المثالي للإنسان الموروث من هذا التقليد، في صيغة "الماهية الإنسانية" ذات المسحة المثالية الواضحة. يقول ألتوسير في هذا الإطار: "..أذكر أن النسق النظري لمخطوطات 44 كان يرتكز على ثلاثة مفاهيم قاعدية: الماهية الإنسانية / الإستيلاب / العمل المغترب" (10). ومن ثم فإن الحسم مع هذا المفهوم لن يبدأ إلا في الفترة المتراوحة ما بين 1845-1847 ) التي جسدت الثورة النظرية الممهدة لتصور جديد للعالم حسب تعبير إنجلس نفسه، وبالتالي القطيعة مع كل المفاهيم المثالية التأملية السابقة لأعمال هذه المرحلة: أطروحات حول فيورباخ، الإيديولوجيا الألمانية، بؤس الفلسفة، البيان، الرأسمال…فابتداء من سنة 1845 سيشرع ماركس في الإبتعاد عن الإشكالية الإنسانوية، وقد جرى ذلك في "الإيديولوجيا الألمانية"، إنما في شكل مجرد وعام جدا، يقول ألتوسير. على أنه ابتداء من سنة 1847، خاصة في "بؤس الفلسفة" ستتم تصفية الحسابات مباشرة على "أرضية" علمية جديدة (11). فقبل أعمال هذه المرحلة لم يكن ماركس قد اكتشف بعد المفاهيم والمبادئ الأساسية للإقتصاد السياسي والإشتراكية العلمية. لقد ذهب إنجلس نفسه إلى القول، أن أطروحات ماركس حول فيورباخ التي كتبت سنة 1845 تمثل أول وثيقة وضعت الأساس العبقري للتصور الجديد للعالم.
لكن فيما تتمثل الثورة النظرية على مستوى مفهوم الإنسان؟ يعتقد أنصار الإتجاه المناهض للنزعة الإنسانية أن هذه الثورة تجسدت في ذلك الإكتشاف الحاسم الذي بلوره ماركس في "الإيديولوجيا الألمانية" ودونته بشكل صريح ودقيق لأول مرة الأطروحة السادسة حول فيورباخ التي تشكل أساس النظرية الماركسية للإنسان: "ليست الماهية الإنسانية تجريدا ….للفرد المعزول، إنها في حقيقتها الواقعية، مجموع العلاقات الإجتماعية". هكذا تقيم هذه الأطروحة تمييزا حاسما بين الماهية الإنسانية الموضوعية من جهة والفردية من جهة أخرى، وتضع الشكل الفردي في المقام الثاني قياسا للقاعدة الإجتماعية الموضوعية. ولهذه الأطروحة في تقدير التأويل الألتوسيري نتائج نظرية حاسمة يتوجب أخذها على محمل الجد " فالتاريخ الإنساني يظهر كسيرورة للتاريخ الطبيعي، والفاعلين فيه هم بالتأكيد البشر أنفسهم، إنما البشر كنتاج للعلاقات الإجتماعية" (12). لقد أحدث ماركس نقلة جذرية لحقل تحليله لمفهوم الإنسان: من الماهية الإنسانية إلى العلاقات الإجتماعية، ومن ثم فإن الإكتشاف الحاسم لماركس على المستوى النظري يكون هو أن "الإنسان لا يوجد، إنما العلاقات الإجتماعية هي التي توجد، ليس ثمة ذات، بل ثمة بنيات اجتماعية، ليس ثمة معنى إنسانوي للتقدم التاريخي إنما ثمة تتابع وتراكم للتشكيلات الإجتماعية، ليس ثمة تحقق للماهية الإنسانية وإنما حل التناقضات بين البنيات الإجتماعية" (13).
فقبل هذا الإكتشاف النظري، كان فكر ماركس يدور في فلك الإشكالية الإنسانوية الذي شكل مفهوم الماهية الإنسانية خلفيتها الفلسفية الأساسية، وتبرز "المخطوطات"، التي هي خلاصة لفكر ماركس الشاب، هذا الأمر بشكل جلي. فنظرية الإستيلاب التي شكلت موضوع تأملات "المخطوطات" تنبني كلها على مفهوم "الماهية الإنسانية". إذ يكفي استعادة أي فقرة في فقرات "المخطوطات" لتبين ذلك. يقول ماركس في إحدى الفقرات "إن الملكية الخاصة هي إذن، خلاصة العمل المغترب، والعلاقة الخارجية للعامل مع الطبيعة ومع نفسه. فالملكية الخاصة، تنتج إذن، عن تحليل العمل المغترب، أي بمعنى الإنسان المستلب"(14). وفي مكان آخر من المخطوطات يتساءل ماركس عن الكيفية التي يصير فيها الإنسان مغتربا عن عمله، وعما إذا كان ذلك الإغتراب يجد أساسه في ماهية التطور الإنساني نفسه، مجيبا عن ذلك بقوله: "لقد أنجزنا خطوة كبير ة في حل هذه المشكلة، بتحويل السؤال حول أصل الملكية الخاصة، إلى ذلك المتعلق بالعلاقة بين العمل المغترب ومسيرة تطور الإنسانية" (15).
تبرز هذه الفقرات بشكل واضح الإطار الفلسفي التأملي الذي فكر فيه ماركس قضية الاستلاب بخلفية مفهوم الماهية الإنسانية، وهو الإطار الذي ستتجاوزه الأعمال اللاحقة للمخطوطات. ففي هذه الأخيرة (أي أعمال مرحلة النضج) لم تعد تحليلات الإستلاب قائمة على أساس " أن الإستلاب المجرد للإنسان هو الذي ينتج أشكال الإستغلال الرأسمالي، بل العكس تماما، أن الإستغلال الرأسمالي هو الذي ينتج الأشكال الملموسة للإستلاب"(16). وقد ظهر هذا القلب النظري لأساس تحليل الإستلاب لأول مرة في "الأطروحات" و"الإيديولوجيا الألمانية"، حيث يبين ماركس أن "الماهية الإنسانية " لا تسمح بإدراك العلاقات الإجتماعية، بل أن التحليل الملموس لهذه الأخيرة هو ما يسمح بفهم ما يمكن ان يوصف بالماهية الإنسانية.
إن تجاهل التأويل الإنسانوي لهذا القلب، المؤكد من طرف ماركس نفسه، يعيق استيعاب دلالة الثورة النظرية المنجزة على مستوى مفهوم الإنسان وإشكاليته الفلسفية. فروجي غارودي مثلا، وهو أحد أبرز ممثلي هذا التأويل، يصر على اعتبار "المخطوطات" نقطة انطلاق لفكر ماركس ومرحلة حاسمة في تكون النظرية الماركسية (17)، متجاهلا بذلك تخلي ماركس نفسه على مفاهيم "المخطوطات" وإشكاليتها الفلسفية الفيورباخية. والحال أن "المخطوطات" ليست في نظر التأويل المضاد، نقطة انطلاق لفكر ماركس، ولا هي الحاسمة في تكون نظريته العلمية، وإنما تجاوزها والقطيعة مع إشكاليتها هي ما يمثل ذلك، ويرى تبعا لذلك أنصار هذا التأويل أن التحليلات التي بلورتها "الإيديولوجيا الألمانية"، والقول الفصل الذي دونته الأطروحة السادسة حول فيورباخ تزيل كل التباس حول التصور الماركسي للإنسان، وتضع جانبا كل تأمل فلسفي إنسانوي حول "الإنسان" بشكل عام، وتطرح بدلا من ذلك، تصورا جديدا للإنسان المفرد منظورا إليه من جهة كونه حصيلة العلاقات الإجتماعية. ومعنى ذلك أنه لم يعد ممكنا بالنسبة للماركسية، بلوغ معرفة علمية حقيقية بالإنسان الملموس استنادا إلى مفاهيم "المخطوطات"، كما يتشبث بذلك الإنسانويون، بل إن هذه المعرفة ليست ممكنة إلا على أرضية النتائج النظرية "لقطيعة" ماركس مع وعيه الفلسفي السابق. إن مفهوم "الإنسان المجرد" بماهيته سيختفي في أعمال ماركس الناضج ليحل محله مفهوم العلاقات الإجتماعية. وحتى عندما يتعلق الأمر باستعمال مفهوم "البشر" فإن ذلك يتحدد بمعنى مخالف للمفهوم الإنسانوي. يقول ماركس "لا يتعلق الأمر هنا بأشخاص إلا من حيث هم تسجيد لمقولات اقتصادية، وحوامل لمصالح وعلاقات طبقية محددة" (18). ليس الإنسان هو من ينتج العلاقات الإجتماعية كما يزعم روجي غارودي (19)، وإنما هذه الأخيرة هي التي تنتج الإنسان، من حيث هو حصيلة تطورها القائم في الأساس الإقتصادي لتطور المجتمع وحركة التاريخ. وفي مكان آخر من الإيديولوجيا الألمانية نقرأ: " إن هذا المجموع من القوى الإنتاجية، الرساميل، وأشكال العلاقات الإجتماعية، التي يجدها كل فرد وكل جيل كمعطيات قائمة، هي الأساس الملموس لما تمثله الفلاسفة "كجوهر" أو ماهية للإنسان" (20). وهكذا, بعد نقد جذري للإنسانوية الفلسفية، يتخلى ماركس بشكل لا رجعة فيه عن مفهوم "الإنسان المجرد" وبالتالي عن نظرية الإستيلاب كما تمثلها في مخطوطات 1844. ففي الإيديولوجبا الألمانية ينجز ماركس "قطيعة ما يمكن أن ندعوه بالزوج أنتروبولوجية تأملية – إنسانوية مجردة ",يقول ألتوسير (21). لكن هنا ثمة إشكال نظري أثار الكثير من الجدل بين الماركسيين في قلب النقاش الدائر بشأن الإشكالية الإنسانوية. ونقصد هنا مفهوم القطيعة التي استخدمه ألتوسير ورفاقه للتعبير عن الثورة النظرية المنجزة في "الأطروحات" والأعمال التالية لها، وهو المفهوم الذي كثف الرهانات النظرية لإعادة قراءة ماركس في سياق إيديولوجي سياسي لا تخفى دلالته وقيمته بالنسبة لتصور موقع الماركسية في الحقل الثقافي للمجتمعات المعاصرة، خاصة ما يتعلق بقدرتها على استيعاب التحولات الإيديولوجية الجديدة التي كانت تلوح في أفق نقد التجربة السوفياتية وبروز نجم الأوروشيوعية . على أن ما يهمنا في هذا المقام هو التذكير فقط بالإعتراضات الجدية التي أثارها استعمال مفهوم القطيعة في قراءة المسار الفكري لماركس بارتباط مع موضوعة النزعة الإنسانية.

لقد ذهبت معظم هذه الإعتراضات إلى اعتبار مفهوم القطيعة بالمعنى الذي استعمله ألتوسير ورفاقه، ينطوي على تصور تجريدي سطحي ولا جدلي لتطور فكر ماركس. فإذا كان صحيحا أن فكر ماركس تميز في تطوره بقطيعة أو بالأحرى بقطيعات، كما يقول لوسيان سيف، في سيرورة بناء مستمر، الحاسمة منها تقع ما بين 1845 و 1846 وهي مسألة لا نقاش فيها، فإن الصحيح أيضا والذي لا نقاش فيه، هو أن هذه القطيعات تعكس مجهودا
متواصلا للإمساك بحقل الواقع الملموس بمفاهيم خضعت باستمرار للتعديل والتجديد، وهو ما استوجب تعديد مستويات القطيعة في إطار وحدة سيرورة بناء المعرفة العلمية المنشودة من قبل ماركس. ومن ثم فإن السؤال هو: هل تجاوز ماركس للمفهوم المثالي للإنسان منع تسرب الإنشغالات الإنسانوية "للمخطوطات" إلى أعماله اللاحقة؟
إن التأويل المناهض للإنسانوية كما بلورته أعمال ألتوسير وجماعته يجزم بأن ماركس قد تجاوز إلى الأبد مفهوم الإنسان مما سمح له بالقطع الجذري مع كل انشغالا ته الإنسانوية السابقة (22). وإذا كان مثل هذا التأويل لم تعوزه التأكيدات النصية لإثبات ادعائه بوجود القطيعة المشار إليها، فإن التأويل الإنسانوي من جهته لم يعبأ من تأكيد استمرارية الإنشغالات الإنسانوية بالنصوص كذلك. وهو ما يجعل من الصعب بمكان الفصل في هذا النزاع النظري بالبقاء في دائرة التحكيم النصي. لذا يميل بعض الماركسيين الآخرين إلى الإعتقاد بأن ماركس إن كان فعلا، كما تؤكد ذلك كثير من نصوصه، قد تجاوز نزعته الإنسانية المثالية في الأعمال اللاحقة "للمخطوطات"، فإن ذلك لا يعني أنه توقف عن الإشتغال بالمشكلات المرتبطة بمفهوم الإنسان. وبالتالي فإن القول بوجود " لاإنسانوية نظرية لدى ماركس" (23) فيه كثير من المبالغة والغلو، إذا ما تنبهنا لحضور مفهوم الإنسان في أعمال القطيعة نفسها. صحيح أن ماركس يؤكد معارضته الواضحة للمفهوم الفيورباخي للإنسان، حيث ينبه أن هذا الأخير لا يخص البشر العيانيين الذين يوجدون بنشاطهم الواقعي الملموس في حقل العلاقات الإجتماعية، لكن ذلك لا يعني أن ماركس "يرمي بالناس العيانيين خارج حقل النظرية." 24.
لقد أرغمت هذه الإعتراضات ألتوسير على مراجعة مفهوم القطيعة دون أن تلزمه بمغادرة الأرضية النظرية التي قرأ داخلها تطورفكر ماركس ولا أيضا بالتخلي عن قناعته الراسخة بأن "الإنسانوية النظريةالمضادة هي ما يليق بالفلسفة الماركسية" (25). وهو ما سنتوقف عنده بتفصيل في الفقرة الموالية.
نخلص إلى القول أن التصور الماركسي للإنسان إن كان لا يستقيم على أرضية التأويل الإنسانوي طالما أن ماركس نفسه أكد تجاوزه لإشكالية الإنسان المجرد حين شرع في تأسيس علم الناس العيانيين، فإنه بالمقابل يصعب حسم الخلاف بشأن هذه القضية في اتجاه أطروحة الإنسانوية النظرية المضادة كما دافع عنها ألتوسير وأتباعه لأن في ذلك ما يخالف طموح ماركس نفسه إلى تأسيس علم الناس العيانيين وتطورهم التاريخي، المعلن بوضوح في أعمال مرحلة النضج اللاحقة للمخطوطات.
5- مـن الإيديولوجيـا إلى العلم: الإنسانوية النظريـة المضادة.
يقوم تأويل ألتوسير لما يسميه بالإنسانوية النظرية المضادة l’antihumanisme théorique لدى ماركس، على ثلاث زوايا أساسية:
1. ضرورة التخلي عن مفهوم النزعة الإنسانية باعتباره مفهوما إيديولوجيا يعود إلى اللحظة المثالية من تطور فكر ماركس.
2. إن مفهوم النزعة الإنسانية ينطوي على تصور مثالي للتاريخ أساسه إلغاء الصراع الطبقي وقوانينه الموضوعية.
3. إن هذا المفهوم يوقع الماركسية في شرك إيديولوجي مع البرجوازية، التي تستعين بهذا المفهوم لإخفاء الصراع الطبقي وأهميته في القضاء على علاقات الإستغلال الرأسمالي.
يبرز ألتوسير ضرورة التخلي عن النزعة الإنسانية باعتبارها مفهوما إيديولوجيا، مثلها مثل النزعة التاريخية والإستلاب، يعود إلى المرحلة ما قبل العلمية من تطور فكر ماركس، حيث كان هذا الأخير واقعا تحت التأثير المباشر لفيورباخ الذي يعتبر أبرز ممثلي النزعة الإنسانية في فلسفة القرن 19 وقد ظهر هذا التأثير بشكل واضح في المخطوطات الفلسفية الإقتصادية (1844), الكتاب الذي لم ينشر إلا بعد وفاة ماركس، (وهو أمر لا يخلو من إشارة إلى عدم رضى ماركس نفسه، حسب ألتوسير، عن ماضيه الفلسفي).
لقد توارت الإشكالية الإنسانوية بعدما بدأت تظهر في كتابات ماركس اللاحقة للمخطوطات مفاهيم جديدة (نمط الإنتاج، العلاقات الإجتماعية، البنية التحتية، الإيديولوجيا، الصراع الطبقي…الخ) مهدت لنشوء المادية التاريخية. وقد شكلت مفاهيم هذه الأخيرة الأسس النظرية المتينة لقيام علم التاريخ والسياسة الجديدين، والذي تراجعت على إثرها مفاهيم النزعة الإنسانية. وإذا كان صحيحا أننا لانقطع مع ماض نظري دفعة واحدة كما يقول ألتوسير(26)، فإنه مع ذلك يعتبر تخلي ماركس عن الإشكالية الإنسانوية حدثا نظريا بارزا، وليس مجرد تحول في أسلوب الكتابة كما أعتقد ذلك بعض قراء ماركس. إنه حدث نظري حقيقي من حيث هو يعني التخلي عن إشكالية فلسفية مفرقة في المثالية والإيديولوجيا، وبالتالي التحول إلى التفكير داخل إشكالية نظرية جديدة استوجبت بالضرورة إنشاء مفاهيمها الخاصة.
ولإبراز هذا الحدث النظري، سيستدعي ألتوسير من حقل الإبستمولوجيا الباشلارية مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، ليؤكد من خلاله أن ما حصل من تحول في فكر ماركس بعد المخطوطات ليس مجرد تخلي عن مفهوم النزعية الإنسانية فحسب، بل قطيعة نظرية تامة مع إشكاليتها الفلسفية ونتائجها الإيديولوجية (27).إن مفهوم القطيعة، وإن كان غير ممكن استخدامه بالنسبة للفلسفة كما سيقول ألتوسير (28) بعد ذلك "يسمح بتبيَُن الحد الفاصل في مسار فكر ماركس، بين إشكالية فلسفية مثالية شكل داخلها مفهوم الإنسان نقطة انطلاق حقيقية نحو مناطق الإيديولوجيا الفلسفية على حد تعبير إتيان باليبار(29)، وإشكالية علمية جديدة أخذت تتبلور استنادا إلى مفاهيم جديدة خاليةمن المضامين الأخلاقية والغائية، حيث لم يعد ممكنا لمعرفة مجموع العلاقات الإجتماعية أن تتم إلا بشرط التخلي التام عن "الخدمات النظرية لمفهوم الإنسان" (30) وفي خلفية التأكيد على أهمية ودلالة حدث "القطيعة"، سعى ألتوسير، علاوة إلى إثبات ضرورة تخليص الماركسية من الرواسب المثالية التي زرعتها التأويلات الإنسانوية البائسة، إلى وضع النقاش حول النزعة الإنسانوية في سياق الحاضر، خاصة أن هذا السياق تميز بهيمنة التأويل الإنسانوي الذي رأى فيه ألتوسير خطرا محدقا بالماركسية وبمستقبلها العلمي والسياسي.
وقد تمثل هذا الخطر في تشخيص ألتوسير، في اعتبار النزعة الإنسانية منفذا أساسيا لتسرب إيديولوجية البرجوازية الصغيرة إلى صفوف الماركسية وبالتالي إلى وعي البروليتاريا، وهو ما يعني أن الخطر سيصبح سياسيا على مستقبل نضال البروليتاريا (31). ها هنا يكون النضال ضد النزعة الإنسانية في الحقل الفلسفي ضروريا لإغلاق هذا المنفذ السهل التي تسربت منه إيديولوجية البرجوازية الصغيرة إلى وعي الماركسيين، والتي استهوت بعضهم شعارات الإنسان والحرية، فراحوا ينظرون إلى أكثر أشكال التوفيق ابتذالا بين الإشتراكية والحرية والصراع الطبقي والقيم الليبرالية…الخ (32). ولأجل ذلك عمدوا إلى تعزيز تنظيراتهم بالعودة إلى نصوص ماركس الشاب الذي رفض هذا الأخير نشرها قبل وفاته، وهي نصوص كتبها وهو لا يزال يساريا متحمسا لم يصفي بعد حسابه مع وعيه الفلسفي السابق.
والواقع أنه بدلا من أن يسعى هؤلاء إلى طرح مشاكل الإنسان بمفاهيم دقيقة وواضحة،( المفاهيم السياسية والإقتصادية للمادية التاريخية) ظلوا يفكرون في دائرة التأمل الفلسفي المجرد والغموض الإيديولوجي الساذج الذي يجعل من ماهية الإنسان أساسا لمفهوم التاريخ والسياسة، وهم بذلك يكونوا قد قدموا, بوعي أو بدون وعي، خدمات مجانية للإيديولوجيا البرجوازية التي راهنت على طمس الصراعات الطبقية التي يخوضها الناس لحل مشاكلهم الملموسة. وهذه الخدمات يمكن اعتبار أخطرها ما يصب في تحريف المفهوم العلمي للتاريخ الذي تقول به الماركسية، وهو أن التاريخ ليس له ذات بل محرك هو الصراع الطبقي. والحال أن النزعة الإنسانية في مجموعها تقوم على ضرب المحتوى النظري لهذا المفهوم ورهاناته السياسية.
فالمفهوم الإنسانوي للتاريخ بقدر ما ينطوي على عيوب نظرية أساسية تنزلق بالفكر إلى مواقع مثالية متخلفة عن المعرفة المعاصرة في حقل التاريخ، بقدر أن نتائجه على صعيد الحلول المقترحة لمشاكل الإنسان الملموسة تظل أسيرة لطرح أخلاقي ومجرد ومعالجة وهمية للمشاكل الواقعية. ومن هنا فإن الحد النظري الفاصل بين المفهوم العلمي الذي يرى للتاريخ بوصفه سيرورة بدون ذات، والمفهوم الإنسانوي الذي يراه تحققا للماهية المجردة للإنسان، هو مفهوم الصراع الطبقي الذي ابتدعه ماركس بديلا للماهية الإنسانية التي شيدت عليها الإنسانوية الفلسفية خصوصا لدى فيورباخ، هذا الأخير الذي تعرض لنقد حاسم من قبل ماركس في "الأطروحات". فقد أكدت الأطروحة السادسة على أن فيورباخ تمثل الماهية الإنسانية بشكل مجرد باعتبارها مجموع الخصائص الشاملة جرى تجريدها دون إعمال "نقد تاريخي انطلاقا من الأفراد العيانيين للمجتمع البرجوازي33 لكن بأي معنى يعتبر مفهوم الصراع الطبقي في التصور الماركسي للتاريخ تجاوزا نظريا للمفهوم المثالي المتمركز حول النزعة الإنسانية؟
يجدر التذكير أولا أن ألتوسير حين يصف النزعة الإنسانية يكونها مفهوم إيديولوجي، فهو يحرص على التأكيد أن ذلك لا يعني أفكار الواقع الذي تسعى هذه النزعية للتعبير عنه. إنما الأمر يتلخص لديه في ضرورة تحديد القيمة العلمية للمفهوم (34)، ذلك أن النزعة الإنسانية كمفهوم إيديولوجي لا يسمح لنا بمعرفة الواقع الذي تشير إليه، حتى وإن كانت الوقائع التي تذكرنا بها موجودة بالفعل، فإن القنوات النظرية التي تصلنا بها تظل ملتبسةو مضببة. وخلافا لهذه النزعة فإن المفهوم العلمي يتمتع بقدرة نظرية تمكنه من إدراك الواقع في تعقده وتناقضاته وبالتالي طرح حقيقي لمشاكله من خلال تعيينها بمفاهيم علمية ملموسة، كحال مفهوم الصراع الطبقي. فهذا الأخيرإد يسمي الأشياء بمسمياتها، يسمح في الآن نفسه بتجريدها على الصعيد النظري ومقاربتها بطرح واقعي. والحال أن النزعة الإنسانية في هذا السياق لا تتمتع بأي قيمة نظرية أو علمية، ومن ثم وجب القول أن المعرفة العلمية لمشاكل الناس وتاريخهم لا تستقيم إلا على أرضية المعارضة الجذرية لادعاءات النزعة الإنسانية التأملية والقطيعة مع مفاهيمها كالإنسان، ، دور الذات في التاريخ، أو كما يقول ألتوسير بصريح العبارة: "لا يمكننا معرفة أي شيء عن الناس إلا بشرط مطلق، هو التخلي عن الأسطورة الفلسفية (النظرية) للإنسان" (35).
إن كل محاولة لوضع الماركسية داخل السياق الإنسانوي، ليست سوى اعتداء نظري على روحها العلمي، وإرادة يائسة لجعلها متعايشة بالقسر مع الأشكال الحديثة للأنتروبولوجيا "الثقافية" وإيديولوجيا سابقة على ماركس نفسه، مع أن ذلك لا يكون في النهاية سوى سبيلا للابتعاد عن ماركس (36)، الذي في الواقع لم يكن يتسنى له تأسيس علم المادية التاريخية دون مغادرة ذلك السياق.

6- الإنسانوية النظرية المضادة والإنسانوية العلمية:
ينتهي ألتوسيرفي دفاعه عن ماركس إلى خلاصة نظرية حاسمة: ثم لاإنسانوية نظرية في فكر ماركس تحجبها التأويلات الإنسانوية المختلطة بقيام إيديولوجية البرجوازية الصغيرة، وجب الكشف عنها، بعيدا عن كل تسوية وهمية مع مفاهيم الفلسفة المثالية كما حاول ذلك بعض الفلاسفة الماركسيين المعاصرين بدعوى إنقاذ الروح الإنساني للماركسية (37) فالإنسانوية النظرية المضادة بقدر ما هي واضحة في فكر ماركس الناضج، فهي شرط أساسي لتمكن الماركسية من معرفة علمية إيجابية حول الإنسان و واقعه، وبالتالي لتمكين هذا الأخير من الأدوات اللازمة لتحويل العالم تحويلا فعليا.
لكن السؤال المطروح هو: ما مدلول هذه النزعة النظرية المضادة للإنسانوية في فكر ماركس نفسه؟ أو ما هو الشكل النظري الذي عبر فيه ماركس عن طموحه لتأسيس علم الإنسان العياني كبديل للإنسانوية المثالية؟
يجدر أيضا التذكير هنا، أن ألتوسير يعتبر أطروحته حول الإنسانوية النظرية المضادة عند ماركس، أطروحة جدية، يشترط أن تقرأ كذلك دون تحريف أو تشويه (38). وجدية هذه الأطروحة تكمن بالذات في كلمة النظرية théorique، التي هي إحدى الكلمتين المكونة للأطروحة في مجموعها. ولذا فإن كل قراءة لا تعطي هذه الكلمة حقها في تأويل الأطروحة، تخطئ لا محالةهدفها وبالتالي تسيء للأطروحة ككل. ماذا تقول الأطروحة بهذا الخصوص؟ يجيب ألتوسير، أن الأطروحة تقول تحديدا أن "مفهوم أو مقولة الإنسان لا تلعب عند ماركس أي دور نظري" (39). فكلمة "نظري" هي حجر الزاوية في الأطروحة بل إنها في نظر ألتوسير كل ما في الأطروحة من جدية. لذا كان على خصومها أن ينصتوا جيدا إلى ما تقوله هذه الكلمة حتى يدركوا بأي معنى يكون ماركس لاإنسانويا. وما تقوله هذه الكلمة هو بالأساس أن ماركس لم يكن ليسير في أفق تأسيس علمه الجديد دون أن يقطع مع الإشكالية الفلسفية -النظرية إذن- للإنسان، هذه القطيعة التي ابتدأت بتضييق نطاق استخدام مفهوم الإنسان وانتهت بإبعاده نهائيا من حقل تحليله النظري الجديد، وتعويضه بمفاهيم جديدة شغلت كل الحيز النظري الذي شغله المفهوم السابق.
ولكي يضع ألتوسير أطروحته في الصورة الواضحة يقترح على خصومه خلاصة قراءته لفيورباخ، وهي خلاصة تفيد أن فلسفة هذا الأخير ذات نزعة إنسانية نظرية، يشكل الإنسان أو الماهية الإنسانية مبدأها المركزي، بل إنه المبتدأ والخبر في تلك الفلسفة التي تعلن عن نفسها بكلمة إنسان كما قال فيورباخ نفسه منذ إعلان فلسفته الجديدة.
ويؤكد ألتوسير أن ماركس سبق له أن تبنى هذه الأطروحة الفيورباخية المتمحورة حول الإستيلاب، قبل أن يتجه في أعماله المتأخرة للقطيعة معها. بحيث لم يعد مفهوم الإنسان يشغل أي دور نظري في الفلسفة الماركسية، خلافا للدور الأساسي الذي شغله في الفلسفات الكلاسيكية ما قبل الماركسية 40). والمقصود بهذا الدور النظري هو أن المفهوم يلتحم بغيره من المفاهيم الأخرى بحيث أن حذفه من المجموع المفاهيمي يؤدي إلى تشويه كامل للنسق الفلسفي، ولذلك فإن تخلي ماركس عن مفهوم الإنسان فرض بالضرورة إبعاد مفاهيم أخرى كانت تشكل روح الفلسفات السابقة عليه. ومعنى ذلك أن الإنسانوية النظريةالمضادة عند ماركس " تتجاوز مجرد تصفية حساب مع فيورباخ. فهي تعارض كلا من فلسفة المجتمع وفلسفة التاريخ السائدتين، والتقليد الفلسفي الكلاسيكي، ومن خلالها كل الإيديولوجيا البرجوازية" (41) وبذلك أيضا تكون الإنسانوية النظرية المضادة عند ماركس هي قبل كل شيء نزعة ضد الإنسانوية الفلسفية (42).
الآن يمكننا أن نتساءل: هل كانت هذه التوضيحات كافية لجعل أطروحة ألتوسير المناهضة للإنسانوية بمنأى عن المعارضة التي أثيرت حولها في البداية؟ الجواب بالطبع لا، فقد تواصلت هذه المعارضة بقوة فيما هو أساسي من هذه الإشكالية التي استغرقت تفكير الماركسيين ردحا من الزمن. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد باعتراضين اثنين واجهها ألتوسير بجدية، مبينا عدم إدراك أصحابهما المدلول الحقيقي لما قصده بالإنسانوية النظرية المضادة عند ماركس.
الإعتراض الأول يقول بأن نظرية ماركسية لاإنسانوية ستنتهي حتما إلى احتقار الناس وتشطيب دورهم في الصراع الطبقي وشل فاعليتهم التاريخية. هذا في وقت تحدث فيه ماركس في جل أعماله بما فيها "الرأسمال" عن معاناتهم في تاريخ المجتمعات الطبقية وأكد دورهم في مقاومة الإضطهاد و الإستغلال. أما الإعتراض الثاني، فهو يقول بوجود إيديولوجيات إنسانوية قادرة على التعبير عن تمرد الناس على الإستغلال والقهر، لا يمكن للماركسية أن تجاهلها باعتبارها تندرج في التقليد الثوري التي ليست الماركسية سوى التعبير الأرقى عن تطوره التاريخي.
بالنسبة للإعتراض الأول، أكد ألتوسير أنه يتغافل عن تحليل ماركس لآليات الإستغلال، خصوصا في "الرأسمال" الذي قام على تجريد الأفراد العيانيين ودراستهم نظريا باعتبارهم مجرد "سند" لعلاقات الإستغلال. في حين أن الإعتراض الثاني يتناسى أن ماركس والماركسية بالتالي، إن كانا يعترفا بالإيديولوجيات الإنسانوية، فإنهما لا ينظران إليها إلا حسب الدور الذي تلعبه في الصراعات الطبقية. والحال أن ما يؤسس الأطروحة الإنسانوية النظريةالمضادة عند ماركس ليس هو ما يفصح عنه الاعتراضين السابقين، بل شيء آخر هو القطيعة مع كل زعم نظري للإنسانوية الفلسفية. ثم إن اختزال وجود الإنسان إلى مجرد علاقة اجتماعية ودوره إلى مجرد حامل لوظائف في سيرورة الإنتاج المحدد بعلاقات الإنتاج القائمة لا يعود إلى رغبة ماركس في جعله كذلك، بل إن علاقات الإنتاج الرأسمالية هي التي تفعل ذلك. فليس ماركس هو من يعامل الناس كحملة وظائف داخل مسلسل الإنتاج، وإنما علاقات الإنتاج الرأسمالية هي التي جعلتهم يكونون كذلك.(43)
لقد واجه ماركس، بنظر ألتوسير، عند تحليله للرأسمالية مشكلة المفاهيم الملائمة للتحليل العلمي التاريخي، مما دفعه دفعا إلى المغادرة التدريجية للأرضية المثالية التي تشكل فيها وعيه الفلسفي السابق في طريق تشييد جهاز مفاهيمي جديد قادر على تجريد الظواهر الملموسة لواقع الرأسمالية، إدراك جدليتها المعقدة، وهو ما استوجب التخلي عن الجهاز المفاهيمي للإنسانوية برمته " إن قلب الرؤية العقيمة للإنسانوية المجردة تحديدا (…) هو ما سمح بالمرور نحو تصور علمي خصب للأفراد العيانيين ولتطورهم التاريخي، ذلك لأن هؤلاء أصبحوا من الآن فصاعدا مدركين انطلاقا من ماهيتهم الحقيقية: العلاقات الإجتماعية" (44).
لكن إذا كان صحيحا أن ماركس قد أقام صرحا مفاهيما جديدا سمح له بالتحليل الملموس للظواهر والأشياء، وأن مسار هذا البناء المفاهيمي تميز بالقطع مع ادعاءات النزعة الإنسانية، فهل يمكن إعطاء مدلول عملي لنزعته المضادة؟ بالنسبة لألتوسير، هذا المدلول واضح في عمل ماركس، وجدير بالإنتباه. إنه المتمثل في فضح الخداع الإيديولووجي للبرجوازية المتواري خلف التمجيد الشكلي للعمل الخلاق للإنسان وحريته وقدراته, الذي يسعى إلى إخفاء علاقات القوة الإيديولوجية المؤسسة على علاقات الإنتاج الرأسمالية (45).ألاو أنه بدون هذا الفضح، وبدون الكشف عن الفراغ النظري للمفهوم الإنسانوي للإنسان، لم يكن ليتسنى لماركس بلوغ المعرفة العلمية القائمة على تحديد الناس العيانيين وكشف القوانين التي تتحكم بحياتهم وصراعاتهم. فإذا كان ماركس لم يتردد في تجريد الناس العيانيين من خلال العلاقات الإيديولوجية والسياسية والحقوقية التي تطبع حياتهم الواقعية، فلأن هذا التجريد يوافق حسب ألتوسير، ذلك الذي تفرضه تلك العلاقات نفسها على الناس، وهي تجعل منهم على صعيد الواقع الملموس عمالا مستغلين أو رأسماليين مستغلين.
إلى حد يستجيب هذا المدلول العملي للرهانات النظرية للأطروحة الإنسانوية النظرية المضادة؟
لقد سعى ألتوسير من خلال مشروعه الفلسفي النظري المتمحور حول نقد مظاهر المثالية المترسبة في نصوص ماركس إلى تأسيس ماركسية علمية تكون بديلا "للماركسيات" الإنسانوية والتاريخية والدغمائية التي عمرت طويلا الفضاء الثقافي للماركسية المعاصرة. وإذا كان موضوع بحثنا لم يسمح برصد هذا المشروع في كليته وتتبع التحولات الكثيرة التي شهدتها في غمرة النقاشات الحادة التي أثارتها بعض أطروحاته النظرية، فإن ما استطعنا تجميعه من أفكار بصدد تحليل الإشكالية الإنسانوية يسمح إلى حد ما بإمكانية تبين بعض مواطن الضعف في هذا المشروع، التي توقف عندها الكثير من خصومه، وحسبنا التذكير بتلك ذات الصلة بالموضوع.
لعل أهم نقطة تصدرت واجهة الجدل بشأن الأطروحة المناهضة للإنسانوية هي تلك المرتبطة بمفهوم القطيعة الذي استعمله ألتوسير لتوصيف الثورة النظرية ل: (46 – 1845). فقد اعتبره جل نقاد هذه الأطروحة، مجرد تمويه لانحراف إيديولوجي كان معدا سلفا في نشاط ألتوسير النظري، فيما آخرون اعتبروا أن هذا المفهوم كان لا يخلو من جدية، وإن كان يظل مفهوما أحاديا ولا جدليا آخذين على ألتوسير تطرفه النظري وتجاهله لحضور مفهوم الإنسان في الأعمال اللاحقة "للمخطوطات". ففي الواقع، يقول لوسيان سيف : لايمكننا الحديث عن قطيعة التي تظل مفهوما غريبا عن عمل ماركس، ذلك أننا نجد في أعمال النضج عناصر من ماأ سماه إنجلز : علم الناس العيانيين وتطورهم التاريخي" (46).
وخير مثال على ذلك،المخطوط الاقتصادي الكبير ل1957-58،المترجم إلى الفرنسية
تحت عنوان " أسس نقد الإقتصاد السياسي"،والذي وحده،في تقدير لوسيان سيف، يشكل اعتراضا على التأويل الإنسانوي المضاد للماركسيةالناضجة.وهوما تجاهله ألتوسير بصمته وعدم الإشارة إلى المخطوط مطلقا.
فالمادية التاريخية، إذ تقطع جذريا وبلا رجعة مع الإنسانوية التأملية (..) فإنها مع ذلك لا تصادر مفهوم الإنسان عكس ما أكدته الإنسانوية النظريةالمضادة…."(47) ، وبالتالي فإنه لا معنى لاختزال الماركسية إلى مجرد اللحظة الإنسانوية النظريةالمضادة كما يفعل ألتوسير، لأن هكذا اختزال يثير عدة مشكلات يحصرها سيف على ثلاث أصعدة :
1- على الصعيد الفلسفي: فإن هذا الإختزال من شأنه أن يبين الماركسية كتصور أحادي للأشياء، أو مجرد انزياغ مماثل لإنسانوية متجاهلة للتاريخ.والحال أن خصوم الماركسية يستخدمون هده الإنسانوية النظرية المضادةللحد من الحمولة التاريخية للماركسية واختزالها في مجرد "لحظة نقدية".
2- على الصعيد العلمي:و في وقت تسعى فيه عدد من علوم الإنسان للبحث عن مخارج من أزمتها النظرية بالتماس المنهج الماركسي، فإن اختزال الماركسية إلى الإنسانوية المضادة من شأنه أن يعطل إسهام الماركسية في الإجابة عن أزمات العلوم الإنسانية وجعل هذه الأخيرة تتفادى الوقوع في فخاخ الوضعية إن لم يكن في شرك نزعة بيولوجية رجعية.
1. على الصعيد السياسي: فإنه مما لا جدال فيه إعادة تأكيد المضمون الإنسانوي الأساسي للماركسية، من دون التخلي عن النقد اللازم لكل الأوهام؛

2. الإيديولوجية التي يمكن أن يثيرها مفهوم الإنسانوية، خصوصا في مواجهة الإيديولوجية الرأسمالية التي تستهدف "تشويه الاشتراكية"؛فالماركسية تظل في النهاية "الخصم النظري للإنسانوية التأملية"(48)،من دون أن تكون لاإنسانوية نظرية.إنها بالأحرى أساس إنسانوية جديدة،سامية تتقاطع مع الإشتراكية العلمية. (49)
فإذا كان ماركس قد تخلى بعد "المخطوطات" عن مفهوم الإنسان- الماهية، الحائز على خصائص جوهرية مطلقة مثل الحرية، الإختيار والقصد، فإنه مع ذلك لم يتنكر مطلقا لوجود خصائص تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، بل إن ما قام به هو تحليل وجوده الواقعي ودراسة الشروط الواقعية التي ينتج فيها حياته ووجوده الإجتماعي، والدي من خلاله يكتسب خصائصه المميزة كالوعي والإرادة وغيرها…والحقيقة أن تجاهل ألتوسير لأهمية الإنسان العياني، وضعه أمام خيارين: إما القول بالإنسان الإنسانوي، ,بالتالي بنزعة إنسانية ماركسية، أو القول "بموت " الإنسان، وبذلك يضمن شرط قيام العلم الماركسي. والواقع أنه انتصر للخيار الثاني، وبذلك يكون قد وقع في شرك الإيديولوجيا. فبدلا من "إيضاح التصور الماركسي أو المادي التاريخي للحقيقة الإنسانية، أي بدلا من أن ترد الألتوسيرية بالعلم على الأشكال الإيديولوجية المثالية للإنسانوية نجدها تكتفي بطرح إيديولوجيا مضادة هي إيديولوجيا موت الإنسان بالمطلق التي لا تقل مثالية عن الإنسانوية الأولى" (50).
لم يكن ألتوسير جاهلا بالحجج التي تثبت بطلان المضامين القطعية لتصوره للقطيعة في فكر ماركس، لكنه في الوقت نفسه كان عاجزا عن مراجعة هذا التصور لأن ذلك كما يرى بعض نقاده، كان سيؤدي حتما إلى انهيار كامل مشروعه النظري.
لكن هل معنى ذلك أن أطروحة ألتوسير حول النزعة الإنسانية كانت مجرد شطحات فلسفية وعبث نظري؟
بالتأكيد لا.فهذا واحد من كبار خصومه، يؤكد أن النقد الإيديولوجي والسياسي للنزعة الإنسانية يظل ذو راهنية قوية. إنما ذلك النقد ضروري أيضا في نظره بالنسبة للإنسانوية النظرية المضادة الحاضرة بكثافة في الإيديولوجيا السائدة، خاصة في الفكر البنيوي واتجاهاته في العلوم الإنسانية، التي جعلت من رفض الذات منطلقا لمعرفة البنيات، و من التاريخ سيرورة بدون معنى، وذلك ما أدى لديها إلى فصل العلوم الإنسانية عن كل نقد اجتماعي، عكس ما تفعله الماركسية. (51) إن هذه الإنسانوية المضادة تصور الصراعات الطبقية كشيء لا معنى له، في حين أن الإنسانوية العلمية، التي تؤسس لها الماركسية في نظرية الشروط التاريخية للتحرر الشامل للأفراد، تربط الصراعات الطبقية بالتناقضات التي تدخلها العلاقات الإجتماعية في سيرة الأفراد.

هوامش:

1/ F. Engles, ludwing Feurbach et la fin de la philosophie classique allemande/ Edition sociales, 1966. Pp. 55. 56.
2/ Gransci dans le texte. Ed. Sociales. 1977. Paris, p.182.
3/ Voir, lettre sur l’humanisme, in questions III. ED. Gallimard, paris. P.125 et suite.
21ص. 1ط1992 /عبد الرزاق الدواي ، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة ببيروت4
5/L. Althusser, réponse à Jonh lewis. Ed. Maspero, Paris, 1972. P.98.
6/ Luc Ferry-Alain Renault: la pensée 68, Essai sur l’anti-humanisme contemporaine, Ed-Gallimard. Paris-1985, p.33.
7/ Lucien sève, Marxisme et théorie de la personnalité. Ed. Sociales-Paris, 1974 (5e ed).p .82
8/ Voir, R. Garaudy, “Recherches sur la paupérisation”, in cahiers du communisme, janvier 1961 et aussi, “A propos des manuscrits de 1844”, in cahiers du communisme, mars 1963.
9/ يجدر التذكير هنا، أن الجدل بشأن النزعة الإنسانية كان قد احتل حيزا هاما في دائرة النقاشات التي عرفها الوسط الثقافي الماركسي بفرنسا على





الخصوص. وتكفي الإشارة إلى السجالات القوية والغنية التي دارت بشأن هذه القضية على صفحات مجلة "النقد الجديد" La nouvelle critique ما بين مارس 1965 وفبراير 1966 (من العدد 164 إلى 172) إضافة إلى مجلات أخرى وأيام دراسية خصصت لمناقشتها..
10/L. Althusser, Eléments d’autocritique, Hachette litterature, 1974, p.21.
11/Ibid.p.25.
12/ L.Sève, Marxisme et théorie de la personnalité, op.cité.. P.88.
13/Ibid.,p92
14/K.Marx. Manuscrits de1844 -;-Ed.Sociales.Paris.1968.p67
15/Ibid -;-p.75.
16/ Lucien sève, op.cité. p.86.
17/ R Garaudy, “A propos des Manuscrits de 1844” op. Cité. P.112.
18/ K.Marx, le capital, livre I,1, Ed.Sociales,Paris. 1968, , p.20.
19/ R. Garaudy, peut-on être communiste oujourd’huit ? Ed. Grasset, 1968.p .105.
20/ Cité par L.sève. op. Cité. P.70.
21/ L.sève. op. Cité. P.100
22/ L. Althusser, pour Marx, Ed. Maspéro.Paris 1965, p.223.
23/ Ibid. P. 236.
24/ L. sève.op.cité.p.
25/L.Althusser, op.cité.p.238.
26/Pour Marx :p.28
27/ يقول ألتوسير بهذا الصدد : » إنه يمكننا أن نفكر هذا الحدث النظري الكبير، الذي يؤسس هذا العلم الجديد باستعمال مفهوم باشلار، على أنه قطيعة ابتسمولوجية.«
L. Althusser, Lénine et la philosophie, Paris.Ed.Maspéro.1972,p.19
28/L.Althusser, réponse à John Lewis.op.cite.1972.P.60
29/ Voir,E.Balibar ,Althusser, lire le capital.T.II.Maspéro.1965.p.198.
30/L.Althusser, pour Marx.op.cité.p.255
31/ يقول ألتوسير: » في الفلسفة لا يمكننا أن نفعل شيئا خارج موقع الطبقة البروليتارية.«
L.Althusser, Positions,Ed.Sociales.1976.p.48
32/ يقول ألتوسير، في دفاعا عن ماركس:
"إن الزوج اللفظي» نزعة إنسانية/ اشتراكية« يخفي تباينا نظريا صارخا. ففي سياق التصور الماركسي يعتبر مفهوم الاشتراكية حقا مفهوما علميا، بينما لا يعتبر مفهوم النزعة الإنسانية سوى مفهوما اديولوجيا."
33/ L.Séve.op.cité.p.104.
34/ عبد الرزاق الدواي، مرجع مذكور .ص.30.
35/L.Althusser, pour Marx.op.cité.p.336.
36/ L.Althusser, lire le capital.op.cité.p.103.
37/ لوسيان سيف واحد من كبار الفلاسفة الماركسين الذين حاولوا في اتجاه التسوية الممكنة بين الانسانوية المتجذرة في الماركسية و الانسانونية الألتوسيرية المضادة كخيار نظري بديل لبؤس الانسانوية المنبعثة في أطروحات بعض الماركسيين التقليدين من أمثال غارودي. وقد أعتبر ألتوسير هذه المحاولة غير مجدية على ارضية إحياء مفهوم الذات كمركز مطلق و أصل جذري ووحيد، حتى لو كان بتعديلات فلسفية للمفهوم. أنظر في هذا الصدد:
L.Althusser, Réponse à John lewis.op.cité.p.72
38/ يقول ألتوسير: » لكي أرضي الجوقة الاديولوجية التي قوبلت بها هذه الأطروحة، أقول بأني لو لم أكن قد دافعت عنها، لكنت قد اخترعتها اختراعا«
لوري ألتوسير، مرافعة أمينانس الجدل(مجلة) المغرب.ع/3 . 1986 / ص 65.
39/ L.Althusser, Elément d’auto-critique.op.cité.p.21.







ل.ألتوسير، مرافعة أمينانس.مرجع مذكور. ص 67.
41/.مرجع مذكور. ص68
42/مرجع مذكور ص 68
43/مرجع مذكور ص 70
44/ L.Séve.Marxisme et théorie de la personnalité .op.cité.p109
45/ يقول في هذا الصدد:" حينما ننطلق من الانسان، لا نقدر على مقاومة الاغراء المثالي للقدرة و الحرية و العمل الخلاق بما يعني أننا نفعل أكثر من الخضوع، و بكل حرية لهدف القدرة القادرة للايديولوجية البرجوازية المسيطرة، وهذه الأخيرة تقوم بوظيفة تقنيع لقدرة أخرى واقعية و قوية بصورة مغايرة هي قوة الرأسمالية و فرضها و لو في صيغة أنواع و همية للقوة الحرة للإنسان.فإذا كان ماركس لا ينطلق من الإنسان(…) فمن أجل القطيعة مع هذا الخداع الذي لا يعبر سوى عن علاقة قوة إيديولوجية مؤسسة على علاقات انتاج رأسمالية." ن.م/ص.72
46/L.Séve,Marxisme…op.cité.
في هذا الكتاب يقدم سيف مناقشة مستفيضة لأطروحة ألتوسير، منهيا إلى القول بامكانية تجاوز التأوليين الإنسانوي و الانسانوي المضاد معا نحو نظرية أطروحة إنسانوية علمية، تنطلق من تطوير و إعادة بناء التطابق النظري الأساسي القائم بين علم العلاقات الاجتماعية و علم الناس العبانيين، بين المادية التاريخية و استروبولوجيا علمية،و الموجود في قلب الماركسية.
47/ L.Séve.op.cité.p.507.
48/ Ibid.p.105.
49/ Ibid.p.572.
50/ د. مادة جلال العظم، دفاعا عن المادية و التاريخ، دار الفكر الجديد، بيروت 1990 ط1.ص 387.
51/ L.Séve.op.cité.p574.

*نشرت هذه الدراسة في مجلة النهج-العدد 29 شتاء 2002،مركز الأبحاث الدراسات الاشتراكية في العالم العربي دمشق- ونشرت أيضا في مجلة مدارات فلسفية،العدد 7شتاء 2002 دورية الجمعية الفلسفية المغربية،الرباط.



#عبد_المجيد_السخيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التخلص من الاتحاد الاشتراكي
- الثورة المغدورة: انحطاط اليمين وبؤس البديل
- مهرجان موازين: هل انتصر القصر على الشارع؟
- -موازين-: مهرجان السلطة وإيقاعات المعارضة
- مهدي عامل: الفكر في موقع سياسي مكشوف


المزيد.....




- الرئيس الإيراني: -لن يتبقى شيء- من إسرائيل إذا تعرضت بلادنا ...
- الجيش الإسرائيلي: الصواريخ التي أطلقت نحو سديروت وعسقلان كان ...
- مركبة -فوياجر 1- تستأنف الاتصال بالأرض بعد 5 أشهر من -الفوضى ...
- الكشف عن أكبر قضية غسل أموال بمصر بعد القبض على 8 عناصر إجرا ...
- أبوعبيدة يتعهد بمواصلة القتال ضد إسرائيل والجيش الإسرائيلي ي ...
- شاهد: المئات يشاركون في تشييع فلسطيني قتل برصاص إسرائيلي خلا ...
- روسيا تتوعد بتكثيف هجماتها على مستودعات الأسلحة الغربية في أ ...
- بعد زيارة الصين.. بلينكن مجددا في السعودية للتمهيد لصفقة تطب ...
- ضجة واسعة في محافظة قنا المصرية بعد إعلان عن تعليم الرقص للر ...
- العراق.. اللجنة المكلفة بالتحقيق في حادثة انفجار معسكر -كالس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد السخيري - في الخلفية السياسية للفلسفة :نقدالنزعة الإنسانية عند لوي ألتوسير