أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لميس كاظم - بطاقة تعويض عن الحياة















المزيد.....


بطاقة تعويض عن الحياة


لميس كاظم

الحوار المتمدن-العدد: 1202 - 2005 / 5 / 19 - 05:42
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

لقد اعتاد البغداديون، بعد ان سقط تمثال الهة هبل في ساحة الفردوس، ان يستقبلوا شعاع الطلقات النارية فجراً قبل شعاع الشمس وسماع اصوات الأنفجارات صباحاً قبيل سماع اغاني فيروز، وتناول وجبة غدائهم على عجل في مطاعم بغداد المزدحمة، قبل ان تحولهم السيارات او البهائم المفخخة الى فطائر لحمية مشوية متناثرة غير صالحة للاكل .
كان الربيع في بغداد يحتفل بوداع بزوغه، شروق ساطع لشمس شهر مايس الدافئة والتي تعوض عن انقطاع التيار الكهربائي طوال النهار، انشراح في سماء بغداد وصفاء في وجهها كصفاء سطح نهر دجلة صيفا،اشجار اليكالبتوس تلبس حلتها الخضراء.

موسيقى هادئة يسمعها محمود وهو منطلق في سيارته تعوضه عن كل الاصوات الصادرة عن المجنزرات والأنذارات التي لايعرف مصدرها.
ابتسم محمود لزوجته مازحا! الطريق غير مزدحم اليوم وستصلي الى بيت اهلك قبل موعد الطبيب. انتبه الى الأمام علقت زوجته.
كان محمود يقود سيارته المرسيدس السوداء، منشرحا يناقش زوجته بفكرة الأنتقال من منزله الجميل، الواقع على طريق المطار الدولي وليس بعيداً عن جامع ام الطبول. فهو يعتقد، رغم سحر موقعه وغرفه الواسعة ومسبحه الجميل وحمام البخار التركي، وحديقته المحاطة بالورود، لكنه موقعه قريب من شارع الموت، واكثر مايقلقني تلك الأنفجارات الأغتيالات التي كثرة في الأونة الأخيرة. والأهم هو كثافة الدوريات المرابطة.

تصوري قبيل الخروج من البيت اتطلع لكل الأزهار المتفتحة في حديقتنا فينشرح صدري وتزداد رئتي اتساعا فاستنشق بعمق من عطر الزهور عبقا يكفيني طوال اليوم انتعاشاً وتشبثاُ في الحياة لكن حال خروجي من بيتي وبدلا من ان ارى شابة وسيمة، كبنات حاراتنا اللواتي اعتدن ان يخرجن واتصبح باطلالتهن البهية، ارى وجه هذا الصعلوك الأمريكي الجاثم فوق الدبابة، وعلمه ملوحا، ورائحة الموت تنبعث من ملابسة، يلاحقني في نظراته كاني مطلوب لعدالته. فاستغفر ربي على هذا الصباح. هذا الأمر يجعل صباحي متوتر واحيانا افقد التركيز في معاملاتي التجارية. عملنا ياحبيبتي يحتاج الى الهدوء والمزاج الرائق والأبتسامة الحلوة.

علقت زوجته! انت تخرب وتتكهرب على الفتيات الحلوات واللحم الأبيض الناعم النافر للامام، يابو عيون مالحة، ليش اني مااعرفك. لكني يامحمود اعتبر كل هذه المبررات غير كافيا للأنتقال من هذه البيت الجميل، لان الدبابات والمصفحات الأمريكية اصبحت اليوم اكثر من السيارات في الشوارع، ولن تجد اليوم اي شبر من ارض بغداد الأ وقد دنست بعجلات او زناجيل الدبابات الأمريكية.
ان الذي احببته في هذه المنطقة هو هوائها النقي الشرح الذي يرد الروح والقادم محمل بالنسيم البارد ليلا من ريف المناطق المتاخمة لبغداد، الذي حالما يدخل الى الجسم تحس برائحته المعطرة وهذا مالاتجده في عمق بغداد، إذ ان الهواء هناك جاف وساخن وملوث بالدخان. والأهم من ذلك كله هو جيراننا الطيبون الذين تربطنا بهم علاقات وثيقة تصل الى اكثر من الأهل احيانا، فانا اشعر بالأمان معهم. لقد تقاسمنا حلوة الحياة وقسوتها في ايام الحروب والحصار وحتى في هذه الحكومة اللي مانعرف شتريد. وبصراحة لاتستطيع اليوم ان تجد سكان بغداد الاصيلين مجتمعين في مناطق راقية مثل منطقتنا.
فالغرباء الزاحفون من المدن الأخرى هجموا على مناطق بغداد كجائعي فواتح الاموات الذين يتلفون اناقة صحون الولائم الدسمة. كما ان العائدين من الخارج سيطروا على اغلب القصور الفارهة.

ثم انك نسيت ان طفلتنا الوحيدة التي اكملت خمس سنوات قد تعودت على اطفال المنطقة، وصارت تستمتع باللعب معهم. انت تتصور ان لها لعبة يومية مفضلة وهي ان تحصي عدد الجنود الأمريكان في شوارع منطقتنا وتميزهم عن الجنود العراقيين. فهي تسالني دائما ليش هؤلاء الجنود اكثر من الجنود العراقيين لكني اتهرب من الأجابة.

حاول محمود في هذه المناقشة جس نبضها بفكرة الأنتقال لانه موعود بقصر من الطراز الفاخر حماماته ومطبخه مجهزة على الطريقة السويدية وفيه نظام مراقبة متطور لكل متر في القصر ، لكنه سيناقشها جدياً حال استلام مفاتيحه.

استدار محمود من ساحة ام الطبول بسيارته لينعطف يسارا. صرخت ابنته الجالسة خلف مقعد امها مستنجدة بابيها ... بابا بابا هذا الجندي الأسود اخافني.
ضحك محمود وادار راسه نحو ابنته الوحيدة ليهدئها ويخفف الرعب الذي اصابها وهو يمازحا قائلا: لاتخافي لن يستطيع اي جندي اسود او ابيض ان يرعبك وانت معي.

كان رتل من المصفحات العسكرية يمر من جانب سيارة محمود وعلى مايبدو ان احدهم كان سلفا قد لوح بيديه لمحمود بالتوقف، لكنه اثناء ممازحة ابنته لم يلحظ تلك الأشارة، ولم يعرف ان تلك المزحة وعندم الأنتباه لهؤلاء الغرباء تكلفه غاليا.

كانت سيارته ماضية في سرعتها العادية، وعلى مايبدو انه قد تجاوز خطوط التماس مع الرتل الامريكي ودخل في دائرة الموت. فهو لم يحسب انه تجاوز المئة والخمسين مترا المحددة من قبل الجيش الامريكي التي تمنع اقتراب السيارات العراقية منهم.

صرخت زوجته باعلى صوتها صرخة الموت الأخيرة!
محمود هذا الجندي قتلنا!

انتبة محمود انه في قلب دائرة قنص رشاشته. رفع يده عاليا من شدة ارتباكه وكانه اراد ان يلعن استسلامه،ناسيا انه يقود سيارته، فقد اصيب بالهلع وفقدان التركيز من شدة الصراخ.

كان ازيز الرصاص قد تقدم باتجاهه، كسرب شواهين منقض على فريسته من اعالي السماء. حاول ان يتهرب منهم لكنه ادرك ان الوقت قد فات. انحنى قليلا ففقد سيطرته على مقود السيارة، كبس على الفرامل بغية ايقاف السيارة فاستدارت السيارة واصطدمت بعمود الكهرباء. بيد ان الجندي الأمريكي قد فاز في خطف لحظة الحياة منه.

فقد اطبق اصبعه على زر الرشاشة M 60 فانطلقت رصاصات الحب الامريكية في شكل اسراب قلبية عاشقة للجسد العراقي وفي اتجاهات مختلفة واسرع من قطرات المطر الشتوي. قبل وصول رصاصات الرحمة الأمريكية صرخ بزوجته بالنزول الى اسفل السيارة ومد يده اليمنى ليسحب ابنته وينزلها الى تحت الكرسي بغية انقاذها من الموت الاكيد.

نجحت الرصاصة الأولى في الأستقرار في قلب راسه لينطلق دمه نافرا ساخنا كسخونه الشاي الدافئ، وسريع كالصخرة الساقطة من اعالي الجبال في الماء. جائت الطلقة الثانية في فمه لتكسر كل اسانه وتطحنها مختلطة مع دمه الذي اغتسل كل مقاعد السيارة والثالثة في صدره لتخترق صمامات قلبه وتوقفها عن الحركة وتدفق دمه باتجاه زوجته التي غرقت في اشجان فيضانه والرابعة والخامسة والسادسة ليتحول جسده خلال ثواني الى جثة منخورة يخرج منها الدم باكيا بطيئ الحركة كالطفل التائه عن امه.

قدم الجندي الأمريكي مصوبا رشاشته نحوهم، طالباً بصوت عالي، الترجل من السيارة فورا.
لم يستجيب احداً لقراره. تقدم بخطوات بطيئة وبحذر شديد نحوهم، وهو يصرخ اي حركة سارميكم من جديد. وصل الى الباب الأمامية ليرى حمام من الدم الصيفي تستحم فيه قطع صغيرة من اللحوم البشرية المشوية المتبلة بزرنيخ الرصاص.

كان محمود مضرج بدمه وصدغ جبينه يقّبل اطراف مقُود السيارة فقد فارق الحياة منذ دقائق ولم يودع احد. اما زوجته تبكي وهي تهزه بقوة ويأس بعد ان انقطع الأتصال بينهما وهي ولاتحسن ان تحرك جسدها باتجاه ابنتها الجريحة التي تصرخ بهلع كالعصفور المصاب بطلقة صياده.

زجر الجندي الامريكي بوجهها قائلا:
لِمَ لم تمتثلوا لاأشارة يدي طالبا منكم ايقاف السيارة.
صرخت بوجهه ودمها يتدفق من فمها فتحول كلامها الى بصاق بخاخ من دم ارجواني قذفته في اسفل وجهه وتبقعت ملابسة العسكرية بدم انثوي عراقي حار. ان زوجي لم يراك ايها العبد التفس، فهو كان مهتم بتهدئة ابنتة الخائفة من عيونك المفترسة كعيون القط الوحشي في الظلام الدامس. فهو لم ير يدك القذرة التي اطلقت كل هذا الرصاص. إذ ان اشعة الشمس كان قوية ومركزه في وجه زوجي ولم يراك سوى كتلة لحمية جامدة لشبح اسود.

ثم صرخت به! انظر بحق السماء هل ابنتي مصابة بجروح خطيرة فانا لااستطيع ان اتحرك ولااعرف اين اصبت، احس ان جسمي كله ساخن كالخشب المتحرق في التنور، ورجلي مخدرة لاتقوى على الحركة، اخرجني ارجوك من هنا لانقذ ابنتي.

انا لست طبيبا لاشخص اصابة ابنتك واساعدك.

لم اتصور انك بهذه النذالة ايها الغريب! لكن باي قانون في العالم تطلقون الرصاص، فحتى اشارات المرور تمتاز بالوان تتغير بفترة زمنية محددة لتمهل السائق بالتوقف. اما انتم فلن تمهلو ارواحنا الأ لحظات قليلة واصابعكم تطلق نيرانها حقدا لتحصدنا دون سبب.

كان محمود طالبا مجتهدا، انهى دراسته الثانوية بمعدل عالي في اعدادية النضال،مكنه من دخول كلية هندسة بغداد قسم الميكانيك. كان معتد بنفسه، عنيدا في طبعه، طيب القلب، ينسى كل حماقاته في لحظات ويتحول الى طفل وديع، لايقبل الانصياع الأ لاوامر ربه. لقد كان مشاكسا في صغره لكنه امسى مسالما في كبره ومهتما بعمله وعائلته فقط غير مهتم بمكائد ومكر السياسة. كان له فلسفته الخاصة في الحياة:
ان اردت ان تعيش بسلام في العراق عليك ان تبتعد عن السياسة.

لقد كان شاهدا حيا على تدمير لحمة عائلة عمهُ الرائعة. فقد تعرضت العائلة المكونة من احد عشر فردا للملاحقة وفصل من الجامعات وسجن وتغييب واعدام ابن عمه ومصادرة كل ممتلكاتهم. لذلك عمل بنصيحة والده رحمه الله، القائلة: ان اليد التي لاتقوى عليها قبلها وابتعد عنها. فالسياسة في العراق لاتؤمن لك المستقبل ولايأتي من ورائها الأ وجع الرأس والتشرد.

انهى محمود دراسته الجامعية، وطبول الحرب كانت قد قرعت منذ اكثر من سنتين. استطاع ان ينهي خدمته العسكرية بهدوء ورفض الأستمرار في العمل في مؤسسات الصنم المشروطة بالولاء التام، راكناً شهادته الجامعية في رفوف بيته، ليتجه الى حرفة ابية في صناعة وتجارة الأحذية. رغم خبرته البسيطة الا انه رضع التجارة مع حليب امه وتمرس على قوانينها وحركتها واتفاقاتها الماكرة من خلال تردده المستمر على معمل ابية في سوق السراي. كان والده صارم في قوانينه، اذ يلزم اولاده من عمر مبكر باحضار وجبة الغداء من البيت( بالسفرطاس) واكمال واجباتهم المدرسية في فترة الظهيرة عنده في المعمل والعودة عصرا الى البيت. لقد استطاع والده ان يلم اولاده الخمسة حول تجارته ويطعمهم من خيراتها كالحمامة التي تطعم بفمنها فراخها تحميهم بجناحيها من الضياع. فأسس لهم معامل لصناعة الاحذية ومحلات لبيع الأحذية بالجملة والمفرد، حتى اصبحوا،في فترة الحصار ،من اهم تجار الأحذية في بغداد.
استطاع محمود ان يؤسس له اسم ورصيد تجاري محترم، اتسم بصدق التعامل ووفاء في الدفع ونجاح في تطوير عمله مكرسا كل ابداعاته التكنولوجية لتجارته.

بعد ان سقط الصنم تبارك محمود خيرا في العراق واعتقد ان التجارة ستزدهر لكن العكس كان صحيحا. فالاسواق قد اغرقت بالبضائع المستوردة الرخيصة وحكم السوق قانون التجارة الحرة الذي ساهم في ضرب كل المصانع العراقية لكن محمود واخوته تاقلموا مع تلك المتغيرات بسرعة. فالتاجر العراقي الذي استطاع ان يصمد ضد الحصار الذي مورس ضده من قبل الصنم من منع استيراد المواد الأولية ومصادرة حقوقة التجارية وفرض اتاوات من قبل ازلام الصنم يستطيع ان يتعايش مع كل ماهو جديد بسهولة.

طلبت زوجة محمود من القاتل اخراج ابنتها الجريحة متناسية جروحها لكنه صرخ بوجهها مجددا:
انا لم اقدم الى بلدكم لاعمل ممرض. بل انا جئت اليكم ،ايها الرعاع، محررا ولحماية أمن بلدكم ومطاردة الأرهابين فقط وعليكم ان تفهموا اننا سنصنع منك بشراً احراراً.

تركهما جريحتان سابحتان في نهر من الدماء وهما غريقان لايعرفا العوم في هذا النهر الأحمر . فالأم كانت تنزف كالحمامة الخارجة للتو من معركة خاسرة مع احد النسور الجارحة الذي حاول ان يفترس وليدها. والبنت كانت تستحم بدمها ودم ابيها منزوية تحت كرسي امها تصرخ برعب.

ترك الجندي الأمريكي اليها كارت مكتوب باللغتين العربية والأنكليزية:

بأمكانكم مراجعة الجهات الأمريكية المختصة لأستلام التعويضات عن القتل بالخطأ.

صرخت بوجهه باكية اي نوع من البشر انتم، فانت لم ترمش عينك على هذا الجرم وكانك تعوضني عن بدلة تمزقت او سيارة اصطدمت، وغير مهتم بمشاعر الحزن التي سببتها جرائمك.

اي مبالغ ستعوضني عن زوجي الذي عشت معه، على مدى عقدين من الزمن، احلى ايام عمري.
كل شيئ عندكم يعوض بثمن، لكن من سيعوض سعادتي التي فقدت؟ عزائي بغيابة، وحدتي التي سترافقني بقية عمري؟
لكنكم لم تحسبوا ثمن جراح الروح التي لاتندمل ولاتقدر بثمن.ان ضمائركم لن تعذبكم يوما في خنق الفة هذه العائلة البريئة.
ان دولاراتكم لن تعوض ابنتي التي فقدت كلمة بابا مدى الحياة ومشاهد الموت هذه الذي ترى فيه والدها ،مذبوح بدمه فاقد الحس والحركة، سيرافقها وسيسبب لها كأبة طول حياتها.
ان اوراقكم الخضراء لن تعوضني عن دفئ حرارته التي التحف به كل مساء ولن تعوض وحدتي وليلي الحالك الذي ساقضية من بعده.
ان رزم دولاراتكم تفوح منها رائحة الدم ولن تساوي فرحة دقات قلبي لحظة وصوله من العمل، فانا احتفي به كل مساء كالعاشقة المنتظرة ساعة اللقاء.
كل دولارتكم لن تسترد ساعة واحدة في مسامرة زوجي الحبيب او حتى المشاكسة معه.
انكم لاتتعاملون معنا على اننا بشر نمتلك مشاعر واحاسيس بل تتعاملون على اننا مكونات بشرية جامدة ممكن ان تعوض بمبالغ محددة.
ايها القاتل اننا نمتلك انهارا من المشاعر التي تفتقدها انت وغيرك يارعاة البقر.
ان المال لايعوض السعادة ايها المحرر . ومن قال لك اننا جياع وبحاجة الى مالكم فهو قد كذب عليك لان تحريركم قائم على الكذب.
انتم من بحاجة الى مالنا وانتم من جاء لامتصاص دمنا وهذا كله مالنا وانتم تتصدقون به علينا.
انكم تخفون جرائمكم وعار فضائحكم بأوراق من الدولارات التي تذوب مع شمس الحقيقة.
جراح الضمير لاتعوض بمال الدنيا ولن اقبل المساومة على حياة زوجي مهما كان تعويضكم.
الله الغني عنكم وعن اموالكم الحرام الممزوجة بعقدة الذنب والمصنوعة من دم زوجي.

اي جنس من المخلوقات انتم هبطتم على ارض العراق. لقد ازتم الحزن في قلبوبنا المفجوعة.

صوب بندقيته نحوها ، وهو يردد:
اخرسي ايتها السافلة، والا سافجر راسك كما فجرت رأس زوجك.
لن اخرس ايها المتوحش الفاقد للانسانية ولن تخيفني بندقيتك!
اقتلني وهي تصرخ بدموع حمراء مغلية بالدم
اقتلني... الموت اشرف لي من ان اعيش مصدومة ومكسورة الامل طول حياتي.
لكنكم معروفين بجبنكم. فانتم لاتخرجون من مصفحتكم طول النهار والليل وحرارتها تسلخ جلدكم يابن التي لاصامت ولا صلت ولا صاحت الله واكبر.

تجمع قوات الحرس الوطني من حولها فصرخت بهم!
ساعدوني في اخراج طفلتي التي ستموت بسبب اهمالكم!
هم رجال الحرس الوطني لاخراج الطفلة، كلاعب كرة قدم مبتدء لم يعتاد اللعب في الملاعب الكبيرة المفتوحة. فهم لايعرفون ماهو مطلوب منهم عمله.

ثم التفتت الى مجموعة اخرى من الحرس الوطني ينظرون بعيون خائفة الى السيارة. ماذا تريدون مني وانتم وافقين كالثيران المنتظرة لحظة انطلاقها؟ اخرجوا جثة زوجي لاتخافوا فهو ليس مفخخ ولا ارهابي، انه مواطن عراقي شريف.

الأ يكفيكم عارا! الغرباء يقتلون رجالكم ونسائكم تسبح بدمائها وانتم تهرولون كالبقرة العجوز ورائهم تفتخرون بهم وتحمون مؤخرتهم لقتلنا.
من سياخذ حقنا منهم؟
ومن منكم يجرء على تحميلهم مسؤلية هذا المصاب؟
اهذه هي الحرية الموعودة؟

هرب رجالات الحرس الوطني من امامها كالجرذان الخائفة من المصيدة.
ثم تركها الجندي تنزف هي وطفلتها واختبأ في مصفحته ثم مضى قدما. بعد ان قدمت سيارة الأسعاف الى الحادث .اتصلت زوجة محمود بأخوة زوجها واخواته وكل اقاربهم.

هرع اخوان محمود الأربعة تاركين تجارتهم ومعاملهم متجهين الى مستشفى اليرموك ليروا مسلخاً بشريا حيا في ممر المستشفى لجثث عشرات العراقيين الابرياء مضرجة بدماء الحرية مرمية على الأرض كالذبائح المنحورة صبيحة يوم عيد الفطر في مكة المكرمة.
مروا من بين الجثث مرتين ولم يتعرف احد على جثة اخيهم. بيد ان اخية الكبير صرخ باعلى صوته! هذه ساعته الذهبية وقميصة الحريري المقلم. سمى بأسم الله الرحمن الرحيم وقلب الجثتان جانبا ليرى وجه اخيه مهشما فاقد ابتسامته.
سحبه بدموع غضب وجلس على الأرض فسنده على صدره، مسح الدم من وجهه واغلق عينية ثم نظف خديه الذي مزقهما الرصاص فقبله ثم حضنه بساعدية وقد اجهش في البكاء ودموع الوداع تهرب من وجنتية وينوح وينتحب كالأم المفجوعة بولدها.
اقتربوا اخوته واخواته وهم يقبلون راسه ويده وكل لحمة متناثرة من جسمه، فاقدون السيطرة على انفسهم ونصبوا مأتما ساخن الاشجان.

انسل اخاه الكبير من العزاء العائلي وذهب الى الأستعلامات طالبا من ادارة المستشفى استكمال الوثائق الرسمية ليتم دفنه في نفس اليوم.
اعتذر منه الطبيب وطلب مراجعة الضابط الامريكي في المستشفى لانه لايستطيع تسليم الجثة التي قتلت بنيران الجيش الأمريكي. فهذه الحالات خارجة عن صلاحيتهم.
حتى الموتى لاتمتلكون صلاحية اخراج قيدهم. فما هي صلاحيتكم اذاً؟ انا اعرف حدود صلاحيتكم جيداً. فأنتم خير مهرجين على شاشات التلفزة واستلام الرشاوي وسرقة الأدوية. خرج غاضبا وضرب باب الطبيب بقوة.

دخل الى الضابط الأمريكي الذي يجيد التحدث باللغة العربية وعندما اوضح سبب الزيارة.
صاح الضابط: انتم العراقيون همج وربش ولم تتعلموا قوانين المرور والسلامة العامة ولاتنصاعون لاوامرنا. ان اخيك رفض التوقف لاشارة يد الجندي الأمريكي مما اضطر الى فتح النار علية دفاعا عن النفس.

ياسيادة الضابط نحن لم نتعاد على اشارات المرور الأمريكية ولم نعرف وسائل ايضاحكم. فنحن معتادون على نظام المرور العراقي.
اسمع جيدا! انا اسلمك الجثة بعد ثلاثة ايام سنقوم بتشريحها واستخراج الطلقات الأمريكية منها.
لكن ياسيادة الضابط اننا مسلمون وتعاليمنا ترفض التشريح. ثم لِمَ التشريح اذا كنتم تعرفون اسباب الوفاة.
هذا كلام معقول ايها العراقي، ساعطيك الجثة فورا، مقابل ان تتنازل عن استلام التعويض النقدي عن القتل بالخطا والبالغ الف دولار امريكي. وانا موافق.

بعد ان وقع على التنازل قال له ان حياتنا كلها تنازلات ثم سأل الضابط:
سيادة الضابط لماذا يعوض اهل الجندي الأمريكي المقتول في العراق بمليون دولار واغلبهم مكسيكين وكوبيين وافارقة غير مجنسين وعاطلون عن العمل ومن ذو التعليم المتوسط بينما يعوض اهل القتيل العراقي بالف دولار مهما كانت درجته العلمية؟ اتعرف ان اخي الفقيد مهندس؟ ام انك غير معني بذلك.
ضحك الضابط الأمريكي وعلق قائلا: هل انت غبي! كيف تقارن الدم الأمريكي بالدم العراقي.

انا لست غبيا ياسيادة الضابط صارخا بوجه! نحن تنازلنا لكم عن العراق بكل خيراته لكن لن نتنازل عن دمائنا مهما كان الثمن. الدم العراقي مر كالعلقم يسم المحريين ولايستطيع اي غريب ان يشربه. مر ببغداد محررين قبلكم، لكن ما ان شربوا من دم دجلة والفرات، تمزقت امعائهم وفروا كالفأران الهاربين من الهررة.

قبل ان يخرجوا من المستشفى مروا على زوجة اخيهم الجريحة فلم يجدوها. فهي لاتزال في غرفة العمليات لاستخراج الشظايا من جسمها. ثم عرجو الى قسم الأطفال، وحال ان تاكدت الطفلة، بوجود اعمامها وجدتها وعماتها بقربها، بكت وهي تصرخ وتريد ان ترى ابوها وامها.

بكت جدتها فاقدة اعصابها، وقالت لها ان امك ستريها قريبا لكن ابوك سافر الى مكان بعيد ولن يعود.
الى اين سافر وهو كان معي في السيارة والدم في وجهه؟
سافر في رحلة الحرية، تلك الرحلة التي تقطع للعراقيين تذكرة سفر بلا عودة. رحلة ثمنها انك عراقي حامل كفنك على كفوف الراحة تتجول فيه ليل نهار لتقدمه وقودا لمشعل تمثال الحرية الامريكي.

لملموا جسد اخيهم المهشم ووضعوه في تابوت خشبي لبيدءوا رحلة العذاب الثانية.

جلس الاخوة مساءاً يخططون ويجدون السبل لايصال جثة اخيهم سالمة الى مقابر النجف الأشرف وهم سيمرون عبر مثلث الموت الممتد من اطراف بغداد الى اطراف الحلة. هناك سيلتقون بالملثمين والمعممين واصحاب اللحى من ابطال المقاومة العراقية الشريفة الذين ينحرون ابناء جلدتهم على الهوية. فبمجرد مرور موكب تشييع الجثمان. وبعد ان يتم التاكد من ان الجثة شيعية في طريقها الى مقابر الأئمة الصالحين. يخرج رجال المقاومة من بين الأدغال كالعقارب، موجهين رشاشاتهم صوب موكب الجثمان، ليأزوا بهلاهل من الرصاص تحولهم الى جثث فاقدة صلاحيتها ترمى في مزابل او مناطق مهجورة عرضة للكلاب والطيور الجارحة تنهش لحمهم قبل ان يسلموا الى اهلهم.

انتم تعرفون اني عسكري سابق ولي معارفي، قال اخاه الأصغر. وبينما انتم في المستشفى، اتصلت بممثلي رجال المقاومة العراقية واتفقت معهم على دفع دفتر واحد لقاء مرورنا بسلام من مثلث الموت. وهم يتعهدون بعدم التعرض لنا.
الف دولار لمجرد مرور موكب التشييع لاقل من خمسين كيلومتر ،اعترض احد اخوته واعتبر ان هذا مبلغ كبير وغير منطقي ولاداعي لدفع مثل هذا الأبتزاز. فعبور قناة بحر الماش بين بريطانيا وفرنسا تكلف اقل بكثير من هذا المبلغ. لكن الاخ الكبير حسم الأمر وطلب منهم ان لايتناقشوا كثيرا. فالف دولار لاتساوي شيئا مقابل ثمن ارواحننا ودفن اخينا في تربة طاهرة يخلد قرب امه وابيه واجداده.
صاح احدهم، استغفر الله العلي العظيم، نقتل خطا وندفع ثمن دفننا فهذا مالايعرفه اي قانون سماوي ودنوي. اننا سابقا كنا لانملك حق التعبير عن راينا لكننا اليوم السنتنا حرة لكن لانملك حق العيش ومجبرون على دفع ثمن موتنا ايضا.



#لميس_كاظم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطاب الورود البيضاء للرئيس بوش
- مسيرة موت صامته
- بطاقات حب في خطاب دولة رئيس الوزراء.
- حكومة الخلطة السحرية
- الأسلام المعتدل في الغزل الامريكي
- قلم انيس منصور في مقاله المفخخ
- اندماج ثقافة الجبل والهور في دستور العراق
- الصمت لايتعب قلم المثقف العربي
- مهام رئيس البرلمان العراقي
- المحاصصة الطائفية السياسية تتناقض مع مهام الحكومية المهنية
- السلم المدني والأرهاب الاجتماعي
- هجرة العقل المفكر وعودة العقل المدمر
- عيد نوروز ...عزف السهل ورقص الجبل
- حماية الحرية الشخصية في الدستور العراقي
- مجزرة حلبجة شذرة في البرلمان العراقي
- المعارضة السلمية تحت قبة البرلمان
- المرأة العراقية بين الدستور الديني والعلماني
- موقف الجامعة العربية من الزلزال الديمقراطي
- الجامعة العربية المفتوحة طريق نحو التكامل العلمي
- مباركة حسني مبارك


المزيد.....




- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لميس كاظم - بطاقة تعويض عن الحياة