أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - يوسف ابو شريف - دنانير أمي















المزيد.....

دنانير أمي


يوسف ابو شريف

الحوار المتمدن-العدد: 4144 - 2013 / 7 / 5 - 13:11
المحور: سيرة ذاتية
    


حياة الفقر كالحرب؛ يرزح صاحبها تحت قصف الجوع، ودمار الحزن، وقنص الذل، ويعيش أسيرا لِهمِّ الدين، طريدا لسؤال أصحابه عنه، فيحطم نفسه الخوف من لقمة الغد، ويخلف الحرمان في كيانه جراحا لا يزول أثرها إلا بزواله هو نفسه. وأسوأ ما في تلك الحرب هو أن الفقير يقضي سني فقره منحنيا، متخندقا في حفرة الخوف من السوء، ولا يتحرك إلاّ زحفا ليتجنب وابل نظرات فرح الشامتين و حزن المتعاطفين مع حالته على حد سواء.
وإذا انتهت حرب الفقير مع الفقر وانسحب الفقر من ساحة المعركة مهزوما، باحثا عن حياة جديدة يغزوها، يبقي خلفه لئم الغام الذكريات المشتاقة للإنفجار في كل لحظة ، والتي يصعب التنبؤ بمكان وجودها ويسهل الدوس عليها واستثارتها. خطيرهو المرور من فوقها، لأنها قادرة على استنساخ ألآم الحرب في كل لحظة، لتعيد للفقيرمأساته وتيقظ في نفسه حروق الماضي وكأن الحرب فيها تبدأ من جديد كلما سمع صوت انفجار ألغامها، حتى ولوانفجرت بعيدا عنه.
ما زلت إلى اليوم ـ وبعد أن صار الفقر من مكونات تاريخي ،منسحبا من واقعي واقفا على سور حدود حياتي ـ مازلت أخشى أن يتسلق فقري السور مرة أخرى أو يطل علي بوجهه القبيح ليلقي علي تحية بغيضة في مساء سعيد. حاربت ذلك الخوف كما حارب (دون كيخوت) طواحين الهواء، فكانت حربي عبثية يائسة، لأن سيفي كان أثقل من أن تحمله يد أضعفها المكوث الطويل في أرض الضعف ، وكنت وأنا أحاول حمل سيفي الثقيل بيدي الضعيفة على يقين بأن بكاء طفل جائع في مشهد فيلم ، سيهدم كل ما غنمته من نصري الهش في حربي اليائسة تلك ضد أشباح بؤسي.
بعد ربع قرن على حياة جديدة أنستني طفولة جائعة، ومراهقة كسيرة، وشبابا يائسا، زارني من الماضي يوم مشهود. وقرع أجراسي بصوت واضح اللئم في رناته . ففتحت بابي لأراه متجسدا أمامي على شكل حكاية هزلية قصيرة، ألقى بها كاتبها في فضاء الإنترنت . فوجدت عنواني دون أن تبحث عني، وسقطت على كياني سقوط القذائف العمياء على البيوت الآمنة.
كان صديقي يتحدث في حكايته عن مأساة له وهو يضحك ، فايقظت مأساته الجديدة مأساة لي قديمة، وأخرجت دموعي من ينابيعها المردومة. لتعيد سرد (قصة دنانير أمي العشر) وتخرج أشلاءها الدفينة من قبر النسيان، ذلك القبر الذي ظننت أنه لن يفتح أبدا،ولن تشتم حياتي الجديدة رائحة جثة البؤس العفنة المستلقية فيه.
أمي تستدين عشرة دنانير من خالي ، تلك السيدة عزيزة النفس دقيقة التفكير في أمر كرامتها حاربت عزة نفسها حربا شرسة، وصارعت كبرياءها ليلة كاملة لكي تستطيع التفوه بطلبها أمام أحد غيرها هي نفسها .ولم يهوِّن على كرامتها أن الدائن كان أعز إخوتها، وأن للمبلغ ضرورة قوية في بيتها تجبرها على تحمل جحيم نفسها وهي تطلب حاجتها.
سلمتني أمي المبلغ وأنا إبن الاثنتي عشر ربيعا، وطلبت مني تسوق حاجات للبيت من دكان مجاور، وشدت بالمبلغ داخل راحتي شادة على قبضتي بقبضتها لتؤكد لي قيمة ما تعطيني، وارتفاع ثمن ما دفعته هي من أجل الحصول على ما تدفع به الآن إلى راحتي.
ولأن التعاسة لا تختار إلا أصعب الاوقات للاعلان عن نفسها في نفس التعيس ، ولا تكف عن التتلذذ باثبات سوء خبثها ، و لاتخجل من الرقص مع سوء حظه في حفلة لئيمة عارية من الرحمة، فقد ألهتني غفلة ما عن تفاصيل أمر والدتي الذي كنت أعرفه، فأضعت دنانيرها. ثم رحلت في بحثي عما أضعت إلى عالم من كره الدنيا وكره نفسي حتى أني فكرت لثوان بتجريب الرحيل خارج حدود الحياة طوعا، ولم يكن مهما عندي أن الرحلة ستنتهي بي إلى جهنم، التي رأيتها في تلك اللحظات خيرا من العودة الى البيت حاملا خبر الخيبة لأمي.
كانت خشيتي من غضب أمي وعقابها آخر همي حين كنت تائها في زقاق المدينة باحثا لنفسي عن ملجأ من جحيم نفسي على ما فعلت. وكان وقود جحيمي وجه أمي المطلي بالكدر حين تتلقى خبر دنانيرها المفقودة، ذلك الوجه الذي أخفى البؤس تضاريس الحياة الطبيعية عن سطحه ـ كان يطاردني ويحجب عني رؤية العالم حتى كادت أن تدوسني سيارة في الشارع. فتمنيت وقتها لو أن السيارة فعلتها فلربما أراحتني مما كنت فيه.
عدت إلى الدكان بعيد الغروب بسؤال يائس عن دنانير أمي لأتلقى خبر أمي التي تبحث عني كالمجنونة خوفا من مكروه ربما يكون قد أصابني. جررت خطواتي إلى البيت فكان الطريق بأمتاره القليلة أطول مسافة قطعتها في حياتي ، يثقل رحلتي وجه تنقبه الخيبة، وتغسله الدموع من كآبة فعلتي وتعاسة ما ينتظرني.
احتضنتني الحنونة منتحبة، ولم تستعجل سؤالي عن سبب هروبي وتفاصيله، لأن عودتي سالما ـ ذلك الجزء الأهم من رحلتي الحزينة بالنسبة لها ـ كان قد أنساها حتى دنانيرها الغالية
لم تبد أمي ولو علامة من علامات الصدمة حين علمت بقصة النقود الضائعة، فلقد أتقنت أمومتها فن قيادة حزنها ويأسها في تلك اللحظة ، وربما تكون قد قارنت ضياع دنانيرها بضياع إبنها فاستتفهت التعليق على الأمر، وهذا يعني أني جلبت لها عزاءاً في دنانيرها حين تغييبت عن البيت من حيث لم أخطط.
كانت السيدة الأمية تدرك بحدسها بأن إظهار حزنها على دنانيرها سيمزق روحي وربما إلى الأبد، فقاتلت حتى لا تتسرب صورة الكدر من وجهها الى عيني لتشتمها، وأجبرت ابتسامتها على المكوث على محياها وقيدتها حين همت بالهروب من مكان لا يليق بها ولا ترتاح به ،مع أنه لم يغب عني ما كانت تخفي تلك الابتسامة من براكين خلفها.
ــ فلتذهب النقود إلى الجحيم ، إن خوفي عليك اليوم كان أشرس من فقدان كل كنوز الأرض، المهم أنك سليم صحيح أمام ناظري
لم يكن هدوء أمي، وابتسامتها التي برعت في إقناعي بطبيعيتها ليخففا كثيرا من الحمل الذي كان يثقل على نفسي، وخصوصا أنها دخلت غرفتها بعد ساعة، وأغلقت على نفسها الباب بادئة بنحيب شعرت به قبل أن أسمعه. وأظن أن نحيبها هذه المرة كان بسبب دنانيرها المفقودة.
كان بكاؤها يجلدني بسوط لم أجرب في حياتي ألما بسوء ألمه فآلآم سياط الأجساد تختفي عادة بعد أيام من وقوعها على الجسد، ويكفيها مرهم ليزيل أثرها. أما ألمي فقد بقي ربع قرن بعد حدوثه يؤذيني كلما مرت الحادثة ببالي ولم تستطع حتى مراهم الزمن بقوتها المعهودة أن تمحوه.
كم تمنيت وقتها لو أن أمي خرجت من غرفتها وانهالت علي ضربا حتى يغمى علي . كم تمنيت لو أنها حطمت لي أنفي أو اقتلعت أذني من مكانها علّ ألم جسدي يلهيني بعض الشيء عن ألم نفسي لكنها لم تفعل، حتى أنها لم تفاتحني في موضوع النقود الضائعة بعد هذا أبدا،لأنها علمت بحدسها كم كان هذا يؤلمني . فكان كبتها لغضبها أشد ألما لي من غضبها نفسه. وزاد عدم معاقبتها لي من جرحي بدلا من أن يخففه.
ربع قرن مضت على ضياع دنانير أمي، كدت أصدق بأن نفسي شفيت من أثر ضياعها اللعين ، وأتسلى برؤية أمي خارجة من هم التفكير في مصروف اليوم ونكد قدوم العيد علي وعلى إخوتي،إلى التفكير في متعة التسوق بعيدا عن الحسابات الناقصة ،وفرح انتظار الأعياد على أبنائي و أبنائهم . وبقيت كذلك إلى أن أطل علي كاتبي الفقير بحكاية دنانير خمسين أضاعها كما أضعت أنا دنانير أمي .
لا أظن أن كاتبي توقع أن تؤذي قصته أحدا غيره هو نفسه حين وصف يوما عصيبا من أيام حياته بنكهة فكاهية ، وضحك من سوء يومه الذي انتهى بضياع دنانيره. أحسست كاتبي يبكي دنانيره الضائعة ضاحكا كما بكت أمي دنانيرها صامتة . فازال صاحبي ببكائه لاصق الجروح عن جرح جثم على صدري لربع قرن وعاد النزيف إلى نفسي من جديد وكانه يحدث الآن ــ على الرغم من أن ظروفي اليوم تغيرت كثيرا وأن أمي لن تبكي ذلك البكاء في هذا الزمن الجديد حتى لو أضاعت ألف دينار .
وبحثت عن رفش لأدفن به كدري الذي نبشه لي صديقي من بين سطوره فلم أجد أفضل من خمسين دينار أرسلها له تعوضه عن خمسين ديناره ، مع علمي بأنها لن تلهيه عن الألم بفقدانها ،ثم أضفت إلى خمسينه خمسينا مني عل هذا يساعدني في رتق ثقب تاريخي يخر منه الكثير من السوء على نفسي ، أو تصغير ذلك الثقب إن لم أستطع رتقه تماما . وأملت أن يغطي صوت فرحته المؤقتة باستعادة خمسين ديناره على صوت بكاء أمي الذي لم يكف عن الحفر في قلبي منذ ربع قرن.
أنا اليوم لست غنيا، ولكن حالي أفضل بكثير مما كانت عليه أيام العشرة دنانير والمبلغ الذي أرسلته لصاحبي كان نصف مكافأة العيد السنوية من رب عملي ، قسمته بين أطفاله وأطفالي . ومع أني أعلم تماما أن مبلغي لم يغنه ولم يغير شيئا في وضعه، إلاّ أنه قدم لي راحة مؤقتة من عذاب دام ربع قرن، وأهداني لاصق جروح جديد أوقف نزيف أحد جروح حربي القديمة مع الفقر، الى أن تأت قصة أخرى وتعيد فتح جرح آخر من جديد فشكرا له على قبول الهدية.



#يوسف_ابو_شريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- للحقيقة طريقة
- رسائل الى ابناء لم يولدوا بعد من أيام الرسائل الورقية
- أنا وكلب هايدي
- سنة أولى سياسة
- قصة لا دينية جدا جدا جدا
- ايام الرسائل الورقية 2 لطيفة ونادرة
- كيف تقضي على الإسلام في 5 أيام بدون أوهام
- عمى الوان
- حياة جديدة من رواية طين بلادي رواية لم تنشر بعد
- رائحة ابطي بين المشوي والمحشي
- أيام الرسائل الورقية _ مرزوق وحسان


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - يوسف ابو شريف - دنانير أمي