أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسني إبراهيم عبد العظيم - الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بين الإنسان والبيئة 3















المزيد.....


الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بين الإنسان والبيئة 3


حسني إبراهيم عبد العظيم

الحوار المتمدن-العدد: 4139 - 2013 / 6 / 30 - 02:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




أوضحنا في المقال السابق من خلال الإطلالة التاريخية أن علاقة الإنسان بالبيئة كانت علاقة تبادلية على درجة عالية من الثراء والديناميكية, وأن هذه العلاقة قد اتسمت بالتوتخلال القرن العشرين, حيث حطم الإنسان العديد من عناصر النسق البيئي من حوله, ولعبت التكنولوجيا دوراً مزدوجاً, فقد أحدثت نقلة هائلة في التشخيص والعلاج من ناحية, كما أنها أسهمت في حدوث التلوث الذي أدى بدوره إلى ظهور العديد من الأمراض من ناحية أخرى, وبالإضافة إلى ذلك فقد شهد هذا القرن حدوث أمراض عديدة ارتبطت بصورة أو بأخرى بالعوامل الإيكولوجية.

واستناداً لذلك, فقد كان للظروف البيئية دوراً واضحاً في حدوث العديد من الأمراض, وانتشارها في مجتمعات مختلفة, وهذا ما سوف نوضحه في المحور التالي من الدراسة.

ثالثاً: العوامل الإيكولوجية كأسباب لحدوث المرض:

يشير الأطباء في التقسيم الحديث للأمراض إلى نمط من الأمراض يسمى «الأمراض البيئية» Environmental Diseases وهي تلك الأمراض الناتجة عن تأثير الوسائط الكيميائية والطبيعية, سواء أكانت هذه الوسائط بيئية خالصة أو من صنع الإنسان, وتعد الأمراض المعدية نموذجاً لهذا النمط من الأمراض, فأشعة الشمس مثالاً للمصدر البيئي للمرض, فعلى الرغم من أهميتها البالغة للإنسان, إلا أن التعرض فترات طويلة للأشعة فوق البنفسجية الصادرة عنها يؤدي إلى حدوث أمراض خطيرة على الجلد من أبرزها مرض السرطان. (Damjanov 1994 : 171)

والواقع أن كثيراً من الباحثين في مجال الدراسات الطبية والاجتماعية والإيكولوجية أكدوا أن ثمة علاقة قوية بين الأحداث التي تمر على الإنسان في البيئة التي يعيش فيها وجملة معينة من الأمراض, أي أن هناك علاقة بين البيئة بالمعني الاجتماعي وانتشار المرض, فقد أشار «أوكين» Oken وزملاؤه إلى أن البيئة الاجتماعية – بما تضمه من نظم اجتماعية وجماعات متعددة, وأحزاب سياسية ... إلخ - لها تأثير كبير على جهاز مقاومة الجسد. وأضاف هؤلاء الباحثون أن الخلل في هذه النظم يقلل من قدرة عمل الجهاز المناعي الذي يعمل بدوره على تقليل أثر الإجهاد الناتج عن ضغوط البيئة, وتوصل الباحثون إلى مصطلح جديد أسموه «الإجهاد الاجتماعي» social stress وعرفوا هذا المصطلح بأنه «تلك الضغوط التي يعاني منها ساكنوا المدن والفقراء والمسنون والاقليات العنصرية, والجماعات الاجتماعية وغيرهم». (الموسوي 1989 : 34-35)

إن القضية الأساسية في هذا السياق هي أن البيئة –بجانبيها العضوي والاجتماعي- الثقافي تمثل مصدراً للمرض, وإدراكاً منهم لأهمية هذه القضية, فإن الباحثين في المجال الطبي والمجال الاجتماعي يهتمون بصورة مشتركة بالعلاقة المتبادلة بين الإنسان والبيئة وانعكاس ذلك على انتشار المرض, وقد كشف التراث العلمي في علم الاجتماع الطبي عن العوامل الإيكولوجية المؤثرة في حدوث العديد من الأمراض وانتشارها, وقد أوضح هذا التراث أن العوامل الإيكولوجية لا تعني فقط العناصر الطبيعية للبيئة, وإنما تعني كذلك عناصر البيئة الاجتماعية والثقافية.

فقد نظر الباحثون إلى المرض على أنه متغير تابع, وحاولوا التعرف على الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها العوامل البيولوجية والثقافية وضغوط البيئة على حدوث المرض وتوزيعه, كما نظر الباحثون إلى المرض على أنه متغير مستقل, فتساءلوا عن الآثار والمصاحبات الاجتماعية والثقافية للمرض, بما في ذلك الجوانب المعرفية الخاصة بحدوث مرض معين لدى جماعة معينة. (نبيل صبحي 1992 : 53)

وكتب البروفيسور «هاري ديتريتش» H. Daitrish وهو أحد أساتذة الطب في جامعة «كاليفورنيا» الأمريكية يقول: لقد استطعنا أن نسيطر على أكثر الأمراض الجسمانية التي كنا نخشاها, ولكن الجزء المهم المتعلق بصحة الإنسان ورفاهيته هو محاولة إدخال بعض الفلسفة الاجتماعية في شتى نواحي حياته وسلوكه, وهذا لا يتأتى إلا بدراسة بيئة الإنسان (وخاصة بيئته الاجتماعية) ودراسة الطب من الناحية الاجتماعية أي تطبيق علم الاجتماع في الممارسة الطبية. (الموسوي, 1989: 36-37)

وانطلاقاً من هذه الرؤية، أكد «هاديسون» Hudson في دراسة عن مرض النوم أن المسبب العضوي لهذا المرض يتوافق مع الإنسان في البيئة التي يعيش فيها, وكشفت الدراسة عن ذلك التفاعل الوثيق بين المتغيرات الثلاثة: «المرض – الثقافة - البيئة» فالعدوى بهذا المرض تسببها كائنات عضوية معروفة, هذه الكائنات هي محصلة التفاعل بين الممارسات الاجتماعية والظروف المناخية التي تتيح المجال لهذه الكائنات في التوطن والاستقرار في هذه البيئة. (Fabrega 1974 : 61)

إن مرض النوم ينتقل عن طريق بعض أنواع من ذباب «تسي-تسي» Tsi-Tsi وتقدر المساحة التي تعيش فيها هذه الذبابة في إفريقيا بحوالي أربعة ونصف مليون ميل مربع, لكن الأنواع الناقلة للمرض تنتشر في بؤر مختلفة على امتداد هذه المساحة, تسمى أحزمة الذباب, وتحدث الأوبئة بهذا المرض نتيجة الاحتكاك بين الإنسان وموطن الذباب بسبب الهجرات البشرية, أو نتيجة التغير في البيئة النباتية التي تجعل الذباب يغير مكان توطنه إلى حيث التجمعات البشرية القريبة من الغابات. (عطية 1995 : 246)

وقدم «ليفنجستون» Livingstone في عام 1958 نموذجاً مماثلاً وواضحاً عن الارتباط بين البيئة الطبيعية والاجتماعية وحدوث أمراض معينة, حيث ذكر أن الظهور التاريخي لمرض الملاريا في بعض الأقاليم الإفريقية قد ارتبط بالعوامل البيئية «الإفريقية» فقد تبين أن الوسيط Agent الناقل لهذا المرض لا يستطيع أن يعيش في البيئة المظلمة أو المناطق الظليلة Shaded areas أو المجاري المائية السريعة, كما أنه يحتاج إلى عائل Host ينقل إليه المرض من خلال الدم, وكان هذا العائل هم المزارعين, إذ تبين أن المرض ينتقل في قطاعات واسعة من السكان –خاصة الفلاحين- حيث كان معدل انتشار المرض بين غير المزارعين والصيادين أقل, وعندما تحول الصيادون إلى الزراعة ومارسوا الأعمال المرتبطة بها, وخاصة الاحتكاك بالمياه الراكدة, أصبحوا مأوى ملائماً لوجود الوسيط المعدي للملاريا. (Hahn 1995 : 60)

وتؤثر العوامل الإيكولوجية تأثيراً كبيراً في الأمراض الطفيلية بشكل عام, فقد أكدت دراسة عن علاقة الإصابة بالديدان المعوية بالبيئة الاجتماعية- الاقتصادية أن هناك ارتباط وثيق بين مجموعة من المتغيرات الإيكولوجية كالمهنة والدخل ومستوى السكن والتعليم والوعي الصحي من جهة, وانتشار الأمراض الطفيلية من جهة أخرى, كما أوضحت الدراسة أن الأطفال الذين تتمتع أمهاتهم بقسط بسيط من التعليم الرسمي, ويعيشون في المناطق المزدحمة والبيئات الفقيرة ترتفع نسبة العدوى بالمرض بينهم بدرجة أكبر من الأطفال الذين يعيشون في بيئات أفضل, كما كشفت الدراسة كذلك عن الدور الذي تلعبه العوامل الاجتماعية الاقتصادية في جعل بعض الأفراد بمثابة مرفأ للديدان المعوية. (Holland 1988 : 209)

ويمثل مرض البلهارسيا – وهو أحد الأمراض الطفيلية- نموذجاً واضحاً لذلك الارتباط بين العوامل الإيكولوجية والمرض, فهذا المرض من أكثر الأمراض الطفيلية انتشاراً في العالم الثالث, وخاصة القارتين الإفريقية والآسيوية.

يعد هذا المرض من الأمراض المتوطنة Endemic في عدة مناطق في العالم منها «سانت لوشيا» St. Lucia و«بورتوريكو» و«مصر» و«غانا» و«زيمبابوي» و«نيجيريا», وقد كشفت الدراسات التي أجريت عن المرض أن اسباب انتشاره في هذه المجتمعات متشابهة, ترتبط أساساً بكيفية تعامل الإنسان مع المياه, ويلعب التكامل بين السلوك والمعتقدات المرتبط بالتعامل مع المياه دوراً هاماً في انتشار المرض. (Croll & Cross 1983 : 4-5)

فعلى سبيل المثال, يوجد ارتباط قوي بين العادات المنتشرة في الريف المصري مثل استحمام الأطفال في الترع (الترعة هي قناة مائية طويلة تروي مساحات كبيرة من الأرض, وتتفاوت الترع في طولها وعمقها وعرضها تبعاً لمساحة الأرض التي ترويها), ونزول الأفراد المصارف المائية وقنوات الري وأماكن المياه الراكدة وهو حافي القدمين ومكشوف الساقين واليدين وبين الإصابة بمرض البلهارسيا, كما أن التعود على القيام بعمليات غسل الملابس والأواني والخضروات والفاكهة وغيرها في مياه الترع التي تتلوث غالباً بفضلات الإنسان والحيوان تؤدي أيضاً إلى الإصابة بالمرض, ولكي يتم منع الإصابة فإن ذلك يستلزم تغييراً في العادات تماماً مثلما يحتاج إلى تغيرات في مستوى الإمكانيات المتاحة في البيئة, ويجب ألا نتصور بسطحية أن حل المشكلة يتطلب مجرد توفير المياه النقية في المنازل, أو يتطلب إجراءات دعائية سريعة, بل يجب توفير وسائل ترويحية بديلة عن الاستحمام في الترع, وتغيير الأنماط السلوكية في المجتمع الريفي. (صبحي 1992 : 78- 79)

واستناداً إلى ما سبق, نلاحظ أن مقاومة المرض في مصر –خاصة خلال تسعينات القرن الماضي- كان يتم اختزالها في «نشرات إعلامية» قاصرة, لا تتغلغل في عمق المشكلة, وإنما تمسها مساً سطحياً من خلال تعليمات وعظية. إننا نرى أن المدخل المناسب لحل هذه المشكلة يجب أن يكون مدخلاً اجتماعياً- ثقافياً يستوعب في إطاره كافة المتغيرات غير الطبية, إي يحيط بكافة الجوانب الاجتماعية والثقافية المحيطة بالمرض, ولا يقف عند حدود «الوعظ التليفزيوني الساذج»

وتؤكد إحدى الدراسات الهامة في هذا الصدد أن عوامل البيئة الطبيعية والثقافية تتضافر معاً في إحداث المرض, كما أنها تؤثر في مواجهته كذلك. فالطقس عامل هام في نمو الطفيليات وتطورها, وتلعب الثقافة دوراً بارزاً في وجود الوسائط الطفيلية من جهة, وخلق المضيف الذي تعيش في إطاره هذه الوسائط من جهة أخرى, فأنماط العدوى بالديدان Helminthes تنتج عن التفاعل بين الطقس والإيكولوجيا الإنسانية (أو البيئة الاجتماعية), والسلوك, ويعني ذلك أن لكل منطقة إيكولوجية- ثقافية أمراضها المرتبطة بنوع معين من الديدان. وكشفت الدراسة من جانب آخر أن المعدلات العالية من انتشار الأمراض الطفيلية (الديدان) ترتبط بوجود الفقر والأمية والكثافة السكانية العالية, كما أتضح أن شدة العدوى تتحدد بدرجة تلويث الأفراد لبيئاتهم, وبناءً على ذلك فثمة أمل ضعيف في تقليل انتشار هذه الأمراض في المجتمعات المحلية الريفية دون إحداث تغيرات عميقة في الإيكولوجيا البشرية والسلوك والثقافة, وهذا يعني -تبعاً- أن التعامل مع المرض وبرامج مكافحته يجب أن يتكامل مع التنمية الاجتماعية- الاقتصادية, ولتحقيق ذلك, فإن فهم العلاقة بين البيئة الطبيعية والثقافية والمرض يعد أمراً هاماً للغاية. (Nwosu 1983 : 1)

وتؤثر العوامل الإيكولوجية في حدوث مرض آخر واسع الانتشار في القارة الإفريقية, وهو مرض «العرق المدني» والمعروف بدودة غينيا Guinea warm, فهذا المرض ينتج عن طفيل يعيش تحت الجلد, وسبب دخول هذا الطفيل جسم الإنسان هو شرب المياه الملوثة «ببرغوث الماء» الذي تكمل فيه يرقة المرض نضجها, وعند دخول المياه الملوثة إلى المعدة تتحرر اليرقة وتواصل دورة حياتها حتى تتحول إلى دودة بالغة تستقر تحت الجلد في الأماكن المعرضة للانغماس في الماء البارد كالساعدين والساقين والصدر, وتحت جلد باطن القدم أو الكاحل. (عطية 1995 : 241)

وينتشر المرض بين سكان القرى الذين يتشاركون في استخدام مصدر ملوث لمياه الشرب سواء أكانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً, والمرض نادر الحدوث بين الرضع, ومحدود الانتشار بين الأطفال الذين تمتد فترة رضاعتهم إلى ثلاث سنوات, حيث يقلل ذلك خطر العدوى المبكرة, وتلعب الثقافة دوراً في فهم المرض والتعامل معه, إذ يعتقد بعض الأفراد في أحدى الأقاليم النيجيرية أن الأعداء هم سبب حدوث المرض, ويظن آخرون أن الدودة «ظاهرة طبيعية» فهي جزء طبيعي في الجسد مثل العصب وغيره من أعضاء الجسم. (Hunter 1996 : 399)

إن التعامل السليم مع مرض العرق المدني يجب أن ينطلق من اعتبارات إيكولوجية, فنوعية المياه تعد عاملاً أساسياً في انتشار المرض أو عدم انتشاره, فالمياه النقية تعد آمنة تماماً خالية من الوسيط الناقل للمرض, في حين تحتوي مياه الآبار على عدد من براغيث المياه تبلغ 10% لكل لتر مكعب, أما المياه الراكدة Slack water فهي أكثر خطورة في نقل المرض, حيث تبلغ نسبة البراغيث المعدية فيها 25%, والبرك الموحلة بالغة الخطورة, حيث تتجاوز نسبة الكائنات المعدية فيها 35%. (Hunter 1996 : 408)

يتضح مما سبق تقريره, أن ثمة تأثير متبادل بين العوامل الإيكولوجية والأمراض المعدية, وتمثل القارة الإفريقية نموذجاً مثالياً لذلك التفاعل بين المتغيرين, ولا يقتصر الأمر على الأمراض المعدية فقط, وإنما يتجاوز ذلك إلى العديد من الأمراض الأخرى التي لا تقل خطورة, وقد لعب التلوث البيئي الذي زاد معدله خلال العقود الأخيرة دوراً هاماً في هذا الصدد.

ففي تقرير للجمعية الكيماوية الأمريكية تم التأكيد على أن السيارات هي أهم مصادر تلوث الهواء في المدن, حيث تساهم وحدها بنسبة 60% من حجم المواد الملوثة الخمس, وهي أول أكسيد الكربون, وأكاسيد الكبريت, والهيدروكربونات وأكاسيد الأزوت والجسيمات الصلبة والسائلة بما في ذلك الأتربة الصناعية والرماد, إن عادم السيارات المزودة بمحركات البنزين تحتوي على 100% من أول أكسيد الكربون وأكاسيد الأزوت ومركبات الرصاص, كما يحتوي على نسبة عالية من الهيدروكربونات, وهذه الملوثات مسئولة عن ما يقارب 25% من المشكلات الصحية المرتبطة بالتلوث, وتؤكد بعض الدراسات أن تلوث الهواء الناتج عن عوادم السيارات يعد مشكلة قاتلة في المدن التي يشكل الفقراء معظم سكانها, وخاصة في دول العالم الثالث. (عطية 1995 : 269- 270)

ويمثل الإشعاع Radiation أحد الأخطار المؤثرة على الصحة, ففي الفترة من 1950- 1960 فجرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق العديد من القنابل النووية, وقد أكدت التوقعات حينذاك أن المواد المشعة الناتجة عن هذا التفجير ستبقى في الغلاف الجوي لأعوام عديدة, وستصل إلى سطح الأرض تدريجياً, وتنبأ علماء الأحياء بحدوث مضار واسعة على كل الكائنات خاصة الحيوانات والنباتات التي يتناولها الإنسان. (Bagon 1994 : 481)

ولا شك إن للإشعاع أخطاره الواسعة, حيث يؤدي إلى حدوث العديد من الأمراض, وخاصة مرض السرطان Cancer بأنماطه المختلفة, الذي تتضافر عوامل بيئية واجتماعية عديدة في حدوثه, فهو نتاج للتفاعل بين الإنسان والبيئة, حيث يتأثر بعوامل مثل نوعية الحياة Quality of life وعادات الطعام والشراب, ونواتج الصناعة وأنواع الإشعاع المختلفة, وأنماط التكنولوجيا السائدة. (المكاوي 1995 : 77)

وبالإضافة لتأثير العوامل البيئية (الطبيعية والاجتماعية - الثقافية) في حدوث الأمراض المعدية والطفيلية والأورام, فإنها تسهم كذلك في حدوث بعض الأمراض المزمنة كأمراض القلب والضغط والسكر, والأمراض النفسية

فقد أكدت دراسة لـ «بارك وكليفورد» (Park & Clifford, 1989) أن للبيئة تأثراً حاسماً في الاختلافات النوعية في معدل الوفيات الناتج عن مرض أوعية القلب Cardio-Vascular والذي يشار إليه عادة بالحروف الثلاثة CVD كما اتضح أن للمكانة الاجتماعية والاقتصادية تأثيراً كبيراً في تغير معدلات الوفيات بين الرجل والمرأة نتيجة المرض في أغلب المجتمعات المحلية, وتؤكد النتائج النهائية لهذه الدراسة على أهمية البرامج الموجهة نحو تغيير البيئة الأساسية, أي تغيير البناءات التنظيمية للمجتمعات المحلية التي تمثل ضغوطاً واضحة على الأفراد, فهذا التغيير يمثل عنصراً إيكولوجياً مهماً في مواجهة المرض والتحكم في انتشاره. (Park & Clifford 1989 : 869-876)

وفي دراسة أخرى مقارنة كانت تهدف إلى معرفة الأسباب التي تؤدي إلى الأزمات القلبية, تم اختيار 500 رجل تتراوح أعمارهم بين 40-60 عاماً, من الذين تنتابهم أزمات قلبية, ومجموعة أخرى متساوية في الحجم والعمر, لكن أفرادها لا يعانون من المرض, توصل فريق البحث إلى أن المجموعة الأولى –الذين تنتابهم أزمات قلبية- تزداد بين أفرادها مشكلات تتعلق بالبيئة الاجتماعية, حيث تزداد نسبة الطلاق والانفصال بين الزوجين, والإخفاق في المشروعات التجارية وفقدان الوظيفة, وعوامل اجتماعية أخرى. (الموسوي 1989 : 38)

أما فيما يتعلق بالأمراض النفسية, فمن المعروف أن هذه النوعية من الأمراض تعد من أعقد المشكلات الصحية التي يواجهها الإنسان المعاصر, حيث تذكر الإحصاءات أن هناك أكثر من خمسين مليونا من البشر (كان ذلك الرقم في تسعينات القرن الماضي, أما الإحصاءات الحديثة فتؤكد أن عدد المصابين بأمراض نفسية في العالم يتجاوز النصف مليون شخص. لمزيد من التفاصيل راجع:WWW.WHO.ORG ) يعانون من العديد من الأمراض النفسية القاسية على مستوى العالم, من هذه الأمراض انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا) schizophrenia والاكتئاب المزمن Chronic Depression والواقع أن أسباب معظم الأمراض النفسية ما تزال تحت البحث, فدراسة هذا النمط من الأمراض تتسم بالصعوبة والتعقيد وذلك نظراً لصعوبة إخضاعها للتحليل الإكلينيكي, والتجارب المعملية. (Damjanov 1994 : 174)

ورغم ذلك فهناك بعض الإسهامات العلمية التي حاولت الكشف عن مختلف العوامل المؤثرة في هذا النمط من الأمراض, وقد نالت الأبعاد الإيكولوجية (بالمعنى العميق) قسطاً من الاهتمام. فقد أوضحت إحدى الدراسات أن ثمة علاقة قائمة بين التحضر Urbanization (كمتغير إيكولوجي) وانتشار الأمراض النفسية, حيث كشفت الدراسة عن أن البيئة الحضرية تمارس ضغوطاً كبيرة على الأفراد, والتي تقضي بدورها إلى معدل مرتفع من الاضطرابات النفسية, وقد ثبت أن هناك عدة متغيرات في البيئة الحضرية تؤدي إلى حدوث الأزمات النفسية منها الطلاق, والجماعة السلالية التي ينتمي إليها الفرد, النوع, البطالة, المشكلات المالية, والتعليم المنخفض, ويؤذي ذلك إلى ارتفاع الأمراض النفسية في المجتمع الحضري. (Verheij 1996 : 923)

وقد أكد باحثون أمثال «ميشللر» Mishler و«سكوتش» Scotch و«فاريز» Faris و«كوهن» Cohen أن مرض انفصام الشخصية يمثل نتاجاً لتفاعل العديد من عوامل البيئة الاجتماعية مثل المكانة الاجتماعية الاقتصادية, الطبقة الاجتماعية, الحراك الاجتماعي Social Mobility الهجرة, مستوى التعليم, مكان الإقامة, وكذلك حدوث بعض التجارب غير السارة للشخص. (Mechanic 1987 : 218)

ومن جهة أخرى, تلعب البيئة الطبيعية دوراً مهما في مستوى الصحة النفسية للأفراد, حيث كشفت دراسة أجراها «كليتزمان» Klitzman و«ستيلمان» Stellman على عينة من الموظفين المكتبيين في كل من الولايات المتحدة وكندا أن الظروف البيئية السيئة مثل الهواء غير النقي, والضوضاء, وضعف الخصوصية (الانعزال) تؤثر على مدى رضا العاملين عن عملهم, كما تؤثر على حالتهم النفسية, وكشفت الدراسة من جانب آخر أن الموظفين لديهم إدراك بأن البيئة الطبيعية تؤثر في ظروف العمل بوجه عام, حيث تزيد من أعباء العمل, وتشوش عملية اتخاذ القرار, كما تؤثر سلباً على علاقات الأفراد بعضهم ببعض. (Klitzman & Stellman 1989 : 733)

ونخلص مما سبق إلى أن العوامل الإيكولوجية –بالمعنى الطبيعي والاجتماعي والثقافي- تعد عوامل حاسمة في حدوث المرض, ولا يقف تأثيرها عند نمط محدد من الأمراض, وإنما تؤثر في كل الأمراض المعدية والمزمنة Chronic والنفسية, وإن تباين تأثيرها على كل نمط من هذه الأنماط. وقد قدمنا نماذج متعددة ومتنوعة لإثبات وجهة نظرنا في هذه العلاقة من مجتمعات مختلفة.

وإدراكاً لعمق هذه العلاقة وجدليتها, يؤكد «بيدرسون» Pederson إنه ينبغي أن تتكاتف العلوم الاجتماعية مع علوم الطب في فهم التفاعل بين الإنسان وبيئته, وما ينتج عن ذلك من مستويات للصحة والمرض, وقد حدث هذا التكاتف في العقود الأخيرة, حيث أنجزت مجموعة كبيرة من الدراسات –التي عرضنا لجانب منها- الموجهة إيكولوجياً, والتي اعتمدت على مفاهيم مثل «التطور» Evolution و«التكيف» Adaptation في دراسة علاقة المرض بالمتغيرات البيئية. (Pederson 1996 : 745).



#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي ...
- الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بي ...
- التصنيفات العلمية للاتصال الإنساني 2
- التصنيفات العلمية للاتصال الإنساني 1
- في سوسيولوجيا المعتقد الشعبي: نظرة عابرة
- التحرش الجنسي وتراجع منظومة القيم في المجتمع العربي
- إقصاء المرأة العربية سابق على وجودها: قراءة في جدلية العلاقة ...
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 10.علم الاجتماع الإنساني Humanist S ...
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 9.العنف الرمزي Symbolic violence
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 8. رأس المال الرمزي Symbolic capital
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 7. رأس المال الثقافي
- أخطاء يجب أن تصحح في الفكر الإسلامي:المرأة لم تخلق من ضلع أع ...
- عبد الرحمن بدوي ودحض أخطاء المستشرقين في نقد القرآن (2)الموا ...
- عبد الرحمن بدوي ودحض أخطاء المستشرقين في نقد القرآن: قراءة ف ...
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 6- رأس المال الاجتماعي Social Capita ...
- هؤلاء الجاهلون . . لماذا يتطاولون على الرسول؟
- منهجيات في دراسة الاتصال
- سوسيولوجيا العواطف
- مفاهيم سوسيولوجية حديثة 4 – «الاشتمالية» Panopticism
- هيباتيا والرهبان: العقل الرشيد والفعل الجبان


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسني إبراهيم عبد العظيم - الأبعاد الإيكولوجية للمرض: تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بين الإنسان والبيئة 3