حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 4102 - 2013 / 5 / 24 - 17:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الأبعاد الإيكولوجية للمرض
تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بين الإنسان والبيئة 1
تنويه:
هذه دراسة علمية سبق لي أن نشرتها في مجلة علوم إنسانية العدد 42 صيف 2009، ولما توقفت المجلة عن الصدور، ولم تعد الدراسة موجودة على شبكة الإنترنت،
فقد رأيت إعادة نشرها على حلقات في موقع الحوار المتمدن، حيث سألني الكثير من الطلاب والباحثين عن هذه الدراسة،
وأدعو الله تبارك وتعالى أن ينتفع بها كل من يقرأها والله وحده من وراء القصد
ملخص:
تنتمي الدراسة الحالية إلى مجال علم الاجتماع الطبي, وهو أحد الفروع الواعدة في علم الاجتماع,
يتحدد الهدف الأساسي للدراسة في الكشف عن الأبعاد الإيكولوجية للمرض؛ أي فهم العلاقة المعقدة بين العوامل الإيكولوجية والمرض.
تتضمن الدراسة أربعة محاور أساسية:
الأول: المفاهـــيم الأســـــاســــــــية.
الثاني: البيئة والصحـــة والمرض: مقاربـة تاريخية.
الثالث: العوامل الإيكولوجية كأســباب لحدوث المرض.
الرابع: العوامل الإيكولوجية كمصــادر للوقاية والعلاج.
وقد كشفت الدراسة عن عمق الارتباط بين حدوث المرض وانتشاره, والعوامل الإيكولوجية التي تتضمن عناصر البيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية, حيث تمثل البيئة سبباً لحدوث المرض من جهة,
ومصدراً للوقاية والعلاج من جهة أخرى, ويعد السلوك الإنساني هو العامل الحاسم في جعل البيئة مصدراً للمرض أو وسيلة للوقاية والعلاج, وذلك وفقاً لتعاطيه مع العناصر البيئية المحيطة به.
وتؤكد الدراسة أن التعاون بين علماء الاجتماع والبيئة والمتخصصين في الطب في فهم المرض,
ومن ثم مواجهته، ليس أمراً منهجياً مهماً وملحاً فقط, وإنما فوق ذلك مهمة إنسانية وأخلاقية رفيعة.
مقدمة:
يرى علماء الاجتماع أن المرض ليس حدثاً عضوياً فقط, وإنما هو فوق ذلك ظاهرة اجتماعية معقدة, ترتبط بالعديد من المتغيرات الاجتماعية والثقافية, ويعتقد العلماء أن اختزال المرض في بعده البيولوجي فقط, ينتج فهماً مشوهاً وقاصراً لتلك الظاهرة.
وتمثل الأبعاد الإيكولوجية –بالمعنى الواسع للمصطلح- جانباً مهماً في الفهم العلمي الصحيح للمرض, وقد حظيت العلاقة بين الأبعاد الإيكولوجية المختلفة –الطبيعية والاجتماعية والثقافية- والمرض باهتمام واضح من جانب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا منذ منتصف القرن الماضي تقريباً.
والواقع أن العلاقة بين العوامل الإيكولوجية والصحة والمرض تمثل إحدى تجليات العلاقة المعقدة بين الإنسان والبيئة, ذلك أنها تمثل مؤشراً حاسماً لذلك التفاعل الخلاق بين الإنسان والواقع المحيط به بأبعاده الطبيعية والاجتماعية والثقافية. وتحاول الدراسة الحالية رصد هذه العلاقة, والكشف عن مختلف الأبعاد الإيكولوجية المؤثرة في المرض, انطلاقاً من المنظور السوسيولوجي لقضية الصحة والمرض.
أولاً: مفاهيم أساسية:
تطرح الدراسة جملة من المفاهيم العلمية التي قد تبدو غير واضحة أو محددة بدقة لدى قطاع عريض من القراء غير المتخصصين؛ ولذلك فإن البدء بتحديد هذه المفاهيم وضبطها يعد أمراً ضرورياً من الناحية المنهجية.
أ- البيئة Environment :
يقصد بالبيئة في مفهومها العام ذلك الوسط أو المجال المكاني الذي يعيش فيه الإنسان يتأثر به ويؤثر فيه, وقد يتسع هذا الوسط ليشمل منطقة كبيرة جداً, وقد يضيق فلا يتضمن سوى مساحة بسيطة لا تتعدى رقعة المنزل الذي يسكنه, وبعبارة أخرى, تتضمن البيئة السماء التي فوقنا, والأرض التي تحت أقدامنا, إنها كل الكائنات الحية –الحيوانية والنباتية- التي تؤثر فينا ونؤثر فيها, إنها كل ما تخبرنا به حواسنا, هي كل ما يحيط بنا من عناصر – سواء أكانت من صنع الله أو من صنع الإنسان- وقد أكد مؤتمر «استوكهولم» عن البيئة عام 1972 هذا المفهوم للبيئة عندما وصفها بأنها: «كل شيء يحيط بالإنسان» «Environment is every thing that surrounds Man» (عبدالمقصود 1981 : 7).
ويرى علماء الاجتماع أن مفهوم البيئة لا يقف عند البعد الطبيعي فقط, وإنما يتضمن أيضاً البعد الاجتماعي – الثقافي, فالبيئة بالمعنى المحدود تشير إلى ذلك المحيط الطبيعي – الحيوي الذي يدعم الإنسان والكائنات الحية الأخرى من أجل البقاء, فهي بهذا المعنى تتضمن الجانب العضوي organic الذي يشمل مختلف الكائنات الحية, والجانب غير العضوي inorganic الذي يتضمن المناخ والتربة والضغط ... إلخ, أما البيئة بالمعنى الواسع فتشير إلى المحيط الاجتماعي – الثقافي الذي يتضمن النظم الاجتماعية, والأيديولوجيا, والرموز symbols والتقنية (Pederson 1996 : 746 ).
إن البيئة إذاً وفق التصور السوسيولوجي لها جانبان مترابطان, الأول هو الجانب الطبيعي – العضوي, الذي يتضمن كل الظواهر التي لا دخل للإنسان في وجودها كالمناخ والتضاريس, والنبات الطبيعي, وعالم الحيوان ، والثاني هو الجانب الاجتماعي – الثقافي, الذي يتضمن تلك الإنجازات المتراكمة التي أبدعها الإنسان على المستويين الفكري (كالعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية والمعتقدات ... إلخ) والمادي (كالمساكن والملابس والطرق ووسائل المواصلات والاتصال ... إلخ).
ونشير هنا إلى أن الدراسة الحالية تستخدم مفهوم البيئة وفق ذلك التصور السوسيولوجي الواضح, الذي يتضمن الأبعاد الاجتماعية والثقافية للبيئة, بالإضافة إلى البعد الطبيعي – العضوي بطبيعة الحال.
ب- الايكولوجيا Ecology :
الإيكولوجيا هي الدراسة العلمية للعلاقة بين النباتات والحيوانات والبيئة المحيطة بها, وكذلك دراسة العلاقة بين النبات والحيوان, ويتضمن ذلك دراسة تأثير الإنسان (باعتباره كائناً حياً) في النسق البيئي. ومن الجدير بالذكر أن كلمة «إيكولوجيا» تعود إلى أصل إغريقي, فهي مشتقة من الكلمة اليونانية «أوكوس» oikos التي تعني المنزل أو مكان الإقامة, والكلمة «لوجوس» Logos التي تعني الدراسة أو العلم, وقد كان عالم الأحياء الألماني «إرنست هايكل» E. Haekel أول من صاغ مصطلح الإيكولوجيا في عام 1869, واستخدمه «داروين» Darwin بصورة مختصرة, ثم أصبح المصطلح واسع الانتشار (Gates 1994: 588).
وعلى غرار ذلك المصطلح صاغ علماء الاجتماع مفهوم الايكولوجيا البشرية Human ecology ويقصد به الدراسة العلمية للعلاقة بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها, فهو علم يتناول العلاقة المتبادلة بين الفرد وبيئته أو بين الجماعات والبيئة التي تعيش في إطارها (غيث 1990 : 144).
واستناداً إلى ذلك تهتم الإيكولوجيا البشرية بدراسة عملية تكيف الإنسان مع البيئة الطبيعية, وتحاول الكشف عن خط التطور الإنساني عبر آلاف السنين في ظل الظروف المتباينة, فقد تبين على سبيل المثال أن الإنسان لدية قدرات كبيرة للتكيف مع تنوع درجة الحرارة, فهو يمكنه العيش في المناطق المتجمدة, كما يستطيع الحياة في المناطق الاستوائية. (Bennett 1994 : 593).
والواقع أننا نركز في تحليلنا –في هذه الدراسة- على مفهوم الإيكولوجيا البشرية, حيث أننا نفترض أن ثمة علاقة معقدة بين الإنسان وبيئته، قد تؤدي هذه العلاقة إلى حدوث العديد من الأمراض, كما أنها قد تقيه من أمراض أخرى عديدة, أو على الأقل تحد من خطورتها.
ﺠ-;---;--- المرض Disease :
يعد المرض مفهوماً معقداً, يتضمن العديد من الجوانب المتداخلة, ويتفق علماء الاجتماع الطبي على أن هناك بعدين أساسين في تعريف المرض: البعد الطبي – البيولوجي, والبعد الاجتماعي – الثقافي.
1- التعريف الطبي – البيولوجي:
يتمثل الوضع الطبيعي للكائن الحي في حالة من التوازن الفسيولوجي الدقيق أو ما يطلق عليه الاتزان البدني Homeostasis من حيث استمرار العمليات الحيوية بواسطة ميكانيزمات معقدة داخل الجسم, ومن ثم يتمثل المعنى البدهي للمرض في النتائج المترتبة على تعطل الميكانيزمات التي تتحكم في الاتزان البدني داخل الكائن الحي. (خليل 2006 : 31).
وانطلاقاً من هذه الرؤية يرى «فيلد» D. Field أن المرض يشير إلى حالة الانحراف العضوي والتي يمكن تحديدها بمجموعة من الشواهد signs والأعراض symptoms, فالمرض هو الحالة غير السوية للجسم أو أحد أجزائه, بحيث يحدث اضطراب أو ارتباك في وظيفته, ويتم فهم المرض -طبياً- من خلال التركيز على النواحي الموضوعية والمفاهيم الطبية المرتبطة بالحالة العضوية المحددة في الجسم. (Field 1976 : 334).
ولقد حدد «أوبري لويس» A. Lewis ثلاثة مؤشرات طبية تقليدية للدلالة على المرض, وهي خبرة المريض الذاتية في الشعور بالمرض, ووجود بعض الاضطرابات في وظيفة أحد أعضاء الجسم, وتوافق أعراض المرض مع نموذج إكلينيكي معروف للطبيب, فالشخص يكون مريضاً –وفق المنظور الطبي- عندما تتفق أعراض مرضه وشكواه أو المؤشرات الناتجة عن الفحص الجسمي والمعملي مع نموذج للمرض يعرفه الطبيب. (Mechanic 1987 : 80).
واستناداً لهذه الرؤية الطبية – البيولوجية للمرض, فإن علاج الحالات المرضية لا يتم إلا بالتدخل الفيزيقي عن طريق إجراءات تتخذ للتدخل في العمليات الميكانيكية أو الكيميائية التي تتم داخل الجسم, وتبعاً لذلك تحارب المجتمعات المتقدمة أدعياء الطب أو المعالجين التقليديين لأنهم يجهلون الحقائق العلمية الطبية, ولأن طرقهم في العلاج لا تقوم على أساس علمي. (شحاتة 1992 : 94).
2- التعريف الاجتماعي – الثقافي:
يرى علماء الاجتماع أن مفهوم المرض تحكمه مجموعة من القيم الاجتماعية التي تنبثق عن خبرة الناس نتيجة لعضويتهم في جماعات مختلفة, إضافة لمتغيرات كالسن والنوع والظروف الأسرية والأصول الاجتماعية والطبقية, وغيرها. (شحاته 1992 : 106).
واستناداً إلى ذلك, يلفت علماء الاجتماع النظر إلى أن التعريف الاجتماعي – الثقافي للمرض يعني –في أحد جوانبه- مدى اتفاق ثقافة المجتمع على أن المعاناة من شيء ما تعد مرضاً أو لا تعد كذلك, فعندما يتفق أفراد المجتمع على شيء ما بأنه مرض, فإنهم يشكلون أفكارهم وسلوكياتهم وتوقعاتهم بناءً على هذا الاتفاق. (Montero & Mc Dowel 1986: 98).
ويؤكد «فلاتر» Pflanz وزميله (1977) هذا المعنى, حيث يذكر أن مفاهيم المرض لا تخلو من القيم الأخلاقية والاجتماعية, فالمرض قد يقيّم من جانب جماعة معينة بأنه نوع من الذنب أو أنه انحراف عن المعايير السليمة في المجتمع؛ لذلك قد يعاقب المريض أحياناً تبعاً لذلك, وقد يقيّم المرض في ضوء أهداف المجتمع, وعموماً فالطب الشعبي والطب العلمي كلاهما يمت بصلة للقيم والأخلاق السائدة في المجتمع, كما أن مفاهيم الأطباء والمرضى للمرض تتأثر بالقيم السائدة في المجتمع. (Pflanz & Keup 1977 : 387).
ويتضمن التعريف الاجتماعي – الثقافي للمرض ثلاث قضايا أساسية:
1- الأسباب الاجتماعية للمرض, أي العوامل غير الطبية المؤثرة في حدوث المرض وانتشاره.
2- التفسير الاجتماعي لحدوث المرض (وجهة نظر أفراد المجتمع في الأسباب التي أدت إلى حدوثه, وهي غالباً أسباب غير طبية).
3- النتائج الاجتماعية للمرض (التأثيرات المختلفة التي يتركها المرض على بناء المجتمع وفئاته المختلفة).
وبالإضافة إلى ما سبق, فإن السياق الاجتماعي يحدد الظروف التي يمكن أن يدعي الشخص في ظلها المرض, وبالتالي يتم إعفاؤه من المسئوليات والواجبات المعتادة دون أن يتعرض للوم, وقد قام عالم الاجتماع الأمريكي «بارسونز» Parsons(1902- 1979) بصياغة مصطلح دور المريض Sick role كنمط مثالي لتحديد الإطار الاجتماعي لتعريفات المرض, وتحديد الحالات التي يدعي فيها الأشخاص أنهم مرضى بصورة مشروعة من جانب المجتمع, والتعرف كذلك على مسئولياتهم في الاستجابة للمرض. (Mechanic 1978 : 63).
والخلاصة مما سبق أن المرض بالمعنى الطبي (الضيق) هو خلل في الأداء الوظيفي للجسد, أما بالمعنى الاجتماعي فهو اعتراف المجتمع بأن حالة ما –بصرف النظر عن مدى خطورتها- تعد مرضاً أو لا تعد كذلك بغض النظر عن رأي الطب فيها.
وما يقال عن المرض يقال أيضاً عن الصحة, فالتعريف الطبي للصحة هو حالة الخلو من المرض والضعف الواضح, أما الصحة بالمعنى الشامل فهي –كما تعرفها منظمة الصحة العالمية- حالة السلامة الكاملة من النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية, لا مجرد الخلو من المرض والضعف, وتتجلى أهمية هذا التعريف في أنها تلفت الانتباه نحو الأبعاد العامة للصحة, والإشارة إلى أن السلامة الجسمية ذاتها تعتمد على السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان وطبيعة علاقاته بالآخرين. (الخشاب 2003 : 41).
وتتبنى الدراسة الحالية المفهوم الاجتماعي – الثقافي للمرض, فالمرض وفق هذه الدراسة, هو ظاهرة اجتماعية- ثقافية ترتبط ببنية المجتمع ونظامه الثقافي وعقائده الدينية ولذلك فإن تفسير الأفراد للمرض, واستجابتهم له تختلف من مجتمع لآخر وفق بنائه الاجتماعي والثقافي.
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟