أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد الغني سلامه - الإسلام السياسي في فلسطين - النشأة، المسارات، المستقبل - دراسة شاملة 1-2















المزيد.....



الإسلام السياسي في فلسطين - النشأة، المسارات، المستقبل - دراسة شاملة 1-2


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 4101 - 2013 / 5 / 23 - 20:02
المحور: القضية الفلسطينية
    


البدايات

تدين الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني بالإسلام، ولم يعرف التاريخ الفلسطيني أي صراع مذهبي أو طائفي بين السكان، حيث عاش المسيحيون وبقية الطوائف الأخرى إلى جانب أخوتهم المسلمين بأمن وسلام طوال العصور الماضية، بروح من التعاون والمشاركة، دون أي شحن أو استقطاب طائفي.

وقد فهم الفلسطينيون الإسلام كدين سماوي بمعزل عن الطائفية والأيديولوجية والعمل الحزبي، وأخذوا منه الروح السمحة والسمات الحضارية المنفتحة، وعشقوا أبعاده الإيمانية وقسماته الروحية؛ فاحتل مكانةً كبيرة في قلوبهم ووجدانهم، وشكّل مكونا رئيسا من مكونات مجتمعهم الثقافية، ومنظومته القيمية، وكان للمشايخ ورجال الدين مكانة متقدمة في السلم الاجتماعي.

أما الإسلام السياسي بالمعنى الحزبي فقد تأخر ظهوره في فلسطين إلى ما بعد النكبة؛ ففي فترة الانتداب البريطاني لم يظهر أي تعارض بين ما هو ديني وما هو وطني، ولم يطرح أحد تساؤلا عن دور الدين في المعركة الوطنية، وذلك بسبب خصوصية القضية الفلسطينية، وبحكم طبيعة الصراع القائم في فلسطين، وحيث أن علماء الدين المسلمين والشخصيات الإسلامية (والمسيحية) لعبت دورا بارزا ومؤثرا في النضال الوطني، إذ تعامل هؤلاء مع القضايا الوطنية في خطابهم وحراكهم السياسي بدون أيديولوجية دينية، ثم إن الخطاب الفلسطيني العربي الوحدوي بطبيعته خطاب إسلامي، لا يفرق بين الديني والوطني. وكل من عمل في الساحة الوطنية آنذاك من أحزاب سياسية أو قوى شعبية (إسلاميين وغيرهم) كان يعمل ضمن مشروع مركزي وحيد، هو إنقاذ فلسطين من الاحتلال الصهيوني، دون الالتفات إلى المسائل الأخرى بغض النظر عن مدى أهميتها.

وقد لعب القادة الوطنييون أمثال الحاج أمين الحسيني، وعز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وغيرهم دورا مهما في إعاقة تطور أي خطاب سياسيى إسلامي في فلسطين، لأنهم تمكّنوا من الجمع بين المعاني الروحية والوطنية في آن معاً، فدمجوا في شخصياتهم بين القيادتين السياسية والدينية، وجعلوا من الخطاب الديني (غير الحزبي أو الأيديولوجي) عنصرا مكملا وداعما للخطاب الوطني، دون أن يطغى عليه، ووظفوا العاطفة الدينية للتعبئة الوطنية والنفير العام دون أن يستغلوا الدين لأغراض السلطة والسياسة. فكانوا في معتقدهم مسلمين وفي خطابهم ومنهجهم أقرب ما يكونوا علمانيين براغماتيين. وبسبب حضورهم وكاريزميتهم ذات التأثيرا الطاغي لم تبرز قيادات إسلامية أخرى، وربما كانت هذه أسباب تأخر ظهور الإخوان المسلمين على مسرح الفعل السياسي في فلسطين، بالرغم من العلاقة الطيبة التي كانت تجمعهم مع قيادات الإخوان في مصر.

قوى الإسلام السياسي في فلسطين

1. جماعة الإخوان المسلمين

تعتبر جماعة الإخوان كبرى الجماعات الإسلامية، وأقدمها وأهمها وأكثرها شعبية وانتشارا، تأسست على يد الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية سنة 1928، وبعد عقد من تأسيسها بدأت تنتشر في مختلف الدول العربية والإسلامية، ومن ضمنها فلسطين. ولكنها لدخول الساحة الفلسطينية احتاجت أن تنتظر حتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، لتعلن رسمياً عن تشكيل أول فرع للجماعة في فلسطين، ولم تتحول الجماعة إلى قوة شعبية إلا بعد ذلك بسنوات عديدة.
ولكن قبل تأسيس أول فرع مستقل للأخوان في فلسطين عام 1943، كان مؤسس الجماعة الشيخ البنا قد أرسل وفدا إخوانيا في العام 1935 لنشر أفكاره، وتهيئة الأرضية لافتتاح فروع للجماعة في المدن الفلسطينية؛ وكانت الجماعة الأم في مصر تتعامل في تلك الحقبة مع أتباعها في فلسطين على أنهم يتبعون القطر المصري.

في العام 1948 وقعت نكبة فلسطين، وهزمت إسرائيل الدول العربية. في هذه الحرب أرسلت جماعة الإخوان فرقا من المتطوعين للمشاركة في جبهات القتال، وكانت تلك المشاركة موضع جدل، فبين من اعتبرها صفحات جهادية مشرقة في تاريخ الإخوان، وآخرين رأوا أن الجهد الذي بذله الإخوان لا يتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم آنذاك؛ حيث كان أداءهم متواضعا. وآخرين اعتبروا أن المشاركة جاءت بهدف إعادة تحسين صورة الإخوان في مصر.
قبل النكبة كان عدد فروع الإخوان في فلسطين قد بلغ خمسة وعشرين فرعا، وجميعها تتبع القيادة المركزية في مصر. وبعد النكبة انقسم تنظيم الإخوان إلى قسمين: الأول في الضفة الغربية، وكان يتبع قيادة التنظيم في الأردن، وظل محافظا على هذه التبعية حتى تأسيس حركة حماس. الثاني في غزة، وكان يتبع قيادة الجماعة في مصر. وبذلك اتخذ منحى مسار الجماعة في فلسطين خطين منفصلين، فإذا كان الإخوان في الأردن (وبالتالي في الضفة الغربية) قد عاشوا فترة مشمشية مع النظام، وعملوا بحرية وبصورة علنية؛ فإن إخوانهم في القسم الغزاوي عانوا من ظروف صعبة في ظل قمع السلطات المصرية لهم، فقد تعرض أبناء التنظيم للإعتقال والمطاردة، الأمر الذي أدى إلى تقليص حركتهم والتضييق عليهم، وبالتالي تقليص أعداد المنتمين إليهم، خاصة مع حالة التأييد الشعبي الجارف للزعيم عبد الناصر.

ولأسباب عديدة منها ما له علاقة بطبيعة الجغرافيا السكانية، وطبيعة النظام الحاكم، ونوعية القيادات الإخوانية، ومرجعيتها السياسية والفكرية فقد تطور خطابين مختلفين للإخوان في كل من الضفة وغزة؛ فبينما تميز الخطاب الإخواني في الضفة بالاعتدال والانفتاح، كان في غزة أكثر تشددا وانغلاقا.

ولكن الإخوان المسلمون عموما مروا بعد النكبة ولغاية منتصف السبعينات بمرحلة من الكمون والانعزال الجماهيري والغياب شبه التام عن مسرح الأحداث السياسية والعسكرية في فلسطين، باستثناء مشاركة متواضعة لمجموعات من الإخوان نفذوا سلسلة من العمليات الفدائية المباشرة ضد إسرائيل ما بين عامي 1968 ~ 1970؛ عبر أربعة مجموعات عسكرية عُرفت بقواعد الشيوخ، كانت تعمل تحت اسم فتح دون أن تتدخل فتح فعليا في أنشطتها، في حين تحفّظ الإخوان في القطاع على تلك المشاركة بسبب عدم جدواها حسب رأيهم. وخلاف تلك التجربة القصيرة اقتصر نشاط الجماعة ضمن المجال الدعوي والإرشادي، وعلى نطاق ضيق، ضمن برنامج عرف باسم الإعداد والدعوة. أي الإعداد وانتظارا للحظة التي تسمح لهم بمزاولة نشاطهم على صعد مختلفة، وبوتيرة أكبر.

وقد أطلق بعض الباحثين على المرحلة التي تلت النكسة وحتى منتصف السبعينات، اسم "مرحلة المساجد"؛ حيث ركز الإخوان فيها على السيطرة على المساجد، واحتواء الشبان وتأطيرهم وتعبئتهم فكريا. فيما أسموا المرحلة اللاحقة التي استمرت حتى انطلاقة حماس بِ"مرحلة المؤسسات"؛ حيث ركزوا فيها على بناء الجمعيات والأندية الرياضية ولجان الزكاة التي وفرت لهم إمكانيات الالتقاء بقطاعات وشرائح مختلفة من المجتمع، ومن خلالها انطلقوا في أنشطتهم الدعوية والتنظيمية.

في خريف العام 1970 توفي عبد الناصر، وجاء من بعده أنور السادات، الذي اتخذ سياسة محو آثار الناصرية (والشيوعية)، فأطلق سراح الإخوان من السجون، وسمح لهم بمزاولة نشاطاتهم بحرية، بل أن الأجهزة الأمنية قدمت لهم التشجيع والتسهيلات اللازمة. وهذا الأمر انعكس إيجابيا على الإخوان في غزة (التي صارت تحت الاحتلال الإسرائيلي). وفي هذه المرحلة استطاع أن ينشط جيل جديد من قادة الإخوان الذين بسبب انقطاع صلاتهم مع التنظيم الأم في مصر تحولوا إلى قيادات ميدانية مناطقية قادرة على العمل والمبادرة لوحدها. وقد باشر هؤلاء عملهم بصورة قانونية تحت مسمى جمعيات عثمانية حصلت على ترخيصها من الحاكم العسكري الإسرائيلي، ومن أهم تلك الجمعيات المجمع الإسلامي، والجمعية الإسلامية.
وقد تأسس المجمع الإسلامي عام 1973، ولكنه ظل يعمل دون غطاء قانوني، إلى أن حصل على ترخيص بمساعدة من الشيخ الخازندار عام 1977. وعن قصة تأسيس المجمع الاسلامي، كتب الصحافي زكي شهاب في كتابه "داخل حماس": "منحت السلطات العسكرية الإسرائيلية الشيخ ياسين رخصة المجمع في غضون ساعتين ثم عادت وسحبتها منه، وبعد تدخل مسؤول المحاكم الشرعية الشيخ الخازندار، تم منحه الرخصة من جديد؛ ذلك لأن المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت تدعم وتؤيد اتفاقية كامب ديفيد، فضلت استقطاب الحركة الإسلامية لصالحها، فقام الشيخ الخازندار باقناع الإدارة المدنية الإسرائيلية بالموافقة على نشاطات المجمع". ويضيف شهاب: "إن السماح بالمجمع الإسلامي كان دليلا علي سياسة غير معلنة لإسرائيل من أجل التأثير علي نشاطات فتح في غزة، وقد سُئل إسحق رابين (الذي كان رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع) في الكنيست الإسرائيلية عن دعمه لحماس من خلال تمويله للمجمع الإسلامي، فأجاب إن هذا الدعم تكتيكي من أجل التأثير علي نشاطات منظمة التحرير الفلسطينية. وفي سؤال آخر حول إمكانية أن تعمل حماس ضد إسرائيل أجاب رابين بأن هذا الموضوع يمكن مناقشته لاحقا".

بدأ المجمع كمسجد، ثم ألحقت به عيادة طبية ونادي رياضي، ورياض أطفال، ولجان زكاة، ومركز نشاط نسائي، وتأهيل فتيات، ولجنة إصلاح، وفرقة أفراح إسلامية .. ويصف الكاتب مهيب النواتي هذه التصنيفات التي اهتم بها المركز بأنها تعكس طبيعة فهم الجماعة للجوانب التي يمكن أن ينطلقوا من خلالها إلى شرائح المجتمع المختلفة، خاصة الفقيرة منها.

بدأ الشيخ أحمد ياسين (الشخصية المركزية في المجمع) بالتحرك في القطاع ناشرا أفكاره تحت غطاء النشاطات الخيرية التي ينظمها المجمع، ثم توجه صوب الضفة الغربية، ونجح في فتح قنوات اتصال مع قيادات الإخوان هناك، إلا أن العلاقة بين إخوان الضفة وإخوان غزة بقيت في حدود المشورة والعلاقات العامة، ولم تصل حد التنسيق والربط التنظيمي حتى تأسيس حركة حماس في نهاية العام 1987.

ومع مرور الوقت، حقق المجمع الإسلامي نجاحات عديدة على صعيد الانتشار والتوسع، والسيطرة على مساجد القطاع، والجامعة الإسلامية، وحققت الجماعة انتشارا جماهيريا ملحوظا، وصارت منافسا قويا لفتح وبقية الفصائل الوطنية واليسارية. ويؤكد الكثير من المحللين أن تلك النجاحات وذلك الانتشار لم يكن ليتم دون مهادنة سلطات الاحتلال، فبينما كان نشاط التنظيمات الأخرى أو الانتماء لأي منها سببا كافيا لدخول السجن سنوات طويلة، كان الإخوان يمارسون نشاطهم في جو من الأريحية.

وطوال تلك الحقبة تميز الخطاب الإخواني بالتركيز على المجال الاجتماعي (التربوي والأخلاقي)، مع العمل التنظيمي والإعداد لمرحلة الفعل السياسي. لكن قرار الإخوان في فلسطين ظل مرتهنا بيد الإخوان في مصر والأردن، الأمر الذي أعاق الحركة الإسلامية من إنتاج خطاب وطني، وأخّر من دمج إخوان فلسطين في الحالة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني.

مع بداية الثمانينات، أقام الإخوان جهازا أمنيا، وآخر عسكريا، وبدؤوا بتخزين أسلحة في القطاع. الباحث مجدي نجم يفسر هذا التحول بأنه جاء نتيجة ضغط جيل الشباب الذي صار يطالب قيادته بالخروج عن الأسلوب التربوي والدعوي والبدء بالجهاد، وخوفا من تسرب ذلك الجيل من صفوف الإخوان اضطرت قيادتهم للانخراط في العمل السياسي والبدء بتأسيس تنظيم شبه عسكري، وهذا الأمر جعل الجماعة تعيش صراعا فكريا داخليا حول أولوية البرنامج الفكري على برنامج المقاومة. وفي هذه الفترة أخذت علاقة الإخوان بفتح وبقية الفصائل الوطنية تسوء، لدرجة حصول صدامات ومواجهات بينهم، سقط فيها قتلى وجرحى في الجامعات الفلسطينية المختلفة.

الباحث خالد زواوي اعتبر أنَّ سنة 1983 كانت نقطة تحول مفصلية في مسيرة الإخوان في فلسطين؛ إذ عقدت الجماعة مؤتمرا داخليا لما أسمته "تنظيم بلاد الشام"، أُقِر فيه دعم الإخوان في فلسطين مالياً، والاستعداد للمرحلة المقبلة من الجهاد. ويرى الزواوي أن هذا التحول جاء استجابة للتحدي الذي فرضه انشقاق مجموعة من الإخوان وتأسيس حركة الجهاد الإسلامي، وليس بناء على تطور في الخطاب الفكري والسياسي لجماعة الإخوان في فلسطين تجاه القضية الفلسطينية.

2. حركة المقاومة الإسلامية حماس

مع نهاية العام 1987، اندلعت انتفاضة شعبية كبرى، انطلقت شرارتها في الثامن من ديسمبر من مخيم جباليا، ثم انتشرت كالنار في الهشيم في كافة المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، وأمام هذا الحدث الكبير وجد الإخوان المسلمين أنفسهم أمام سؤال خطير سيحدد مصير الجماعة ومستقبلها: هل نشارك في الانتفاضة، أم ننتظر ؟؟ ومن الواضح أن القرار كان بالمشاركة، وهكذا اجتمعت قيادات الإخوان في غزة، واتفقوا على تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، والإعلان عن انطلاقتها في 9-12-1987.

يرى كثير من المراقبين أن اندلاع الانتفاضة الشعبية (التي فاجأت الإخوان) هو السبب الرئيسي في الإعلان عن تأسيس حماس، لكنهم يضيفون عوامل أخرى قد لا تقل أهمية، مثل صعود نجم حركة الجهاد الإسلامي، التي باتت تشكل منافسا قويا للإخوان على استقطاب الجماهير. فضلا عن نضوج جيل آخر من شباب الإخوان من الذين أكملوا برنامجاً تربوياً وفكرياً دام سنوات، ظلوا خلاله يسمعون عن مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الإسلامي دون أن يروا ترجمة ذلك على أرض الواقع، واحتكّوا بمختلف التيارات الوطنية في الجامعات، وشاهدوا الانتفاضات الصغيرة التي كانت تحدث بين الحين والآخر في الضفة وغزة، وتوصلوا إلى قناعات مختلفة عن الجيل القديم، جوهرها ضرورة حمل السلاح، ومواجهة الاحتلال، والانخراط في النضال الوطني.

الباحث مجدي نجم اعتبر أن تأسيس حماس جاء ردة فعل مباشرة على اندلاع الانتفاضة، واستجابة لها، دون أن ينفي مشاركتها الفعلية والجادة في فعالياتها. مشيرا إلى أن بيانها الأول الذي صدر في 14-12-1987 لم يرد فيه اسم "حماس"، بل ذُيِّل بتوقيع "حركة المقاومة الإسلامية"، أما تسمية حماس فقد جاءت لاحقا بعد مداولات بين الداخل والخارج انتهت بإطلاق اسم حماس كاختصار لاسم الحركة. أما ميثاق الحركة فقد ظهر في وقت متأخر (في آب 1988).

وبهذا التحول حل اسم حماس مكان الإخوان المسلمين، وهذا التغير في الاسم لم يكن شكليا، فقد أعطت حماس جماعة الإخوان الصدقية والشرعية التي كانت تحتاجها، وجعلتها حركة جماهيرية واسعة الانتشار، ذلك لأن الشعب الفلسطيني لم يعطي ولاءه لأي تنظيم لم ينخرط فعليا في المقاومة، معتبرا أن تضحيات أي تنظيم، ومشاركته الفعلية في الكفاح الوطني هي المعيار الحقيقي لاكتسابه الشرعية والشعبية. وبهذه القوة الجماهيرية الجديدة التي اكتسبتها حماس صار بمقدورها منافسة فتح وغيرها من فصائل المقاومة بشكل أقوى من السابق، لا بل التقدم للدخول في النظام السياسية الفلسطيني تمهيدا للسيطرة عليه.

وبالفعل فقد طالبت حماس الدخول في المجلس الوطني الفلسطيني في أيار من العام 1989، لكنها اشترطت الحصول على 40 % من مقاعد المجلس، ومع أنها كانت تدرك أن طلبها غير واقعي، إلا أنها أرادت من خلاله كسر أول الحواجز الأيديولوجية للدخول في منظمة التحرير، وجعل الخلاف بينهما على عدد المقاعد ونسبة المشاركة، أي ليس خلافا مبدئيا ضمن معادلة صفرية مفادها: إما دخول المنظمة والسيطرة عليها وإقصاء الآخرين كليا، وإما رفضها ومحاربتها سياسيا وعدم الاعتراف بها (كما كان سابقا ولسنوات طويلة). فقد مثل هذا التوجه بداية التغير البراغماتي في منهجية تفكير الحركة.

بعض المراقبين اعتبروا أن حماس هي بالأساس حركة سياسية تتفاعل مع المتغيرات التي تحيط بها، بعقلية متحركة وخطاب وفكر مرنين؛ فإذا كان خطاب الإخوان من قبل محصور ضمن قالب محدد، فإن حماس، بالإضافة إلى كونها خطوة باتجاه توطين خطاب الإخوان في فلسطين، فهي أحدثت تغييرات كبيرة في بنية ومضمون خطابها السياسي ومنهجها الفكري والحركي؛ فحماس لم تبلور منهجاً أو فكراً نظرياً سياسياً محدداً وواضحاً منذ بداية نشوئها؛ بل أخذ فكرها وخطابها السياسي يتبلوران ويتشكلان عبر نشاطها وعملها خلال صراعها مع العدو الإسرائيلي، وتبلور فكرها أيضاً نتيجة لعلاقاتها مع الحركات الوطنية والإسلامية الأخرى، مثل حركة فتح والجهاد الإسلامي.

ولا يعني هذا أن حماس كانت حين تأسيسها تفتقر لخلفية نظرية، وأنها كانت خالية تماماً من أي طرح فكري منهجي، فهي باعتبارها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين استندت في بلورتها الى قواعدها النظرية العامة والى فكرها السياسي لأدبيات الإخوان، واستمدت من الخطاب السياسي والفكري الذي كان يطرحه الإخوان في العالم العربي.

بعد انطلاقة حماس بعام ونصف، ومع اتساع نشاطها ومشاركتها الفاعلة في الانتفاضة أخذت السلطات الإسرائيلية قرارا بحظر الحركة (أيار 1989)، وقامت بحملة اعتقالات واسعة طالت قيادات الحركة ونشطائها وفي مقدمتهم الشيخ ياسين. وبعد ذلك دخلت حماس مرحلة جديدة من الكفاح استمرت إلى العام 2005، حين اتخذت قرارا بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية البلدية والتشريعية، وبهذا التحول دشنت مرحلة جديدة للحركة، لها سماتها وخصائصها المختلفة، والتي يمكن دراستها بشكل منفصل.

3. الجهاد الإسلامي

تعتبر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أول تنظيم إسلامي يتبنى الجهاد ضد إسرائيل. وهي مثل غيرها من معظم حركات الإسلام السياسي انبثقت من رحم جماعة الإخوان. لكنها تختلف بتركيزها على المقاومة، وعدم اهتمامها بالنشاط الدعوي والإجتماعي كما تفعل حماس. أسسها فتحي الشقاقي في غزة العام 1981، بعد عودته من مصر، متأثرا بصعود الإسلام السياسي هناك، وبأفكار سيد قطب، ومستلهما انتصار الثورة الإيرانية. بدأ بإعداد نواة الطلبة الأولى لحركة الجهاد في العام 1981، وأخذ ينادي بالكفاح المسلح، ومقاومة الاحتلال، وعدم الاكتفاء بالدعوة. وبعد عامين اعتقلته السلطات الإسرائيلية لمدة 11 شهر، وفي المرة الثانية عام 1988 اعتقلته وأبعدته إلى لبنان.
في الخارج، قام بتأسيس قواعد إعلاميه وسياسية وعسكرية للحركة، ثم انتخب أميناً عاماً في عام 1990، بعد ذلك قام بتشكيل ما عرف بمعسكر التدريب والإعداد الفكري للكوادر، محاولا الاستفادة من التجارب والأخطاء التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية والحركة الإسلامية التقليدية، مركزا على ثلاثة عناوين أساسية، اعتبرها عماد أيديولوجية الحركة، وهي: "الإسلام، فلسطين، الجهاد"، معتبرا أن الحركات الإسلامية أهملت فلسطين، وابتعدت كثيرا عن قضيتها، لدرجة أنها لم تعد القضية المركزية للعالم الإسلامي، كما أن الحركات الوطنية العلمانية أغفلت الإسلام، ولم تجعله ركنا أساسيا من منهجها. ومن هنا سعت الجهاد الإسلامي للجمع بين الاتجاهين الإسلامي والوطني، وتقليص الفجوة بين الجانب الدعوي النظري، وبين الجانب الميداني الحركي.

في بدايات تأسيسها تأثر خطابها السياسي بأفكار "الجماعة الإسلامية" في مصر، فتبنّت تكفير النظم السياسية العربية، وطالبت بالخروج عليها بالسيف، ورفضت الديمقراطية. ولكن فكرها السياسي مر بمرحلة من التحولات والنضوج في حقبة التسعينات متأثرة بالتغيرات السياسية العميقة التي ألمت بالمنطقة؛ فقد دعا الشقاقي من منفاه إلى الالتقاء بين القوى الفلسطينية والعربية العلمانية منها والإسلامية، ونادى بضرورة السلم الأهلي الداخلي، وأن تقتصر معارضة السلطة الفلسطينية على الجانب السياسي، ودعا لوقف استخدام العنف لتغيير النظام المصري، وقبول التداول السلمي للسلطة، والتعددية السياسية، والبناء على ما هو إيجابي في المجتمعات العربية ...

ومع ذلك، لم تدخل حركة الجهاد في النظام السياسي الفلسطيني؛ سواء في أطر منظمة التحرير أم في مؤسسات السلطة الوطنية، ولم تشارك في أي انتخابات محلية، ولكنها لم تدعو لمقاطعتها، ولم تتخذ موقفا سلبيا من منظمة التحرير أو من السلطة، رغم انتقاداتها ومعارضتها لنهجها السياسي، وظلت تمارس السياسة على طريقتها الخاصة، متمسكة بنهجها الجهادي، رافضة المفاوضات والتسوية والحلول السلمية، وقد شاركت بفاعلية في الانتفاضات الشعبية الأولى والثانية، ونفذت العديد من العمليات العسكرية ضد الاحتلال، وفي أثناء الصراع بين حركتي وفتح التزمت الحركة بالحياد، داعية إلى وقف الاقتتال، والعودة للحوار، والتمسك بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام. ولكنها بعد سيطرة حماس على غزة حافظت على علاقاتها الطيبة بحماس، بالرغم من خلافاتهما السياسية، وتباين الآراء بينهما، ومحاولات هيمنة حماس عليها، ومنعها من إطلاق الصواريخ.

بعض المراقبين يصنفونها كتنظيم نخبوي، بسبب طبيعتها السرية والعسكرية، فلم تتحول الجهاد إلى حركة جماهيرية ذات شعبية واسعة؛ إذا تشير معظم استطلاعات الرأي أن نسبة مؤيديها تتراوح بين 1 ~ 2 %. إلا أن شعبية الجهاد الإسلامي أخذت تتقدم على حساب شعبية حماس في السنوات الأخيرة، وأحيانا تتفوق عليها. وتتركز أغلبية قيادات الجهاد وأعضائها وقاعدتها التنظيمية في غزة، بينما يقيم أمينها العام "رمضان شلح" في دمشق، وتربطها علاقات تحالف مع حزب الله، وعلاقاتها بإيران متينة وراسخة.

4. حزب التحرير

يعتبر حزب التحرير ثاني أقدم حزب إسلامي بعد الإخوان، تأسس في مدينة القدس عام 1953 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني القاضي بمحكمة الاستئناف. في المرحلة التأسيسية الأولى من عمره اقتصر نشاط الحزب على الجهود الفردية للشيخ النبهاني، ومحاوراته وكتاباته، إلى أن نجح باستقطاب الكثيرين ممن آمنوا بفكره ونهجه، وخلال عامين أعلن عن قيام الحزب الذي اكتسب خلال فترة وجيزة قاعدة شعبية أهلته لدخول الانتخابات البرلمانية الأردنية عام 1955، حيث نجح حينها بإدخال أحد أعضائه "النائب أحمد الداعور" ممثلا عن الحزب في البرلمان الأردني، ولكن إسقاط حكومة النابلسي والأحداث السياسية التي وقعت حينها في الأردن جعلت النظام يلجأ لقمع كافة القوى والأحزاب السياسية، (باستثناء الإخوان المسلمين)؛ وهكذا وجد أعضاء الحزب أنفسهم في السجون، وصار الحزب من حينها محظورا، ليس في الأردن وحدها، بل وفي أغلب البلدان العربية والإسلامية (باستثناء لبنان). خلافاً لما نراه من حرية لباقي الحركات الإسلامية، والسبب في ذلك أن الحزب يدعو صراحة إلى تقويض أنظمة الحكم القائمة وإحلال نظام الخلافة بديلا عنها، ولأنه يعتبر الحكام الحاليين عملاء وكفرة يطبقون أنظمة وضعية. لكن هذا لم يمنع الحزب من استئناف نشاطه بصور متباينة علنية وسرية في مختلف البلدان الإسلامية والغربية.
بعد وفاة الشيخ النبهاني عام 1977، تولى إمارة الحزب الشيخ عبد القديم زلوم حتى العام 2003، ثم جاء من بعده المهندس عطا أبو الرشتة، ومن الملاحظ أنهم جميعا فلسطينيين، بالرغم أن الحزب لا يعترف بالهويات الوطنية. ومع أن الحزب لم يعط رقماً رسمياً عن عدد أعضائه، إلا أن تقارير صحافية واستخباراتية تعطي صورة عامة تقديرية عن شعبية الحزب، وتتراوح التقديرات ما بين عدة آلاف إلى عدة ملايين. وهذا التفاوت الكبير يعود بسبب الطبيعة السرية للحزب، والغموض الذي يكتنفه، وبحسب الجهة التي تعطي الرقم التقديري، وأحيانا يجري الخلط بين من يؤيد أفكار الحزب الإسلامية ومواقفه السياسية، وبين المنتمين فعليا للحزب.

ويصرح حزب التحرير بأن غايته هي استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة نظام الخلافة، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم؛ معتبرا نظام الخلافة قادراً على تنظيم الدولة والحياة المعاصرة ضمن إطار إسلاميِ بحت، بعيداً عن أفكار العصر مثل الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية والدولة المدنية التي يعتبرها الحزب دخيلة على الفكر الإسلامي، بل مخالفة لصريح الإسلام ونهجه الأصيل. وقد تسبب إصرار الحزب على نبذ الديمقراطية والحرية ومفهوم المواطَنة وغيرها من المفاهيم الحديثة بتوجيه الانتقادات للحزب، وتصنيفه من ناحية فكرية على أنه أقرب إلى التيارات المتعصبة في العالم الإسلامي منه إلى التيارات المعتدلة. ويُتهم الحزب أيضاً بالتشدد في مواقفه، وبطلب المستحيل أحيانا، وبُعده عن الواقع الذي تعيشه الأمة برفضه التعايش مع هذا الواقع.

ويركز الحزب في أدبياته على موضوع الخلافة، جاعلاً منها النقطة المركزية التي تعلوا بأهميتها على أي قضية أخرى، بل هي أهم قضية على الإطلاق، معتبرا أن كل مشاكل الشعوب الإسلامية ستحل بمجرد إقامة الدولة الإسلامية، وإذا كانت هذه نظرة العديد من الحركات الإسلامية الأخرى، إلا أن حزب التحرير يختلف عنها بعدم قبوله بالحلول الوسط أو أسلوب التدرج والمرحلية في سعيه لإقامة الخلافة الإسلامية أو في تطبيق أحكام الشريعة، وإصراره الشديد على ذلك، وعدم اعترافه بالدولة الوطنية، أو بالحدود السياسية بين الدول الإسلامية. بالمقابل يتمسك الحزب بنهج الدعوة الفكرية فقط، ويصر على تجنب مايسميه العمل المادي. وهو ماجلب له الإتهام بأنه حزب تنظير وخطابات.

مع أن بدايات حزب التحرير انطلقت من فلسطين، في المرحلة التي تلت النكبة مباشرة؛ إلا أن أفكار الحزب وتوجهاته وأولوياته لا تعتبر قضية فلسطين قضية مركزية، فالقضية الأهم بالنسبة للحزب هي تنصيب خليفة للمسلمين، وموضوع تحرير فلسطين يأتي من ضمن مهام دولة الخلافة، ومن خلال جيشها فقط، أي بعد إقامة الدولة الإسلامية وليس قبل ذلك بأي حال. لذلك لم ينشط الحزب في فلسطين، بل اعتبر الساحة الفلسطينية ثانوية بالنسبة لاهتماماته، ذلك لأنها تحت الاحتلال، ولا تصلح لإقامة دولة الخلافة، وهي لا تختلف بأهميتها عن أي قطر إسلامي آخر. واقتصر دور الحزب تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الصراع الدائر في فلسطين على إصدار البيانات التي تنبه لوجود مؤامرات تستهدف تصفية القضية، وترفض الحلول السلمية، وتندد بالتفريط بأي أرض فلسطينية، وتدعو الأمة للدفاع عن مقدساتها الإسلامية ...

ومنذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية أخذ الحزب منها موقفا سلبيا معتبرا إياها صنيعة الغرب الكافر الذي يريد من خلالها الحصول على موافقة الفلسطينيين لبيع وطنهم وتصفية قضيتهم .. لذلك رفض الاعتراف بها ممثلا للشعب الفلسطيني، سيما وأنه يرفض من الأساس الاعتراف بالهويات الوطنية.

ومنذ تأسيسه، لم ينفّذ حزب التحرير أي أنشطة عسكرية ضد إسرائيل، ولم ينخرط في أعمال المقاومة الشعبية، ولم يتعرض أي من أعضائه للإعتقال من قبل السلطات الإسرائيلية، ولكن في السنوات الأخيرة بدأ الحزب ينشط في الأراضي الفلسطينية بشكل ملحوظ، بل أن الأعداد الكبيرة من المشاركين في أنشطة الحزب فاجأت المراقبين، علما بأن أنشطة الحزب تكاد تنحصر في إحياء الذكرى السنوية لهدم الخلافة العثمانية، من خلال المهرجانات الخطابية وإقامة الندوات الفكرية والحوارية، والتظاهر في الشارع بعض الأحيان.

وقد مرت علاقة الحزب بالسلطة (سواء في الضفة أم في غزة) بمراحل متباينة بين المد والجزر؛ في الضفة الغربية شجعت الأجهزة الأمنية حزب التحرير على الظهور العلني خاصة بعد بروز حماس كمنافس قوي لفتح، بعض المراقبين اعتبروا ذلك منكافة بحماس، ولإظهار قوة أخرى من نفس التيار الإسلامي تنافس حماس عل القاعدة الجماهيرية. لكن ذلك لم يدم طويلا. فمن الملاحظ أن بيانات الحزب شديدة القسوة بلغتها الخطابية ضد السلطة، وكثيرا ما اتهمتها بالخيانة والتفريط. وبالرغم أن نشاطات الحزب سلمية، إلا أنه تعرض عدة مرات لقمع الأجهزة الأمنية، وفي إحدى المظاهرات بالخليل قُتل أحد عناصر الحزب على يد أفراد من الشرطة الفلسطينية. فيما سُمح له أيضا في مناسبات عديدة بإقامة فعالياته المختلفة، ولكن عناصره ما زالوا يتعرضون للاعتقال والاستدعاء بين الفينة والأخرى.

وفي قطاع غزة أيضا تعرض الحزب لقمع سلطة حماس أكثر من مرة، ومنع عدة مرات من إقامة مهرجانات خطابية. ومن الجدير بالذكر أن شعبية حزب التحرير أقل بكثير في غزة عنها في الضفة الغربية. أما داخل الخط الخضر فلا وجود لقيادات أو كوادر للحزب هناك.

5. الحركات الأصولية الأخرى

في قطاع غزة، وبسبب الأوضاع الصعبة والاستثنائية التي يعيشها الناس هناك، ونتيجة انغلاق الأفق السياسي، في السنوات السبعة الأخيرة، أي في ظل حكم حماس، شهد القطاع بروز عدد من الجماعات السلفية المتشددة، مثل: سيوف الحق، وسيوف الإسلام، وأنصار جند الله، وحزب الله الفلسطيني، وجيش الإسلام، ومجموعات أخرى من التيارات السلفية ارتبط اسمها بتنظيم القاعدة. وهي بالمجمل تنظيمات صغيرة هامشية. الباحثة "بيسان عدوان" اعتبرت أن هذه الجماعات استفادت من المناخات الأصولية التي تخيم في الأجواء، وأضافت قائلة: "إن بروز هذه التيارات كان بسبب تحول حماس من المقاومة الفعلية للاحتلال، إلى الجلوس على مقاعد الحكم، والإنشغال في العمل السياسي، حيث ترى بعض هذه التنظيمات أن حماس غير جادة في أسلمة المجتمع، وأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية على النحو الصحيح".

وقد تصادمت هذه التنظيمات مع حماس أكثر من مرة، وأثارت الكثير من مظاهر الفوضى وأخْذ القانون باليد، سيّما وأنها تسعى لتنفيذ برامجها بالقوة؛ فعلى سبيل المثال اندلعت مواجهات عنيفة بين أجهزة حماس، ومسلحين من جيش الإسلام (من عائلة دغمش) استخدمت فيها الرشاشات والقذائف الصاروخية، وأسفرت عن مقتل عدة مواطنين. وفي رفح أعلنت "جماعة أنصار جند الله"، عن إقامة إمارة إسلامية في المدينة، الأمر الذي جوبه بحزم غير معهود من حماس نجم عنه مذبحة. وفي حادثة أخرى قامت "سرية الهمام محمد بن مسلمة" بخطف وقتل المتضامن الايطالي "أريغوني". وكذلك أصدرت بعض تلك الجماعات بيانات تحذر فيها بلهجة شديدة الفتيات الفلسطينيات بضرورة ارتداء الزي الإسلامي، حفاظًا على سلامتهن من أي اعتداء قد ينفذه أنصارها. وجماعات أخرى أعلنت مسؤولياتها عن عشرات الاعتداءات في مناطق مختلفة، كعملية إلقاء مواد حارقة في وجه فتاة، وتفجير مقاهي الانترنت، واعتداءات ضد محال الإكسسوارات، وحرق محل للعب البلياردو، حرق مخيمات صيفية للطلبة أقامتها وكالة الغوث، تفجير مرافق سياحية على البحر .. وغيرها.

ومن التنظيمات التي تثير قلق حماس بشكل خاص، تنظيم "جلجلت"، وهو تشكيل مؤلف من مقاتلين، معظمهم من كتائب القسام، ويقول الباحث يزيد صايغ أن "جلجلت تسعى إلى فرض مفاهيمها الدينية على المجتمع الفلسطيني في غزة، وتعارض انشغال حماس في تلبية متطلبات الحكومة وخدمة الناس، عن الهدف الأسمى والأهم، وهو أسلمة المجتمع، وترى أن حماس بهذا الانشغال تكون قد عرضت نزاهتها الإسلامية للخطر، وأساءت لتعهدها بخوض المقاومة ضد إسرائيل".

لكن هذه التنظيمات، وبالرغم من أنها إسلامية التوجه، وتتلاقى مع حماس في المنطلقات الفكرية، بل وبعضها منشق عنها؛ إلا أنها على خلاف شديد مع حكومة حماس، ولا توافق حكومة حماس على ممارساتها، سيما وأنها تنازعها السلطة، وتثير الفوضى، وتسبب لها الإحراج، والأهم من ذلك أنها تنازعها حق احتكار الكلام باسم الدين في السياسة، وتنافسها على استقطاب بعض الفئات الاجتماعية، خاصة من جيل الشباب، ومن المتعطلين عن العمل، لذلك فإن حماس تتهمها بالتشدد والتعصب والمزاودة.

أما التنظيمات السلفية (غير الجهادية) فقد بدأت تظهر وتنمو بقوة، بالرغم أنه أحيانا لا يحس بها أحد. وعن هذه القوى يقول الكاتب حسن خضر: "تكفي نصف ساعة من البحث على الإنترنت لاكتشاف أن جمعيات ابن باز، وابن عثيمين، وغيرها من رموز الوهابية السعودية تغلغلت في المجتمع الفلسطيني، وأصبحت لديها بنية تحتية تتمثل في مؤسسات خيرية تربوية وصحية واقتصادية، وأن هذه البنية لا تشكو قلة الموارد، ولا ندرة النشطاء والمُستهلكين". ويحذر "خضر" بأنه متى ما قرر السلفيون خوض الانتخابات في فلسطين، لا يحق لأحد التظاهر بالدهشة، أو التساؤل: من أين جاء هؤلاء ؟ فقد بات واضحا لنا اليوم كيف نأت الوهابية بنفسها عن العمل السياسي قبل ثورات الربيع العربي، وكيف ظهرت فجأة بعدها، وكيف اقتحمت الحقل السياسي بقوّة.

6. الإسلام السياسي داخل الخط الأخضر

منذ قيام إسرائيل، تعرض الفلسطينيون داخل الدولة العبرية لمحاولات محمومة لطمس هويتهم الوطنية، وعانوا لفترة طويلة من عزلة تامة بين المجتمع الإسرائيلي الذي رفضهم، والدول العربية التي قاطعتهم، ومع ذلك بقوا متمسكين بعروبتهم وفلسطينيتهم، ومحافظين على هويتهم الدينية (الإسلامية والمسيحية) في مواجهة محاولات التهويد، ولأسباب عديدة، لم يكن بإمكانهم خوض مقاومة مسلحة أو شعبية، أو حتى تشكيل أحزاب يكون من بين أهدافها إزالة دولة إسرائيل، أو معاداتها .. ولذلك لم يكن أمامهم في تلك الفترة سوى الانخراط في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أو من خلال بعض الحركات العربية مثل حركة الأرض، أو حركة أبناء البلد.

بعد حزيران 1967، تغيرت أوضاع العرب داخل إسرائيل، وتغيرت طريقة تعامل الدولة معهم؛ فظهرت قوى سياسية عربية عديدة تمكنت من فرض وجودها، ومن دخول الكنيست، من بينها قوى إسلامية. ولكن لم تظهر أي حركة إسلامية في الوسط العربي داخل الدولة العبرية إلا في بدايات السبعينات، وكانت تحت مسمى "الحركة الإسلامية في فلسطين 48 ". وهي حركة دينية سياسية أسّسها الشيخ عبد الله نمر درويش، وأعضائها من العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتعمل في إطار القانون الإسرائيلي، ولا تربطها علاقة مباشرة بجماعة الإخوان المسلمين، ولكن الحركتين يحملان نفس المبادئ الإسلامية.

وفي تطور آخر، اكشتفت الأجهزة الأمنية في نهاية السبعينات تنظيم إسلامي مسلح في منطقة المثلث، نشط لفترة وجيزة، حيث خطط ونفذ سلسلة من العمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية، وهو تنظيم "أسرة الجهاد"، ولكن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تمكنت من كشف أعضاء التنظيم، والقضاء عليه كليا.

وقد تأثرت مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الحركة الإسلامية في فلسطين 48 بسلسلة من العوامل والمتغيرات؛ فمنذ انطلاقتها مطلع السبعينات وحتى عام 1996 غضّت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الطرف عن الحركة الإسلامية وأنشطتها، وسمحت لها ببناء مؤسساتها التعليمية والدينية والاجتماعية والإعلامية، وأتاحت لقادتها هامش مرونة في التحرك والتفاعل مع الجماهير الفلسطينية، والتواصل مع الضفة الغربية وقطاع غزة. (طبعا باستثناء حالة القمع التي تعرض لها تنظيم أسرة الجهاد).

وسبب هذا السلوك الإسرائيلي المتساهل هو رغبة المؤسسة الإسرائيلية في إيجاد منافس أيديولوجي للحركات السياسية العلمانية ذات التوجهات القومية التي نشطت في ذلك الوقت في أوساط فلسطينيي 48، وهو نفس الأسلوب الذي تعاملت فيه إسرائيل مع جماعة الإخوان في الضفة الغربية و قطاع غزة، حيث غضت الطرف عن نشاط الإسلاميين، لأنهم لم يتبنّوا الكفاح المسلح ضد الاحتلال من ناحية، ومن ناحية ثانية حتى تجعل منهم منافساً قوياً للحركات الفلسطينية العلمانية التي كانت تمارس العمل المسلح.

وقبيل انتخابات الكنيست عام 1996 وقعت تطورات سياسية في الحركة الإسلامية يمكن أن اعتبارها "انشقاقا" في صفوف الحركة، حيث قام نمر درويش بتأسيس "التيار المعتدل للحركة" الذي تحالف مع الحزب الديمقراطي العربي في قائمة واحدة. ومنذ ذلك الحين انقسمت الحركة الإسلامية إلى ثلاثة تيارات، هي: تيار الاعتدال والبراغماتية الذي مثله درويش، وهذا التيار يميل إلى الاندماج في الواقع الإسرائيلي؛ ومؤيد لعملية السلام واتفاق أوسلو، وذو علاقات جيدة بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
أما التيار الثاني فقد مثله الشيخ رائد صلاح، وهو يرتبط بعلاقات قوية بالحركات الإسلامية في الضفة والقطاع، وكان موقفه من الانتخابات العامة الإسرائيلية وسطاً بين رفض المشاركة فيها كحركة مع السماح لأنصار الحركة بالتصويت فيها لبناء قوة تصويت عربية، وقد حافظ هذا التيار على علاقات جيدة بالسلطات الإسرائيلية بعد أن أصبح يحكم العديد من البلديات كي يحصل على موارد لتمويل المشاريع التطويرية المحلية والخدمات. أما التيار الثالث فكان بقيادة الشيخ كمال الخطيب، وهو ذو مواقف علنية متشددة ضد المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية. وقد انضم التياران الأخيران في حركة واحده أُطلق عليها "الحركة الإسلامية - الفرع الشمالي جناح الشيخ رائد"، أما التيار الأول فأصبح يحمل اسم "الحركة الإسلامية - الفرع الجنوبي جناح الشيخ إبراهيم صرصور".

ومنذ أواسط التسعينات بدأت مرحلة جديدة في تعامل إسرائيل مع الحركة الإسلامية، حيث أخذ صناع القرار في تل أبيب ينظرون للحركة الإسلامية كتهديد إستراتيجي، مفترضين أن تيارات الإسلام السياسي (في المنطقة وبشكل عام) ستكون أحد أهم أطراف الصراع المستقبلي. وقد حدثت عدة تطورات أدت الى تحول في موقف الحركة الإسلامية، بشكل دفعها لتبني خطاب سياسي يعتمد المواجهة مع السلطات الحاكمة. وكان على رأس هذه التطورات جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف وتعاظم دور الأحزاب الدينية اليهودية، ومجاهرة أحزاب عنصرية عديدة بدعواتها لطرد العرب وهدم المسجد الأقصى، فضلا عن سياسة عنصرية ممنهجة أخذت تتبعها الحكومات الإسرائيلية عبرت عنها بمحاولات لتشريع التمييز ضد الفلسطينيين.

وإزاء هذه التطورات عكفت القوى العربي للتصدي لمحاولات تهميشها وإلغاء وجودها، فيما ركزت الحركة الإسلامية على تنظيم حملة للدفاع عن الأقصى تحت شعار "الأقصى في خطر"، وهذا ما جعل السلطات الإسرائيلية ترى في مثل هذا السلوك تحريض على المس بأمنها.

يتبع



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القضية الفلسطينية - نصف قرن من التحولات
- 65 سنة تكفي
- كزدورة عَ الرصيف
- قلعة الشقيف .. وقلعة متساداة
- صواريخ أرب أيدول
- كلمة بحق سلام فياض
- باسم يوسف .. ظاهرة إعلامية خطيرة
- أبو تغريد .. صيحة الاحتجاج الأخيرة
- لو لم تكن السوريات جميلات ؟!
- مئويات .. خرائط .. ومخططات
- تحولات الزمن
- هل المرأة ضحية للتحرش الجنسي ؟
- الثقافة الوطنية في مواجهة الحركات السلفية
- موقف حماس والحركات السلفية من الثقافة والجمال
- أمريكا اللاتينية .. نماذج فريدة من الزعامة
- اقتراح بشأن عيد الحب
- لماذا أخفقت الثورة الفلسطينية !؟ مراجعة شاملة مختصرة
- الحرب في مالي .. هل هي حرب على الإسلام ؟!
- باجس أبو عطوان .. فدائي من الزمن الجميل
- دار الحنان .. (اللي بالعطيفية)


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد الغني سلامه - الإسلام السياسي في فلسطين - النشأة، المسارات، المستقبل - دراسة شاملة 1-2