حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 1174 - 2005 / 4 / 21 - 11:05
المحور:
كتابات ساخرة
ماذا يحدث إذا ما انقلبت المقاييس فجأة , فتحررت الحيوانات المسجونة في أقفاصها الباردة لتفسح المجال أمام الإنسان , لتحل الحدائق الخاصة به وبأجناسه محل " حديقة الحيوانات " يأتي المتفرجون إليها ليرموا إلى القاطنين الجدد بحبات الفستق وقشر الموز والأرغفة اليابسة .
رؤية سريالية طريفة لمعت في ذهني ذات يوم حين كنت أمثل دور السائح في حديقة الحيوان الضخمة بعاصمة دولة قريبة من مكان إقامتي , فور دخولي إليها تحاصرني أصوات الحيوانات في الأقفاص .
لا تستغربوا كثيرا , فعلماء اللغة ويشاطرهم الرأي النفسانيين والألسنيون يؤكدون حقيقة أن الإنسان حيوان ناطق , رغم شيوع هذه الفكرة إلا أني أرى أن الإنسان حيوان مثل باقي الحيوانات , وهو مختلف عن الأرنب مثلما تختلف البطة عن الفيل كاختلاف الجمل عن الذئب , لكنه قطعا لا يتميز عن سائر الحيوانات بالنطق , ذلك لأن كل الحيوانات ناطقة ولا يعني عدم فهمنا وإدراكنا لما تقوله أنها غير ناطقة , فالذئب حين يعوي يقول شيئا يفهمه باقي القطيع , وكذلك سائر حيوانات الله .
وأنا هنا لا أدعي أنني عبقري لغات غير أني لست مقتنعا بأن النطق شيء يتميز به ابن آدم عن سائر المخلوقات , والحقيقة أن لهذه القناعة أسبابا منها أننا أصبحنا كالقردة لا نرى ولا نسمع ولا نتكلم , بل ابتدعنا قردا رابعا لا يتحرك وقردا خامسا لا يحس ولا يشعر وسادسا لا يستفز , والحبل على الجرار .
نلتفت حولنا فنجد أطفالا يأكل الذباب عيونهم , يذهبون إلى المدارس نصف جائعين ونصف عراة , تتلقفهم أسواق العمالة الرخيصة وهم في سن اللعب والتشكل , لدى المراهقة يشيخون ويبتلعهم الزحام في عصر العولمة , ولا نسمع صوتا لأحد ينطق .
جيلا كاملا في العالم العربي يعيش فراغا مريرا , فراغا في الأيديولوجيا , فراغا في القيم , فراغا في الفكر , فراغا في تقاليد الحرية , فراغا نمى واتسع حتى احتل ضمائرنا , ولا من ينطق .
مكابدة المواطن العربي لتبعات الجوع والفقر وضنك الحياة والتهميش ونسب الأمية المرتفعة , وضعف الرعاية الصحية والاجتماعية وازدياد التفاوت الطبقي والحضري بين أبناء القطر الواحد , ويزداد الوضع سوءا حين تغيب الحريات العامة وتغيب الديمقراطية السياسية والاجتماعية في مؤسسات المجتمع العربي , وتسود قوانين الطوارئ باسم الدفاع عن الأوطان , ويمارس القمع والإرهاب وتكميم الأفواه واغتيال الكلمة الجريئة , ويتحول العلام إلى أداة لتمجيد النظام , ولا نرى أحدا يحرك ساكنا ولا نسمع نطقا .
شعب كامل في فلسطين يذبح بيد أبناء مجتمع مريض يصفق لمثال شارون وينتخبه زعيما بصورة ديمقراطية , فيما قياداتنا أسكرتها نشوة المناصب والامتيازات وتتجرأ بمد يدها إلى جلا دها , وتساوم على دماء الشهداء , والصمت هو العنوان .
أمة عربية تعيش حالة الهزيمة الشاملة وأوطان تصادر وتسرق , عجز رسمي عربي لم تعد تغطيه لا ورقة التوت ولاحتى إبرة صنوبر تخزه , وعجز غير مبرر من القوى الشعبية ومن الأحزاب العربية المكثرة من المؤتمرات والبيانات دون أي فعل حقيقي يحشر الأنظمة في ركن الحقيقة , بينما المرجعيات السياسية العربية ما تزال تغمض أعينها عن الحقائق , بعضها يكابر وبعضها يتآمر , ولا أحدا ينطق .
ومن هنا وهناك تتداعى الأعمدة ويكبر الحطام , ولا أحدا يجرؤ على الأنين , فقد سلمنا بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , فهانت علينا انهياراتنا وهزائمنا , وبتنا لا نسأله رد القضاء بل اللطف فيه .
ولما كان ذاك غير ذلك , فالإنسان لا يتميز عن الحيوان بالنطق , لكن يا ترى هل يتميز عنه بالكتابة ؟ سؤال وجيه , وهل نستطيع القول أن الإنسان حيوان يكتب ؟ أنا شخصيا أعرف حيوانات كثيرة امتهنت الكتابة .
أمام هذه اللوحة السريالية تذكرت هواجس صديق لي فوجئت به ذات يوم شاحب الوجه أمام دكان لبيع الدجاج المشوي , بدون طول مقدمات بدأ يشرح لي أسباب اضطرابه الخيالي الذي جعله يتصور نقمة الفراريج على البشر وهم يشاهدون الناس تقبل على التهام الطيور المسكينة دون شفقة أو رحمة , واستبدت الهواجس بصديقي إلى درجة أنه تخيل تلك الدجاجات التي تنتظر دورها في القفص لتزين الشواية بعد حين بلونها البرونزي الشهي , وقد شقت عصا الطاعة فغادرت القفص وانهالت علينا نقرا بمناقيرها الحادة انتقاما لما يفعله البشر بأبناء جلدتها منذ الأزل .
وعبثا حاولت إقناع صديقي بهشاشة هواجسه , وذكرته بصديق آخر لنا يعشق أكل الدجاج المشوي كل مساء , ولو أن الدجاج كان قادرا على الانتقام لكان هو خصمها الأول ما غيره , والذي ما يزال رغم فتكه بدجاج العالم , حيا يأكل الدجاج كل ليلة .
غير أن صاحبي مقتنع بفداحة ما ارتكبته أسنانه في حق الدجاج المسكين , لذلك قرر التوبة لعله يكًفر عن جرائمه السابقة بحق الدجاج , هذه التوبة أوصلته إلى فلسفة مفادها أن الحيوانات مخلوقات أرقى من البشر , ودعًم رأيه وموقفه بالحجج والبراهين فقال : دلني على حيوان غزا أرض حيوان آخر فطرده , دلني على حيوان لا يدير ظهره للطعام عندما يشبع , بل أين هو الحيوان الذي يستأثر بمؤونة رفاقه ولا يقيم لوجودهم وزنا , ثم استطرد في التعداد .
دون أن يدري , ينتهي صديقي إلى حيث كنت قد بدأت , فيتصور انقلابا في المقاييس آت لا محالة , ذلك أن الحيوانات لن تحتمل هذه الإجحاف الذي يصيبها من وحشية البشر , لذلك فإنها ستتمرد عاجلا أم آجلا , لتنتقم لنفسها وتضع الإنسان في أقفاص باردة وتحشره فيها , ثم تأتى لتتفرج عليه وهي ترتدي النظارات وربطات العنق , وتحمل الكاميرات وتطلق ضحكات فرحة .
غدا إذا ما وقفت مسرورا أمام أحد الأقفاص في أي حديقة حيوان , تذكر جيدا أن المقاييس قد تنقلب فجأة , وتذكر أن أناس كثيرون في هذا العالم لا يختلفون عن المخلوقات التي نتفرج عليها , إذ أنهم حولوا بجنونهم وقسوتهم أماكن كثيرة في هذا العالم إلى حديقة حيوانات .
فماذا لو أننا نخجل قليلا .
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟