أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - صفحات منسية من تاريخ العراق المعماري: مبنى مجلس الامة-الى الصديق رضا الاعرجي















المزيد.....


صفحات منسية من تاريخ العراق المعماري: مبنى مجلس الامة-الى الصديق رضا الاعرجي


خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 1171 - 2005 / 4 / 18 - 09:33
المحور: الادب والفن
    


وافق اعضاء الجمعية الوطنية العراقية بالاجماع بتاريخ السادس من نيسان الحالي ، على الانتقال الى مبنى "مجلس الامة " ، بدلا من عقد اجتماعاتها في " قصر المؤتمرات " . وبهذا القرار فان الجمعية الوطنية تعيد " الانوار " الى مبنى " مجلس الامة " الذي شيد في الخمسينات ، بمنطقة كرادة مريم في الكرخ بالعاصمة العراقية ، ذلك المبنى الذي لم يقم بوظيفته اطلاقا ، منذ ان اتتهت اعمال التشيد فية في نهاية الخمسينات ولحين الوقت الحاضر .
وعمارة ذلك المبنى ، كما هي حال كثير من المباني الاخرى لم يتطرق احد اليها ، وباتت عمارتها تمثل صفحات منسية في تاريخ العراق المعماري ، بسبب سياسات النظام الديكتاتوري البائد ، الذي اسدل ستارا كثيفا من الاهمال والتجاهل والالغاء ، لكل ما تم ، او تحقق او انجز ، قبل " اختصابه " للسلطة في تموز سنة 1968 ، فضلا على " ولعه " في التخفي ، و" افتنانه " بالسرية ، اللتين يحاول ان يلف بهما جميع تحركاته واماكن تواجده ومقراته الرسمية .. و" الحزبية " ايضا ً !
يستحضر الكلام ، عن عمارة مبنى " مجلس الامة " ، استذكار بقية الامكنة والمباني التى شغلها " مجلس الامة " – وهو التعبير الشائع لاسم " البرلمان " العراقي ، الذي انشأ عام 1922 ، بُعيد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في آب عام 1921 ، والتى سارعت في الاهتمام غب تأسيسها الى انشاء مؤسسات حكومية جديدة ، لم تكن معروفة سابقا ً .
وكما كان متوقعا ً ، فان غالبية المباني التى امست بين يوم وضحاها ، مقرات لمؤسسات الدولة الفتية ، لم تكن عمارتها ملائمة بالقطع مع خصوصية وظائف تلك المؤسسات ، لا من ناحية طبيعة الاحياز المطلوبة ، ولا من ناحية نوعية " فورماتها " ؛ فمجمل تلك المباني كانت سكنية ، ذات احياز تناسب بشكل وبآخر وظيفتها ، ومنفذه بمواد انشائية متواضعة ، ولم يدر في خلد " معماريها " و " اسطواتها " ، انها سوف تؤدي يوما ما ، مثل تلك الوظائف !.
لقد كانت تركة الحكم العثماني على البلد ثقيلة ، وثقيلة جدا ً امتدت لقرون ، وافضت الى خراب تام ، وتدمير كامل لكل مقومات الحياة العصرية في مدن العراق العثماني . وتكمن المفارقة " الطريفة " بان نظام الحكم الجديد الذي أ ُختير للعراق عام 1921 ، كان لدرجة متطورا ً وحديثا ً ، بحيث عجزت احيازمنشاءات البيئة المبنية وقتذاك ، ان تلبي ولو قسطاً يسيرا ً من متطلباته الفضائية ! ؛ فما عدا " القشلة " ومشتملاتها البنائية ، لم تكن ثمة مبان ٍ اخرى في بغداد ، قادرة على استيعاب متطلبات الوزارات المختلفة ، ومؤسساتها الكثيرة التى استحدثت بشكل مفاجئ وعلى عجل .
ويمكن ان يبيّن المثال التالي مقدار النقص الكبيرفي نوعية المباني التى واجهتها بغداد ، كعاصمة للدولة الحديثة ، فلم يكن في بداية العشرينات ، بطول المدينة وعرضها ، مبنى تليق عمارته ، على سبيل المثال ، بمقام وعمل " الملك " الذي نُصّب توا ً ؛ مما حدا باحد اثرياء بغداد المعروفين ، وهو السيد " شعشوع " ان يخلي داره ، ليكون " بلاطا ً " للامير الاتي من الحجاز ! . و" قصر شعشوع " الواقع في منطقة الكسرة ، الذي فاخر البغداديون بهيئته طويلا ، لا ينطوي على اي حدث ممّيز ، لا من ناحية العمارة ، ولا الانشاء ، ولا حتى من ناحية المواد. وعندما قمنا انا وطلابي من قسم العمارة في جامعة بغداد ، باجراء " مسح " توثيقي معماري في الثمانينات ، لتلك الدارالمشهورة في تاريخ العراق ، دهشت لبساطة لغتها المعمارية الغارقة في تقليديتها ، ذات الاحياز المتواضعة ، والمنطوية على سذاجة انشائية صريحة ؛ وظل الملك مقيما ً في تلك " الدارة " لحين تنفيذ مبنى " البلاط الملكي " في المنطقة ذاتها عام 1925 ، ذلك المبنى الذي انجزته " دائرة المباني العمومية " الشهيرة ، التى اضطلعت بمهام تصميم وتنفيذ اكثرية المباني الحكومية الجديدة في العشرينات والثلاثينات .
واذا كان هذا هو حال بناء " المقر الملكي " ، فان قضية ايجاد مبنى ملائم لمجلس الامة ، الذي يجهل العراق واهله اصلا، وجود مثل هذه المؤسسة التشريعية ، تبدو عملية شاقة ومربكة وملتبسة بالنسبة الى اولئك الذين كلفوا تأمين او تأهيل مثل هذا المبنى . وباقتراح من احد البغداديين الظرفاء ، تم اجراء انتخاب اعضاء المجلس التأسيسي في " بناية سينما رويال " !، في حين تم ّ افتتاح المجلس يوم الخميس ، بتاريخ 7 اذار ( مارس ) عام 1924 ، في بناية مستشفى في جانب الكرخ ! ( ولم يشر المصدر، الذي اقتبس منه هذه المعلومة عن اسم المستشفي العتيد ، لكن " معلوماتي " المعمارية ، تشيرالى وجود مستشفي وحيد آنذاك في تلك الانحاء ،هو مستشفى.. العزل ! ؛ وطرافة المفارقة ، هنا، واضحة : انعقاد مجلس تشريعي في.. مستشفى عزل ! ، وهو نفس المستشفى الذي سمي لاحقا " بمستشفى الامراض المتوطنة "، وغُير اسمة في السبعينات الى "مستشفى الكرامة "! )
عندما اغلقت " جامعة آل البيت " في سنة 1929 ، التى شيدت في 1922-24 ، انتقل اليها " مجلس الامة " في تشرين الثاني سنة 1930، مستخدما قاعتها الفسيحة التى يصل عرضها الى حوالى 9 امتار ، وكانت في حينها ، من اوسع قاعات بغداد طرا ً . ثم انتقل " المجلس " بعد ذلك الى مبنى" مدرسة الصنائع " الواقعة في منطقة القلعة بباب المعظم مجاورا لوزارة الدفاع ، وبالقرب من " القصر العباسي " الذي تعود اثاره الى فترة القرن الثالث عشر الميلادي . وهذه " المدرسة " اسسها الوالي العثماني " مدحت باشا " في سبعينات القرن التاسع عشر . واستمر " المجلس " شاغلا هذا المبنى بعد اجراء تحويرات مناسبة عليه لحين قيام ثورة 14 تموز ( يوليو ) عام 1958 ، التى اوقفت نشاطه اولا ، ثم الغته فيما بعد .

في الخمسينات ، اقبلت البلاد في الشروع لتنفيذ اجراءات تحديثية جذرية وواسعة ، شملت نواحي الانشطة الحياتية كافة ، ومن ضمن تلك الاجراءات البدء في تنفيذ مبان مختلفة المضامين والمقاسات ، تفي بالمتطلبات الجديدة التى افرزها الحراك السياسي والاقتصادي الموار بعد الحرب العالمية الثانية اثر ارتفاع معدلات حصص الحكومة العراقية من موارد النفط ، الامر الذي ادى الى تأسيس مجلس الاعمار ووزارة الاعمار ، من اجل تخطيط ومتابعة وتمويل مشاريع الاعمار المتنوعة وتنفيذها .
كان من ضمن الابنية التى ادخلت في قائمة المشاريع مستعجلة التنفيذ ، تشييد مبنيّين : احدهما مبنى " البلاط الملكي " في كرادة مريم ، عوضا عن المبنى المتواضع المنفذ عام 1925 في الكسرة ، والمصمم من قبل الميجور ويلسون – رئيس دائرة الاشغال العمومية انذاك ؛ والمبنى الاخر ، مخصص الى" مجلس الامة " في ذات المنطقة بالكرخ بالقرب من جسر الملكة عالية ( 1957 ) ، الذي سيدعى " جسر الجمهورية " ( 1958 ) ؛ بدلا من مقره الحالي غير الملائم ، في منطقة باب المعظم .
عهد في عام 1954 ، الى المعمار البريطاني “ جيمس بريان كوبر James Brian Cooper " بتصميم ذينيك المبنيين ّ . و " كوبر " سبق وان عمل في العراق بين 1934- 1936 ، وشغل آنذاك منصب GA ، اي " معمار الحكومة Government Architect " ، وهو منصب مهني رفيع ، يراس شاغله دائرة من اهم دوائر تشكيلات مديرية الاشغال العومية ، ومن ضمن صلاحيات هذه الدائرة منح الموافقات الخاصة لتنفيذ مشاريع الدولة الكبرى ، والاشراف الفني علي تنفيذ تلك المشاريع . والمؤسف ان هذه الدائرة الغيت اداريا في نهاية الثلاينات ، وخسر العراق ، كما اعتقد ، مؤسسة فنية ، كان بمقدورها كبح جماح فوضي التصميم والتنفيذ العشوائيين .
واثناء وجود وعمل " كوبر " في العراق بالثلاثينات ،شاغلا منصب " معمار الحكومة "، صمم مبنى " الضريح الملكي " في الاعظمية ( 1934-37 ) ، وصمم " مدرسة الهندسة ( 1935 ) التى شغلتها طويلا كلية الهندسة في باب المعظم ، وقبلها صمم "دار المعلمين الابتدائية " في الاعظمية ( 1934 ) ، كما انه صمم كثير من الابنية الصحية والمدارس في عموم العراق ، وقام باعداد تصاميم ابنية سكنية عديدة في بغداد ، منها " بيت نوري السعيد " في الوزيرية ، الذي تشغله الان " كلية الفنون الجميلة " ، و بيت السياسي العراقي " نصرت الفارسي " في الوزيرية ايضا ،وكذلك صمم " قصرا " الى الامير عبد الاله ، الوصي على عرش العراق وقتذاك ، لكن التصميم لم ينفذ في حينه . ويقال ان من ضمن اسباب تكليف " كوبر " للمبنيين المشارين اعلاه ، معرفة الوصي "عبد الاله " به معرفة شخصية، ( ويراد ، الان ، لنا ان نصدق بان " المحسوبية " حالة طارئة على .. التقاليد العراقية !! ) .
وايا ً يكن الامر ، فان " جميس بريان كوبر " قام باعداد تصاميم ذينيك المبنيين : مبنى " البلاط الملكي " الذي ستؤول تسميته الى " القصر الجمهوري " ، ومبنى " مجلس الامة " ، الذي سيدعى " المجلس الوطني " . وسنتناول عمارة المبنى الاخير في الاسطر القادمة .

تتسم لغة عمارة مبنى " مجلس الامة " على كلاسيكية مفرطة ، تتجلى تصميما ً في التأكيد على محورية حادة وصريحة للفضاءات المصممة ، مع اظهار التماثلية ، كاحد مقومات التكوين ، فضلا على استخدام مفردات تصميمة محددة ، يشي حضورها الى مرجعيتها الكلاسيكية ، كالرواق المعمد عند المدخل " البورتكو " Portico ، واستخدام مقياس معين بغية تضخيم الاحساس بالرسمانية، فضلا على التأكيد لعنصر السلالم العريضة التى تقود الى المدخل ، وغير ذلك من العناصر الاخرى.
يتألف مبنى المجلس من ثلاثة طوابق : منها طابقين اساسين مع طابق شبه السرداب Simi – basement ، يعتمد المصمم شكلا ً مألوفا لمساقط مخططاته ، شكلا ًسبق وان شاهدنا مثيلاً له مرارا في مبانٍ عديدة ، وهو شكل المخطط الذي يأخذ هيئة حرف ( H ) اللاتيني ، الاثير لدى انصار التوجهات الكلاسيكية ، ثم يشرع بمهارة مهنية ، لا يمكن تجاهلها ، في " املاء " هيئة كتلته بفضاءات متنوعة ، يقتضيها برنامج المبنى التصميمي . فثمة قاعة رئيسية مخصصة لمجلس النواب ، واخرى اصغر منها لمجلس الاعيان ، ومكاتب اللجان الفرعية وعددها تسعة ، واخرى مخصصة الى الوزراء بالاضافة الى وجود مكتبة ، ومطعم ، وغرف المناقشة ، والارشيف ، ومكاتب رئيسي المجلس والسكرتارية ، ومكاتب خاصة بالصحافة ، مع توفير فضاءات خدمية كافية تضمن تشغيل المبنى بصورة مريحة وكفوءة .
تنطوي فكرة المعالجات الواجهية على تكرار مفردة تصميمية ، مكونة من عقد مدبب يستند على عمودين مزدوجين ، وتحيط هذه المفردة التصميمية الرئيسية باروقة الطابقين الاساسين .من جميع الجهات تقريبا ً. ولا يكترث المعمار لطبيعة وخصوصية توجيهات Orientation المبنى باتجاه الجهات الاربع ؛ ذلك لان المهم لدية هو الالتزام الصارم بالنظام التكويني الكلاسيكي ، اكثر بكثير من مراعاة نوعية الفضاءات التى تقع خلف تلك الاروقة او اتجاهاتها . ويجاري المصمم تصورات كثير من اقرانه الغربيين ذوي الاتجاه الكلاسيكي ، في ايمانهم بان الاسلوب التصميمي المسمى " بالاندلسي " ، بامكانه ، ولوحده التعبير عن الهوية الشرقية . وطبقا لتلك التصورات فان توظيف مفردة العقد المدبب المرفوع بواسطة عمودين قصيرين ، مع شرائط افقية ملونة ، بمقدورهما استحضار ذلك الاسلوب ، واستدعاء " ايقونته " المتخيلة ، من هنا يمكن تفسير " ولع " المعمار في طريقة توظيفاته المكررة لتلك المفردة .
يشير " كوبر " الى مكونات منهجية التصميم التي يهتدي بها في عملية خلق عمارة المبنى ، فيحددها بالعناصر التالية : الزمان ، والوظيفة ، والمكان ، والمناخ ، والمواد ؛ وكلها عناصرتكوينية لا غبار عليها ، انها مكونات صائبة ومقنعة جدا ً .
لكن المسألة المهمة، هنا ، في اعتقادنا ، ليست مقتصرة على تسمية او تعداد تلك المكونات ، بقدر كيفية التعاطي معها ، وتحديدا كيف يمكن ادراكها او تأويلها . وتلوح لنا ، بان فعالية الادراك " الكوبرويه " تلك التى عرضها المعمار ، حافلة بفهم خاص ومتفرد ، فهم لا يجاري ، كما نرى ، سياق معاني تلك المكونات ودلالاتها المرتهنة دائما بسياقها الزمني ؛ وانما تتبدى الفعالية التصميمية المعروضة ، وكأنها تطمح الى عكس تأثيرات الزمن الحاضر على اسلوب تكويناتها ، لكن نتائج وحقائق معطى المنجز المرئي تحيلنا بوضوح الى ...خارج الزمن : في الاقل خارج زمننا الراهن . ذلك لان نوعية المنهاج التكويني المقترح من قبل المعمار ، والمغلف بقيم المقاربات الماضوية ، الكلاسيكية تحديدا ، ً قد تجاوزته الممارسة المعمارية الحديثة منذ امد طويل ، وامسى جزءا ً من ذاكرة معمارية راجت قيمها في القرن التاسع عشر !
واذ يولي المصمم قدرا ً من الاهتمام للناحية المناخية ، فانه لا يفتأ يظل متمسكا ً في معالجاته في تكرارنصوصية الحلول المناخية المألوفة في تقاليد المنطقة البنائية ، من دون ادنى مسعى لتوظيف نتائج نجاحات الاستعمالات الحديثة في هذا المجال . ويمكن للمرء ان يجادل ، فيما يخص المكان والمواد ، كمكونيّن يحرص المعمار الى ايلاءهما اهتماما خاصا ؛ فلا نرى في التكوين المقترح محاولة ما ، جادة لتأويل عناصر الارث البنائي الاقليمي المرموق ، كما ان المصمم لا يولي البته لاهمية حضور المادة الانشائية المحلية : الطابوق في مبناه ، تلك المادة التقليدية والمألوفة في المنجز البنائي المحلي ، والمفضلة لدى معماري العراق ، منذ مباني بابل الغارقة في قدمها ، مرورا " بآجريات " مباني العهد العباسي الفخمة ، وصولا الى طريقة استخدام الطابوق في عمارة " جامعة آل البيت " المؤثرة !
ولا اعتراض لدينا قطعا ً ، لمسعى المعمار في اختبار، واختيار مواد انشائية بديلة عن الطابوق ، لكن ملاحظتنا اتت في سياق تأكيدات المعمار المزعومة بمراعاة استخدام المادة الانشائية المحلية ، للتعبير عن خصوصية المكان . ونرى في محاولته ادخال تقنيات " الحجر " غير المألوفة في الممارسة البنائية المحلية لتنفيذ جدران مبناه ( وليس اكسائها !) ، محاولة جريئة ونافعة في آن ، لجهة التنوع " المادوي " الذي يحسن ان تتعرض له منظومة البناء المحلية . ويتحلى " الحجر " المستخدم في الجدران الخارجية لمبنى " مجلس الامة" ،على مواصفات جيدة ، كما ان الوانه الطبيعية المختارة ، تلائم على نحو كبير خصوصية الجو البغدادي المترب ، والمسرف بسطوعه وشدة انارته . وتجدر الاشارة بان قطع الحجر المستخدم في مبنى " مجلس الامة " استخرجت من مقالع تقع في ضواحي مدينة " اريحا " بفلسطين ، ونقلت برا ً الى بغداد عبر الاردن ! . وما دمنا قد ذكرنا " حجر اريحا " فاننا نشير ، والشئ بالشئ يذكر ، بان الحجر المستخدم في مبنى " البلاط الملكي " ( القصر الجمهوري حاليا ً ) ، والمصمم من قبل نفس المعمار ، والمنفذ من قبل نفس الشركة اللبنانية ، هو من منطقة " بيت لحم " في فلسطين ايضا ً .

ورغم ان شكل مخطط المبنى منتقى مسبقا ً ، كما اشير الى ذلك ، فان المعمار استطاع ان يجعل جميع فضاءات مبنى المجلس تعمل بكفاءة عالية . وافضى " افتنان " كوبر – كاحد معماري الاتجاه الكلاسيكي ، وولعه بلزوم وجود فضاءات عديدة وفسيحة ، سواء كانت وظيفية ام خدمية في التصميم المعد ، افضى الى جعل احياز المبنى المختلفة مؤهلة وظيفيا ً لتلاءم كثير من المتغيرات ، التى قد تفرضها المتطلبات والاستخدامات المستقبلية . بعبارة اخرى ، تغدو فضاءات المبنى " الخادمة ، والمخدومة " ( وفقا ً لتعبير " لويس كان " ) متكافئة ، هنا في القيمة التصميمية ، ويمكن بسهولة تحويرها طبقاً للمستلزمات الجديدة ، التى ستطرا لاحقاً على نوعية فضاءات المبنى . وبالامكان اعتبار هذا المعيار ، معيارا ً تكوينيا ً مقبولا ً، رغم كلفته التصميمية العالية ، سيما وانه يتعلق في عمارة مبنى عام ، تتسم وظائفه على متغيرات سريعة في النواحي الادارية والتنظيمية . ويحرص المعمار الى تأكيد هذا الجانب التكويني كأحد اوجه خصوصية التصميم ، فيقرر استخدام منظومة انشائية مركبة ، قوامها نظام الجدران الحاملة ، مع مزجها مع النظام الهيكلي . ويتمتع النظام الاخير ، كما هو معروف ، على امكانات واسعة لجهة حرية اجراءات تقطيعات فضائية متنوعة .
ولئن صمم المعمار سعة قاعة مجلس النواب ، كي تستوعب 220 نائبا ً ( وهو عدد نواب مجلس الامة في الخمسينات ) ، فانه يراعي تصميميا ً امكانية استيعاب فضاء القاعة الزيادة المتوقعة في عدد النواب مستقبلا ً ، طبقا لزيادة سكان البلد المنتظرة . كما يقترح المصمم العزوف عن استخدام نظام ترتيب صفوف المقاعد " المتقابلة " ، المتبعة في قاعات مجلس الامة العراقي منذ انشاءه في العشرينات ، والذي يحاكي نظام ترتيب مقاعد مجلس العموم البريطاني ؛ ويقترح ان يكون نظام توزيع المقاعد ضمن قاعة مدرجة ، على شكل حدوة الحصان " الامفيثياتروي " ، المألوف في البرلمانات الاوربية ، او كما يسميها المعمار بـ " برلمانات القارة ! " . ويدعو الى وجوب وجود منبر خطابي رئيسي امام مقاعد النواب ، ويليه صف اعلى من المقاعد المخصصة الى رئيس المجلس ونوابه ، واسفلهما صف آخر من المقاعد مخصص الى الوزراء يجلسون قبالة النواب ، وجها ً لوجه . ولا ينسى المعمار تصميم شرفات خاصة الى الصحافة ، ومقاعد الى " العامة " التى تود متابعة المناقشات .

يتميز مبنى مجلس الامة حاله حال جميع المباني ذات الاتجاه الكلاسيكي ، باعتناء نادر في التفاصيل، التى اتت جميعها على قدر كبير من الاتقان والبراعة والحرفية العالية . وسعى المصمم ان تكون الخدمات الميكانيكية والكهربائية والصحية فيه مماثلة لاحدث المنظومات الخدمية في حينها . ويركز المعمار على وجوب استخدام منظومة كهربائية-الكترونية ، تحصي وتؤشر عمليات التصويت .( وفي هذا الصدد ، فاننا نتوقع ان تكون منظومة احصاء التصويتات القادمة في المجلس التشريعي الحالي " احدث " من النظام البدائي والساذج وغير الحضاري ، الذي جرى " تفعيله " اثناء إحصاء اصوات المشرعيين في الجلسات الاخيرة للمجلس ، والمعتمدة على رسم مجاميع من " الواحدات " الافقية المؤشرة بخط قطرى – " دياغينالي " على خشية " سبورة " ، تتماشى طبيعة استخدامها مع حالة " اطفال " غض، في صفوف اولى من مدرسة ابتدائية ! ) .

يُأخذ على عمارة المبنى كونها اعتمدت اساسا ً على مقاربة معمارية ، تقع عادة ، كما اشير سابقا ً ، ضمن الاتجاهات الكلاسيكية ، تلك الاتجاهات التى لم تعد تثير اهتماما ً كثيرا ً لدى المعماريين ، نظرا ً لتشابهه اشكال مخططاتها المشوبة بتكرار ممل لمفردات معمارية بعينها ، بالاضافة الى عدم اكنراث تلك الاتجاهات واهمالها الفاضح في التعاطي مع الفروقات " التايبولوجية " للمباني المصممة ، الامر الذي افضى الى انحسارها سريعا ً من مقاربات الخطاب المعماري العالمي الحديث .
بيد ان التقييم الموضوعي لعمارة " مجلس الامة " البغدادي ، تحتم الاقرار ، بان الجهد التصميمي الجاد والمبذول في اعداد مخططات المبنى ، ماانفك يعتبر جهدا ً معماريا ً مميزا ً ، بل ويمكن تقييمه كأضافة نوعية لمفردات البيئة المبنية المحلية . فنحن ازاء درس معماري تثقيفي مركز ، يطمح لتأثيث فضاء تلك البيئة الفقيرة بمرجعية مغايرة ، مرجعية تجد اصولها في ينابيع الاتجاه الكلاسيكي ، من هنا ، يمكن ادراك محاولة المعمار الرفع من شأن هذا الاتجاه ، والتركيز عليه كاتجاه غير مألوف في التاريخ العمراني المحلي . وفي هذا السياق ، لا يمكن للمرء ، الا وان يتفق مع ملاحظات المعمار العراقي " جعفر علاوي " ، التى ابداها في حديث سابق معي ، من ان مجرد رؤية مبنى عمارة " مجلس الامة " بتفاصيله المتأنقة ، الذكية ، عالية المهنية يستحضر المتلقي في وعيه مفهوم معنى " العمارة " الحقيقي : العمارة ، الجادة والرصينة ؛ دعك من انها .. كلاسيكية !! .
ظلّ مبنى مجلس الامة ، منذ نهاية الخمسينات ، مبنا ًمهملا ومهجورا، ولم ينهض بوظيفته التى من اجلها تم ّ تصميمه وتشييده ؛ ثم شغلته وزارة الخارجية في الستينات لفترة قصيرة ، قبل أن يستولي عليه " صدام " ليجعله مقرا ً له ، عندما كان " نائبا ً " للبكر ، الذي اقام هو الاخر في مبنى البلاط الملكي ، الذي دعى بالقصر الجمهوري ، والواقع بالقرب منه . واثناء " تنصيب " صدام لنفسه " رئيسا ً " للجمهورية ، استولى على المبنيين معا ً ، دون ان يسمح " لنائبه " عزت الدوري ( المطلوب من قبل الشعب العراقي ، والفار من وجه العدالة حاليا ً ) ، ان يستخدم هذا المبنى ، المخصص " لنائب " رئيس مجلس قيادة الثورة ! .
وعندما اجرى النظام الديكتاتوري مهازل الانتخابات ، (التى زعم منظموها بضمنهم عزت الدوري ، بتبجح مثير حافل بالكذب والتزييف والوقاحة ، بان المشاركة الشعبية فيها وصلت الى نسبة 100% في احد الدورات الانتخابية ) ؛ " تمخضت " تلك الانتخابات عن تأسيس " مجلس وطني " ؛ لكن هذا المجلس لم يسمح له النظام البعثي الصدامي استخدام المبنى القديم " كمقر " الى المجلس " المنتخب " . وبدلا عن ذلك فقد جرى " حشر " اعضاءه في مبنى آخر، بالقرب من المحطة العالمية ، كان قد شيّد في منتصف السبعينات ، وصمم اصلا ليكون مقرا لفرع تنظيمات الحزب العنصري ، بالكرخ .
اما مبنى " قصر المؤتمرات " الذي عقدت فيها الجمعية الوطنية الحالية جلساتها الاولى ، فقد صممه المعمار الفنلندي " هيكي سيرين " Heikki Siren ، بالاشتراك مع زوجته “ كايا “ ، بعد ان فاز تصميمهما بالمسابقة المعمارية الدولية التى نظمت عام 1978 . واستغرق تنفيذ المبنى اياه ، مدة اربع سنوات ( 1978-1982 ) .

ويرى الكثيرون ، الان ، في قرار عودة اشغال مبنى " مجلس الامة " واداءه لوظيفته الاساسية، يرون فيه قرارا صائبا ً وحصيفا ً ؛ متطلعين ، في الوقت ذاته ، بان تتكرس " صورة " مبنى المجلس في مخيلة العراقيين كـ " أميج Image " ينوب استذكاره عن حضور دائم لمؤسسة تشريعية منتخبة ، يسهم نشاطها وعملها في دمقرطة الحياة السياسية بالبلاد ، التي عانت الامرين من حكم النظام الديكتاتوري البائد ؛ وان تكون هذه العودة ايضا ً، حافزا ً لقراءة جديدة ، ليس فقط لصفحات معمارية منسية ، وانما اعادة قراءة تاريخ شعب باكمله ، سعت الديكتاتورية ونظامها الاستبدادي الى تجاهله واهماله، والتنكيل به ، طيلة حكمها الجائر والظالم والتعسفي !..

مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون



#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحية الى 9 نيسان المجيد
- نكهة العمارة المؤولة
- مصالحة ام ... طمس حقوق؟
- مقترح شخصي ، لادانة جماعية
- المشهد المعماري في الدول الاسكاندينافية بين الحربين - صفحات ...
- الانتخابات و - رياضيات - الباجه جي المغلوطة
- العمارة في العصر الاموي : الانجاز والتأويل - مقدمة كتاب ، يص ...
- تجليات العمارة العضوية : نتاج رايت في الثلاثينات - صفحات من ...
- في ذكرى عبد الله احسان كامل
- بزوغ( الار نوفو .. واختفاؤه ) تيارات معمارية حديثة _ من كتاب ...
- قضايا في العمارة العراقية :العمارة ، بصفتها منجزا ً ثقافيا
- ثمانينية خالد القصاب : المثقف المبدع ، المتعدد المواهب يتعين ...
- صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز ، وال ...
- تيارات معمارية حديثة : التيار الوظيفي
- صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز والتأ ...
- موالي - صدام المُدَّعِية - بالثقافة - تسعى - لتبييض - سيرة ا ...
- عمارة جعفر طوقان : فعل الاجتهاد التصميمي
- المُعـلمّ - بمناسبة رحيل فائق حمد
- معالي العمارة المهنية
- عمارة اسمها .. التعبيرية - صفحات من كتاب : قرن من الزمان ؛ م ...


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - صفحات منسية من تاريخ العراق المعماري: مبنى مجلس الامة-الى الصديق رضا الاعرجي