أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جاسم المطير - في احتفالية العاصمة الثقافية .. بغداد بين اليأس والسطوع ..















المزيد.....


في احتفالية العاصمة الثقافية .. بغداد بين اليأس والسطوع ..


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 4041 - 2013 / 3 / 24 - 17:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعد أيام قليلة تبدأ احتفالية بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013.. ما أروع المناسبة وما أطيب العنوان إذا ما كان بمقدورهما استحضار جوهر الثقافة البغدادية واستحضار ذكرى العديد من أناسها الطيبين، خالقي كل أطايب الثقافة الانسانية في بلاد النهرين .
ربما كانت بغداد في يوم من ايام الماضي البعيد حصناً من حصون الثقافة والفنون، وربما كانت منعطفاً مشهوداً في الهندسة المعمارية ، وربما كانت مركزاً من مراكز العلوم العالمية ، وربما كانت موضع حسد المدن العربية الأخرى. اختارها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لتكون عاصمة له وحصناً عظيماً لجيشه ولتكون وسيطاً تجاريا بين الشرق والغرب ولتكون مدينة للسلام ومن ثم تطورت حياتها حتى غدت مركزا من مراكز علوم الطب والفلك والرياضيات . لا شك أن كل موظفي وزارة الثقافة الحالية في بلاد الرافدين وكوادرها يمنـّون أنفسهم بانتصار جهودهم وتألق خططهم لزيادة رفعة بغداد ومكانتها في عيون العام 2013 المخصص لقطب ثقافي واحد هو أن تكون بغداد عاصمة الثقافة العربية. بل ربما يحلم كل مواطن بغدادي أن يعود الفرح الثقافي لمثقفي العراق كلهم وأن تتجاوز الثقافة العراقية أبوابها الموصدة وأن تقتحم الجدران المطوقة إياها، خاصة مع وجود نوايا حسنة جماعية بقصد أن يكون نهر دجلة متدفقا بأحلامٍ ثقافيةٍ في هذا الزمان، الموصوف بالحرية والديمقراطية، فقد كانت وزارة الثقافة وجامعة بغداد باعتبارهما من المعنيين العراقيين بالذهب الثقافي وصناعته بهذه المناسبة المهرجانية، التي تجاورت فيها تواقيع ممثلي الوزارة والجامعة إلى جانب تواقيع ممثلي السفارة الفرنسية والمعهد الثقافي الفرنسي ومنظمة اليونسكو على بنود برنامج مشترك للتعاون الثقافي بين هذه الجهات الخمس لإنجاح مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية . وقــّع على ورق الاتفاقية عن وزارة الثقافة كل من وكيل الوزارة فوزي الاتروشي ومدير عام دائرة العلاقات الثقافية العامة عقيل المندلاوي وعن جامعة بغداد رئيس الجامعة للشؤون الإدارية الدكتور بهاء طعمه جياد وعن السفارة الفرنسية والمعهد الثقافي الفرنسي مستشار التعاون والنشاط الثقافي مدير المعهد أوليفيه شاتليه . معنى هذه التواقيع أن فعاليات الثقافة عام 2013 مبنية على شكل من أشكال التعاون مع ممثلي ثقافة بلد عُرف منذ أكثر من قرنين بتجاوزه وتجاوز مثقفيه على كل شيء مستحيل في أطر العقل والثقافة العالمية المعاصرة .
لا أود القول أن العصافير البغدادية سوف تجد نفسها واقفة على أسلاك الكهرباء مقابل قاعة احتفالات بغداد يوم 23 – 3 – 2013 وهي بغاية السرور الربيعي لكنها لا تستطيع الشدو كما ينبغي لأن ربيع الواقع العراقي ليس فضاءً آمناً بعدُ، وليس مرقشا بالنجوم الثقافية الأصيلة . ما تزال صورة بغداد متقدة باللهيب السياسي – مع الأسف – لأن الشيء المرئي ، في هذه الأيام، هو أن مدينة بغداد تعاني من الخلل والارتباك في كل جانب من جوانب الحياة . كما أن كل مواطن عراقي يعيش على ارضها يخشى من خطر انقسام المجتمع العراقي إذ هناك إحساس واضح بأن بغداد محاطة بكم ٍ هائلٍ من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب أن الثقافة العراقية لم تجد لها دوراً حتى الآن في محور بناء الوطن الجديد الذي يعاني قلبه وجيبا متقطعا منذ ولادة (نشوة) سقوط الدكتاتور عام 2003 حيث سرعان من انطفأت (النشوة) في ظل الإرهاب الواسع النطاق ، وفي ظل دبيب الفساد المالي الواسع النطاق والفشل السياسي الواسع النطاق، مما جعل زهور بغداد الثقافية لم تتفتح كاملة حتى الآن، رغم خديعة السنوات العشر الماضية ..
ترى هل تستطيع الجهود الثقافية الرسمية والاتفاقات والامنيات المثالية أن تسهم برفع الحجر من فوق شجرة الحرية الثقافية في العراق..؟ هل تتحرر الثقافة من قيودها المتعددة الانواع ..؟ هل تتحد روح الثقافة العراقية مع يديها وجسدها لتواصل عشقها للحياة المدنية السلمية الهادئة .. هل تستطيع ان تمتلك حديقة مزهرة لا تضطهدها السياسة ولا العقائدية..؟ هل يفسح المجال واسعا امام الاتحاد العام للادباء ونقابة الفنانين ونقابة التشكيليين وجميع منظمات المجتمع المدني الثقافية داخل الوطن وخارجه للمساهمة الرئيسية ، الفعلية ، في ( تخطيط) مسار حركة اقمار الثقافة العراقية وليس مجرد شراء بعض جهودها في تنفيذ تخطيطات المدراء الثقافيين الذين لا يرون عطاءهم الا في الوريقات الوزارية الآمرية، التي هي في جوهرها تتحول الى سكاكين جارحة للناشطين الثقافيين إنْ لم نقل سكاكين قاتلة. هاهنا في هولندا وفي البلدان الاوربية ،كلها ، تتألق المواهب الثقافية والفنية، الفردية والجماعية، من دون تدخل الدولة ووزراراتها الثقافية.. يغني المغنون أغنياتهم ويصور السينمائيون أفلامهم ويصعد المسرحيون فوق خشباتهم ويتكفل التشكيليون بمعارضهم ولا يتدخل أي موظف حكومي أو بلدي في هذه الشئون. باختصار أقول أن الدولة الهولندية تقدم المال فقط لضمان نجاح الفعاليات المتواصلة يوميا . أما التخطيط والتنفيذ فهو من شأن المثقفين والفنانين أنفسهم بصورة مطلقة. للتذكير أورد للقراء مثلاً هولندياً واحداً هو احتفال الشعب الهولندي بالذكرى الــ400 لميلاد الفنان رامبرانت عام 2005 إذ في غضون هذه الاحتفالية دخل الفن التشكيلي الهولندي كله مع تمثال وصور الفنان إلى كل بيت وإلى كل شارع وجامعة ومدرسة وكنيسة وحتى رياض الأطفال. صار الناس الهولنديون طيلة سنة الاحتفال، بأيامها ولياليها، متشحين بالعزة والافتخار أمام الضياء المطل على وجه رامبرانت عام 2005 وقد جرت مئات الاحتفالات العظيمة في الشوارع المفتوحة وفي القاعات المغلقة من دون أي تدخل من المدراء في مؤسسات الدولة أو وزارة الثقافة الموكولة بميزانية سنوية لا تقل عن 30 مليار يورو أي حوالي خمس الميزانية العامة. لقد اقتصر دور الوكلاء والمدراء في وزارة الثقافة وفي البلديات الهولندية كافة على تخصيص المال فقط إذ نهضت بتخطيط الفعاليات وتنفيذها منظمات ثقافية تستضيء باستقلال ٍ تام داخل المجتمع المدني .

في هذا الشهر ، الثالث من عام 2013 ، قرر الاشقاء من المثقفين العرب أن يجتمعوا في بغداد و أن يضعوا على جبينها وساماً كبيراً اقترحته منظمة اليونسكو قبل عامين ليجعل منها عاصمة الثقافة العربية لعام 2013 رغم أنها ما تزال تحت أجنحة الإرهاب الحديدية المتعددة الاشكال والساحات . أطل موعد الاحتفاء بها وبوسامها في محاولة حكومية – رسمية بهدف انتزاع بغداد من جرحها الدامي الذي غلّ يديها من إعمارها ومن تنظيف شوارعها من الاوساخ والانقاض ومن تخليص نهر دجلة من أشناته ومن وقف دوران صناعتها ومن جفاف أرض زراعة حنطتها بعد أن حدّ سيف الارهاب القاطع كل شيء جميل فيها منذ نيسان 2003 وبعد أن صبت قنابل الأحتلال الامريكي غضبها على أغلب ألوان الخزف في مؤسسات الدولة العراقية الدكتاتورية آنذاك حتى تهدل كل بناء إلى الارض ومضى البديل الجديد مسوداً منذ عشر من السنين حتى لحظة الاحتفال ببغداد.
بعض قادة الثقافة في البلاد يريد من هذه الاحتفالية استعادة الماضي بالبهرجة الاعلامية حسب، من دون النظر الى الحاضر والمستقبل ،‮ هذا البعض لم يدرك أن الزمان تغير والعالم تغير والعصر كله تغير، ‬لكن ، مع الاسف ، ظلت بغداد‬ بعيدة عن التغيير، يكسو الوحل كل اطرافها ووسطها حيث الإهمال يعلو ليل أناسها الفقراء ونهارهم بعد أن صار طعام أطفالهم حليباً قاتماً وصارملح طعامهم مسموماً بجهود الفساد والمفسدين، الذين لا يجدون إعياءً أو وازعاً في نهب المال العام من خزائن الدولة أو من بواخر البطاقة التموينية. كل ما يوجد في بغداد يخلو من الثقافة الإنسانية العميقة الا ثقافة الهواء الطائفي المقيت ، وثقافة الفراغ الفكري الهائل، وثقافة تزوير الشهادات، وثقافة الرابحين مالياً في مناصب الدولة والبرلمان التي لم تعد حلماً وظيفيا لتحقيق أحلام الشعب العراقي الفقير، بل غدت المناصب الوظيفية منطلقا للثراء السريع .. حتى القضاء صار محنة يعوي في ظلها القانون. لا يستطيع أحد أن يفرّق بين الغفران والتسامح والذنوب ، كما ازدهر اغتيال المثقفين العراقيين في ظل هذا الوضع المؤسف المتضخم وجعاً، منهم في ذاكرتنا الناشط الرءوم في وزارة الثقافة العراقية المستشار كامل شياع ، و الناشط في مصاريع ومظاهرات ساحة التحرير هادي المهدي، و الناشط الصحافي شهاب التميمي ومئات غيرهم.
تمضي وزارة الثقافة العراقية في عهدها الحالي تبحث في فراغ عن برنامج احتفالي روتيني – بدائي بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2013 ..! ترى هل يمكن لهذه الوزارة المرءوسة من عسكري كبير هو وزير الدفاع أن يحقق لشمس بغداد طلوعها الجديد ..هل يمكنه وأصحابه الوكلاء و المدراء – مع احترامي لكفاءة بعضهم – أن يخترقوا رماد الحروب الكثيرة وان ينقذوا الثقافة العراقية من تقطيبات الماضي والحاضر وهي تقطيبات صارمة جاثمة على صدورهم وقلوبهم ، خاصة اذا ما عرفنا أن الاتجاه التعبوي العام لهذه المناسبة جعلت وزارة الثقافة مقتصرة على النشاط الرسمي المحدود لكوادرها فقط أي بتهميش ربابنة سفينة الاتحاد العام للادباء ونقابة الصحفيين والكثير من منظمات المجتمع المدني المعنية بالثقافة كما نأت بمنظمات الثقافة الكردية والتركمانية عن فضاء النشاط التحضيري وجمّدت روح المنظمات الثقافية في المنافي العالمية رغم أن جميع هؤلاء يمتلكون تجارب مهمة في حياتنا الثقافية العراقية وقد قدم نشاطهم خلال العقود الاربعة الماضية إضافة حقيقية في كافة نواحي التجريب الثقافي لتعزيز سمات هوية وطنهم وحضارتهم . ‬
المشاهد الثقافية الحقيقية والواقعية كلها تؤشر باصابع باردة إلى وجود خلل سياسي كبير في بغداد الحالية وإلى ارتباك اقتصادي واسع وإلى إنقسام اجتماعي خطير وإلى ارتفاع موج الطائفية الحاملة زخماً قوياً لعزل الثقافة العراقية عن مدارها التقدمي وعن جماهيرها و حرمانها من نور الديمقراطية الحقيقية الخالية من الحذر والشكوك ومن جنون وفنون الزور والتزوير ..ألخ. إحاسيس البغداديين الموجودين على دجلة او في المنافي تزداد كل يوم في أعماقهم أن بلدهم العراق في أزمة حقيقية وأن معاناة الشعب العراقي لا يمكن التخلص منها من دون تخليص الدولة وثقافتها من المعاطف المبللة بالجهل والطائفية، التي لا تقود لغير الظلام المدلهم ، خاصة اذا ما أخرج قطارها عن قضبان سكة الثقافة الوطنية المبدعة التي من دونها لا يمكن عبور البراري السوداء الماضية ، براري الماضي الدكتاتوري.
صحيح ان بغداد تشهد في العام 2013 بعض الحرية الصحافية وبعض حرية الكلام التلفزيوني الفضائي وبعض نتاج الشعراء والأدباء. لكن من الصحيح ، أيضاً ، أن الثقافة العراقية الحالية تخلو خلواً كاملا من القدرة على مواصلة التغيير الكمي والنوعي لحياة الناس لأن منطق الدولة الجديدة وأغلب مؤسساتها يبتعد كثيراً عن أن يكون مصدراً أو مشجعاً للعلم ، والفلسفة، والدراسة، والتأمل الفكري النظري، خاصة في الممارسات الجامعية ، العملية ، حيث القياس الديني والطائفي وحده هو المسطرة المسيطرة . بهذه السيطرة لم يتحقق حلم المثقف المصري الراحل محمود امين العالم الذي كان يتوقع ان تواصل بغداد موقعها في أن تكون صفحة جديدة كل الجدة للفلسفة الارسطوطاليسية – الافلاطونية كما أورد ذلك في كتابه عن دار الهلال عام 1970 .
صحيح أن وزارة الثقافة أعدت العدة لطباعة بعض كتب المؤلفين العراقيين خلال عام 2013 وهي مجموعة كتب لا تزيد عن مطبوعات شهر واحد في أي دار نشر أردنية أو مصرية من الدرجة الرابعة . لكننا نود من الوزارة أن تسمح لنا بالسؤال: أين ابحاث الكندي والرازي وأبن الهيثم وأبن رشد .. أين أبحاث الجاحظ في الحيوان.. أين أبحاث مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي في الأدب واللغة .. أين ابحاث صلاح خالص.. أين دراسات يوسف العاني في المسرح والسينما.. أين الروح العلمية الاصيلة والقيم الادبية الكبرى التي بدأتها بغداد لتكون منبعاً ورائداً للثقافة العربية..؟ هل يجوز وقوف المحتفلين على نهر دجلة من دون أن يقف معهم تمثال الشاعر محمد مهدي الجواهري .. هل يحتمل أن تكون عيون المحتفلين العراقيين والعرب والأصدقاء الأجانب مترعة بالدهشة في بغداد من دون أن يترعوا مندهشين بكتب ووسائل ابداعية متنوعة وبافلام وثائقية تحمل اسماء بدر شاكر السياب وغائب طعمة فرمان وعبد الله كوران وسعدي يوسف وفخرية عبد الكريم ومظفر النواب وناهدة الرماح ومعروف الرصافي وزاهد محمد وعلي جواد الطاهر ومحمد غني حكمت ونازك الملائكة وجواد سليم ومئات غيرهم .
بصراحة و صدق أقول أن البرنامج الأحتفالي لبغداد عاصمة الثقافة العربية لا يستطيع أن يستقطب العنوان الكبير لهذه الاحتفالية البغدادية . البرنامج مجرد فعاليات روتينية ، بل أنه في غاية الفقر ..! هي نفسها فعاليات متكررة . كانت تجري خلال ايام كل الاعوام السابقة للعام الحالي ، هي نفسها يمكن ان تجري بعده أيضاً ، بل اقول أن مثل هذه الفعاليات تجريها وتقوم بها منظمات عراقية كل اسبوع في عواصم عالمية شتى مثل برلين ولندن وسدني ولاهاي واستكهولم وباريس وكوبنهاكن وغيرها من المدن الامريكية والكندية والاسترالية. يتواصل فيها المنفيون العراقيون بإظهار قوّة وعظمة عناصر الثقافة العراقية تحت أنوار الثقافة العالمية في هذه البلدان، وهم لا يملكون لا أموال وزارة الثقافة العراقية ولا كوادرها المؤلفة بالآلاف. المغتربون العراقيون في البلدان الغربية والشرقية لا يملكون غير الروح العراقية الأصيلة تشحذ هممهم لاظهار بغداد في عيون الغربيين أنها مدينة السلام والحب والثقافة والعلوم والفنون .
وزارة الثقافة كلفت نفسها، بهذه المناسبة، بإعداد وتهيئة بضع مسرحيات وعشرة افلام سينمائية وعروض ازياء ومعارض تشكيلية واحتفالات موسيقية وبضع فعاليات أطفال وغير ذلك من الفعاليات التي لا تدفع أية دهشة حقيقية تتناسب مع حجم هذه المناسبة، التي لا أقول أنها تجري في ظروف تغص بالأشواك المحيطة بالبنية التحتية الثقافية، حيث لا توجد في دولة غنية بمواردها المالية كالعراق أية بنية تحتية ثقافية تتناسب مع زمان الثقافيين العراقيين المعروفين بإنتاجهم الغزير ، الذي يمضي أسير الادراج والملفات حيث المقدرة على تحويلها إلى منتج جماهيري فعلي وفعال ما زالت غير مهيئة، إذ أن مئات المؤلفات ودواوين الشعر والقصص والروايات والمسرحيات ما زالت حلماًغامضا لمنتجيها تتشبث بإمكانيات شحيحة لوضعها كما ينبغي في متناول القراء والمشاهدين العراقيين، الذين يقال أنهم يحتفلون في العام 2013 ببغداد عاصمة للثقافة العربية في زمان تحرم بغداد فيه من أي دار أوبرا ولا مسارح ولا مراكز موسيقية ولا دار عرض سينمائية واحدة.. لا توجد دور موسيقية مؤهلة ، تنعدم فيها مسارح الاطفال والكبار على حد سواء و لا توجد مشروعات تحمل روحاً جمالية – فكرية – فلسفية - نقدية. لذلك صار حتماً أنه لا يمكن للمثقفين المحتفلين في بغداد (عاصمة الثقافة العربية) أن يحتفلوا خارج (المنطقة الخضراء) خاصة وأن أمانة بغداد ومحافظة بغداد ما زالت أكفها باردة ليس فيها أي نبض تخطيطي لتحريك الاحتفال والمحتفلين في شوارع الرشيد والسعدون والمتنبي وفلسطين والطالبية لأنها تعج بالوساخة العاصفة، ومن ثم فمدينة كبيرة مثل بغداد ليس فيها قاعة ثقافية واحدة تتسع لمثل هذه الاحتفالية..! .. صار من غير الممكن للمحتفلين أن يروا بعيونهم أي منظر ثقافي حقيقي أو منظوراً مستقبلياً ، كما لا يمكنهم رؤية أي مؤسسة فكرية ناضجة في بغداد تحمل لغة الأعماق العراقية البعيدة أو تحمل قيمها الفنية والعلمية منذ جلجامش حتى اللحظة الحاضرة رغم وجود مؤسسات بغدادية متواضعة مثل دار الحكمة ودار المخطوطات ودار الشئون الثقافية، ومؤسسات سينما ومسرح وموسيقى ، ورغم أن الهيئة المسئولة عن الاحتفالات تضع يديها على ميزانية مفتوحة مقررة من مجلس الوزراء .
يتم الاحتفال ببغداد عاصمة للثقافة العربية في عزلة تامة عن مؤلفات بعض أبنائها ومحبيها الذين نبضت مؤلفاتهم عن جلال جذور الثقافة العراقية وهم من خير من كتبوا عن بغداد من امثال ناجي معروف ومصطفى جواد ومحمد كرد علي واحمد سوسة ومحمد مكية ورفعت الجادرجي وطه الراوي وعبد الحميد العلوجي وانستاس الكرملي وعشرات غيرهم . أما الكتــّاب العالميون الغائبون عن احتفالية بغداد من الذين كتبوا عنها وعن اسهامها في الحضارة العربية والعالمية فهم كثيرون يصعب حصرهم بينما تملأ كتبهم أهم وأشهر المكتبات العالمية في لندن وواشنطن وموسكو وباريس ولاهاي ولايدن والاسكندرية من امثال ماسينون ولوبون ومس بيل ونيكولسن واراغون وغارودي وكراستوفسكي وغوته ورودنسون وجاك بيرك وساغال وبروكلمان وميخايلوفسكي وآلاف غيرهم ممن بحثوا وكتبوا عن عظمة بغداد ودورها في الثقافة العالمية والعربية مما جعل الكاتب الروسي العظيم نيقولاي غوغول يشيد بهذا الدور في احدى محاضراته في جامعة سانت بطرسبورغ كما جعلت فلاديمير مايكوفسكي يفتخر انه ولد بمدينة جيورجية تحمل اسم (بغدادي) كما خلدها الموسيقار العالمي الخالد رمسكي كورساكوف بموسيقاه عن الف ليلة وليلة المسماة (سمفونية شهرزاد). كما كان لبغداد دور ثقافي مؤثر على كثير من الكتاب العالميين من أمثال اجاثا كريستي وزوجها عالم الاثار البريطاني مالوان .
لقد كانت بغداد في العصر العباسي الأول مدرسة من أشهر مدارس الثقافة والفكر في العالم. كان البحث في ذلك العصر أصيلا عن حقائق الحياة الموضوعية والفلسفية ، أحتوت على بنية علمية – ثقافية وحتى دينية جعلت منطلق روادها ومثقفيها علامة بارزة من علامات الفكر العلمي – العقلاني – المنطقي، قائمة على البحث في أسس (الحق) مقابل (الباطل) و(العدل) مقابل (التعصب) و(العمران) مقابل (الخراب) .. على هذه الاسس قامت ثقافة بغداد . قامت على الايمان بإنسانية العلم وعلى ازالة التنافر والبغضاء بين أصحاب العقول المتنافسة من أجل تطوير ثقافة الإنسان العراقي والعربي والعالمي.
اتساءل في الختام كما يتساءل كل مثقف عراقي داخل وطنه وخارجه : هل تستطيع بغداد باحتفالية كونها عاصمة الثقافة العربية لعام 2013 أن تخاطب أرضها وشعبها كي تتخلص من موجة العنف والكراهية والإنقسام والتشتت..؟ هل تظل دار الحكمة البغدادية والمستنصرية البغدادية وشارع الرشيد البغدادي غارقين جميعا في الخراب والقدم ..؟ هل يمضي الماء العتيق مسيطرا ً على أنهارها المعطاء .. هل ترتدي قميصا جديدا بهذه المناسبة.. هل يعثر سكان بغداد على هويتهم المبدعة.. هل تتبدل مسارات الناس في الاعظمية والكاظمية والشعلة والمنصور.. هل يهطل مطر رهيف على احياء بغداد الفقيرة من دون ان يكون مصحوبا بصراخ الفقراء..؟
أتمنى أن لا تتأخر عيون البغداديين عن رؤية أحلامهم متحققة في مستقبل يخلو من رماد الحروب والعنف على أرض بغداد والعراق كله يخلو من ريح الكراهية والتعصب .. يخلو من أشجار جافة. أتمنى أن تتحقق أحلام أبن رشد والجاحظ وجابر بن حيان برؤية البغداديين لا يتوقفون عن البحث في مستقبل بلادٍ فيها عشق لكل منجزات الزمان الجديد وفيها أعمال عظيمة تعود على العراقيين جميعا بالخير الزراعي والصناعي، وتعبيد الطرق، وإنشاء الفنادق والمشافي والمصافي والمدارس وتوسيع التعليم وزيادة المكتبات والمختبرات في المدن والارياف والعمل على استثمار الملح والنفط والكبريت والرخام وغيرها مما يحقق ازدهاراً اقتصادياً قادراً على جعل بغداد – كما كانت قبل ألف عام - عاصمة حقيقية من عواصم الثقافة العالمية .
مطلوب من بغداد 2013 ومن ثقافتها ومثقفيها وعلمائها ورجال الدولة والإدارة فيها أن يستردوا جميعا روح بغداد الوهاجة وأن يلمّوا شملها حول أولويات ومقتضيات المرحلة الثقافية الراهنة وأن يبدءوا في تنفيذها فورا بأيدي الجميع وبعقل الجميع ، لتخليص بغدادهم وبلادهم من غبار التخلف و العتمة متواصلين بروح التحدي لكل مستحيل، متجهين قدما إلى الحرية بوشاح من الديمقراطية الثقافية .
يظل ماء دجلة قادراً على أن يغسل وجوهنا من اليأس وعسى أن يكون عام 2013 ميلاداً جديداً لبغداد ، ساطعا في سمائها ينقلها إلى الخلود في رحاب ثقافة بلا كراهية، بلا حروب، بلا جراح ، بلا خوف ولا عزلة ، لكي تبقى بغداد ناصعة إلى الأبد في قلوب الشعب العراقي الباهر تحت ضياء الإبداع والخلق من أجل حماسة الإنسانية وعشقها للحياة الحرة الكريمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 12 – 3 - 2013



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمود عبد الوهاب .. سعادة الصداقة ومرارتها..
- براءة العراقيين من فسقة الحكومة ومجلس النواب..!
- وزراء بغداد.. لصوص وعسطوس من الدرجة الأولى ..!
- مها الدوري في عيد الحب..!
- بيان هام من الله سبحانه وتعالى ..
- محافظ نيويورك يستنجد بأمين العاصمة بغداد ..!
- بعض مظاهر الفساد في قلب الشركات الرأسمالية المنتجة للسلاح ..
- القضاء العراقي موضع السؤال عن العدالة ..
- حوار مع الرئيس جورج بوش الابن ..!
- أفلام الرعب من أخراج الشيخ صباح الساعدي..!
- عالية نصيف لا تملك الحاسة السادسة ..!!
- اضطراب عصبي في مجلس النواب العراقي..!
- كوكب حمزة يبحث عن قيم الحرية
- شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..
- ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان ..!
- طبائع الفساد و الفاسدين
- أجمل ما في بلادنا حرية اللصوص..!
- تأبط شراً ..ّ وتأبطوا شراً .. !
- الأحلام والديمقراطية
- تمثلات الاستبداد والتوليتاريا في روايات جورج أورويل


المزيد.....




- في وضح النهار.. فتيات في نيويورك يشاركن قصصًا عن تعرضهن للضر ...
- برج مائل آخر في إيطاليا.. شاهد كيف سيتم إنقاذه
- شاهد ما حدث لمراهق مسلح قاد الشرطة في مطاردة خطيرة بحي سكني ...
- -نأكل مما رفضت الحيوانات أكله-.. شاهد المعاناة التي يعيشها ف ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- صفحات ومواقع إعلامية تنشر صورا وفيديوهات للغارات الإسرائيلية ...
- احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة
- سوريا تتهم إسرائيل بشن غارات على حلب أسفرت عن سقوط عشرات الق ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم متزامن من اسرائيل و-النصرة-


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جاسم المطير - في احتفالية العاصمة الثقافية .. بغداد بين اليأس والسطوع ..